.

آثــارتغذ يـةتراجــمعلـــومالأدبكتــــبالديـنالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوتر

زغرودة في سرادق العزاء


ذهلت ولم أصدق أنها أطلقت زغرودة شماته لأنباء القتل في فض اعتصام رابعة وفجعت وأنا أقرأ كلمات الشماته لمقتل جنود الوطن في كرداسة ورفح‏,‏ سبحان الله‏,‏ ما الذي جري لنا‏,‏ وفي أي حلزون هابط دخلنا؟‏!‏

قفزت إلي عقلي تلك التجربة العلمية المثيرة التي أجراها أستاذ علم النفس الاجتماعي‏(‏ ستانلي ملجرام‏)‏ للكشف عن المبررات العقلية والنفسية التي تمهد للعنف وتقبل به‏.‏
اختار الباحث‏12‏ متطوعا من بين الرجال والنساء العاديين الذين تقدموا للمشاركة في ذلك البحث المتعلق بفهم السلوك الإنساني‏,‏ وتم إفهام المتطوعين المقبولين للمعاونة في إجراء البحث بأنها تجربة علمية لبحث تأثير العقاب البدني علي التعلم والذاكرة‏,‏ بينما هي في الحقيقة تجربة لمعرفة مدي الانصياع لنوازع العنف والقبول بها‏.‏

