.

أوسترو عرب نيوز
 
آثــارتغذ يـةتراجــمعلـــومالأدبكتــــبالديـنالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوتر

صدام الحضارات
صموئيل هنتنجتون

 

الأستاذان صموئيل هنتنجتون (Samuel Huntington) و فرانسس فوكوياما (Francis Fukuyama) هما من ألمع الأساتذة في العلوم السياسية ويعملان في أشهر جامعتين في الولايات المتحدة الأميركية هما جامعة هارفارد وجامعة جونز هوبكنز. لذلك لا بدّ لنا من أن نفترض أن الرجلين يتمتعان بقسط وافر من الذكاء وبتحصيل علمي مرموق. لكن أي قراءة نقدية لِ " صدام الحضارات " و " نهاية التاريخ " لا بدّ وأن تثير في النفس مشاعر الإشفاق على هذين الأستاذين اللامعين وقد زجّ بهما، على غير إرادتهما، في سباق الجري شرط ألا يجريا على ساقيهما. فيشفق المرء على هنتنجتون وهو يزحف على مؤخرته ويشفق، ضاحكاً ربما، على فوكوياما وهو يلوح بساقيه في الهواء ويمشي على ذراعيه. بمثل هذا السباق المهين كتب هنتنجتون " صدام الحضارات " وكتب فوكوياما " نهاية التاريخ ".
من الواضح تماماً أن الأستاذين كتبا موضوعتيهما ـ أو الأحرى موضوعتهما إذ عالجا نفس الموضوع ـ بتكليف من وزارة الخارجية الأميركية ونشراهما في المجلة الناطقة بلسانها، مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) في ذات السنة 1992 وهي تلك السنة التي تأكد فيها لفلول قوى الرأسمالية أن محاولات ريغان والليدي ثاتشر في إحياء النظام الرأسمالي قد باءت بالفشل الذريع وكان سقوط بوش الأب، وهو الإستمرار لريغان، في تجديد ولايته الرئاسية في نوفمبر 1992، بعد أن كسب حرباً كبيرة ضمنت للولايات المتحدة السيطرة التامة على مصادر الطاقة في الخليج العربي، أقوى دلالة على ذلك. إنفراط عقد المعسكر الإشتراكي وأتاح انهيار النظام في روسيا الفرصة للخارجية الأميركية لأن تجند بعض ذوي الشهرة والإعتمادية لتعلن من خلالهم أبدية الرأسمالية وانتصارها التاريخي الحاسم على الإشتراكية.
ليس مصادفة أن يكون
هنتنجتون و فوكوياما أستاذين للعلوم السياسية في أفضل جامعتين في الولايات المتحدة الأميركية ؛ وليس مصادفة أن تظهر " نظريتاهما " في ذات الوقت، عام 1992، وتنشرا في ذات المجلة، الشؤون الدولية، المعبرة عن وجهة نظر الخارجية الأميركية كما هو معروف لدى العامة ؛ كما أنه ليس مصادفة أن تنتهي " النظريتان " إلى نتيجة واحدة وهي الإنتصار للرأسمالية ومن خلال مقاربة واحدة تمثلت بقيام كل من الأستاذين بتغيير محرك التاريخ بِ " محرّك " آخر من صناعتهما.
ما يمكن تأكيده إزاء كل هذه الشبهات هو أن " النظريتين "، (صدام الحضارات) و (نهاية التاريخ) هما نظريتان مصطنعتان وقد جرى تزييفهما بمهنية حاذقة كيلا يتم اكتشاف زيفهما بسهولة وبغير مهنية عالية. إصطناع نظرية ما يتم من خلال الإدعاء بوجود علاقات بين الأشياء هي ليست موجودة في الحقيقة ثم استخدام مثل هذه العلاقات الكاذبة كخيوط لنسج قماشة نظرية مصطنعة وكاذبة. المهمة التي ألقيت على كاهل كل من
هنتنجتون و فوكوياما كانت مهمة في غاية الصعوبة بل مستحيلة. فكيف يمكن الإدعاء بأبدية الرأسمالية، وهو الإدعاء المشترك للنظريتين موضوع البحث، بعد أن كان قد أخفق كل من ريغان وثاتشر مباشرة في إحياء الرأسمالية إخفاقاً مدوياً حتى وإن جاء ذلك إثر إنهيار المشروع اللينيني في روسيا ؟! ذلك الأمر وتلك الإستحالة فرضا على البروفسور الكبير هنتنجتون الزحف على مؤخرته وعلى فوكوياما المشي مقلوباً على ذراعيه. لقد وجد الرجلان بحصافتهما أن أي إدعاء بأبدية الرأسمالية بعد انتصار مزعوم على الإشتراكية لا يجوز أن يقوم قبل تعطيل محرك التاريخ الذي كان كارل ماركس قد اكتشفه قبل قرن ونصف واستبداله بمحرك آخر على كل منهما تصميمه وتصنيعه ؛ وتلك ورطتهما الكبرى.

