.

الديـنالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوترثقــافـة
تغذ يـةتراجــمعلـــومالأدبكتــــب

طب المسلمين في الجامعات الأوروبية
في فجر عصر النهضة

العصور المظلمة
جاء سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب الأوربي سنة 476 م مصحوبا بموجة كثيفة من التأخر الحضاري استمرت عدة قرون من أواخر القرن الخامس حتى أواخر القرن العاشر، وهي القرون التي شملت الشطر الأول من العصور الوسطي  والتي أطلق عليها في التاريخ اسم العصور المظلمة. 

وترجع هذه الظاهرة إلى أن سقوط الإمبراطورية الغربية في أواخر القرن الخامس واكبته حركة غزوات الجرمان لأراضي الإمبراطورية.
وقد أطلق الرومان على هؤلاء الجرمان- وغيرهم من العناصر التي أحاطت بدولتهم- اسم البرابرة، بمعنى المتخلفين عنهم حضاريا.
وكان أن ترتب على هذه الغزوات انكماش الحضارة الرومانية تدريجيا وذبولها في مختلف الأقاليم والمدن بحيث لم يبق منها إلا بصيص خافت من النور ظل ينبعث من بعض المؤسسات الدينية كالكاتدرائيات والكنائس والأديرة. 

عصور الإيمان
ومن المعروف أن العصور الوسطي اشتهرت في التاريخ باسم عصور الإيمان لتغلب الدين ورجاله على كافة مناحي الحياة. وفي تلك، العصور اتصف التعليم بطابع ديني واضح، بحيث صار محوره الإنجيل واللاهوت ودراسة أقوال القديسين وتراثهم ، فضلا عن القراءة والكتابة.

أما العلوم الدينية ، فاقتصرت على ما عرف باسم الفنون السبعة الحرة Seven Liberal Arts وهي تنقسم إلى مجموعتين:

الأولى ثلاثية شملت النحو و البلاغة و الجدل .
الثانية رباعية شملت الموسيقى و الحساب و الهندسة و الفلك .
حتى المعلومات التي احتوتها تلك الفنون اتصفت بمظاهر وأهدافا دينية كنسية، فالنحو والبلاغة والجدل،
الهدف منها جميعا تمكين رجال الدين من إلقاء مواعظهم على وجه سليم وإقناع الناس بما تبثه الكنيسة من آراء، في حين كانت الموسيقى دينية تخدم التراتيل الكنسية،: والحساب لتدوين حسابات الكنيسة ودخلها ومصروفاتها، والفلك لمعرفة مواقيت الأعياد الدينية، وهكذا.
ومعظم المعلومات التي احتوتها تلك الفنون كانت مستمدة من التراث الروماني، كما أن اللغة اللاتينية ظلت لغة الكنسية الغربية، ولغة العلم والمتعلمين في- غرب أوروبا طوال العصور الوسطي .

وكانت هيمنة الكنيسة علي الحياة الفكرية والتعليمية في غرب أوربا في العصور الوسطي من العوامل الأساسية التي أدت إلى عدم ترك مجال للدراسات العملية والعلوم التجريبية، لأن العقيدة المسيحية- كما قال المعاصرون- تقوم عام أساس الإيمان في حين يعتمد العلم على التعقل. 

هذا إلى أن إصرار الكنيسة على توجيه أنظار المعاصرين نحو الحياة الباطنية كان من شأنه أن أعمى أنظارهم عن العالم الطبيعي .
من ذلك أن القديس أوغسطين (354- 430) أبدى دهشته من أن الناس يذهبون بتفكيرهم بعيدا للتأمل في ارتفاع الجبال أو دراسة مدارات الكواكب، ويهملون التأمل في ذواتهم أو في الآخرة.
بل إن القديس أوغسطين نفسه يهزأ من فكرة كروية الأرض.

وأدى هذا الاتجاه إلى انحطاط التفكير العلمي في الشطر الأول من العصور الوسطي، فانتشرت الخرافات والاعتقاد في المعجزات بين أهالي غرب أوروبا، حتى قضى السحر على البقية الباقية من المعرفة العلمية عند الأوربيين. 
ومهما  يقال من أن غرب أوربا شهد نهضة في أوائل القرن التاسع- على أيام شارلمان- فإن هذه النهضة جاءت مفتعلة، وليدة إرادة حاكم أحد، أراد أن تكون هناك نهضة فكانت هناك نهضة.
لذلك جاءت هذه النهضة- التي أطلق عليها اسم النهضة الكارولنجية نسبة إلى البيت الذي ينتمي إليه شارلمان- ضعيفة الجذور، ضيقة الأفق، قصيرة العمر، سريعة الزوال. ولم يلبث أن خبا نورها بسرعة ليعود الظلام مرة أخرى يخيم على الغرب الأوربي حتى القرن الحادي عشر .

الطب
أما عن نصيب الطب في غرب أوربا في تلك العصور فكان الإهمال، بحيث لم يحظ بأدنى قسط من عناية الأفراد والجماعات والهيئات، وذلك في مجتمع اتصف بالجهل والتخلف، سيطرت فيه الكنيسة ورجالها على عقول الناس ومشاعرهم، ووجهت حياتهم وجهة قصيرة المدى، وحصرت أفكارهم داخل دائرة ضيقة، أحاطتها بسياج منيع من التزمت والتعسف، كان من المتعذر على إنسان أن يتجاوزه.
ويكفي أن بعض رجال الدين في غرب أوربا في تلك العصور نادوا بأن المرض نوع من العقاب الإلهي، ولذا لا يصح للإنسان أن يتداوى منه لأن هذا يعتبر تحديا للإرادة الإلهية  فالمريض مرض لأن الله أراد أن يعاقبه بالمرض، ولذا فإن تطبيبه ومداواته لا يعنيان إلا مساعدته على التهرب من تنفيذ الحكم الإلهي عليه.
ولم يسع الناس في تلك العصور- في حالة المرض أو انتشار وباء- سوى الهروع إلى الأديرة والكنائس ، واللواذ بها، والتمسح بأسوارها، وتقديم النذور وفروض الولاء لرجال الدين فيها، والسجود أمام ما فيها من أيقونات وتماثيل وصور، عسى الله أن يرحمهم ويكشف الغمة عنهم .

وبالإضافة إلى ضعف المستوى الفكري والثقافي لرجال الدين في غرب أوربا في تلك العصور، فإن التراث اليوناني في شتى العلوم والفنون لم يكن معروفا، حتى عند الخاصة.
ربما عرفت اللغة اليونانية في بقاع محدودة من جنوب إيطاليا وصقلية، ولكن مؤلفات أرسطو و أبقراط و جالينوس وغيرهم من رجال الفكر والعلم عند قدماء اليونان نم تكن معروفة في الغرب الأوربي.

هذا فضلا عن أن الكنيسة ورجالها وقفوا منذ البداية موقفا معاديا صريحا من تراث العصر الوثني، فلم يكتفوا بإعدام جزء كبير من ذلك التراث، بل رفضوا مطلقا الإفادة منه ومحاولة فهمه وتعلمه أو تعليمه.
ويكفي مثلا أن أحد أساقفة كاتدرائية أوتون Autun   تساءل " كيف يمكن تنقية الروح وتهذيب النفس عن طريق قراءة حروب طروادة وجدل أفلاطون وأشعار فرجيا، وغيرهم من الوثنيين الذين يصلون الآن نار جهنم  ومن الواضح أن هذا التساؤل كان في أواخر النشرة المظلمة من العصور الوسطي، عندما بدأت تتردد على مسامع الغربيين أسماء بعض أعلام العصر الوثني.
ولا أدل على ضعف مستوى الطب عند الأوربيين الغربيين في تلك المرحلة من الوقوف على الأسلوب الذي كانوا يعالجون به مرضاهم في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية ، الأمر الذي استثار سخرية أطباء المسلمين وكتابهم في القرن الثاني عشر.

بشائر النهضة
على أنه مع نهاية القرن العاشر أخذت تنقطع تدريجيا موجة الظلام التي اكتنفت الغرب الأوربي منذ أواخر القرن الخامس للميلاد ، وظهر بصيص خافت من النور أخذ ينمو تدريجيا معلنا بشائر نهضة جديدة في غرب أوربا اكتملت معالمها في القرن الثاني عشر، مما جعل المؤرخين يطلقون عليها اسم " النهضة الأوربية في القرن الثاني عشر "  

ويؤكد الباحثون أن هذه النهضة الوسيطة لم يخب لها نور بعد ذلك، إذ استمرت تزدهر وتتسع تدريجيا حتى استكملت صورتها في النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر. وبعبارة أخرى فإن البداية الحقيقية للنهضة الأوربية الحديثة ترجع إلى القرن الثاني عشر، وإن ظلت هذه البداية تسير سيرا حثيثا حتى برزت صورتها واضحة في القرن الخامس عشر.

وليس هذا مجال التوسع في خصائص هذه النهضة ومعالمها وآفاقها ، وإنما نكتفي في حدود أهداف هذا البحث أن نؤكد على عدة نقاط:-

أولا : إن هذه النهضة الأوروبية في القرن الثاني عشر جاءت بحالة من الاستقرار عمت غرب أوربا بعد أن انكسرت حدة غزوات المجريين من الشرق وغزوات الفايكنج من الشمال وغزوات المسلمين من الجنوب.

ثانيا : مهدت لهذه النهضة حركة إصلاح ديني واسعة النطاق استهدفت إصلاح المؤسسات الدينية كالأديرة والكنائس، والارتفاع بالمستوى الفكري والثقافي لرجال الدين، والقضاء على المفاسد التي اعترت النظام الكنسي أو التي عمت- حياة رجال الدين العامة والخاصة.

ثالثا : إن هذه النهضة واكبتها حركة انفتاح واسعة على الحضارة العربية الإسلامية ، إذ أفاق كثيرون في غرب أوربا من غمرة الجهل والظلام التي عمت مجتمعهم طوال عدة قرون، ليجدوا أنفسهم أمام بناء حضاري إسلامي ضخم، لم يترك علما ولا فنا ولا أدبا إلا أسهم فيه بسهم وافر، فضلا عن حياة اجتماعية واقتصادية وفكرية نشطة، نعم بها المسلمون بعيدا عن روح التزمت والانغلاق والتشدد التي سادت المجتمعات الغربية في ظل قيود الكنيسة وجهل رجال الدين .

وكان أن نزح كثيرون من طلاب المعرفة إلى حيث يجدون ما ينشدونه من ثمار التراث العربي الإسلامي، فعكفوا على تعلم العربية، لترجمة أمهات الكتب إلى اللاتينية، الأمر ائذي أتاح لغيرهم في غرب أوربا دراسة هذه الكتب ، غير مبالين بالأوامر التي أصدرتها البابوية بين حين وآخر لتحريم دراسة كتب المسلمين . أما أشهر مراكز الترجمة من العربية إلى اللاتينية- بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر- فكانت الأندلس وصقلية ، فضلا عن بعض أجزاء بلاد الشرق الأدنى في عصر الحروب الصليبية.

رابعا : جاء الإقبال على حضارة المسلمين والرغبة في الإفادة من علومهم مصحوبا في غرب أوربا بحركة تمرد- وخاصة من جانب الشباب وطلاب العلم- ضد الكنيسة وسطوة رجالها، بعد أن ضاق كثيرون بالإرهاب الفكري والاجتماعي، الذي فرضته الكنيسة ورجالها على الناس أمدا طويلا .

علوم المسلمين
وجدير بالذكر أن بعض المستنيرين من رجال الكنيسة رأوا الاستفادة من علوم المسلمين ومعارفهم، فشجعوا حركة الترجمة عن العربية إلى اللاتينية.
ومن هؤلاء نذكر ريموند أسقف طليطلة في القرن الثاني عشر، وقد أقام مكتبا للترجمة في أسقفيته ، أسهم إسهاما كبيرا في ترجمة كثير من المؤلفات العربية في شتى ضروب المعرفة .

كذلك يلاحظ أننا عندما نشير إلى مؤلفات العرب وعلومهم، فإننا لا نعني أن كان هذه المؤلفات،والعلوم ذات أصول عربية بحتة، أو أن كل ما فيها من معارف جاء من خلق علماء المسلمين وابتكارهم.
فالحضارة الإسلامية اتصفت بسعة الأفق والتسامح وعدم التزمت، ونادى الإسلام بطلب العلم ولو في الصين مع معرفة المسلمين ببعد الصين من ناحية وبأن أهلها وثنيون من ناحية أخرى.

