* * *
جعل الله الحج إلي بيتهِ الحرام فَريضِةً علي الناسِ مادامت الحياةُ وتوفرت الاستطاعة، وجعل في استمرارية أدائِها ومداومة الناس عليها عالمية كبري منذ أن حج آدم عليه السلام وإلي أن جاء الأمر لنبي الله إبراهيمَ بالأذان في الناس بالحجِ ليأتوا من كل فج عميق، لقوله تعالي: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج : 27]. كما جاءت عالمية الحج في حجة الوداع، حيث خطب النبي -- في الناس : (بيا أيها الناس).
لذا كان الهدف من موضوع البحث: هو توضيح عالمية الحج التي استنبطت من الكتاب والسنة والدراسات السابقة، وذلك بالإعداد لها عن طريق الجمع والترتيب الصحيح لمعلوماتها، ثم التوضيح والإبانة، والكتابة عنها بطريقة تجمع بين سرد الأحداث الدينية وترتيبهاً ترتيباً تاريخياً ما أمكن، وتهذيبها تهذيباً يليق بها، متمنياً أن تُنشر كبحثٍ علهُ يفيدُ الباحثين في هذا المجال . وعالمية الحج مقررةٌ بالكتاب والسنة بيد أنها بحاجة إلي مزيدٍ إيضاحٍ، ولعل بعضاً من جوانبها قد ألقي عليه الضوء في هذا البحث، لكي يتسنى للفرد المُسلم معرفة قيمة هذا الأثر الإيجابي، الذي يُنمي الشعور بالقيمة الدينية والروحية التي تتجلي في أداء هذه الفريضة التي ترفع من شأنه بين الأمم، لمِاَ فيها من جَمعِ طوائفِ الناسِ تحت راية الإسلامِ مع اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم، وهذا يُمثل دعوة عامة للتفكر في ماهية عالمية الحج كمؤتمرٍ عالمي هو الأول من نوعه، والكبير
في حجمه، والمحدد مقاتاً وزمناً، فالحج يمرُ بكل فصول السنة. ومن المُلفت للنظر أنه لا يُوجد أي مؤتمر عالمي تُحدد أماكنه، ويُحددُ موعدهُ في يوم بعينه ولمدي الحياة.
ولقد مرت عالمية الحج بمراحل هامة منها: المرحلة الإبراهيمية، وهي تُعد المرحلة الأولي في عالمية الحج من الناحية القولية والفعلية لأنها أتت عن طريق الإشهار الذي تم بالآذان في الناس، وهو أمرُ مباشر بالحج، وهذا يُمثل بمفهوم اليوم دستوراً ينص علي تشريع الحج قولاً وعملاً، ومن ثم يوُجب العقاب لمن يتركه مع الاستطاعة، ولأن اللهُ تعالي لم يأمر بالأذان بالحج أي نبي قبل إبراهيم عليه السلام، ربما لأن أعدادً البشرِ لم تكن كافية للعالمية بمفهوم اليوم وهو الكثرة، وإن كانوا كلهم سكان العالم وقتئذٍ، وأيام آدم عليه السلام، كان وأسرته فقط، وأيام نوح عليه السلام، كان غالبية قومه عُصاه متمردين لم يؤمنوا برسالته حتى ابنه وزوجه، وشكا نوحٌ لربه عدم استجابتهم لدعوته وفرارهم منه، لقوله تعالي: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴿٥﴾ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)[نوح : 6،5]، لذا فإن الله تعالي
أغرقهم، ولم يتبقَ منهم إلا أعداداً قليلة قد لا تتواءم وإطلاق كلمة عالمية علي حجهم لو حجوا جميعاً، برغم أنهم كانوا كل الأعداد الموجودة في الأرض وقتئذٍ أيضاً، لكنه من المُحتمل لأنهم كانوا ركاب سفينة واحدة، وربما كانوا من بلدة واحدة قبل الفيضان، وبذلك لم يأتوا من الفجاج العميقة في البعد والانتشار الذي ربما يكون هو المقصود من البداية، وربما عنصر اختلاف الأجناس كان يُعد من ضمن أساسيات عالمية الحج، بجانب تعدد اللغات، ودعاء نبي الله نوح بأخذ الكافرين منهم، ولم يتبق إلا أعداداً قليلة، لقوله تعالي: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)[نوح : 26]، لذا من المُرجح أن كثرةَ الناسِ مع انتشارهم في كل فج عميق في زمن نبيه إبراهيم، هي سبب أمره تعالي له بالأذان فيهم بالحج، لقوله تعالي: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)[الحج : 27 ]، إلا أن أكثرهم كانوا من المشركين أيضاً، لذا كان من الأوجب لهم أن يدخلوا في
ملة الإسلام ليؤمنوا بالله، وليتبعوا نبيه -- ويثبتوا علي التوحيد، وليحجوا البيت كبقية الناس ما كانت الاستطاعة .
