.

الديـنالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوترثقــافـة
آثــارتغذ يـةتراجــمعلـــومالأدب

الحرب الباردة الثقافية
CIA & عالم الفنون والآداب

 يعرض هذا الكتاب خفايا الحرب الباردة بين الشيوعية والغرب في جانبيها الثقافي والفني، والدور الذي لعبته المخابرات الأميركية CIA في صياغة الحياة الثقافية والفنية في الغرب وتوجيهها واستخدامها في الصراع مع الاتحاد السوفياتي. وقد تكون لمثل هذا الكتاب أهمية خاصة في ضوء ما يصفه البعض بالمواجهة الجديدة المتوقعة بين أميركا والغرب من ناحية والإسلام من ناحية أخرى، أو بينها وبين الحركات الإسلامية حسب تعبير الإدارة الأميركية.

ومؤلفة الكتاب فرانسيس ستونر سوندرز شابة بريطانية من مواليد عام 1966 وتعيش في لندن، وتعمل باحثة ومخرجة أفلام تسجيلية، وقد تخرجت في مجال الأدب الإنجليزي بجامعة أكسفورد، وقد بدأ اهتمامها بالموضوع عام 1993 عندما قرأت مقالاً يزعم أن وكالة المخابرات الأميركية كانت وراء نجاح "مدرسة نيويورك" في الفن، وقدمت برنامجا تلفزيونياً في القناة التلفزيونية في بريطانيا بعنوان "الأيدي الخفية! الفن والمخابرات المركزية"، ثم تابعت بحثها في مادة أرشيفية هائلة وأجرت لقاءات مع مسؤولين وعملاء سابقين لوكالة المخابرات المركزية.

وقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 1999 بعنوان "من الذي دفع للزمار"، ثم صدرت طبعة أميركية بعنوان "الحرب الثقافية الباردة" عام 2000.

CIA والمواجهة بالثقافة
عندما بدأت الحرب الباردة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أطلقت الولايات المتحدة مشروع مارشال القائم على تقديم مساعدات اقتصادية للدول الأوروبية لئلا تسقط في يد الأحزاب الشيوعية، ثم أعلن الرئيس الأميركي ترومان عام 1949 برنامج النقطة الرابعة القائم على كسب الشعوب بالإصلاح الاقتصادي، وتقوية الأمم المعادية للشيوعية، وتقديم المعونات للدول.

وتولت المخابرات المركزية CIA تكوين واجهة ثقافية تحارب الشيوعية بالوسائل الثقافية واستخدمت في ذلك المنشقين عن الشيوعية والمراكز الثقافية وأفلام السينما والمحاضرات والموسيقى وترويج الذوق الأميركي في الطعام واللباس والغناء والفن. وأنشئت عام 1950 منظمة كونغرس الحرية الثقافية التي تحولت عام 1967 إلى "الاتحاد الدولي للحرية الثقافية" وأنشأت هذه المنظمة فروعاً لها في 35 دولة، وأصدرت أكثر من 20 مجلة ذات تأثير كبير، وكان يكتب في هذه المجلات شخصيات فكرية مشهورة مثل المؤرخ أرنولد توينبي والفيلسوف برتراند راسل وهربرت سبنسر.

وكانت منظمة الحرية الثقافية وراء عدم فوز شاعر تشيلي نيرودا بجائزة نوبل عام 1964 ولم يفز بها إلا عام 1971 عندما كان سفيراً في فرنسا لحكومة الليندي، ثم قتلته المخابرات الأميركية عام 1973، وكانت وراء إخضاع أرنست همنغواي للمتابعة والتحقيق حتى أصيب بالاكتئاب وانتحر.

الروس واستخدام الثقافة
وصنع الروس أيضا الكثير في استخدام الثقافة وسيلة للإقناع السياسي، وكانت المخابرات الأميركية تدرك التفوق الثقافي الروسي وترى أن الحرب الباردة هي أساساً صراع نفسي بالوسائل السلمية واستخدام الدعاية لإضعاف المواقف المعادية، وهكذا بدأت الحرب الثقافية.