إدعى البروفيسور هنتنجتون أن التاريخ كان قد غير أكثر من مرة محركه مستخدماً محركاً جديداً مختلفاً تمام الإختلاف. فزعم أن التاريخ القديم كان عبداً مأموراً للملوك والأمراء، ما كان ليتحرك إلا بأمر منهم. فإذا غضب أحدهم من أي ملك أو أمير آخر أو حتى خالجه بعض الحسد تجاهه غزاه واحتل بلاده وضمها إلى مملكته وبات شعبها من رعاياه. وعندما تهرّأ هذا المحرك، الذي مفتاح تشغيله بأيدي الملوك والأمراء فقط، أستبدل بمحرك جديد مفتاحه بأيدي الدول وليس ملوكها وأمراءها كما كان في السابق. فكان الصراع بين الدول حماية لسيادتها ونفوذها. وفي القرن العشرين كان المحرك هو الإيديولوجيا وليس غيرها فكان الصراع الساخن بين النازية الألمانية والديموقراطية الغربية ثم الصراع البارد بين إيديولوجيا ماركس من جـهة واقـتصاد السوق والديـموقراطية الليبرالية من جهة أخـرى. وبانتهاء الحـرب الباردة بانـتصار " الإيديولوجيا الغربية " الساحق على " الإيديولوجيا الإشتراكية " حسبما يدعي هنتنجتون غيّر التاريخ محركه فجاء بمحرك الثقافات أو الحضارات بمعناها الواسع.
الحق أن
هنتنجتون كان رائداً في هذا السياق، إن في تبديل عربة التاريخ لمحركاتها وإن في رؤية الثقافة محركاً للتاريخ. لم يسبق لأي عالم أو باحث في علوم الإقتصاد السياسي أن رأى رؤية هنتنجتون. الريادة التي برز بها هنتنجتون هنا لا تستحق الثناء حتى ولا التهنئة. إنه لا يستحق إلا الملامة والتقريع حيث أن أحداً لم يذكر أبداً أن للتاريخ وكالة تعمير وصيانة يتم فيها تغيير المحرك. إن عربة التاريخ ستبلى إن كان لها أن تبلى دون أن تغير محركها. كما لا يجوز مطلقاً إعتبار الثقافة، أية ثقافة ومهما كانت بدائية ومتخلفة، باعثاً للصدام بين الكيانات الحضارية المتباينة بتلوينات هنتنجتون. فالثقافة هي التعبير الأبلغ عن أنسنة الإنسان ورقيّ علاقته بالآخر والقبول به كما هو. الشعوب المتحضرة هي الأكثر قدرة على التحاور وحل الخلافات بالطرق السلمية منعاً للإصطدام، خاصة وأنه يتحدث عن تصادمات بين ثقافات القرن العشرين والتي هي أرق ثقافات توصلت إليها البشرية.
لم يشرح لنا
هنتنجتون أسباب ومبررات إستبدال محرك التاريخ. فما الذي عطل المحرك القديم ولماذا كان المحرك الجديد ضرورياً. متى وكيف اشتغل محرك الإيديولوجيا في القرن العشرين ولماذا تعطل ؟! يجب أن يشرح كل ذلك دون أن يتطرق إلى الهزيمة التي لحقت بألمانيا وكرستها معاهدة فرساي 1919 بحرمانها من أية أسواق خارجية لمصنوعاتها المتقدمة وهو ما كان التربة الخصبة لنمو النازية. زد على ذلك رعاية المخابرات الإنجليزية لحزب هتلر من أجل محاربة الشيوعية في ألمانيا وفي أوروبا بصورة عامة. على هنتنجتون ألا يتطرق لهذه الوقائع لأنها ليست أجزاءً من محركه الإيديولوجي بل أجزاءً من محرك الصراع الطبقي الذي اكتشفه ماركس ولا يعترف به هنتنجتون. ثم كيف ومتى اشتغل محرك الإيديولوجيا الماركسية في روسيا ولماذا تعطل ؟! على هنتنجتون أن يعود لدراسة كل تفاصيل اليوميات الروسية منذ ثورة شباط البورجوازية إلى إنتفاضة البلاشفة في اكتوبر 1917 لكي يتأكد بأن ما سمّي فيما بعد بثورة أكتوبر الإشتراكية ليست هي في حقيقتها بثورة وليست إشتراكية كذلك. لقد كانت إنتفاضة لتصحيح إنحراف حكومة كيرانسكي عن أهداف ثورة شباط البورجوازية وأهمها الإنسحاب من الحرب والإصلاح الزراعي. ولذلك وقع لينين صبيحة الإنتفاضة مرسومين يقضيان بتحقيق هذين الهدفين الكبيرين من أهداف الثورة البورجوازية. أما الخيار الإشتراكي فلم يتقرر إلا في العام 1921 بعد أن قامرت كل الطبقات الإجتماعية باستثناء العمال والفلاحين بمصيرها ورفعت السلاح ضد الثورة وخسرت في النهاية كل شيء. لم يبق في المجتمع سوى العمال والفلاحين الذين لا يعرفون إطلاقاً أن يقيموا إقتصاداً بورجوازياً رأسمالياً  .
نقول كل هذا لنؤكد للسيد
هنتنجتون أن المشرع اللينيني في روسيا لم ينجم عن اية أوهام إيديولوجية بل كان مشروع الضرورة والذي كان سيذهب لو تطور تطوراً طبيعياً وبقواه الذاتية إلى تفكيك النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي لينقل العالم إلى النظام أو الأحرى اللانظام الشيوعي، النظام الرأسمالي الذي تفكك على كل حال في سبعينيات القرن الماضي وانهار أثناء انهيار العالم الإشتراكي. أضف إلى ذلك أن الماركسية ليست بحال من الأحوال إيديولوجيا بكل خصائص الإيديولوجيا الدقيقة. كلا المعسكرين المتصادمين في الحرب الباردة خلال القرن الماضي لم يكونا ظاهرتين إيديولوجيتين، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى، فإن إنهيار الإتحاد السوفياتي لم يكن نتيجة مواجهة حامية أو باردة بين المعسكرين إنما كان نتيجة صراع طبقي شامل وبارد داخل الإتحاد السوفياتي نفسه تحديداً. بعد رحيل ستالين 1953 مباشرة استولى العسكر على القرار السياسي في الحزب والدولة وانحرفوا بمسار تطور المجتمع الذي كان قد رسمه لينين إلى مسار آخر قاد الإشتراكية إلى الإنهيار.
الحرب الباردة كان قد بدأها ونستون تشرتشل وهاري ترومان في مؤتمر بوتسدام/برلين في أغسطس 1945 وقبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية في الشرق ـ ويقول المراقبون البورجوازيون أن تشرتشل وحده هو من بدأها في خطابه الشهير عن الستار الحديدي في مدينة فولتون في الولايات المتحدة في الخامس من آذار 1946. لم يبدآها بسبب خلافهما الإيديولوجي مع ستالين، وإلا لما إحتاج ترومان أن يقترف أفظع جريمة عرفها التاريخ تمثلت باستخدام السلاح النووي لأول مرة في التاريخ وقتل مئات الألوف من المدنيين في هيروشيما وناغازاكي. أراد الثنائي ترومان وتشرتشل أن يروّعا ستالين كي يترك العالم لأطماعهما بعد أن خاطب تشرتشل قائلاً.. " لئن أتيت إلى هنا لتقتسم غنائم الحرب فما أتيت أنا إلا لحماية مصالح الشعب الألماني وحريته ". الحرب الباردة التي بدأت عام 1945 لم تستمر حتى عام 1990 بوقود إيديولوجي بل نزاعاً حول المصالح الحقيقية على الأرض. لو كانت حرباً إيديولوجية كما يدعي
هنتنجتون لانتهت إلى غير ما انتهت إليه. لانتهت بانتصار الإتحاد السوفياتي وهزيمة الولايات المتحدة الأميركية وذلك لأن " الإيديولوجيا " الماركسية، كما يسميها هنتنجتون، أقوى من إيديولوجيا الإمبريالية إن كان للإمبريالية من إيديولوجيا.