ومنذ البداية لم يتردد المسلمون في الاستفادة من معارف السابقين ونقل ما صادفه من مؤلفاتهم إلى العربية ، بصرف النظر عن عقيدتهم ومللهم ونحلهم. ومن هذا المنطلق شرع المسلمون في ترجمة الكثير من كتب اليونان والفرس والهنود وغيرهم إلى العربية .
ولكن دور علماء المسلمين لم يقتصر على الإفادة من جهود غيرهم، ونقل مؤلفات السابقين إلى لغتهم ، وإنما يأتي إسهامهم العظيم في ميدان الحضارة في تفنيد ما في هذه الكتب والمؤلفات من معلومات، وتصحيح ما فيها من أخطاء، والربط بين ما جاء في أطرافها من معارف متناثرة وشذرات متباعدة ،  وشرح تفسير ما قد يكون غامضا منها .. ثم إضافة الجديد من المعلومات التي توصل إليها علماء المسلمين ولم يعرفها غيرهم من السابقين. وبذلك نجح علماء المسلمين في إقامة بناء حضاري لا يمكن أن يوصف إلا بأنه بناء إسلامي .

حضارة المسلمين
وعلينا أن نوضح في هذا المقام أنه لا يقلل من قيمة الحضارة الإسلامية مطلقا أنها أقامت بنيانها في بعض المجالات- كالفلسفة والعلوم التجريبية أو العقلية على أسس غير إسلامية، من معارف السابقين ذميين كانوا أو وثنيين ذلك أن ارتقاء الحضارة البشرية يقوم على مبدأ استفادة الخلف من جهود السلف، وبفضل ذلك ارتفع صرح الحضارة البرية طبقة بعد أخرى.
ولو التزم كل جيل بأن يبدأ المسيرة الحضارية" من نقطة الصفر، معرضا عما توصل إليه السابقون من إنجازات، لما نزل الإنسان في القرن العشرين على سطح القمر، ولوجدنا أنفسنا اليوم نشعل النار عن طريق قدح حجرين بعضهما ببعض، أسوة بما فعل الإنسان الأول، ولكن عظمة الحضارة الإسلامية تنبع من أن دورها لم يقتصر على النقل عن السابقين، وإنما تعدى ذلك إلى التصحيح والربط والتوفيق، ثم الابتكار والخلق والإبداع والإضافة.

ثم إن بناة الحضارة الإسلامية لم يفعلوا كما فعل رجال الكنيسة والأديرة من إحراق كتب الوثنيين وهدم معابدهم ونبذ تراثهم ، دون تفرقة بين الصالح منه وغير الصالح. وإنما احترم علماء المسلمين ما خلافه السابقون- وثنيين كانوا أو ذميين- من تراث، وأشادوا بعلمائهم واعترفوا بفضل أولى الفضل منهم، دون تعصب لدين أو لمذهب، ودون اعتبار لجنس أو ملة. فالعلم النافع في نظرهم يأتي فوق كافة الاعتبارات العقائدية أو العنصرية.

وها هو ابن أبي أصيبعه- على سبيل المثال لا الحصر- يستهل مؤلفه المعروف (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) بذكر الأطباء اليونانيين القدامى- مثل أسقليبيوس وأبقراط - فيقول عن الأول " هو أول من ذكر من الأطباء، و أول من تكلم في شيء من الطب على طريقة التجربة ". ويشيد بالثاني، ممتدحا العهد  الذي وضعه " قسم أبقراط "، واصفا إياه بالطهارة والفضيلة . وعندما يتطرق ابن أبي أصيبعه إلى مشاهير الأطباء في ظل دولة الإسلام في المشرق أو المغرب، لا يسقط من تعداده طبيبا مسيحيا أو يهوديا، وإنما يصف الواحد منهم بأنه صابئي أو مسيحي أو يهودي، ويقرن ذلك بالثناء على علمه وفضله معددا إنجازاته ومؤلفاته.. كل ذلك في تسامح وسماحة لا نظير لهما إطلاقا في عالم العصور الوسطى، الأمر لذي دفع أحد الكتاب الأوربيين المحدثين إلى القول بأن " الحضارة الإسلامية نمت بسبب تسامحها إزاء العناصر الأجنبية " .

هذا إلى أن فضل الحضارة الإسلامية على المسيرة الحضارية العالمية لا يقتصر على النقل عن السابقين، وشرح ما صعب من كتاباتهم، وتصحيح ما وقعوا فيه من أخطاء وإضافة الجديد إلى ما تحتويه من معارف.. وإنما يضاف إلى هذا كله الإسهام بدور كبير في حفظ جانب هام من تراث السابقين. وقد ثبت أن هناك كتبا ومؤلفات عديدة ألفها علماء اليونان في العصور القديمة- وبخاصة في الفلسفة والطب- ضاعت أصولها اليونانية، ولم يعد العالم يعرفها إلا من خلال الترجمات العربية وحدها .

ومع تدفق علوم العرب ومعارفهم على غرب أوربا، اتضح أن المؤسسات التعليمية القائمة في الغرب لا يمكن أن تتسع لهذا الكم أو الكيف من المعارف الجديدة. ذلك أن الغرب الأوربي لم يعرف طوال الشطر الأول من العصور المظلمة- وحتى القرن العاشر- سوى المدارس الديرية  والكتدرائية ،  وهذه بحكم طبيعتها وتكوينها وإشراف رجال الدين عليها إشرافا تاما كاملا ، كانت لا يمكن أن تتقبل أو تستوعب دراسات في الفلسفة أو العلوم العقلية التجريبية كالطب والكيمياء والفيزياء وغيرها .

ولما كان التيار كاسحا، والرغبة في استيعاب الجديد من المعارف جامحة ، فإنه مع تطلعات طلاب العلم في غرب أوربا، صار لزاما أن تظهر مؤسسات جديدة تستوعب ما في كتب المسلمين من معارف وعلوم جديدة ، سواء كانت هذه المعارف ذات أصول عربية إسلامية، أو غير عربية إسلامية ولكنها صارت جزءا من التراث العربي الإسلامي بعد أن استوعبتها مؤلفات المسلمين وعالجها علماؤهم بالشرح والتصحيح والإضافة، قبل ترجمتها إلى اللاتينية.

    وهكذا عرف الغرب الأوربي الجامعات لأول مرة في تاريخه، وكان ذلك قي أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر للميلاد ، وتحيط بنشأة الجامعات الأوربية موجة كثيفة من الغموض، كما هو الحال في كثير من النظم التي ظهرت نتيجة لتطور ظروف وأوضاع معينة وليس نتيجة لإجراءات وقوانين محددة. فمن الجامعات الأوربية ما يدين بنشأته لظهور عالم مبرز في فرع معين من فروع المعرفة، وذلك في مدينة أو منطقة محددة، فيهرع طلاب العلم إلى ذلك المكان للتتلمذ على يديه مما يشكل نواة لبيئة علمية تنبت فيها الجامعة.

ومنها ما ترجها أصوله إلى مدرسة قديمة- دينية أو غير دينية- أخذت تتطور، وفتحت أبوابها أمام المعرفة الجديدة مما جعلها بؤرة للمعلمين والمتعلمين. وكثيرا ما كان طلاب العلم قي مدينة يتعرضون للاستغلال وسوء المعاملة من بلدية المدينة وأهلها ، فيهاجر بعضهم وبصحبتهم فريق من أساتذتهم إلى بلدة أخرى قريبة أو بعيدة، حيث تطيب لهم الإقامة، فيكونون نواة لجامعة جديدة، مما جعل بعض الباحثين يمثل ظاهرة انتشار الجامعات في غرب أوربا في ذلك الدور بتكاثر خلايا النحل.

وعندما غدت الجامعات حقيقة واقعة، اعترف بها الحكام من أباطرة وملوك وأمراء كبار، وأصدروا مراسيم وبراءات تحدد روح هذه المؤسسات الجديدة، مما ضمن لها وجودا رسميا معترفا به من الدولة. ثم كان أن وجد بعض الحكام والملوك في الجامعات أداة لتدعيم سلطانهم وتنفيذ سياستهم، أو إضفاء قدر من الجاه والعظمة على أنفسهم، فقاموا بإنشاء جامعات جديدة في بلادهم، وأصدروا مراسيم تحدد أفق هذه الجامعات ونظمها. وربما أدركت بعض المدن أن وجود أعداد كبيرة من رجال العلم داخل أسوارها من الممكن أن يشكل مصدر دخل لها، وخاصة أن الجامعات استرعت الطلاب، من مختلف البلاد والجنسيات، وهؤلاء كانت تأتيهم نفقات معيشتهم من ذويهم بالخارج .

لذلك قامت بعض بلديات المدن بإنشاء جامعات فيها، ووفرت لأعضائها الضمانات الكافية لسلامتهم. ولم تستطع الكنيسة نفسها البقاء طويلا خارج دائرة هذا النشاط ، لأنه لم يكن من صالحها خروج هذه المؤسسات الجديدة من قبضة يدها، فأصدرت عدة براءات عن البابوية وكبار الأساقفة للاعتراف ببعض الجامعات، أو لتحديد مسيرها، أو منعها من تدرس بعض المواد التي تتعارض وسياسة الكنيسة مثل فلسفة أرسطو وشروح (بن رشد عليها- أو إلزامها بتدريس مواد معينة تخدم سياسة الكنيسة .

ومهما يكن من أمر، فإن هناك إجماعا على أن أولى الجامعات التي ظهرت في الغرب الأوربي هي جامعات بولونا وباريس وسالرنو. أما جامعة بولونا فقد ظهرت في وسط إيطاليا واشتهرت بالقانون، وبنت هذه الشهرة على أساس سمعة أحد كبار المشرعين وفقهاء القانون في أوائل القرن الثاني عشر، هو أرنريوس. 

وأما جامعة باريس فقد قامت في فرنسا واشتهرت بالمنطق والفلسفة والدراسات الإنسانية، وارتبطت هذه الشهرة بالعالم الكبير أبيلار (1079- 1142) .

وأما جامعة سالرنو فقد قامت في جنوب إيطاليا في أواخر القرن الحادي عشر، واشتهرت بالطب، وبنت هذه الشهرة على أساس سمعة قسطنطين الإفريقي Constantine Africanus .

والواقع أن البذور الأولى للاهتمام بعلم الطب في غرب أوربا في الشطر الأخير من العصور الوسطى، يحيط بها الغموض الشديد مما يجعل أن الصعب في كثير من الحالات الدخول في تفصيلاتها . ومع ذلك فإنه يمكن تتبع تلك الجذور في سالرنو منذ أواخر القرن التاسع وقبيل منتصف القرن العاشر، إذ جاء في الوثائق- المعاصرة أنه حدث لقاء في بلاط لويس الرابع ملك فرنسا سنة 946 بين أسقف فرنسي له إلمام بعلم الطب، وطبيب شهير وافد من سالرنو له خبرته في ممارسة صنعة الطب- ومن خلال التفصيلات المتعلقة بهذا اللقاء يبدو أن سالرنو كالت قد أدركت في ذلك الوقت شهرة، لا بوصفه، مركزا علميا لدراسة الطب على أسس أكاديمية، وإنما بوصفها مكانا يمارس فيه العلاج الطبي كمهنة أو حرفة تطبيقية .

وإذا كان من الصعب أن نعثر على أدلة كافية تثبت وجود مدرسة لتعليم الطب في سالرنو في ذلك الدور المبكر فإن كل ما نستطيع أن نجزم به هو أن سالرنو اشتهرت في القرن العاشر بأنها مكان طيب للعلاج  الطبي كما اشتهرت بتواجد مجموعة من الأطباء المتمرسين فيها. وإذا كان أوردريكوس فيتاليسOrdericus Vitals في النصف ا الأول س القرن الثاني عشر قد وصف مدرسة سالرنو لتعليم  الطب، بأنها عريقة وقائمة منذ القدم ، فإن تعبير" عريقة " هنا عائم ومن الممكن أن يكون تعبيرا نسبيا قصد به الرجوع إلى الوراء خمسين أو مائة سنة. والغالب أن شهرة مدرسة سالرنو في  الطب ذاعت في غرب أوربا منذ منتصف القرن الحادي عشر، أي قبل بزوع نجم مدرسة بولونا في القانون ، وذيوع شهرة مدرسة باريس في الفلسفة والعلوم الإنسانية بنصف قرن على الأقل.