ودشن برنامج ضخم للنشر لتجنيد الكتاب في المعركة وبدفق سيل من الكتب المطبوعة بدعم من الدولة، وشمل هذا البرنامج كتب الأطفال. وحشد مكتب "الخدمات الإستراتيجية" فيلقاً من النخب السياسية والفكرية وأبناء الأرستقراطية الأوروبية والأميركية مثل بول ميلون وأخته إليسا وزوجها ديفد بروس رئيس مكتب الخدمات الإستراتيجية في لندن، ووالده كان مليونيرا وعضوا في البرلمان الأميركي، والناشر أيوحين فورد، والصحفي مارسيللو ميورسي الذي عمل أيضا في الإخراج السينمائي ولمعت في أفلامه صوفيا لورين، ودايليا تولستوي حفيد مهاجر للروائي الروسي الشهير، وكذلك الروائي الأميركي "أرنست همنغواي"، والفيلسوف سيدني هوك (شيوعي سابق) الأستاذ بجامعة نيويورك، والكاتبة ماري مكارثي، والصحفي بادون برودووتر، والروائية إليزابيث هاردويك وزوجها الشاعر روبرت لويل، وسلسلة طويلة لا تكاد تنتهي من الروائيين والفلاسفة والمفكرين والصحفيين والمخرجين والموسيقيين.

كانت صراعات خفية تمتد في كل مكان مثل منع نشر رواية سبارتاكوس لـ"هووارد فاست"، وعندما أبلغت مؤسسة ليتل براون بعدم النشر أعارت المخطوطة للمؤلف، ثم رفضتها سبع دور نشر أخرى، وبعض الناشرين رفضها دون أن يطلع عليها، ثم نشرها المؤلف بنفسه بعد سنوات.

بريطانيا تشارك
وعندما دخلت الحكومة البريطانية في الحرب الثقافية كونت لذلك الغرض إدارة سميت (إدارة البحوث الدولية IRD) وألحقت بوزارة الخارجية وكانت فكرتها قائمة كما أوضح مؤسس المشروع أرنست بيفن وزير الخارجية البريطاني حينذاك بأنها القضاء على الشيوعية بدحضها باستخدام الميل الإيجابي للديمقراطية والمسيحية "وألا ننسى أن قوة المشاعر المسيحية في أوروبا لا بد أن تقدم أيدولوجيا مناقضة للشيوعية"، وكانت هذه الإدارة تعد تقارير عن كافة الموضوعات لتوزيعها على أعضاء أجهزة المخابرات البريطانية الذين يعيدون استخدامها في عملهم.

كان ثمة حرص على عدم الربط علنا ورسميا بين هذه الإدارة وعمل أجهزة المخابرات والإدارة الرسمية، وكان من أهم العاملين فيها الشيوعيون السابقون مثل تويستلر، وكان من أهم برامجها احتواء الحركات اليسارية التقدمية لمراقبة أنشطتها وإضعاف أثرها والسيطرة عليها من الداخل واستدراج أعضائها إلى مواقف أقل ثورية.

وتويستلر كان شيوعياً مجرياً وأقام في روسيا مدة من الزمن ثم لجأ إلى فرنسا عام 1936 هرباً من النازية (يبدو أنه يهودي ولكن لم تشر الكاتبة إلى ذلك) واستقال عام 1938 من الحزب الشيوعي، ولجأ إلى بريطانيا ليعمل في وزارة الإعلام في الدعاية المضادة للنازية.

تمويلات ضخمة
لقد ضخت المخابرات الأميركية عشرات الملايين من الدولارات على مدى سنوات لمنظمة الحرية الثقافية، وأنشأت أيضا منظمة أوروبا الحرة التي كانت تدير إذاعة أوروبا الحرة ومقرها برلين وكانت موجهة إلى دول أوروبا الشرقية وتبث بست عشرة لغة، وكانت تتصل بالعاملين في الخدمات الإعلامية خلف "الستار الحديدي" وترصد الإذاعات الشيوعية وتبث المحاضرات والكتابات المعادية للشيوعية.