العيب القاتل في " نظرية " هنتنجتون هو اعتمادها الكامل عل الفلسفة المثالية، الفلسفة التي فقدت كل قلاعها منذ زمن بعيد ولم يعد يحفل بها سوى المؤمنين بالله وبجنات الخلد. كيف لنا أن نصدق بأن التاريخ الذي هو مركب كل عناصر تفاعلات الحياة البشرية، كيف لهذا التاريخ أن يسلّم كل أعنته لشخص بعينه أعطى لنفسه لقب الملك أو الأمير ؟! لو إرتهن التاريخ لشخص بعينه لما استطاع أن يفك إساره إلى الأبد مهما كان هذا الشخص ضعيفاً أو غبياً. لم يحدث قط في التاريخ أن مارست الشعوب حياتها اليومية وفق تعليمات ملوكها وأمرائها. قال موسى للعبرانيين أن الوصايا العشر هي من عند الله ومع ذلك لم يأخذ بها العبرانيون مما اضطره إلى تشكيل محاكم والطلب من القضاة بتشديد الأحكام كإجراء لازم لمقاومة تفشي الجريمة بين العبرانيين رغم الوصايا العشر. شروط الحياة هي ما يفرض على الناس كيف يمارسون حياتهم وهي أيضاً ما يفرض على الملوك والأمراء القوانين والتعليمات التي يصدرون، وما يحدد طموحاتهم ورغباتهم.