ويميل بعض  الباحثين إلى عدم إضفاء صفة " الجامعة " على مؤسسة سالرنو الطبية لافتقارها إلى طابع الجامعة ونظمها ولوائحها، وهي الجوانب التي ميزت كلا من جامعة بولونا وجامعة باريس.

هذا فضلا عن أن جامعة سالرنو لم تترك أثرا في النظم الجامعية في غرب أوربا، كما هو الحال بالنسبة لجامعتي بولونا وباريس. على أنه لا يعنينا في هذا المقام إن كانت سارنو في تلك المرحلة ثمن مراحل مولد النهضة الأوربية الحديثة تمثل جامعة Universitas  تقف على قدم المساواة مع جامعتي بولونا وباريس أم لا؟ وإنما الذي يعنينا أنها كانت فعلا مركزا للدراسات الطبية ، بحيث ذاع صيتها في كافة آفاق الغرب الأوربي طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وقصدها طلاب المعرفة في علم الطب، فضلا، عن المرضى وراغبي الاستشفاء. وهكذا حتى وجدت دراسة الطب في غرب أوربا مركزا آخر لها في جنوب فرنسا، حيث قامت جامعة مونتبليه التي أخذت تبرز في صورة واضحة منذ أواخر القرن الثالث عثر.

ومن هذين المركزين  بالذات- سالرنه ومونتبلية- انتشرت دراسة الطب، وامتدت إلى مراكز جديدة في بولونا وباريس وغيرهما من الجامعات التي ظهرت في شتى أنحاء الغرب الأوربي.

ومهما تتعدد الأسباب لتعليل ازدهار دراسة الطب في جنوب إيطاليا وجنوب فرنسا بالذات، فإن السبب الرئيسي هو أن الطب الإسلامي وصل عن طريق أو آخر إلى هذين الإقليمين حيث صارت له ركيزة قوية أفاد منها الغربيون فى إقامة صرح نهضة طبية عمت غرب أوربا فى عصر النهضة. 

أما عن سالرنو فقد حاول بعض الباحثين أمثال هنشل Henschel ودي رنزي De Renzi 
ومن بعدهم راشدال Rashdal وهم جميعا من الرافضين لمبدأ فضل الحضارة العربية الإسلامية عام الغرب الأوربي في نهضته الحديثة- حاول هؤلاء تعليل ازدهار دراسة الطب في سالرنو بعوامل محلية بعيدة كل البعد عن أية مؤثرات خارجية ، وخاصة من جانب الحضارة الإسلامية والطب الإسلامي. ويبني هؤلاء وجهة نظرهم على أساس عدة عوامل أهمها:-

 أولا: أن منطقة سالرنو نفسها اشتهرت منذ قديم الزمان بكونها مكانا للاستشفاء بسبب طيب هوائها، ووفرة المياه المعدنية حولهما، فقصدها الأعلاء والمطببون منذ قديم الزمان، مما جعل شهرتها في مجال الطب تسبق زمنيا أي أثر للحضارة الإسلامية ، والطب الإسلامي .

ثانيا: من المعروف تاريخيا أن الجزء الجنوبي من إيطاليا- بما فيه سالرنو- كان شديد الارتباط حضاريا ببلاد اليونان، وأن اليونانيين أقاموا فيه منذ القدم مستوطنات شهيرة، حتى أن الحضارة اليونانية ظلت لها الغلبة في جنوب إيطاليا. ولهذا أطلق الجغرافيون القدامى على هذا الجزء من جنوب إيطاليا اسم بلاد الإغريق الكبرى Magna Graecia
. ويخرجون من هذا بأن التراث اليوناني في  الطب كان قائما منذ القدم في جنوب إيطاليا.

يضاف إلى هذا أنه في الشطر الأول من العصور الوسطى- وفي ظل المسيحية- ظل تأثير الحضارة اليونانية والكنيسة الشرقية الأرثوذكسية قائما في جنوب إيطاليا. وعندما ضعف هذا التأثير نتيجة لغزوات الجرمان، نجح إمبراطور القسطنطينية- جستنيان- في القرن السادس في إرسال حملة استردت سيطرة الإمبراطورية البيزنطية السياسية والحضارية في جنوب إيطاليا. ولمدة طويلة ظل هناك نائب إمبراطوري ينوب عن الإمبراطور البيزنطي في إيطاليا مركزه مدينة رافنا ومن المعروف أن الإمبراطورية البيزنطية ظلت منذ قيامها في القرن الرابع للميلاد حتى سقوطها على أيدي العثمانيين في القرن الخامس عشر يونانية الحضارة، حتى أنها عرفت فى تاريخ العصور الوسطى باسم الإمبراطورية اليونانية Greek Empire .
 

ثالثا: يقول هذا الفريق من الباحثين إن بعض المؤلفات اليونانية القديمة في الطب ترجمت إلى اللاتينية في وقت مبكر في فجر العصور الوسطى ، يرجع إلى القرن السادس. ومن هذه المؤلفات كتاب جالينوس وكتابات أبقراط وغيرها (34).- حقيقة إن هذه الترجمات اللاتينية فقدت ولم يبق لها أثر، وذلك نتيجة لغزوات الجرمان. ولكن مع ذلك ظل هناك أثر من التراث اليوناني القديم- وبخاصة في علم الطب- باقيا في جنوب إيطاليا، مثل ما ظل أثر من التراث الروماني القديم باقيا في الشمال . ومن هذه الآثار الباقية نبتت مدرسة الطب في سالرنو ومدرسة القانون في بولونا.

رابعا: يؤيد أصحاب هذا الرأي وجهة نظرهم بالقول بأنه ظهر في أوائل القرن الحادي عشر- قبل ظهور قسطنطين الأفريقي- بعض علماء الطب في سالرنو ، ومن هؤلاء جاريو بونطس Gario Pontus  الذي دون كتاباته حوالي سنة 1040. ويضيف راشدال أن كتابات جاريو بونطس هذا ليس فيها ما يدل على أي أثر للطب الإسلامي، ولا حتى الطب اليوناني، وإنما تعبر كتاباته عن طب روماني- أو لاتيني جديد Neo Laton Medicine، بمعنى أن جاريو بونطس ليس متأثرا بكتابات جالينوس بقدر ما هو متأثر بكتابات جالينوس أورليانوس . ولم يكن ذلك إلا بعد منتصف القرن الحادي للميلاد  عندما تجمعت بعض الأدلة التي تثير إلى أن كتابات أبقراط وجالينوس غدت معرفة في مدرسة سالرنو . ومنذ ذلك الوقت أخذ المشتغلون بالطب في سالرنو يطبقون نظرية الأخلاط الأربعة .

هذه خلاصة  وجهة نظر الرافضين للرأي القائل بأن مدرسة  الطب في سالرنو تدين بنشأتها إلى الطب الإسلامي. وإذا أخضعنا أقوالهم لمنهج البحث التاريخي، فإننا نجد هذه الأقوال لمليئة بالأخطاء والمتناقضات والفروض غير الصحيحة التي لا سند لها إلا عاطفة تجيش بالكراهية  للإسلام وأهله .

ونبدأ بالإشارة إلى أن قولهم إن سالرنو استمدت شهرتها في الطب من طيب هوائها ووفرة مياهها المعدنية، مما جعلها مكانا صالحا للاستشفاء منذ أمد بعيد. هذا القول مردود عليه بأن الفارق كبير بين مكان صالح للاستشفاء بحكم طيب مائه وهوائه، ومكان قامت فيه مدرسة للطب - اعتبرها الباحثون جامعة من أولى الجامعات التي ظهرت في غرب أوربا في فجر نهضتها الحديثة- واجتمع في رحابها عدد كبير من المعلمين والمتعلمين يزاولون مهنة الطب على أسس وقواعد ومعارف جديدة لم يعرفها الغرب الأوربي حتى ذلك الوقت. وهل كانت منطقة سالرنو الإقليم الوحيد  ني أوربا الذي اشتهر عندئذ بطيب  هوائه ومائه؟

أما القول بأن التراث الحضاري اليوناني ظل قائما طوال العصور المظلمة- أعني الشطر الأول من العصور الوسطى- في جنوب إيطاليا، فمردود عليه بأن وجود آثار اللغة اليونانية ونفوذ واتباع للكنيسة الأرثوذكسية ، ليس معناه بأي حال وجود مدرسة علمية يونانية احتوت تراث اليونان في شتى العلوم- ومنها الطب- في تلك البقعة. وإذا كان تراث الحضارة اليونانية قد ظل قائما في العصور المظلمة في جنوب إيطاليا، فلماذا نسمع عن نهضة فلسفية قامت على أساس فكر أرسطو مثلا مثل ما قامت نهضة طبية؟ وهل لنا أن نتناسى أن سالرنو نفسها تقع على مسافة كيلو مترات من ديرمونت كاسينو،  وهو الدير الذي أقامه القديس بندكت وأتباعه حوالي سنة 529 على أنقاض آخر ما تبقى من معابد أبولو، مستخدمين بقايا المعبد في بناء الدير، مما يشير إلى أن رجال المسيحية، أقاموا  صرح بنيانهم عام أنقاض تراث الوثنية  وكيف سمح رهبان مونت كاسينو في القرون التالية ببقاء أثر لتراث الوثنية- في  الطب وغير الطب- في المنطقة المحيطة بهم، مع ما اشتهر به رهبان الأديرة بالذات وفي ذلك الدورمن عداء سافر لكل لما يمت بصلة للوثنية وتراثها الفكري والمادي ؟؟

بل لعل أصحاب هذا الرأي يناقضون أنفسهم عندما يقولون إن الترجمات اللاتينية للتراث اليوناني ضاعت مع غزوات الجرمان لإيطاليا ومع ذلك فإن تراثهم ومؤلفاتهم في الطب ظلت باقية. أليست القوة  التي عصفت بتراث الرومان كفيلة بأن تعصف بتراث اليونان- وغير اليونان- في نفسر المكان والزمان؟؟ أم أن تراث اليونان وحده- وفي علم الطب بالذات- كان عليه حارس أسست يحميه من عبث الجرمان وكراهية رجال المسيحيين؟

حتى عندما استشهدوا بجاريو بونطس ـ في النصف الأول من القرن الحادي عشر ـ قالوا إن كتاباته ليس فيها أثر للتراث اليوناني وأنه أكثر تأثرا بالتراث الروماني القديم، مما يضعف من حجتهم بأن التراث اليوناني كان حيا قائما في جنوب إيطاليا طوال العصور المظلمة.

أما قولهم إن الأثر اليوناني ظهر في مدرسة الطب في سالرنو قبل ظهور قسطنطين الأفريقي بجيل على الأقل، فمردود عليه بأننا لا ننافي مطلقا وجود هذا الأثر قبل قسطنطين الأفريقي ، ولكننا نقول إن هذا الأثر جاء إلى جنوب إيطاليا عن طريق الطب الإسلامي. ذلك أننا لا ننكر أن الحضارة العربية الإسلامية- وبخاصة في مجال الدراسات العقلية والعلوم التجريبية- تأثرت بالفكر اليوناني وغير اليونانى. وقد سبق أت أن أشرنا إلى أن علماء المسلمين أنفسهم أشادوا بتراث اليونان وعلمائهم في  الطب واتخذوا من ذلك التراث ركيزة بنوا عليها طبا جديدا - بما أضافوه وابتكروه- لا يوصف إلا بأنه طب إسلامي.