تم تقديم المتطوعين إلي‏12‏ آخرين علي أنهم متطوعون أيضا بينما هم في حقيقة الأمر من أفراد الفريق البحثي المعاون للأستاذ وتمثلت التجربة في‏12‏ مقابلة كالتالي تجري القرعة بين شخصين‏,‏ أحدهما متطوع فعلي والآخر عضو الفريق البحثي المتنكر في دور متطوع ليقوم أحدهما بطرح أسئلة علي الآخر‏,‏ ويوقع عليه العقاب إذا أخطأ‏,‏ بينما يقوم الثاني بدور المتلقي الذي عليه أن يشحذ ذاكرته ومعارفه ليصل للإجابة الصحيحة‏(‏ من بين اختيارات‏)‏ وإلا تلقي العقاب ويتدرج العقاب فيبدأ من صدمة كهربية خفيفة‏45‏ فولتا حتي يصل إلي صدمة‏(‏ مميتة‏)450‏ فولتا‏.‏
ضبطت القرعة ليفوز المتطوع الحقيقي دائما بدور من يطرح الأسئلة بينما يكون المعاون هو المتلقي ويذهب المتطوع قبل أن يطرح الأسئلة ليشاهد المتلقي مقيدا علي كرسي في غرفة داخلية وبجانبه الجهاز ذي الشحنات الكهربية والموصل بذراعه‏,‏ ليدرك خطورة التجربة وتداعياتها ويجلس المتطوع في غرفة خارجية وأمامه الأزرار أو المفاتيح الكهربية‏,‏ فهو لا يري المتلقي‏,‏ ويوجه إليه الاسئلة من خلال ميكروفون ويتلقي الإجابة من خلال سماعة‏,‏ ويجلس الأستاذ الباحث خلف المتطوع ليسجل النتائج ويشرف علي تنفيذ التجربة‏.‏
ومع أول إجابة خطأ‏,‏ يخبر المتطوع المتلقي أنها تستوجب العقاب‏,‏ ويضغط المتطوع علي مفتاح العقاب الأول‏,‏ فيسمع‏(‏ آه‏)‏ خفيفة‏,‏ وحين تتكرر الأخطاء تزداد شدة الشحنة ويزداد ارتفاع صوت‏(‏ الآه‏).‏
وحين تتجاوز الشحنة حدود الاحتمال يصرخ المتلقي متألما مستنجدا‏(‏ أوقف التجربة‏,‏ لا أستطيع تحمل ذلك‏)‏ يتردد المتطوع وهو يسمع استغاثة المتلقي وتأوهاته‏,‏ وينظر إلي الأستاذ المشرف علي البحث الذي يبلغه أن عليه إكمال التجربة طبقا للتصميم العلمي لها‏.‏
يطرح المتطوع سؤالا جديدا فلا يسمع إجابة‏,‏ وينظر إلي الأستاذ الذي يذكره بالقواعد المتفق عليها بأن عدم الإجابة تعتبر وكأنها إجابة خاطئة‏,‏ وعليه يقوم يزيادة الشحنة وإطلاقها علي المتلقي علي الرغم من احتمال أن يكون قد فقد الوعي أو مات‏!!‏
تباينت ردود أفعال المتطوعين‏,‏ فمنهم من استكمل التجربة استجابة لتوجيه الأستاذ‏,‏ ومنهم من تردد كثيرا وراجع الأستاذ للخطورة التي قد يتعرض لها المتلقي‏,‏ ولكنه رضخ لتوجيه الأستاذ واستكمل التجربة حتي النهاية‏,‏ ومنهم من رفض استكمالها علي الإطلاق‏.‏
دعني أخبرك بأن المفاتيح لم تكن موصلة بالكهرباء‏,‏ ولذلك لم يعذب أحد أو يصب أو يقتل‏,‏ وأصوات الاستغاثة ما كانت إلا تسجيلات مسبقة تحاكي أصوات المعذبين بالكهرباء‏,‏ ولكن المتطوعين لم يعرفوا ذلك‏,‏ واستمروا في ممارسات العنف والتعذيب بل والقتل‏.‏
السؤال الذي طرحه الأستاذ في ورقته وتجربته الفريدة‏,‏ كيف مارس أغلب المتطوعين العنف والتعذيب بل والقتل ببساطة هكذا الإجابات كما أوردها المتطوعون أنفسهم تمثلت في أن جانبا منهم بررها أمام ضميره بأنها تجارب تجري من أجل العلم الذي يساعد علي تقدم البشرية‏,‏ ومن ثم فهي مبررة‏(‏ هكذا يلغي الناس إنسانيتهم ومشاعرهم وعقلهم ليمارسوا أحط الأفعال تحت أسمي الشعارات والأغطية‏)‏ الآخرون القوا في سرائرهم بالمسئولية علي الأستاذ فهو الذي صمم التجربة‏,‏ وأصدر التوجيهات باستكمالها حتي النهاية‏,‏ وهم اتبعوا التعليمات الخاصة بالتجربة‏,(‏ وهكذا يسلم البعض عقله‏,‏ بل وضميره‏,‏ لرئيس أو مسئول أو ذي مكانه أو ذي علم دون تفكير أو مراجعة‏).‏
يعلق الأستاذ ما أثبتته التجربة وأجده مذهلا‏,‏ أن هناك أناسا عاديين يمكن أن يمارسوا أقصي درجات العنف‏,‏ فنحن جميعا نستطيع أن نقنع أنفسنا تحت ظروف معينة أن العنف مبرر تماما‏,‏ فهو موجود في داخلنا جميعا‏,‏ يسهل خروجه أو استخراجه‏.‏
المثير أن الذين رفضوا استكمال التجربة حتي النهاية كانوا ثلاثة فقط من بين المتطوعين الإثني عشر‏,‏ وهي نسبة تدل علي أن الأقلية هم الذين احتكموا إلي عقولهم وضمائرهم بعيدا عن إيحاءات السلطة‏,‏ ورفضوا الانصياع لهيمنة الإدارة في أمر يتنافي مع المنطق ونداء الإنسانية وحين قيل لأحدهم كيف تشعر وهناك تسعة آخرون استكملوا التجربة‏,‏ أجاب أشعر بالرعب‏.‏
أنا أيضا أشعر بالرعب وحولي من البشر من ألغوا عقولهم ويمارسون عنفا قاتلا ويبررون لأنفسهم ما يفعلون تحت شعارات فضفاضة‏,‏ سياسية كانت أو دينية‏.‏
أشعر بالوحشة لأن كلمة الحق توارت‏,‏ وغيب أغلب الناس وفتنوا وضللوا‏,‏ فالقلة هي التي احتكمت إلي نداء العقل والإنسانية ورفضت ممارسات العنف المميت‏.‏
أشعر بالرعب حين استمع إلي زغرودة في سرادق العزاء‏,‏ سواء انطلقت من رابعة أو كرداسة‏,‏ وأشعر بالوحشة حين أقرأ نتائج الإحصاء للمركز المصري لبحوث الرأي العام ـ بصيرة‏(‏ الخميس‏22‏ أغسطس‏)‏ الذي أفاد بأن نسبة غير الموافقين علي طريقة فض اعتصامي رابعة والنهضة‏24%,‏ بينما المواقفون‏67%‏ وغير المتآكدين‏9%!!‏
أشعر بالرعب والوحشة‏,‏ ولكني استرجع كلمة الإمام علي لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه‏.‏


بقلم‏:‏ د‏.‏ شريف قنديل

مع الشكر للصديق : المستشار الثقافى المصرى فى النمسا
د.
مرسي أبو يوسف