المرحلة المحمدية
وهي تُعد المرحلة الثانية من مراحل عالمية الحج، لأنها كانت للنبي محمد -- الذي كان من نصيبه دعوة أبيه إبراهيم، لقوله تعالي علي لسانه: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ)[البقرة : 129]، وهو آخر نبي حج من الأنبياء، في الحجة التي أطلق عليها حجة الإسلام، أو حجة الوداع، لأنها كانت الحجة الأولي والأخيرة له، والتي ضمت ما يزيد عن المائة ألف في زمن المَشَقَاتِ، و خطب فيها النبي-- خطبة عظيمة كانت دستوراً لحياة المسلمين إلي يوم يبعثون، كما علمهم كيفية أداء المناسك، وبذلك يكون قد أقر السنة القولية والفعلية والتقريرية لمناسك الحج في آخر الزمان، لحديث النبي -- : (لتأخذوا عني مناسككم . فإني لا أدري لعلي لا أحجُ بعد حجتى هذه).
وانتقلت العالمية إلي المرحلة الأخيرة التي يجمع الحج في رحابه ملايين الوفود القادمة من كل البقاع، ومليارات المشاهدين لحجاجه من جميع أنحاء العالم عبر وسائل الإعلام المُختلفة، وبذا تكون الرسالة العالمية المُكررة التوجيه والدعوة إلي الله بكل اللغات، والتي تحقق لها أعظم الانتشار.
ومن عالمية الحج: مُخاطبةُ اللهِ تعالي لعباده بلفظ الناس، لاقتسام المنافع والرحمات، لقوله تعالي: (ِّليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)[ الحج : 28]، وبلا شك فإن هذه المنافع تدعم ترابط الأمة دينياً وروحياً و فكرياً وثقافياً عن طريق اختلاط أفرادها أثناء تأدية مناسك الحج، ويتحقق اتحاد الأمة بثباتها علي الدين، لقوله تعالي: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)[الأنبياء :92].
ومن عالمية الحج: أن جعل الله المسجد الحرام قبلة المُسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إرضاءً وتكريماً لخاطر رسوله محمد -- لقوله تعالي: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ)[البقرة :150] .
ومن عالمية الحج: شرف حضور ربُ الناس لهذا المؤتمر العظيم، بدنوه من الناس بدنو لا تُعرف كيفيته، ليباهي الملائكة الكرام بعباده الذين أتوه شُعثاً غُبراً يرجون رحمته، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي-- قال : (إن الله عز وجل يباهي ملائكته بأهل عرفة عشية عرفة، فيقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً)، وعَنِ عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله -- قال : (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ الله فِيهِ عَبْدَاً مِنَ النارِ مِنْ يومِ عَرَفَة، وَإنهُ ليَدْنُوا ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ .. فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ ..) .
ومن عالمية الحج: تكرار بناء الكعبة عبر التاريخ، والذي وصل إلي اثنا عشرة مرة كما ذُكر بالرسالة.
خطة البحث
جاء موضوع الرسالة في بابين كالتالي :
الباب الأول : مكونٌ من فصلين، وكل فصلٍ مكونٌ من مبحثين .
ـ الفصل الأول : من آداب وأحكام الحج .
ـ المبحث الأول : من آداب الحج .
ـ المبحث الثاني : أحكام الحج .
ـ الفصل الثاني : من إيجابيات الحج وسلوك الحاج .
ـ المبحث الأول : من إيجابيات الحج .
ـ المبحث الثاني : سلوك الحاج .
الباب الثاني : مُكونٌ من فصلين، الأول منهما مُكونٌ من مبحثين، والثاني منهما مكونٌ من مبحثين أيضاً لكن الأول منهما به : توطئة، بجانب الحج مؤتمر عالمي . والمبحث الثاني به : أثر عالمية الحج علي الفرد المُسلم .
ـ الفصل الأول : أثر الحج علي الفرد المُسلم، وأثره علي الآخرين .
ـ المبحث الأول : أثر الحج علي الفرد المُسلم .
- المبحث الثاني : أثر الحج علي الآخرين .
ـ الفصل الثاني : توطئة، الحج مؤتمر عالمي، وأثر عالمية الحج علي الفرد المُسلم.
ـ المبحث الأول : توطئة،الحج مؤتمر عالمي .
- المبحث الثاني : أثر عالمية الحج علي الفردِ المُسلم .
