.

أوسترو عرب نيوز
 
الديـنالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوترثقــافـة
آثــارتغذ يـةتراجــمعلـــومالأدب

اغتيال العقل العربي
أولى شهداء العلم

بطلتنا فتاة ريفية تحمل أسما عاديا قد تحمله آلاف الفتيات في بلدنا‏,‏ أما هي فلم تكن مثل أي فتاة‏,‏ لأنها كانت مسكونة بعشق الوطن‏.‏
لقد تردد الاسم علي مسامع البعض منا‏,‏ وربما وقع نظرنا بالصدفة علي صورتها في أحدي الصحف القديمة‏,‏ الموحية بحدة الذكاء الذي قد يصل إلي حد النبوغ‏,‏ ولكن من المؤكد أنها ‏مجهولة تماما للأجيال الجديدة
أنها عالمة الذرة المصرية :

سميرة موسي

التي وضع عنها الكاتب عبد الله بلال كتابا أختار له عنوان‏(‏ السيرة الذاتية لأولي شهداء العلم‏ :د‏.‏ سميرة موسي)
وقد حرص علي أن يكتب مقدمته وزير التربية والتعليم د‏.‏ حسين كامل بهاء الدين التي ذكر فيها‏:‏ ما أحوج أبناء هذا الجيل ـ بنين وبنات ـ إلي أن يتعرفوا علي صاحبة هذه الشخصية العبقرية المعطاءة وعلي إسهاماتها من أجل تسخير العلم لصالح البشرية‏,‏ وتتبع مشوار حياتها‏,‏ لأنها لم تأخذ حقها من المعرفة والتقدير والتكريم‏.

 نشأت سميرة
يحدثنا الكاتب عنها فيقول‏:‏ ولدت سميرة في مارس سنة‏1917‏ في قرية سنبو الكبري مركز زفتي ـ غربية‏,‏ وهي الأبنة الرابعة بين إخوتها التسعة‏,‏ ولقد ولدت في خضم تفاعلات وأحداث الحركة الوطنية التي عبرت عن أصالة الشخصية المصرية‏,‏ فبعد مولدها بسنتين في سنة‏1919‏ تقوم الثورة‏,‏ فتتفتح‏(‏ سميرة‏)‏ هي وأبناء جيلها علي المد الوطني المطالب بالحرية والاستقلال‏,‏ فها هو طلعت حرب يؤسس بنكا يحمل أسم مصر‏,‏ وهذا الفنان محمود مختار يصنع تمثالا يحمل أسم‏(‏ نهضة مصر‏)‏ ثم تقوم الجامعة الأهلية‏,‏ ثم تظهر هدي شعراوي ويؤسس الاتحاد النسائي المصري معها‏(‏ أم المصريين صفية زغلول‏)‏ ثم مجموعة من الرائدات المصريات اللاتي ناضلن من أجل حق المرأة في التعليم‏,‏ ولاشك أن في ظل هذا المناخ‏,‏ لم يكن صعبا علي سميرة بدء مشوارها التعليمي كغيرها من بنات القرية‏.‏
وفي مدرسة سنبو الأولية لفتت النظر بحبها الشديد للقراءة وبقدرتها الفائقة علي الحفظ‏,‏ وبأسئلتها التي لاتنتهي عن تلك الاختراعات التي تقرأ عنها مثل‏(‏ الطائرات‏)‏ و‏(‏ السيارات‏)‏و‏(‏ القطارات‏)‏ حتي‏(‏ الراديو‏)‏ كان يثير فضولها‏.‏ أما الإجابة فكانت دائما‏:(‏ أنه العلم ياسميرة‏)‏ ذلك الساحر الذي يحقق المعجزات للبشرية‏.‏؟؟