وكانت المنظمة تتلقى تمويلاً كبيراً يمرر تحت غطاء منظمة "حملة الحرية" التي كانت تجمع التبرعات، وكان المتحدث باسم هذه الحملة الممثل "رونالد ريغان" (رئيس أميركا فيما بعد) وكانت هذه الحملة لافتة لتمرير الأموال وغسلها.

وعبئت مؤسسات تبدو طوعية خاصة مثل مؤسستي فورد وروكفلر في الحرب السياسية على الشيوعية، وقدمت هذه المؤسسات منحا مالية كبيرة لأنشطة ترعاها وتنسقها المخابرات الأميركية مثل شراء كتب وأعمال روسية ممنوعة وتمويل معهد الفن المعاصر والدعم المباشر لمنظمة الحرية الثقافية.

وكان يرأس مؤسسة روكفلر وفورد ساسة وقادة كبار في العمل السري الأميركي مثل جون فوستر دالاس، ودين راسك، وجون مالكوي، وكان نيلسون وديفد روكفلر نفسهما ضالعين في العمل الاستخباري وتربطهما بدالاس علاقة شخصية وثيقة، وكانا يزودان الوكالة بتمويل خارج الموازنة الرسمية، وهذه الصفقات الحرة أعطت معنى جديداً للمغامرة الأميركية في أثناء سنوات الحرب الباردة.

مجلات الحرب الباردة
شغلت مجلة "إنكاونتر- Encounter" التي صدرت بين عامي 1953 و1990 موضعاً مركزياً في التاريخ الثقافي ونشرت مجموعة من الدراسات الأدبية والنقدية لكتاب وباحثين كبار مثل أرنولد توينبي وبرتراند راسل، وكانت مجلة واضحة الأيدولوجية وهي معاداة الشيوعية، وكانت شديدة الارتباط بعالم المخابرات، ووصفها أحد ضباطها الكبار غوسلسلون بأنها أعظم ما في مقدراتنا.

وكانت المخابرات البريطانية تدعم مجلة تريبيون وبدا للمخابرات البريطانية والأميركية أن أفضل وسيلة للعمل الثقافي المضاد للشيوعية هو تشجيع خطاب يساري متحرر من لغة الكرملين، واختير شاب أميركي يساري هو إيرفنج كريستول ليحرر مجلة تخدم هذا الغرض وكان يعمل مديراً لمجلة كومنتري، والبريطاني ستيفن سبندر وهو يساري خريج أكسفورد.. وكانت مجلة "إنكاونتر".

ومن المجلات الأخرى التي رعتها منظمة الحرية الثقافية "بريف" الفرنسية و"كوادرنوز Cudernos" الموجهة لمثقفي أميركا اللاتينية التي صدرت من باريس عام 1953 برئاسة تحرير الروائي والكاتب المسرحي جوليان جوركن، ومجلة "فورم Forum" التي صدرت في النمسا عام 1954 ويحررها الناقد والروائي فريدريك تورييغ، ومجلة العلم والحرية التي صدرت عام 1953 بعد مؤتمر العلم والحرية في هامبورغ وكان يحررها مايكل بولاني وكانت تشجع التهدئة في العلاقات الدولية والتبادل الثقافي مع الكتلة السوفياتية، ومجلة "سوفيات سيرفي Soviet Survey" التي صدرت عام 1955 برئاسة تحرير المؤرخ وولتر لاكير ممثل منظمة الحرية الثقافية في إسرائيل، وقدمت المجلة أبحاثا مهمة عن الحياة الثقافية والفنية والسياسية في الكتلة الشرقية وكانت بعض الصحف الشيوعية تنقل عنها، ومجلة "تيمبو برزنت Tempo Presente" في إيطاليا والتي صدرت عام 1956 برئاسة تحرير أغناريو سيلوني وكانت قريبة الشبه من مجلة سارتر "الأزمنة الحديثة Letemps Modernes"، وصدرت في الهند مجلة "كوست Quest" عام 1955 وفي اليابان مجلة "جيو Jiyu" التي كانت تعمل على تخفيف العداوة لأميركا في اليابان.