وقد تسربت معلومات المسلمين في الطب إلى جنوب إيطاليا منذ وقت مبكر يرجع إلى القرن التاسع للميلاد ، أي قبل عصر قسطنطين الأفريقي بنحو قرنين من الزمان. وإذا كان التاريخ يتحدث عن فتع المسلمين لجزيرة صقلية أيام زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب سنة 212 هـ (827 م) ، فإن  التاريخ  يذكر أيضا أن عهد زيادة الله هذا شهد نهضة في علم الطب في دولة الأغالبة شمال أفريقيا ، كان من أعلامها اسحق بن عمران، وهو "طبيب مشهور، وعالم مذكور.. وهو مسلم النحلة.. وكان طبيبا حاذقا متميزا بتأليف الأدوية المركبة، بصيرا بتفرقة العلل.. استوطن القيروان.. وألف كتبا منها كتابه في الفصد ، وكتابه في النبض ، وكتابه في الأدوية المفردة.. " .

وهكذا فإن امتداد النفوذ الإسلامي من شمال أفريقية إلى صقلية وجنوب إيطاليا كان مصحوبا بازدهار الطب عند المسلمين. واستمر هذا الازدهار في أفريقية بعد عصر الأغالبة،  أي  في القرن الرابع الهجري- العاشر للميلاد- على أيام الفاطميين. من ذلك أننا نسمع عن الطبيب اسحق بن سليمان، الذي " كان طبيبا فاضلا بليغا ، عالما مشهورا بالحذق والمعرفة ، جيد التصانيف، عالي الهمة.. وهو من أهل مصر ثم سكن القيروان، ولازم اسحق بن عمران، وتتلمذ له. خدم الإمام أبا محمد عبيد الله المهدي  صاحب أفريقية وتوفى سنة 320 هـ (933 م). لم يتخذ امرأة ولا أعقب ولدا. قال: لي أربعة كتب تحمي ذكرى أكثر من الولد، هي: كتاب الحميات، وكتاب الأغذية والأدوية ، وكتاب البول، وكتاب الإسطفسات. وقد امتدح الطبيب أبو الحسن علي بن رضوان كتابه في الحميات، وقال: " وقد علمت بكثير مما فيه، فوجدته لا مزيد عليه " . أما أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد- المعروف بابن الجزار- فكان أيضا من مشاهير أطباء القيروان في تلك الحقبة، " وكان ممن لقى اسحق بن سليمان وصحبه وأخذ عنه ".

ويلاحظ جيدا أنه في ذلك الدور- في القرنين التاسع والعاشر للميلاد، (الثالث والرابع للهجرة)- كان إقليم أفريقية  (تونس) يكون وحدة سياسية وحضارية مع صقلية وملحقاتها من المستوطنات التي أقامها المسلمون على سواحل جنوب إيطاليا . ومعنى هذا أن تأثير المسلمين الحضاري في شتى الجوانب والمعارف والعلوم- ومن جملتها الطب- لابد وأن يكون قد انتقل من أفريقية والقيروان إلى صقلية وسالرنو ،  وذلك  قبل ظهور قسطنطين الأفريقي في القرن الحادي عشر .

وبعبارة أخرى فإن ما نريد أن نؤكده هو أن أثر النفوذ الإسلامي في جنوب إيطاليا ليس مرتبطا بقسطنطين الأفريقي وحده في القرن الحادي عشر، وإنما لابد وأن يكون هذا التأثير قد انتقل قبل ذلك منذ القرن التاسع ، ثم جاءت جهود قسطنطين الأفريقي في نقل الطب الإسلامي إلى جنوب إيطاليا- عن طريق ترجمة مؤلفات المسلمين في علم الطب إلى اللاتينية- لتتوج الجهود  السابقة.

وفي ذلك يقول أحد الباحثين الغربيين إن كتب جالينوس في الطب لم يعرف منها سوى القليل في غرب أوربا في العصور الوسطى " حتى عرفت مؤلفاته كاملة في مدرسة سالرنو في القرن الحادي عشر وذلك عن طريق ترجمة هذه المؤلفات عن التراجم العربية التي نقلت عن اليونانية منذ وقت مبكر ". 

أما قول المتشككينفي أثر النفوذ الإسلامي في قيام مدرسة الطب في سالرنو،  بأن البشائر الأولى لكتابات أبقراط وجالينوس ظهرت  أفي إيطاليا في أواخر القرن الحادي عشر، أي بعد استيلاء النورمان على صقلية والقضاء على نفوذ المسلمين السياسي فيها فضلا عن جنوب إيطاليا ، فإن هذا القول مردود عليه بأن نهاية النفوذ السياسي للمسلمين في صقلية وجنوب إيطاليا  لا يعني بأي حال نهاية نفوذهم الحضاري في تلك الأنحاء بل على العكس، لقد أجمع المؤرخون والباحثون على أن الحضارة  الإسلامية في صقلية بلغت ذروتها عقب القضاء على  نفوذ المسلمين السياسي فيها على أيدي النورمان . ذلك أن حكام صقلية الجدد من النورمان  بهرهم  بريق الحضارة الإسلامية، وأعجبوا بما حققه المسلمون من إبداع  حضاري، فحرصوا على الاحتفاظ بالجالية الإسلامية في الجزيرة ورعاية أفرادها، وحثوهم على مواصلة نشاطهم الحضاري في شتى الميادين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتركوا لهـم حرية العبادة ليشجعوهم على البقاء والإنتاج .

وقد بلغ من إعجاب ملوك النورمان المسيحيين بالحضارة الإسلامية في صقلية أن الملك روجر الثاني نقش على العملة التي سكها عبارة " لا إله إلا الله محمد رسول الله "، مقرونة بالتاريخ الهجري . وتفيض المصادر المعاصرة العربية وغير العربية - بأخبار رعاية ملوك صقلية النورمان لعلماء المسلمين، وبخاصة الإدريسي وفي ذلك يقول الرحالة المعاصر ابن جبير إن ملك صقلية " كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله ". 

أما الصفدي فيقول عن الملك روجر الثاني- ملك صقلية وجنوب إيطاليا النورماني- " إنه كان محبا لأهل العلوم الفلسفية، وأن الإدريسي كان يجيء إليه راكبا بغلته، فإذا صار عنده تنحي (الملك) له عن مجلسه، فيأبى الإدريسي، فيجلسان معا " . ويجمل المؤرخ ابن الأثير موقف ملوك صقلية من المسلمين والحضارة الإسلامية، فيقول إن ملك صقلية " سلك طريق المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك. وخالف عادة الفرنج ، فإنهم لا يعرفون شيئا منه.. وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج ، فأحبوه.. " .

وبعد ذلك لنا أن نتساءل: إذا كان هذا هو موقف حكام وملوك صقلية النورمان من المسلمين وحضارتهم، ألا يكفي هذا للتدليل على أن مسيرة الحضارة العربية الإسلامية استمرت في صقلية وجنوب إيطاليا بعد سقوط دولة المسلمين في صقلية، وأن نور الحضارة الإسلامية لم يخب في ذلك الوقت من حوض البحر المتوسط، وإنما استمر من القرن التاسع للميلاد حتى القرن الثاني عشر عندما ازدهرت مدرسة الطب في سالرنو  هذا مع ملاحظة أن دولة النورمان شملت صقلية وجنوب إيطاليا جميعا، وهو ما أطلق عليه في التاريخ اسم " مملكة الصقليتين " حيث شبه الجزء الجنوبي من إيطاليا بصقلية أخرى ثانية ، وبأن سالرنو كانت تقع داخل نفوذ تلك الدولة، مما جعلها لا تقل عن غيرها من البلاد المحيطة بها تأثرا بحضارة المسلمين في ذلك العصر .

أما عن قصة قسطنطين الأفريقي (توف حوالي 480 هـ= 1087 م) فمن الواضح أنه" نسب إلى إقليم أفريقية، الذي قصد به في العصور القديمة والوسطى الجزء الأوسط من شمال أفريقية، وهو الجزء المعروف اليوم تقريبا- باسم تونس. وقد ولد قسطنطين هذا في قرطاجة ، وقام برحلات واسعة، طاف فيها بلاد المشرق الإسلامي، ثم نزح إلى جنوب إيطاليا حيث، اعتزل في الشطر الأخير من حياته في دير مونت كاسينو الشهير ، على مقربة من سالرنو. وهناك استغل معرفته بالعربية واللاتينية من ناحية، وخبرته التي جمعها في  الطب على أيدي أطباء المسلمين ومن كتبهم ومؤلفاتهم من ناحية أخرى ، فمارس مهنة الطب ، فضلا عن أنه عكف على ترجمة كثير من أمهات المؤلفات العربية في الطب. وظل على ذلك حتى، توفي في دير مونت كاسينو حوالي سنة 1087، أي في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد .

 ويبدو أن  أن العمل الذي قام به قسطنطين الأفريقي كان عظيم الأثر في تبصرة الأوربيين بكثير من جوانب الطب الإسلامي. ومن الكتب التي ترجمها إلى اللاتينية كتاب " المللكي " لعلي بن العباس ، وكان  الأخير قد صنف هذا الكتاب لعضد الدولة البويهي (949- 983 م).

ولا شك في أن توافر مثل هذا الكتاب باللغة اللاتينية أمام المشغلين بالطب في أوربا - وعلى مقربة من سالرنو - كفيل بأن يفتح أمامهم  آفاقا جديدة . وقد وصف ابن أبي أصيبعه كتاب الملكي بأنة " كتاب جليل مشتمل على أجزاء الصناعة الطبية: علمها وعملها " . كذلك ترجم قسطنطين الأفريقي إلى اللاتينية كتاب " زاد المسافر " لابن الجزار . هذا فضلا عن كتب أخرى في الطب للرازي واسحق بن سليمان وغيرهما .

ويذكر أحد كبار الباحثين في تاريخ علم الطب أن شهرة قسطنطين الأفريقي في علم  الطب في غرب أوربا في أواخر العصور الوسطى وصدر الحديثة ، تعادل شهـرة جالينوس في روما وشهرة ثيوفيلس Theopilus في الدولة البيزنطية، وشهرة ابن سينا في العالم الإسلامي  ولكنه يستدرك قائلا إن شهوة قسطنطين الأفريقي في الطب إنما ترجع إلى ما أفاده من الطب الإسلامي ، وما ترجمه من كتب المسلمين إلى اللاتينية " بمعنى أن شهرته ترجع إلى ما حصله من الكتب والمؤلفات العربية أكثر مما ترجع إلى كونه مجددا ومبتكرا في علم الطب " .

ولم يجد المنكرون لفضل الحضارة العربية الإسلامية على الغرب الأوربي وسيلة لرفض فكرة أثر الطب الإسلامي في قيام جامعة سالرنو سوى التشكيك في شخصية قسطنطين الأفريقي، والادعاء بأن هذه الشخصية وهمية لا أساس حقيقي ولا  وجود فعلي لها إلا في الأساطير. ولكن هذا القول دحضه العثور في مخطوطة ترجع إلى عصر النهضة الإيطالية، أو القرن الخامس عشر بالذات - على صورة لقسطنطين الأفريقي وهو يجري الفحص البولي لبعض المرضى من النسوة والرجال ، وبيد كل واحد منهم قارورة زجاجية يعرضها على قسطنطين لفحص ما فيها. وفوق الصورة في المخطوطة- عبارة باللاتينية، ترجمتها:

وهذا هو قسطنطين - الراهب بدير مونت كاسينو - صاحب نظرية فحص البول lndicils وذو الباع  الطويل في علاج كافة الأمراض .

ولا شك في أن هذه الصورة تثبت وجود قسطنطين الأفريقي في واقع الحقيقة فضلا عن أنها تثبت اتباعه أسلوب أطباء المسلمين في فحص بول المرضى للاسترشاد به في الوقوف على الحالة الصحية للمريض .

والواقع أن قسطنطين الأفريقي لم يكن آخر من تحصدوا لتعريف الغرب الأوربي بإنجازات المسلمين في الطب- عن طريق ترجمتها إلى اللاتينية - وإنما استمرت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية في صقلية وجنوب إيطاليا. من ذلك ما قام به أيوجنيوس البالرمي Eugenius of Palemo حوالي منتصف القرن الثاني عشر- من ترجمة كثير من المؤلفات العلمية العربية إلى اللاتينية.