يعتقد هنتنجتون أن ألمانيا النازية شنت الحرب على الغرب والشرق لأسباب إيديولوجية بالأساس، وأن الشرق دخل في حرب باردة ضد الغرب الرأسمالي لأسباب إيديولوجية أيضاً، مفترضاً إفتراضاً مغرقاً في المثالية أن النازية والشيوعية ليستا تعبيرين عن مصالح حقيقية على الأرض. لئن وافقنا هنتنجتون على مثل هذا المعتقد المثالي، فما عساه يقول عن سلسلة الحروب التي شنها الغرب " الديموقراطي الليبرالي " ضد شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية التي نهضت تطالب بالحرية وبالإستقلال دون أن يكون لها أي علاقة بالفكر الشيوعي ؟! لم يكن أي من محمد مصدق في إيران أو جمال عبد الناصر في مصر أو باتريس لومومبا في الكونغو أو أحمد سوكارنو في أندونيسيا أو أحمد بن بلاّ في الجزائر أو كوامي نكروما في غانا وسلفادور أليندي في التشيلي شيوعياً. لم يكن للإيديولوجيا أي علاقة بالسياسات التي كان يتبعها الغرب الرأسمالي الإمبريالي ؛ ما كان يقرر تلك السياسات هو فتح الأسواق ونهب ثروات البلدان المستعمرة والتابعة.

في أي مقاربة ل " نظرية " هنتنجتون عن صدام الحضارات لا بدّ من التوقف أمام مسألة حديّة. فالبروفسور هنتنجتون لم يقل أبداً أن صدام الحضارات كان قد حدث عبر التاريخ ؛ لكنه يقول أن هذا الصدام الحضاري سيكون في عصرنا الحالي هو محرك التاريخ الجديد وأن البشرية تقف اليوم على عتبة هذه المرحلة ويستدل على ذلك بإرهاصات الحرب على الإرهاب التي تشنها الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا، وما تقوم به عصابات الإرهاب المتأسلم من هجمات وحشية على الأهداف المدنية في هذه الدول ونظيراتها الغربيات كما في العراق وأفغانستان. ويذهب هنتنجتون بعيداً بالإشارة إلى تعاون مزعوم بين دول يصنفها من الحضارة الكونفوشية مثل كوريا والصين من جهة وبعض الدول الإسلامية من جهة أخرى مثل إيران وسوريا في تشكيل جبهة معادية للغرب الديموقراطي وللولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص ؛ وينسى أو يتناسى التعاون الواسع بين الولايات المتحدة، رأس الحضارة المسيحية الديموقراطية الرأسمالية، وعدد كبير من الدول الإسلامية المتشددة بإسلامها من مثل  الباكستان والمغرب وأندونيسيا وغيرها كثير.

يتوقع هنتنجتون ومعه عدد من المفكرين المثاليين أن وقائع التاريخ سوف تؤكد نظريته في المستقبل القريب. لكننا، ونحن نرى أن وقائع التاريخ كانت قد جرت في الاتجاه المعاكس ل " محركات " هنتنجتون المزعومة، نستطيع أن نؤكد أن " صدام الحضارات " هو أكثر عجزاً من محركاته الأخرى. إنه " محرك " لم ولن يتحرك على الإطلاق.


فـؤاد النمري