اختراق وتوجيه
كتب آرثر ميلر "كانت الولايات المتحدة تتصرف مع أصغر حزب شيوعي في العالم (الحزب الشيوعي الأميركي) وكأنها على شفا حرب ثورية دموية، وكان عدد أعضاء الحزب عام 1950 31 ألفاً تقلصوا إلى آلاف قليلة عام 1956، وكان يقال إن معظمهم عملاء سريون لمكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) وفيما بعد قال وليم كولبي "كنت دائماً على يقين مما يقال بأن FBI حافظ على الحزب الشيوعي قائما عن طريق تسديد اشتراكات عملائه". وقال الكاتب هووارد فاست "كان الحزب الشيوعي في تلك الفترة من الناحية العملية فرعاً من وزارة العدل".

وأجريت عملية مسح ومراجعة للكتب المتاحة في المكتبات العامة وقد أعدت قائمة بثلاثين ألف كتاب يجب حظرها من بينها مئات الأعمال للكتاب والفنانين الأميركيين، وشملت القائمة السوداء كتاباً مثل شارتر، وراشيل هاميت، وهيلين كاي، وجين ويلتفش، ولانغستون هيوز، وأدوين سيفر، وبرنارد ستيرن، وهووارد فاست، وجون أبت، وجيه جوليور، وماركوس سنجز، وناثانديت، ومكسيم غوركي، وتروفيم ليسنكو، وجون ريد، وآجنس سميدلي، وهيرمان ميلغي..

وكانت لجنة برئاسة مكارثي تلاحق الكتب والكتاب والمثقفين وتأخذهم بالشبهة أو لمجرد رأي سياسي أو موقف فكري، فالكاتب الشهير توماس مان الحائز على جائزة نوبل تعرض لاضطهاد وتجاهل لأنه كما وصفه المكارثيون متساهل مع الشيوعية.

الفن والسينما أيضا
لم يكن الاختراق والتوجيه في مجال الفن مختلفاً عن الثقافة والأدب، وكانت هيئة السينما المنبثقة عن المخابرات الأميركية تمول المعارض والمهرجانات وتستقطب الفنانين والمخرجين، وكانت الهيئة تملك شبكة عمل وتوزيع في 87 دولة وتتمتع بدعم حكومي هائل.

وكانت الهيئة ورجالها يتدخلون في مراحل الإعداد للأفلام والأعمال الفنية والمسرحية بالحذف والتغيير والإضافة وفق إستراتيجية محددة في أذهانهم قائمة على معاداة الشيوعية وترويج الثقافة الأميركية والتغاضي عن العيوب والأخطاء.

 

لم يكن الكثير من الكتاب والمثقفين يعلمون أنهم يشاركون في مشروعات وأعمال تمولها المخابرات الأميركية، وبعضهم عندما اكتشف ذلك بعد سنوات طويلة اعتزل عمله.

وتوقفت مجلة إنكاونتر (أهم مجلات الـ CIA ) عام 1990 وكانت في سنواتها الأخيرة قد ضعفت وتراجعت وكانت نهاية الحرب الباردة نهايتها. وأما أولئك الأبطال الذين خدموا في حرب ثقافية انتهت فجأة بنهاية الثمانينيات فقد أحيلوا إلى أعمال مدنية بعيدة أو عزلة نائية وبعضهم تقاعد قبل ذلك وودعوا الخدمة بأوسمة ومكافآت مالية.

وبعد سقوط حائط برلين التقى ضباط الـCIA بضباط المخابرات الروسية وتساءل خبراء الدعاية من الطرفين عن جدوى وأهمية مجلة إنكاونتر وتبين أن الروس كانوا يقرؤونها باهتمام كبير لدرجة أن لايكي رئيس تحرير المجلة فوجئ كثيراً بهذا الاهتمام غير المتوقع.


 الجزيرة نت
-اسم الكتاب: الحرب الباردة الثقافية: المخابرات الأميركية وعالم الفنون والآداب
-المؤلف: فرانسيس ستونز، ترجمة: طلعت الشايب
-عدد الصفحات: 510
-الطبعة: الأولى 2002
-
الناشر:
المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة

عرض :إبراهيم غرايبة