أما فرج بن سالم اليهودي المتوفى في أواخر القرن الثالث عشر- حوالي سنة 1285- وهو من أصل صقلي، فقد مارس حياته العملية في سالرنو حيت عكف على ترجمة الكثير من مؤلفات المسلمين في الطب من العربية إلى اللاتينية. واشتهر فرج بن سالم هذا في المراجع اللاتينية المعاصرة باسم Fararius ، أو Faragut ويرجع إليه الفضل في ترجمة كتاب الحاوي للرازي سنة 1279، مما أدى إلى وقوف الغرب الأوربي على ركن هام من إنجازات المسلمين في علم الطب.  ذلك أن كتاب الحاوي- الذي عرف في غرب أوروبا باسم Continens كان من أوائل الكتب التي طبعت عند اختراع الطباعة في عصر النهضة، وأدى الإقبال عليه إلى تكرار طبعه باللاتينية عدة مرات- بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر . مما أدى إلى انتشاره واتخاذه محورا لتدريس الطب في الجامعات الأوربية حتى القرن التاسع عشر.

 وصفوة القول أننا إذا أردنا تلخيص دور صقلية وجنوب إيطاليا قي حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وأثر ذلك في انتعاش الدراسات الطبية في هذا الركن من الجنوب الأوربي، فإننا نركز على عدة حقائق:-

أولا: إن حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية وجدت في صقلية وجنوب إيطاليا مركزا هاما لهـا، يأتي في أهميته بعد الأندلس. والسبب في ذلك هو ما كان للمسلمين من نشاط حضاري متميز في صقلية من ناحية، وما كان هناك من روابط متعددة بين صقلية وجنوب إيطاليا من ناحية وأفريقية الإسلامية من ناحية أخرى.

ثانيا: إذا كان من أعلام هذه الحركة في القرن الحادي عشر قسطنطين الأفريقي فإنه من الثابت أن حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، بدأت قبل ظهور قسطنطين الأفريقي  بوقت طويل، واستمرت بعد وفاة قسطنطين الأفريقي سنة 1087 وقتا طويلا.

وقد وجدت هذه الحركة تأييدا وتشجيعا من ملوك صقلية وجنوب إيطاليا النورمان ، وهم الذين  كانوا خير راع للحضارة العربية الإسلامية بوجه عام، كما سبق أن أوضحنا. هذا إلى أن ملوك النورمان مدوا نفوذهم إلى أجزاء من شمال أفريقية- من طرابلس الغرب إلى قرب تونس، ومن القيروان إلى قرب حدود المغرب. وقد اتخذ روجر الثاني ملك النورمان لقب " ملك أفريقية " بالإضافة إلى كونه ملك صقلية وجنوب إيطاليا .

ولا شك في، أن امتداد نفوذ النورمان إلى شمال أفريقية أدى إلى تمكينهم من زيادة الإفادة من ثمار الحضارة الإسلامية التي عشقوها وحبوا رجالها بعطفهم.

ثالثا: نظرا لأن إقليم أفريقية كان- كما سبقت أن أوضحنا- مركزا هاما من المراكز التي ازدهر فيها الطب الإسلامي، فإن إنجازات المسلمين في هذا العلم وجدت الطريق مفتوحا أمامها لتنتقل إلى جنوب إيطاليا- ومنطقة سالرنو بالذات- عن طريق صقلية، وغير صقلية من معابر الحضارة الإسلامية.

وبدون هذا التأثير الحضاري الإسلامي، لا نجد تعليلا مقنعا لظهور. مدرسة أو جامعة سالرنو في الطب .

وإذا كانت مدرسة الطب في سالرنو بجنوب إيطاليا قد ظهرت وازدهرت على أساس قاعدة عريضة من الطب الإسلامي، فإنه يبدو أن هذه المدرسة استطاعت أن تحق لنفسها مكانة مرموقة في عالم الطب عند ختام القرن الحادي عشر. وفي تلك المرحلة زارها- سنة 1099- روبرت النورماني للاستشفاء ، بعد أن أصيب بجراح في الحروب الصليبية بالشام . واشتهرت مدرسة سالرنو عندئذ بما حققته من تقدم في الجراحة، وأجريت فيها عمليات جراحية ناجحة. ويرجع الفضل في هذا التقدم إلى ما أفاده أطباء سالرنو من كتب الرازي وابن سينا وأبي القاسم في التشريح .

 وبازدياد شهرة مدرسة سالرنو في الطب، أخذت تحظى برعاية الحكام الذين تعاقبوا في حكم جنوب شبه الجزيرة الإيطالية. هذا إلى أن الأنظار بدأت في فجر عصر النهضة تتجه إلى ضرورة العناية بالطب- علما وعملا- وتحديد شروط لمن يسمح له بمزالة هذه المهنة، وذلك بعد أن كانت الكنيسة في الشطر الأول من العصور الوسطى تفرض آراءها من وجهة نظر ضيقة ومتزمتة في مثل هذه الأمور- وكان أن أصدر روجر الثاني النورماني- ملك صقلية وجنوب إيطاليا- مرسوما بضرورة حصول من يزاول مهنة الطب على ترخيص بذلك.

وفي سنة 1231 م جاء أول اعتراف رسمي بمدرسة سالرنو في الطب، وذلك عندما أصدر الإمبراطور فردريك الثاني  مرسوما في تلك السنة يحرم ممارسة مهنة الطب أو تعليم أصول هذه المهنة داخل دولته دون الحصول على ترخيص رسمي بذلك، على أن يعطى هذا الترخيص لمن يطلبه بعد أن يؤدي امتحانا أمام لجنة من أساتذة سالرنو. كذلك أصدر هذا  الامبراطور مرسوما يحدد السنوات التي يقضيها طالب الطب فى الدراسة قبل أن يجاز لمزاولة هذه المهنة . وقد حددت هذه السنوات بخمس، على أن تتضمن الدراسة التشريح والجراحة، وتعاقبها سنة سادسة يقضيها الطالب في التمرين،  تحت إشراف أحد الأطباء المتمرسين .

وإذا كان الإمبراطور فردريك الثاني قد أنشأ جامعة نابلي سنة 1224، وأقام فيها كلية للطب، فإنه يبدو أن هذه الجامعة الجديدة لم تستطع أن تنافس مدرسة سالرنو في مجال الدراسات الطبية، بدليل أن الإمبراطور أصدر مرسومه السالف الذكر سنة 1231، الذي جاء بمثابة أول اعتراف رسمي بسالرنو كمعهد لدراسة الطب .

والواقع أن دراسة الطب أخذت تمتد من سالرنو إلى أجزاء متفرقة من إيطاليا، سواء بإنشاء كليات للطب في جامعات لم يكن فيها مثل هذه الكليات، أو في جامعات جديدة من تلك التي أخذت تظهر وتنتشر بسرعة كبيرة قي ذلك الدور أواخر العصور الوسطى وفجر الحديثة.

وفي جميع الحالات فإن انتشار دراسة الطب جاء على أساس قاعدة عريضة من  الطب الإسلامي، وهو الأمر الذي  يتبين من كثرة ترديد- أسماء أطباء المسلمين في المصادر المعاصرة من ناحية، فضلا عن التمسك بأن يؤدي طلاب الطب امتحانات في أجزاء معينة من المؤلفات العربية التي ترجمت إلى اللاتينية من ناحية أخرى .

على أن جامعة سالرنو أخذت تذبل. تدريجيا منذ أواخر القرن الثالث عشر وذلك لانحسار نفوذ الحضارة الإسلامية الذي ظل يمثل الشريان الرئيسي الذي أمدها بالحياة منذ مولدها. وكان ذلك في الوقت الذي تعرضت سالرنو لمنافسة قوية من بعض الجامعات الأخرى الناشئة في جنوب أوربا- وبخاصة في إيطاليا وجنوب فرنسا- مما أدى إلى اضمحلال مدرسة سالرنو في القرن الرابع عشر حتى ماتت موتا بطيئا دون أن تترك أثرا في نظم الجامعات الأوربية في أواخر العصور الوسطى وصدر الحديثة .

وقبل أن نترك مدرسة- أو جامعة- سالرنو للطب لابد من الإشارة إلى أنه من المتعذر أن يرتقي علم الطب إلا في ظل التشريح ، لأنه لابد للطبيب من معرفة تركيب مختلف أعضاء الجسد ليعرف بالضبط وظيفة كل عضو، ويدرك ما يترتب على ما يصيبها من خلل ومن أعراض. لذلك جاء تقدم  الطب في غرب أوربا في فجر نهضته الحديثة مصحوبا بتقدم التشريح.

ويجمع الباحثون على أن تقدم التشريح في الغرب الأوربي وفي جامعاته الناشئة جاء نتيجة لمؤثرات عربية إسلامية. ذلك أن ترجمة مؤلفات ابن سينا والرازي وأبي القاسم إلى اللاتينية، أحدثت ثورة شاملة في علم التشريح في غرب أوربا . ونخص  بالذكر كتاب " التصريف لمن عجز عن التأليف " لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة 1107م، إذ ظل هذا الكتاب- بعد ترجمته إلى اللاتينية- المرجع الأساسي الذي اعتمد عليه الأوربيون، وبخاصة داخل الجامعات وكليات الطب، في الجراحة وتجبير العظام طوال عدة قرون تالية. وقد ترك أبو القاسم أيضا مرجعا صغيرا في وصف الآلات المستخدمة في العمليات الجراحية وطرق استعمالها، مع توضيح كل ذلك بالرسوم. ويعتبر هذا المرجع الأول من نوعه في موضوعه، مما أكسبه أهمية كبرى في تاريخ الطب، بحيث ظل مرجعا أساسيا في كليات الطب بغرب أوروبا حتى القرن التاسع عشر.

وقد لجأ الأطباء في سالرنو إلى البدء بتشريح الخنازير، لأنه كان من المتعذر عليهم الحصول على القردة لتشريها،  مثل فعل أطباء المسلمين . ولم يكن ذلك إلا في أوائل القرن الرابع عشر عندما نسمع أن أحد العلماء في بولونا- واسمه موندينوس  Mundinus جرؤ على تشريح بعض جثث الموتى من البشر، مخالفا بذلك تعاليم الكنيسة .

ولم يكن فضل الطب الإسلامي على جامعة سالرنو قاصرا على الميادين السابقة فحسب، وإنما ظهر أيضا في الأدوية المضادة للسموم. وقد أشاد بعض الباحثين المحدثات بأحد أطباء سالرنو- واسمه نيقولا Nicholas of Saterno بوصفه أول من أسس في القرن الثاني عشر قسما خاصا بالأدوية المضادة للسموم Antidotaria في علم الصيدلة.

ولكن العالم ماكني - الذي اشتهر بدراسته وبحوثه في تاريخ الطب يقول ما نصه " إن الفضل في هذا الأمر  لا يرجع إلى نيقولا  بقدر ما يرجع إلى علماء المسلمين، لأن نيقولا استمد معلوماته عن المضادات للسموم من التراجم اللاتينية للمؤلفات العربية، وخاصة تلك المؤلفات التي ترجمها قسطنطين الأفريقي " .

ولعله من الجدير بالملاحظة أنه حتى ذلك النفر من الباحثين الغرب الذين حاولوا الإقلال من شأن الطب الإسلامي في نشأة مدرسة الطب وازدهارها في سالرنو ، حتى  هؤلاء لم يستطيعوا أن ينكروا أثر الطب الإسلامي في ازدهار الدراسات الطبية في بقية الجامعات الأوربية الناشئة في فجر النهضة الأوربية. ومن هؤلاء الباحثين راشدال الذي يقول في معرض كلامه عن جامعة بولونا ما نصه " الواقع أن شهرة مدرسة الطب في بولونا لم تعد حقيقة ثابتة إلا منذ أواخر القرن الثالث عشر عندما أخذ نجم مدرسة سالرنو في الأفول من ناحية، وعندما أخذ تيار الطب الإسلامي يشتد حتى صارت له الغلبة في غرب أوروبا من ناحية أخرى " .