وبالطبع لم يكن أمام الأب‏(‏ الحاج موسي علي‏)‏ إلا أن يأخذ بنصيحة الأهل الذين لفت نظرتهم تفوق‏(‏ سميرة‏)‏ بترك الريف والذهاب إلي القاهرة حتي تأخذ أبنته فرصتها في التألق والنبوغ‏..‏
ويمضي الكاتب‏:‏ لقد ترك الأب الريف واستقر في القاهرة ليهئ لأبنته فرصا أفضل للتعليم‏,‏ فاشتري فندقا صغيرا يستثمر فيه أمواله ويعول من دخله أفراد أسرته‏,‏ وتلتحق سميرة بمدرسة قصر الشوق الإبتدائية لتكون من أوائل الشهادة الابتدائية‏..‏ ثم يدق الحظ علي بابها لننتقل إلي مدرسة بنات الأشراف الثانوية الخاصة التي قد أسستها وأدارتها المربية الرائدة‏(‏ نبوية موسي‏)‏ وهناك تجد نفسها‏,‏ وتظهر تفوقا‏,‏ نتيجة لتشجيع هذه‏(‏ الناظرة‏)‏ التي تحملت الكثير من أجل نصره حقوق المرأة‏,‏ حتي أصبحت القدوة والمثال لتلميذتها‏,‏ فإذا‏(‏ بسميرة‏)‏ ذات السبعة عشر عاما تصدر كتابا من تأليفها‏,‏ يضم تلخيصا ميسرا للكتاب المدرسي المقرر في مادة‏(‏ الجبر‏)‏ من وزارة المعارف علي طلبة السنة الأولي الثانوية‏,‏ وقد شجعها والدها وطبع الكتاب علي نفقته الخاصة حيث قامت هي بتوزيعه بالمجان علي زميلاتها‏.‏

ونتوقف عند كلمة الأهداء التي كتبتها ووجهتها لأستاذها فتقول‏:‏ إلي أستاذي الفاضل محمد أفندي حلمي‏:‏ جاز لي أن أتقدم بكتابي‏(‏ الجبر الحديث‏)‏ إليكم بعد إانتهائي من تأليفه‏,‏ وهو الثمرة التي نتجت من غرس أياديكم البيضاء‏,‏ فهاك الكتاب راجية أن يحوز عطفك السامي ورضاك‏.‏ المهداة ـ سمير موسي ـ ولايعني أثناء قراءة هذا الكتاب إلا التوقف عند هذا الموقف الذي يزيدنا إيمانا بالنبوغ المبكر لهذه الفتاة‏..‏ ففي أحد الأيام تلقت‏(‏ نبوية موسي‏)‏ ناظرة المدرسة من تلميذتها‏(‏ سميرة‏)‏ طلب نقل من مدرستها إلي مدرسة حكومية‏,‏ فاستدعتها علي الفور لتستفسر عن السبب‏,‏ فكان رد الطالبة‏.‏ أنها في حاجة إلي معمل طبيعة لايتوفر في المدرسة‏,‏ وعندئذ لم يسع الناظرة إلا أن تنهي تلميذتها عن النقل بعد أن وعدتها بتلبية طلبها‏,‏ وبالفعل لم يمض وقت طويل حتي حصلت سميرة علي‏(‏ حلمها‏).

ويشير عبدالله بلال إلي أن‏(‏ سميرة‏)‏ حصلت في عام‏1935‏ علي شهادة التوجيهيه قسم علمي وكانت الأولي علي القطر المصري وتصدر أسمها قائمة الناجحين حيث كانت الصحف تنشر في ذلك الوقت أسماء الناجحين الأوائل بالبنط العريض‏.‏ وتلتحق بكلية العلوم لتلفت نظر استاذها العالم د‏.‏ مصطفي مشرفة عميد الكلية‏.‏

 عالمة وعازفة عود‏!
أي نوع من النساء كنت يا سميرة!‏
‏سؤال طرحته علي نفسي حين فوجئت‏,‏ أنها كانت تجيد العزف علي العود علي النوته الموسيقية‏,‏ وقارئة ممتازة في الأدب والفن والتاريخ‏,‏ ولن نتعجب إذا عرفنا أنها خصصت ركنا في منزلها لتحميض وطبع الصور لحبها لفن التصوير الفوتوغرافي‏,‏ بالإضافة إلي إجادة فن الحياكة والتريكو‏..‏ يالها من موهبة ثرية‏!‏

وننتقل مع الكاتب إلي حياتها داخل الجامعة‏:‏ لقد أسهمت بجهودها في نشاط العديد من الجمعيات‏,‏ فأسست‏(‏ جمعية الطلبة لنشر الثقافة‏)‏ التي كان من أهدافها محو أمية الفلاحين في الريف وفي الأحياء الشعبية بالمدن ثم انضمت إلي‏(‏ جماعة النهضة الاجتماعية‏)‏ التي كان هدفها جمع التبرعات من الأغنياء وتقديم المعونات للفقراء‏.