وقد تم عزوُ الآياتِ القرآنية إلي مواضعِها من سور القرآن، وكذلك خُرِجَتْ الأحاديثَ من مَصادرها الأصلية ككُتبِ الصِحاح في مُعظمها وبسندها، بجانب الكتب الأخرى للأحاديث الشريفة، ومن كتابات الآخرين من العلماء والكتاب في مثل هذه المواضيع، كالتي ضُمْنَتْ من كتاباتهم كلما اقتضت الضرورة، وتم الاكتفاء بذكر ِمَا خُرَجَ منها في بعضها عن طريق كاتب الجزء المُتَضَمَنُ، مع التنويه والإشارة إلي الاسم المتعارف عليه للكتاب كاملاً ودون نقصان، وكذلك ذِكرِ الجزء أو البابِ، ورقم الصفحة في معظمها، وكذلك أرقام الأحاديث كلها في الهوامشِ، وتمَ ذِكرُ طبعات الكُتبِ وعددهِا، وتاريخ طباعتها، ودار نشرها، وبلد النشر زيادةً في التأكيد والتوضيح، وهذا بالنسبة للمقالات والأبحاث أيضاً، وكتب التفسير، وقد تم عزو النصوص الأخرى إلي مراجعها الأصلية، وقد نُوه بالإشارة إلي الاسم المتعارف عليه للكتاب كاملاً ودون نقصان في
معظمها، وذُكرِ الجزءُ والصفحة في الهوامشِ، وطبعته الكتابِ، وتاريخ طباعتها، مع دار النشر، وذكر بلد الطباعة، وكل ما هو مُتعارف عليه في موضوعات الكتابة البحثية ورسائلها، وكان الحرص في هذه الرسالة علي ترتيب موضوعات الكتابة الدينية، من ناحية القرآن أولا، ثم السنة، وقول الصحابة والتابعين، والأئمة والمأثور عنهم، ومن أقوال العلماء والكتاب والأدباء ومن حباهم الله بالكتابة المُنصفة للحق والحقيقة، والترتيب بالتسلسل حسب الأولي شأناً، ومن الأقدم فالأحدث، ومن الأهم فالمهم، وكذلك التاريخية منها من ناحية أحداثها وتسلسلها كلما كانت الاستطاعة، وذُكرَ الترجيحُ عندما كانت الروايات الظنية عن طريق كتابة رأي الباحث أو ما يُفهم من كتابته، أما الثابتة أو قطعية الثبوت والدِلالة ذُكرتْ كما هي.
ثم جعلتُ للبحثِ خاتمةَ ذَكرتُ فيها أهم النتائج التي ظهرت من خلال دراسة البحث، وما تُوُصِلَ إليه من
إجابة لأسئلة طُرحت من شخص الباحث، وبعض المقترحات التي تُسهم في فهم جماليات عالمية الحج، وما تقضيه الدراسة من توصيات علمية، وَتَضَمْنَتْ تَوْصِيَةُ الباحثين القادمين إن شاء الله بالعمل علي إضافة كل ما يترآى لهُمْ مِنْ رُؤىَ جَدِيدة قد تُكتشف فيما بعد لتكون إضافةً جديدةً لرسالة عالمية الحج وأثرها علي الفرد المُسلم.
وقد أُلحِقَتْ البحث بفهارس علمية اشتملت علي :
فهرس الآيات القرآنية
فهرس الأحاديث والآثار
فهرس المراجع
فهرس الموضوعات.
وما التوفيق إلا من عند الله.
* * *
الشكر والتقدير
(من لا يشكر الله لا يشكر الناس)
صدق رسول الله ـ صلي اللهُ عليهِ وسلم ـ
أتوجه بالشكرِ لعلماءِ الدينِ الأفاضل الذين تحملوا مسؤوليةِ نقل الرسالة بصدقٍ وأمانه، فكانوا حقاً أعلامَ نهضة أمتنا الإسلامية، وأحسبُ ولا أزكي علي الله أحداً، أنَ من هؤلاءِ العلماءِ الكرام الأجلاء الأفاضل :
كما أشكرُ الأساتذةَ الدكاترة الأجلاء الذين تفضلوا بقبول مناقشة هذه الرسالة :
العالم الجليل الأستاذ الدكتور : محمود محمد مزروعة
العميد الأسبق بكلية أصول الدينِ والدعوة بالأزهرِ الشريف ـ والأستاذ بكلية أصولِ الدينِ والدعوة بجامعة أم القرى وجامعة الأزهر .
العالم الجليل الأستاذ الدكتور : خالد عبد العال
أستاذُ العقيدةِ والأديانِ بكليةِ أصولِ الدينِ والدعوةِ بجامعةِ الأزهر .
ولا يفُوتني شكر والداى رَحِمهمَا اللهُ تعالي رحمةً تسعُ كلُ القلوبِ الراجيةِ لرحمةِ ربها، علي أن علماني القراءةَ والكتابةَ بالنونِ والقلمِ، وأن ينالا الجزءَ الأكبرِ من ثوابِ هذا العمل، والذي أرجوا الله تعالي أن ينفع به أمتنا الإسلامية الغالية، والحمد لله رب العالمين إلا أن نلقاه يوم الدين،،
والله ولي التوفيق ،،
- الكتاب :
عالمية الحج وأثرها علي الفرد المُسلم
- المؤلف :
أحمد إبراهيم أحمد مرعوة
- رسالة ماجستير
- الطبعة:
2018
|  |
|