حاقيقة أن جامعة بولونا بنت شهرتها أساسا على أساس تفوقها في دراسة القانون، ولكنها لم تلبث عندما أخذت تتطور لتأخذ شكل جامعة، أن استوعبت دراسات أخرى غير القانون، وبين هذه الدراسات احتل الطب- وبخاصة الجراحة- مكانة واضحة. وفي القرن الرابع عشر برز اسم جامعة بولونا لامعا في مجال الدراسات الطبية، وبخاصة الجراحة. ومنذ ذلك الوقت وجدت في بولونا مؤلفات في الجراحة، من الواضح أنها مستقاة من الكتب العربية التي ترجمت إلى اللاتينية. في وقت سابق، ووفق النظم التي وضعت لكلية الطب في بولونا،  كان على طالب الطب لكي يجاز ويسمح له بمباشرة- المهنة أن يؤدي امتحانا أساسيا في كتاب القانون لابن سينا ، وكتاب الكليات لابن رشد ، وهو الكتاب الذي، عرف في غرب أوربا باسم Colliget أو Correctorium والمقالة السابعة من كتاب " المنصوري " للرازي  هذا كله عدا بعض الكتب الثانوية، مثل كتابات جالينوس وأبقراط.

ومع أن ممارسة مهنة ا الصب تجلب الأرباح لأملها وأصحابها، إلا أن الملاحظ أن الأطباء لم يصلوا مطلقا في إيطاليا- في فجر عصر النهضة- إلى المستوى الرفيع الذي بلغه رجال القانون. لذلك لم تحصل كلية الطب في بولونا على نفس المكانة والشهرة التي حصلت عليها كلية القانون. على أن هذا ليس معناه الإقلال من أهمية دراسة الطب في ذلك الدور في إيطاليا بوجه عام. إذ ظلت هذه الدراسة منتعشة، وهي في انتعاشها استمدت أسباب حياتها من الطب الإسلامي. ولعله مما ساعد على ازدياد الفرصة للاستفادة من الطب الإسلامي في فجر النهضة الأوربية، ذلك التوسع في تعلم اللغة العربية، حتى أنشأت لها أقسام خاصة في بعض الجامعات. ومن الطريف أن نذكر أن البابوية نفسها- في مرحلة معينة- أخذت ترعى مبدأ تعليم وتعلم اللغة العربية في كثير من الجامعات الأوربية الناشئة، بهدف إعداد فريق من المنصرين ورجال الإرساليات والبعثات التنصيرية، لإرسالهم إلى البلاد العربية في محاولة لرد أهلها عن الإسلام وإدخالهم في حظيرة النصرانية. وقد قام بجهد كبير في هذا المضمار جماعة الرهبان الدومينكان بالذات .

ولكن يبدو أن التوسع في تعلم وتعليم اللغة العربية في بعض الجامعات الأوربية الناشئة لم يخدم الكنيسة ويحقق أهدافها البعيدة ، بقدر ما خدم الحياة العلمية، ومكن طلاب العلم من الاستفادة مما في المراجع والمصادر العربية من ثروة علمية ضخمة .

ومنذ وقت مبكر يرجع إلى القرن الثالث عشر ربط أساتذة الجامعات الأوربية بين العلم ومعرفة العربية، حتى قال روجر بيكون (1215- 1292) " إن العلم مأخوذ من الكتب العربية، ومن أراد أن يكون عالما فعليه أن يبدأ بتعلم العربية " وقد تردد في بعض الوثائق المعاصرة أن طلابروجر بيكون كانوا يتغامزون أحيانا إذا أخطأ أمامهم في ترجمة بعض النصوص العربية إلى اللاتينية، لأن هؤلاء الطلاب كانوا يطالعون النص العربي ويقارنون بينه وبين ما يقوله أستاذهم .

يضاف إلى ما سبق أن تدريس الطب ومباشرة المهن المرتبطة به في إيطاليا، أخذت تتحرر تدريجيا من سيطرة الكنيسة ورجالها . ويبدو أنه لم يعد للبابوية أو رجال الكنيسة أية سيطرة على المشتغلين بالطب في شبه الجزيرة الإيطالية في فجر عصر النهضة، الأصل الذي ساعد على التوسع في الاعتماد على المصادر العربية الإسلامية في علم الطب . 

وهكذا احتل الطب وعلم الجراحة مكانة خاصة في جامعة بولونا في القرن الرابع عشر وفي تلك المرحلة بالذات أخذت تعلو أصوات بعض الأطباء الأوربيين معبرين عن ألمهم لأن بعض العمليات الجراحية- مثل الفصد والكي- ظل أمر مباشرتها متروكا للحلاقين والنساء، وطالبوا بألا  يسمح بمباشرة هذه الأعمال إلا للأطباء المرخصين لمزاولة المهنة، ونادوا بأنه " في سالف الأزمان أجرى جالينوس والرازي مثل هذه العمليات بأيديهما " .

ولم تكن جامعة بولونا في إيطاليا هي الوحيدة التي ازدهرت ني مجال الطب في القرن الرابع عشر معتمدة على أسس قوية من الطب الإسلامي، وإنما اشتهرت إلى جانبها جامعات أخرى بنت شهرتها في الطب على أساس المعلومات المستمدة من الكتب المترجمة عن العربية. ومن هذه الجامعات جامعة لوكا Lucca وهي الجامعة التي حظيت برعاية الإمبراطور شارل الرابع، وحصلت منه على براءة سنة 1369 حققت لها اعترافا رسميا. ومن الثابت أن دراسة  الطب بهذه الجامعة استمدت أصولها من المعارف العربية التي وصلتها من الأندلس وجنوب فرنسا. ومثل هذا يقال عن جامعة بادوا وغيرها من الجامعات التي ظهرت في إيطاليا في أواخر العصور الوسطى وصدر الحديثة .

وإذا كانت دراسة الطب قد ازدهرت في سالرنو وبولونا وغيرهما من الجامعات الإيطالية الناشئة في فجر النهضة الأوربية الحديثة، نتيجة للمؤثرات الحضارية العربية الإسلامية الوافدة من شمال أفريقية وصقلية- وربما الأندلس- فإن نفس الوضع ظهر بالنسبة للجامعات الفرنسية، لاسيما تلك التي ظهرت في جنوب فرنسا.

وكان المسلمون قد تطلعوا لغزو شواطىء فرنسا الجنوبية منذ أن ثبتوا أقدامهم في الغرب. ذلك أن المسلمين غدوا قوة بحرية لها وزنها في غرب حوض البحر المتوسط منذ وقت مبكر يرجع إلى أوائل القرن الثامن للميلاد، فغزوا سردينية سنة 712 م ثم جزيرة كورسيكا بعد قليل. وبنجاح المسلمين في فتح الأندلس بدأت الخطوة التالية وهي غزو غاليا- أن فرنسا- فاستولوا على ناربون سنة 720، ثم أوغلوا في برجنديا .

تم كان أن خرجت حملة كبيرة من مسلمي الأندلس بقيادة عبد الرحمن الغفقي لغزو جنوب غاليا- أو فرنسا- سنة 732، فعبر المسلمون جبال البرانس واستولوا على بوردو،  وواصلوا زحفهم شمالا حتى تصدى لهم شارل مارتل في موقعة بلاط الشهداء (تور أو بواتييه)، وهي الموقعة التي انتهت بمقتل عبد الرحمن وارتداد رجاله (80). وقد أتبع شارل مارتل انتصاره بتدمير المستوطنات الإسلامية- بما فيها مدينة ما جلونه- على شاطىء فرنسا الجنوبي سنة 737 م، ففر كثير من اللاجئين من المناطق المخربة إلى إقليم مونتبليه . وكان معظم هؤلاء اللاجئين مسلمين، ينحدرون من أصول عربية أو على الأقل يعرفون اللغة العربية، في حين كانت غالبية الأهالي في المنطقة المحيطة بهم على اتصال بالمسلمين وحضارتهم في الأندلس. وإلى تلك الفترة بالذات يرجح الباحثون نشأة مدينة مونتبليه التي قدر لها فيما بعد أن تصبح مركزا لجامعة كبرى اشتهرت بالطب ، واستمدت معارفها الطبية من حضارة المسلمين الذين أسهموا في وضوح البذور الأولى للمدينة نفسها من ناحية، ومن الاتصالات الوثيقة بيت جنوب فرنسا والأندلس من ناحية أخرى .

على أن هجرة المسلمين إلى جنوب فرنسا لم تتوقف نتيجة للضربة التي أنزلها بهم شارل مارتل سنة 732 ، إذ ما كاد يتوفى شارل سنة 741 م، حتى تجددت غزوات المسلمين لجنوب فرنسا ، وفي هذه المرة اتخذت الغزوات الإسلامية طابعا بحريا واضحا ونزعة ، استيطانية واسعة النطاق.

وبوصول الأمير عبد الرحمن الداخل الأموي إلى الأندلس ، واستيلائه على قرطبة سنة 756 م بدأت مرحلة جديدة في غزوات المسلمين لشواطىء فرنسا الجنوبية واستقرارهم فيها، إذ حرص الأمير عبد الرحمن في أواخر القرن الثامن على بناء أسطول قوي ، اتخذ له قواعد حصينة على شاطىء الأندلس في طركونة ،وطرطوشة واشبيلية والمرية ، وغيرها من موانيء الشاطىء الشرقي لأسبانيا المواجه لشواطىء  فرنسا على البحر المتوسط. وما كاد الأمير عبد الرحمن يطمئن من ناحية الخطر العباسي عليه وعلى دولته، حتى استغل تلك القوة البحرية في غزو ميورقه ومينورقه ويابسه وغيرها من جزر البليار.

ونشطت حركة التوسع الإسلامي في جنوب فرنسا بعد وفاة الإمبراطور شارلمان سنة 814 م، فتوغل المسلمون في إقليم مصب الرون حتى وصلوا إلى آرل ونواحيها. وقرابة منتصف القرن التاسع- سنة 848 م- غزا المسلمون مرسيليا وتوسعوا على شواطىء فرنسا الجنوبية حتى قرابة جنوه. واستطاع المسلمون تثبيت أقدامهم في تلك الجهات حتى كانت سنة 889 ، فاستولوا على أجزاء جديدة من إقليم بروفانس. ولم يكد ينته القرن التاسع إلا وكانوا قد أقاموا معاقل كبيرة لهم في جنوب فرنسا، وأشدها حصن فركسيناتوم Fraxinatum إقليم بروفانس ، قرب آرل. وكان أن اتخذوا هذا الحصن نقطة انطلاق للسيطرة على البلاد المجاورة، حتى صارت مرسيليا ومضايق الألب- بين فرنسا وإيطاليا- تحت سيطرتهم.

ويعنينا من هذا العرض السريع أن نؤكد حقيقة كبرى ، هي أن المسلمين كان لهم قدم راسخ في جنوب فرنسا مع بزوغ ضوء النهضة الأوربية. والمعروف عن حركة التوسع الإسلامي أنها اتصفت دائما بطابعها البناء ونزعتها الحضارية الإنشائية. ولذا جاءت المستوطنات التي أقامها المسلمون في جنوب فرنسا بمثابة مراكز حية للحضارة الإسلامية، أو نقاط أمامية لحضارة المسلمين في الأندلس. وقد ثبت أن مدينة نيس التي كانت تابعة لمملكة آرل وجدت فيها- في القرن العاشر- جالية إسلامية كبيرة ، لها نشاط حضاري متعدد الأوجه .

وإذا كان نفوذ المسلمين السياسي قد أخذ ينكمش تدريجيا من جنوب فرنسا منذ أواخر القرن العاشر، نتيجة للضعف الذي اعترى الوطن الأم في قرطبة ، فإن نفوذهم الحضاري- مثل ما حدث في صقلية والأندلس- ظل قائما في جنوب فرنسا يعبر أصالة وحيوية. وفي تلك البيئة وفي ذلك المناخ، قامت جامعة مونتبليه تحمل مشعل الطب الإسلامي لينتشر نوره فيشمل جامعة باريس وغير جامعة باريس من جامعات غرب أوربا ووسطها في فجر عصر النهضة .

ويحيط الغموض نشأة كلية الطب في جامعة مونتبليه. وسواء كانت هذه الكلية في أساسها فصلة انشقت عن جامعة سالرنو في جنوب إيطاليا، أو جاء مولدها نتيجة لمؤثرات انبعثت عن الأندلسي، فالنتيجة واحدة بالنسبة لنا في هذا البحث، لأن المؤثر في الحالتين إسلامي.

وأول إشارة نجدها في المصادر المعاصرة عن كلية  الطب في جامعة مونتبليه ترجع إلى النصف الأول من القرن الثاني عشر- أو على وجه التحديد سنة 1137- عندما نسمع أن أدالبرت- الذي صار فيما بعد رئيس أساقفة مينز- التحق بتلك الكلية، بعد أن تزود بقسط من الدراسات الأدبية في باريس .