وقد اختارت سميرة التخصص في علم دقيق وهو علم الذرة ليكون لمصر القوة والقدرة علي العمل من أجل السلام والخير‏,‏ وقد صممت أن تكافح لتكون‏(‏ الذرة من أجل السلام‏)‏ لتجنب البشرية ويلات الدمار الذي عرفته من خلال الحرب العالمية الأولي والثانية كما حددت شعارها الإنساني لبني وطنها وبني البشر أجمعين‏(‏ أن يكون علاج السرطان بالذرة مثل الأسبرين‏).‏ وكعادتها لتتخرج في كلية العلوم عامة‏1942‏ ولتكون الأولي علي دفعتها ويتم تعيينها أول معيدة بها بفضل تشجيع أستاذها د‏.‏ مصطفى مشرفة .‏
أما موضوع رسالة الماجستير فكان :
التوصل الحراري للفلزات أما الدكتوراة فكان موضوعها : خصائص امتصاص المواد لأشعة ‏X .‏

ميس كوري المصرية
لقد ساهمت سميرة بعلمها وتجاربها المعملية في
معهد الراديوم و كلية الطب بالإضافة إلي جهودها في تأسيس مؤسسة الطاقة الذرية إلي جانب عضويتها في العديد من اللجان المتخصصة ومنها : لجنة الطاقة والوقاية من القنبلة الذرية .. التي شكلتها وزارة الصحة‏.‏ ولقد أطلق عليها‏ مس كوري المصرية .‏
ومما هو جدير بالذكر أنها اضطرت لعمل رسائلها الجامعية في مصر بعد ترشيحها للسفر في بعثة إلي بريطانيا نتيجة قيام الحرب العالمية الثانية ولكنها قبلت زيارة معامل في انجلترا و امريكا لعمل بعض الأبحاث ولقد أذهلت الأوساط العلمية في أمريكا وأوروبا النتائج التي توصلت إليها‏.‏

 اعتذار الجنسية الأمريكية
لقد نجحت في التوصل إلي تصنيع الذرة من معادن رخيصة متوفرة لدي دول العالم ومنها البلدان النامية‏,‏ وهذا يعني كسر احتكار تصنيع القنبلة الذرية علي الدول الكبري التي تمتلك وحدها مادة‏(‏ اليورانيوم‏)‏ وبالتالي يفرضون تسلطهم علي العالم‏,‏ وقد شهد بنبوغها أستاذها الانجليزي فأرسل إلي الجامعة‏,‏ خطابا يؤكد فيه أن تجارب‏(‏ سميرة موسي‏)‏ قد تغير وجه الإنسانية لو أنها وجدت المعونة الكافية‏..‏
ويستطرد الكاتب‏:‏ لقد حاولت كل من بريطانيا وامريكا احتواءها بتوجيه الزيارات لها وتقديم المغريات المادية حتي لاتعود إلي الوطن‏,‏ كما أنها اعتذرت عن قبول الجنسية الامريكية‏.‏

ونتوقف عند نقطة مهمة‏,‏ وهي أن سميرة قد تنبهت منذ وقت مبكر إلي أخطار البعد النووي في الصراع العربي الإسرائيلي‏,‏ وتابعت مساهمة علماء الذرة اليهود الامريكان في دعم اسرائيل‏,‏ ورأت كيف تزرع علماءها في المعاهد والمعامل كي يحصلوا علي كل أسباب التقدم ويصبحوا قوة ذرية في المنطقة‏.‏
وفي غمضة عين أختفت‏(‏ سميرة‏)‏ عالمة الذرة المصرية ففي أحد الأيام من شهر أغسطس في عام‏52‏ خرجت في نزهة لتلقي مصرعها في حادث سيارة قبل العودة إلي الوطن من أمريكا وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها‏.‏
وقيدت الحادثة ضد مجهول ولكن هناك دائما قتله‏..!‏

 كيف نكرم د‏.‏ سميرة موسي؟‏!‏
سؤال طرحه الكاتب بعد خمسين عاما وقدم عدة اقتراحات كلها جديرة بالدراسة والبحث‏..‏ ولكن
أريد أن أنهي هذا العرض الذي ملأ نفسي بالشجن بمقولة استعارتها د‏.‏ سميرة موسي من أحد الأبطال الإغريقيين إذ قال‏:‏ ليس غرضي إسعادكم فحسب‏,‏ ولكني أعمل علي أن أجعلكم عظماء‏..‏ ذلك ماكانت تؤمن به‏..‏


إعداد : علية سيف النصر