على أن ظهور جامعة مونتبلية جاء سريعا وبخطى مطردة ، بحيث ما كاد ينتهي القرن الثالث عشر حتى كانت هذه الجامعة قد أحرزت شهرة واسعة على الصعيد الأوربي في عالم الطب بالذات. ولا أدل على عمق تأثر كلية الطب بجامعة مونتبلية بالطب ا لإسلامي من المرسوم الشهير الذي أصدره البابا "كلمنت الخامس " في أوائل القرن الرابع عشر- وعاد وجه التحديد سنة 1309- بناء على اقتراح ومشورة من أساتذة جامعة مونتبليه- على رأسهم أرنالد من فيلانوفا Arnald of Villanova ويشترط هذا المرسوم فيمن يسمح له بمزاولة مهنة الطب أن يؤدي امتحانا في كتب معينة ، على رأسها مؤلفات ابن سينا، والرازي ، وحنين بن اسحق ، وقسطنطين الأفريقي ،  وغيرهم.

وقد حدد هذا المرسوم لطالب الطب بضعة كتب يدرسها في المرحلة الأولى من دراسته، من بينها كتاب في الحميات لحنين بن اسحق، وكتاب دفع مضار الأغذية ليوحنا بن ماسويه . وفي سنة 1340 حددت مقررات الدراسة في كلية الطب بجامعة مونتبلية، على  أن يقوم أستاذ متخصص بتدريس كل مقرر منها. وكان من بين هذه المقررات الكتاب الأول من القانون لابن سينا ، فضلا عن مقرر آخر يشمل الكتاب الرابع من نفس المؤلف لابن سينا .

وما سبق أن ذكرناه عن جامعة بولونا في إيطاليا، من أن شهرتها أساسا تنبع من القانون لا من الطب، يمكن تطبيقه أيضا على جامعة باريس التي استمدت شهرتها من الفلسفة والدراسات الإنسانية، لا من علم الطب. وبعبارة أخرى، فإنه مع أن كلية الطب بجامعة باريس تأثرت بجامعة مونتبليه من ناحية، وبالطب الإسلامي من ناحية أخرى، إلا أن الطابع الفلسفي ، الذي غلب على جامعة باريس جعل دراسة الطب فيها لا تصل إلى ما وصلت إليه جامعة مونتبليه أو جامعة سالرنو من مكانة.

ومع ذلك، فقد صار للطب الإسلامي في جامعة باريس مكانة كبيرة واضحة منذ أواخر القرن الرابع عشر، بحيث غدت مؤلفات ابن سينا وابن رشد محور تعليم الطب في تلك الجامعة ، والكتب المعتمدة التي يرجع إليها المعلمون ويمتحن فيها المتعلمون  . وما زالت كلية الطب بجامعة باريس تزدان حتى اليوم بصورتين كبيرتين في مدخلها، إحداهما تمثل ابن سينا والأخرى تمثل الرازي .

هذا هو دور الطب الإسلامي في جامعات إيطاليا وفرنسا في فجر عصر النهضة، ومنه يتضح كيف حرصت  هذه الجامعات على تلقف معارف المسلمين في الطب ، واحتضان هذه المعارف والإفادة منها، ثم تصديرها إلى بقية الجامعات الأوربية الجديدة ، التي تفرعت عنها، واستقت منها نظمها ومناهجها .

ولعل التساؤل الذي يبرز في هذا المقام هو: ما دور الجامعات الأسبانية في تلك الحركة في فجر عصر النهضة؟ وللإجابة عن هذا السؤال علينا أن نفرق بين أسبانيا كمعبر للحضارة الإسلامية إلى غرب أوربا من ناحية، وبين طبيعة الجامعات الأسبانية والظروف التي أحاطت بنشأتها من ناحية أخرى. ذلك أن أسبانيا تعتبر دون أدنى شك- أهم المعابر التي انتقلت عليها- حضارة الإسلام إلى الغرب الأوروبي ، وذلك  بحكم موقعها وبوصفها مركزا ضخما من المراكز التي ازدهـرت فيها الحضارة الإسلامية.

ومنذ وقت مبكر، عكف المستعربون وغيرهم على ترجمة كثير من مؤلفت المسلمين وكتبهم إلى اللاتينية. وبالإضافة إلى هؤلاء المستعمرين واليهود من أهل أسبانيا أمثال دومونيقوس جوند يسالفي Dominicus Gondisalvi بطرس ألفونسي Petrus Alphonsi  وحنا الأشبيلي John of Seville وإبراهيم بن عزرا Abrahamben Ezra  نزح إلى أسبانيا كثير من ، طلاب العلم من مختلف بلاد الغرب الأوربي للتزود بمعارف المسلمين ونقلها إلى اللاتينية، ومن هؤلاء أديلارد Adelard الإنجليزي وهرمان من كارنثيا وغيرهم . ولم يكن لحركة الترجمة عن العربية مركز واحد في الأندلس، وإنما اشتهرت فيها عدة مراكز، في برشلونة وطرزونة وليون وبمبلونة، فضلا عن طليطلة حيث سبق أن أشرنا إلى جهود ريموند كبير أساقفتها في تلك الحركة- كذلك اشتهر في النصف الأول من القرن الثاني عشر روبرت الشستري Robert of Chester المتوفى سنة 1144 والذي ترجم كثيرا من المؤلفات العربية في الطب والرياضيات والفلك وغيرها إلى اللاتينية.

بل لقد ترجم القرآن الكريم لأول مرة إلى اللاتينية . أما النصف الأخير من القرن الثاني عشر، فقد توجته في حركة الترجمة جهود جيرارد الكريموناوي Gerard of Cremona المتوفى سنة 1178، والذي رحل إلى طليطلة حيث قضى سنوات في تعلم العربية على يد أحد المستعربين ، ثم عكف على ترجمة أمهات الكتب العربية- زادت عن سبعين كتابا ضخما- إلى اللاتينية، منها الكثير في علم الطب بالذات.

واستمرت حركة الترجمة عن العربية بعد ذلك، فظهر من أعلامها في القرن الثالث عثر ألفرد الإنجليزي ومخائيل سكوت الإسكتلندي ، وهرمان الألماني.. وجميعهم نزحوا إلى الأندلس بحثا عن كنوز الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي لترجمتها إلى اللاتينية .

ولكن هذا الدور الكبير الذي نهضت له أسبانيا كمعبر للحضارة الإسلامية إلى الغرب الأوربي ظل مستقلا عن الجامعات عند نشأتها. هذا إلى أن نشأة الجامعات في أسبانيا جاءت مصحوبة باشتداد تيار الحركة المضادة للوجود الإسلامي ، وهي الحركة التي تزعمتها الكنيسة الكاثوليكية من ناحية وملوك قشتالة وأرغونة وغيرهما من الوحدات السياسية المسيحية في شبه الجزيرة من ناحية أحرى .

وعلينا ألا ننسى أن الشرارة الأولى للحروب الصليبية انطلقت س أسبانيا قبل أن تتعدد ميادين هذه الروب وتمتد إلى الشرق. يضاف- إلى هذا موقع أسبانيا في قلب العالم الكاثوليكي في غرب أوربا ، وقربها من مركز البابوية، وسجلها القديم في تاريخ الكنيسة.. كل هذا جعل الصيحة التي انطلقت منها ضد الإسلام- عندما ظهر ضعف الدولة الإسلامية، بالأندلس وانقسام المسلمين على أنفسهم- صيحة قوية مدوية، خطيرة الأثر.

ولم تستطع الجامعات الأسبانية عند نشأتها أن تقاوم ذلك التيار اللا إسلامي الذي ولدت وسطه، وخاصة أن معظم تلك الجامعات جاءت ربيبة الكنيسة والملوك المسيحيين الذين تزعموا جميعا حركة القضاء على الكيان الإسلامي في الأندلس. ولذا فإن  الجامعات الأسبانية غلب عليها تيار التعصب ضد المسلمين وحضارتهم لأنها لم تستطع أن تشد عن المناخ العام الذي أحاط بها والدي ولدت وسطه.

وليس معنى هذا أن العلوم والدراسات الإسلامية لم تجد لها مكانا في تلك الجامعات، إذ كان من المتعذر على أية مؤسسة علمية أو جامعة أوربية في فجر عصر النهضة أن تشق طريقها وتحقق لنفسها مكانة علمية إلا على أساس ركيزة واضحة من علوم المسلمين . وإنما يبدو أن الجامعات الأسبانية اعتمدت على معارف المسلمين إلى حد بعيد، وبخاصة في علوم الطب والرياضيات والفيزياء والفلك، ولكن دون أن تظهر، هذه الحقيقة إلا مضطرة .

وإذا كان ملوك أسبانيا منذ أواخر القرن الحادي عشر حتى أيام فردناند وايزابلا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر قد دأبوا على محو آثار الحضارة الإسلامية في البلاد التي ينتزعونها من المسلمين، فهدموا المساجد والحمامات والقصور، وأحرقوا آلاف الكتب والمجلدات، وأزهقوا الأنفس البريئة بروح ملؤها الحقد على كل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة.. فإن مقدري تراث الحضارة الإسلامية، من المسيحيين أنفسهم كانوا يسرعون عقب سقوط أية مدينة إسلامية ليفوزوا سرا بما قد يصاب إلى أيديهم من مؤلفات وكتب عربية.

والواقع أنه كان من الصعب اقتلاع كل جذور الحضارة الإسلامية اقتلاعا تاما من الأندلس بعد حكم دام ثمانية قرون، ولذا ظلت بعض تلك الجذور باقية ، تشهد- رغم قلتهـا- على أمجاد ، هي أعظم ما عرفته الأرض الأسبانية منذ فجر تاريخها حتى اليوم. لقد قتلوا وأحرقوا كل من اتهم بأنه باق على الإسلام، وهدموا العمائر وأحرقوا  الكتب ، ولكنهم لم يستطيعوا في جامعاتهم الناشئة أن يستغنوا مطلقا عن معارف المسلمين وعلومهم. كان ما في الأمر هو أن هذه المعارف والعلوم افلت تستخدم قاعدة وأساسا للعلم والتعليم دون أن يجهروا بذلك، ودون أن يربطوها بأصحابها من أئمة الفكر الإسلامي إلا مضطرين.

وخلاصة القول في هذا البحث ، أن الطب الإسلامي ساد غرب أوربا في عصر  النهضة ، واعتمدت عليه الجامعات الأوربية منذ نشأتها. ويعترف راشدال- وهو رغم تعصبه ضد أثر الحضارة الإسلامية يعتبر من خيرة من أرخوا لنشأة الجامعات الأوربية- يعترف بأنه " ما كاد يحل القرن الرابع عشر حتى صارت السيادة للطب الإسلامي في كافة كليات الطب في الجامعات الأوربية " .

على  أن راشدال ومدرسته من خصوم الحضارة الإسلامية كانوا لا يستطيعون تقديم مثل هذا الاعتراف خالص من أية شائبة، ولذا نجده  يستدرك فيقول:

" ولكن من الخطأ البالغ ترديد ما هو شائع من أن انتشار معارف المسلمين في الطب يمثل تقدما كبيرا في هذا العلم ، لأن علينا أن ندرك أن الطب الإسلامي قام على أساس مزدوج صت طب اليونان ست ناحية، والطب المسيحي في العصور الوسطى مرة ناحية أضحى- وعلينا أن نفرق بين ما أضافه المسلمون أنفسهم إلى هذا التراث وما أضافه غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ، لأن زمام الطب الإسلامي كان بأيدي اليهود. وما أضافه المسلمون لا يعادل بأي حال ما أخذوه من علوم اليونان. إن أهم ما أسهم به المسلمون في الطب كان التوسع في استخدام الأعشاب الطبية في العلاج. وقد أضاف المسلمون بعض الأدوية في علاج الأمراض، ولكن يقلل من قيمة إنجازاتهم في هذا المجال أوهامهم وخيالهم الواسع في استخدام بعض الظواهر الكيميائية والتنجيم في العلاج... " .

هذه العبارة نموذج لما يردده بعض علماء الغرب المتحاملين على الحضارة الإسلامية، الناكرين لفضلها على غرب أوربا ونهضته الحديثة. ونكتفي بالإيجاز في تنفيذ ما جاء في قول راشدال من مغالطات، فنقول:-

إن القول بأن الطب الإسلامي قام على أساس من طب اليونان قول لم ينكره علماء المسلمين أنفسهم. لقد أشاد المسلمون- كما سبق أن أشرنا- في كتبهم ومؤلفاتهم بأعلام الأطباء اليونانيين مثل جالينوس وأبقراط، واحترموا كتاباتهم واعترفوا بأنهم ترجموا كتبهم وتعلموا فيها. ولكن المسلمين في تطورهم الحضاري كانوا- كما قال جوستاف لوبون- " التلميذ الذي فاق أستاذه ". ويكفي أن عالما مثل علي بن العباس اعتمد على مشاهداته العملية في النتائج التي توصل إليها والتي أثبتها في كتابه " الملكي "، مما مكنه من اكتشاف أخطاء خطيرة لأطباء اليونان القدامى مثل أبقراط وجالينوس وبولس الأيجيني،  وهذا المثل واحد من كثير .

كل ما نريد أن نثبته هو أن علماء الحضارة الإسلامية عرفوا كيف يتخيرون غذاءهم الفكري؟ فلم يتقبلوا ما في تراث اليونان - وغير اليونان أن السابقين- وإنما رفضوا شيئا وصححوا شيئا، وتقبلوا كل ما لا يتعارض مع تعاليم ديانتهم وآدابها ومثلها من ناحية ويتفق مع العقل والمنطق من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى فإنهم عندما كتبوا في الطب استفادوا من طب اليونان، ولكنهم كتبوا طبا لا يوصف إلا بأنه إسلامي.

أما قول راشدال إن الطب الإسلامي قام على أساس مزدوج من طب اليونان والطب المسيحي في العصور الوسطى Medieval Christendom  فلا ندري ماذا يقصد بالضبط بالطب المسيحي في العصور الوسطى؟

إن كان يعني تراث اليونانيين والرومان في علم الطب ، فقد سبق أن أوضحنا أن هذا التراث كاد يندثر في الشطر الأول من العصور الوسطى ، وهي الفترة المظلمة بين القرنين الخامس والعاشر. أما المسيحية كديانة وفكر فلم يكن لها تراث في الطب أو في غير الطب من العلوم العقلية التجريبية، وذلك باعتراف المؤرخين المسيحيين الذين أرخوا للحياة الحضارية والفكرية في غرب أوربا في العصور الوسطى. ولم تعترف الكنيسة بعلم إلا أن يكون لاهوتيا مستمدا من الإنجيل ومن أقوال القديسين .

وأما القول بأن زمام الطب الإسلامي كان في أيدب اليهود ، فقول غريب يدل عام أن صاحبه غير ملم بروح الإسلام وحضارته. لقد وجد من أعلام الطب في الدولة الإسلامية مسيحيون ويهود ، بل صائبة ووثنيون، ولكن لم يقل أحد أن زمام الطب  كان بأيدي هؤلاء.

وبالرجوع إلى طبقات الأطباء وتراجمهم نجد أن أكثر من تسعين بالمائة من علماء  الطب في الإسلام كانوا مسلمين. ويبدو أن راشدال نسى أن الحضارة الإسلامية، حضارة تسامح، لم تعرف تزمتا أو تعصبا دينيا ، ومن هذا المنطلق احترمت المسيحي واليهودي بوصفهم أهل ذمة ، لهم حقوق وعليهم واجبات. ولا أدل على هذا التسامح من أنه اشتهر من عائلة ابن بختيشوع- وهي عائلة من المسيحيين النساطرة- سبعة أجيال من الأطباء عاشوا في كنف الخلافة العباسية زهاء قرن ونصف، واحتكروا ممارسة الطب في قصر الخلافة، دون أي اعتبار لديانتهم وعقيدتهم . وفي معركة الجهاد التي خاضها البطل صلاح الدين ضد الصليبيين بالشام لم يجد أي حرج في أن يكون بعض الأطباء المطببين له من غير المسلمين .

ثم إن هؤلاء الأطباء والعلماء من غير المسلمين- يهودا كانوا أو نصارى- كانوا جزءا من الحضارة الإسلامية ، لأنهم نبغوا في ظل الحكم الإسلامي ونشأوا بين أحضان مجتمع إسلامي يؤمن بحرية العقيدة وبالمساواة. ولولا ما وفره الإسلام لهؤلاء الذميين من حرية  وتسامح لما تهيأ لهم المناخ المناسب الذي جعل منهم علماء مبرزين . وإلا بماذا نعلل عدم ظهور علماء من اليهود في مختلف أنحاء العالم المسيحي في غرب أوربا في نفس الوقت الذي ظهر منهم العلماء في الأندلس وأفريقية ومصر والمشرق الإسلامي ؟.

لقد تعرض اليهود في غرب أوربا لأقصى ألوان الاضطهاد والامتهان والطرد والتشريد، في الوقت الذي حظوا تحت مظلة الإسلام بحرية العمل والحركة والفكر. وحسبنا أن نشير إلى أن الصليبيين لم يخرجوا في حملتهم الأولى إلى الشرق في أواخر لقرن الحادي عشر ، إلا بعد أن أحدثوا مذابح رهيبة باليهود في مدن حوض الراين . وكان ذلك في الوقت الذي أخذ الخلفاء العباسيون في بغداد، وخلفاء الدولة الفاطمية في شمال أفريقية ثم في مصر، ومن بعدهم سلاطين بني أيوب ثم المماليك ، يشجعون أطباء اليهود ويولونهم ثقتهم ، بل لقد اتخذ بعضهم من اليهود أعوانا.

 وهكذا فإنه إذا كان قد ظهر في الدولة الإسلامية علماء وأطباء من غير المسلمين ، فإنهم في الواقع جزء لا يتجزأ من بنية الحضارة الإسلامية.

وإذا كان راشدال يعترف ضمنيا بما أسهم به المسلمون في مجال استخدام الأعشاب والنباتات الطبية في العلاج ، فإنه- كعادته- يأبى إلا أن يجعل اعترافه مشوبا، فيقول إنه لا يقلل من إنجازات المسلمين في هذا المجال سوى " أوهامهم وخيالهم الواسع في استخدام بعض الظواهر الكيميائية والتنجيم في العلاج ". ولا ندري على أي أساس بنى راشدال حكمه ؟ ومن أين استقى أوهامه حتى لقد أظهر أنه أوسع خيالا وأكثر وهما ممن اتهمهم بسعة الخيال وكثرة الأوهام؟ 

ولو رجع إلى كتب التاريخ والطب الإسلامي، ولو درس وراجع سير وتراجم أطباء المسلمين لعرف أنهم أعظم أطباء الطب الإكلينيكي- السريري- في زمانهم ، وأنهم اعتمدوا في تشخيص الداء ووصف الدواء على ملاحظة المرضى ومراقبة ما يطرأ عليهم من تطورات المرض وأعراضه. وإذا كانوا قد استعانوا بالكيمياء في مداواة المرضى، فإن أحد كبار الباحتين الغربيين في تاريخ الحضارة يقول بالحرف الواحد " إن المسلمين هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علما من العلوم، لأنهم أدخلوا الملاحظة الدقيقة والتجارب العملية، والعناية برصد نتائجها ، في حين اقتصر الونانيون على الفروض الغامضة . وحسب علم الكيمياء عند المسلمين أن جابر بن حيان الكوفي- أبرز علمائهم في هذا العلم- يقول فيه " إن المعرفة لا تحصل إلا بالعمل وإجراء التجارب ". فهل مثل هؤلاء العلماء يرمون بأنهم استخدموا أوهامهم وخيالهم وبعض المظاهر الكيميائية في العلاج؟؟

ومن هنا أن نسأل راشدال: هل يمكن أن يستغني الطب عن علم الكيمياء؟ وكيف إذن يتسنى للطبيب أن يقف على التفاعلات التي تحدث في جسم الإنسان، ويحدد أثر الدواء فيه؟

ولعله من مفاخر الطب الإسلامي أن نسمع أن عالما مثل ابن رشد عالج في كتابه "الكليات " قوانين تركيب الأدوية، والانفعالات التي تحدثها بالجسم. وهو في كلامه عن الأدولة وأثرها، لم يكتف بالكلام عن الأعشاب الطبية والسوائل والبقول والفواكه والأدوية المعدنية فحسب، بل تكلم أيضا عما نعرفه اليوم باسم الطب الطبيعي) و العلاج الطبيعي، فشرح فوائد الرياضة والتدليك والنوم وكيفية رياضة الشيوخ..  فهل يعتبر هذا في عرف راشدال من الأوهام وسعة الخيال ؟؟

أما التنجيم، فنتحدى أي باحث أن يأتي بإشارة واحدة في أي كتاب من كتب الطب الإسلامي يفهم منها استعانة أطباء المسلمين بالتنجيم في علاج المرضى. لقد استخدم التنجيم عند مختلف الأمم والشعوب منذ العصور القديمة- ومازال في بعض المجتمعات المتخلفة- لمعرفة الغيب. ولم يخل بلاط ملك من الملوك أو حاكم من الحكام- في العصور الوسطى بالذات- من منجم  يحدد له أنسب الأوقات لتحركاته الكبرى، من حروب ومشاريع وغيرها. ولكن الإسلام كفكر وأسلوب للحياة جعل لله- عز وجل- غيب السماوات والأرض ، وكذب  المنجمين ولو صدقوا، فكيف يعقل أن يلجأ أطباء الإسلام إلى التنجيم، وهم الذين نادوا بتطبيق مبدأ المشاهدة والتجربة، وفحص بول المريض ، وقياس النبض، والحرارة..؟؟

وأخيرا ، حسب الطب الإسلامي أن بعض مؤلفات علماء المسلمين فيه- مثل كتاب القانون لابن سينا- ظلت مرجعا أساسيا في ، الجامعات الأوربية حتى القرن التاسع عشر، وأنه منذ القرن السادس عشر ظهرت له أكثر من ض عشرة طبعة.. وفي ذلك يقول أوزلر " إن كتاب القانون لابن سينا استمر مرجعا أساسيا في الطب في العالم أجمع أطول من أي كتاب آخر " .

وإذا كانت مسيرة علماء الطب في جامعات غرب أوربا قد ظلت بطيئة في الشطر الأول من عصر النهضة- حتى نهاية القرن السابع عشر للميلاد- فإن سبب ذلك في نظرنا هو أن المشتغلين بالطب في الغرب الأوربي أفادوا من علم المسلمين أكثر مما أفادوا من خلقهم . فبينما اعتبر المسلمون الطب عملا إنسانيا يستهدف التخفيف من آلام المرضى والرحمة بالإنسان المريض ، ومن هذا المنطلق وضعوا قواعد تحدد آداب مزاولة مهنة الطب ، منها عدم تقاضي أجر من المريض إلا بعد أن يبرأ ومنها  معالجة الفقراء مجانا بل إعطاؤهم ما يمكن إعطاؤه من الصدقات.. إذا بالطب في غرب أوروبا في فجر عصر النهضة يعتبر على حد قول أحد أساتذة الغرب المرموقين (حرفة تجارية استهدفت في المقام الأول تحقيق الكسب المادي ، وليس علما يدرس لذاته أو للنفع وكان الشائع بالنسبة لأي طبيب أوروبي ناجح في تلك العصور  هو أن يحتفظ لنفسه بأسرار المهنة ، ولا يبوح بعلمه لأحد ، حتى لا يتعرض لمنافسة يتأثر بها رزقه . فإذا اضطر إلى الإفضاء ببعض أسرار المهنة أو بسر دواء من الأدوية التي يستخدمها في علاج المرضى ، فإنه لا يفعل ذلك إلا لمقابل ثمن باهظ يتقاضاه …"  .

ولو كان الغربيون في عصر النهضة قد استفادوا من آداب الحضارة الإسلامية ومثلها وقيمتها بنفس القدر الذي استفادوا من منجزاتها العلمية ، لكان للطب عندهم شأن آخر في ذلك الدور.


أ.د. سعيد عبد الفتاح عاشور