.

الديـنالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوترثقــافـة
آثــارتغذ يـةعلـــومالأدبكتــــب

رجل القدر في حياة أمة

سعيد النورسي

 

 الزمان.. و المكان .. و الإنسان

في يوم من أواخر أيام شتاء عام 1926 كان قارب شراعي يحمل خمسة أشخاص يأخذ طريقه في بحيرة" اكريدر"  متوجها إلى الساحل القريب من ناحية "بارلا"..

كانت مياه البحيرة المتجمدة قد بدأت بالذوبان منذ أيام .. ولكن هناك قطع كبيرة من الجليد لا تزال طافية ومنتشرة هنا وهناك.. الجو بارد .. والسكون مخيم على البحيرة الجميلة المحاطة بجبال شاهقة .. وهناك ضباب خفيف .. ثم طيور البشق وهي تطير فوق البحيرة وفوق ضفافها.

كان أحد هؤلاء الخمسة صاحب القارب ممسكا بالشراع ليوجه به القارب .. أما مساعده فقد انحنى  نحو الماء في مقدمة القارب وبيده عصا طويلة يكسر بها قطع الجليد من أمامه.

 ثم هناك شرطيان بملابسهما الرسمية يحمل كل منهما بندقية قديمة .. من الواضح انهما في مهمة رسمية، إذ كانا يحرسان الشخص الخامس تمهيدا لتسليمه إلى مخفر شرطة " بارلا" حسب الأوامر الصادرة إليهما..

 أما الشخص الخامس فقد كان جالسا يتأمل بهدوء منظر البحيرة والجبال المخضرة الشاهقة المحيطة بها وقد غابت قممها المكسوة بالثلوج في الضباب..

 كان في العقد  الخامس من عمره..

وكان منفياً..

وهو الآن في طريقه وتحت الحراسة إلى منفاه في " بارلا".

طوى سجادة الصلاة بعناية ووضعها إلى جانبه..

 وقرب قدميه سلة فيها كل ما يملكه في هذه الدنيا. إبريق شاي.. بضعة أقداح .. قليل من الشاي ومن السكر، وقليل من الزبيب.

 كان هذا كل ما يملكه..

 عفواً.. لقد نسينا شيئاً مهماً..

كان يحمل في يمينه سلاحاً خطيراً .. وخطيراً جداً.

 كان يحمل مصحفاً..

 في سبيل هذا المصحف اقترب من حبل المشنقة من قبل ..

وفي سبيل هذا المصحف قاتل الروس عندما غزوا بلده قبل سنين..

 وفي سبيل هذا المصحف وقع في الأسر.. ونفي إلى أقاصي سيبيريا حيث قضى  اكثر من سنتين في تلك الأصقاع النائية في لوعة الأسر وأساه..

وهو الآن في طريقه إلى منفاه في سبيل هذا المصحف.. إلى بلدة نائية صغيرة في حضن الجبال تكاد تكون مقطوعة عن العالم الخارجي..

 لم يكن هذا الشخص المنفي والمظلوم شخصا اعتيادياً..

 لم يكن فرداً من هؤلاء الأفراد  الذين يأتون ثم يرحلون دون أن يتركوا أي صدى تحت قبة هذه السماء، ودون أن يدروا لماذا أتوا ولماذا رحلوا..

 كان شخصاً قد طوى في جوانحه كل آلام تركيا وعذاباتها في تلك السنوات الحالكات.. في وطن خربت معظم مرافقه ومدنه وقراه بعد سنوات الحرب العالمية الأولى وسنوات من حروب الاستقلال وقتل معظم شبابه..

وكأن هذه المصائب والمآسي لم تكن كافية .. فقد امتدت يد السلطة الحاكمة آنذاك محاولة تدمير روح هذه الأمة وخنقها بعد أن قام الأعداء بتدمير جانبها المادي. تدمير وقتل وخنق روح هذه الأمة ومحاولة قطع جذورها وسلخ جلدها في نوبة هستيرية من نوبات التقليد الأعمى للغرب.

 كانت هذه المحاولة مصيبة أكبر من مصائب الحروب السابقة وجرحاً أكبر من جروح الحروب .. لأنها كانت تحاول اغتيال روح الأمة وإماتتها موتاً لا حياة بعده..

 ولكن القدر الإلهي كان يهيئ صاحبنا المنفي هذا ليكرس حياته كلها في محاولة رأب ما صدعوا.. وبناء ما هدموا.. وهدم ما أقاموا.

 فمن كان هذا الشخص؟.. من كان رجل القدر هذا ؟ ولماذا كان منفياً في ذلك اليوم البارد؟

 كان اسمه.. سعيد النورسي..

 وكان منفياً لأنه.. ولكن لا .. دعونا نرجع إلى الوراء لنتابع حياة هذا البطل المجاهد من البداية.


الفصل الأول

 المولد والنشأة

" سيوهب لك علم القرآن شريطة إلاّ تسأل أحداً من أمتي سؤالاً "

 مولده ونسبه

قبيل شروق الشمس في أحد أيام ربيع سنة 1877 م 1294هـ ولد بديع الزمان سعيد النورسي في قرية صغيرة تحيط بها جبال شم في شرقي تركيا تدعى قرية " نورس " وهي إحدى قرى ناحية " اسپاريت" التابعة  لـ"هيزان" إحدى أقضية ولاية بتليس".

ولد سعيد النورسي في عائلة كردية متوسطة الحال تشتغل بالزراعة وتملك بعض المواشي والأبقار، اسم والده "ميرزا" ولشدة ورعه وتقواه لقّب بـ "الصوفي ميرزا" وأمه تدعى " نورية" وكانت تقية فما أرضعت أطفالها إلاّ وهي على طهر ووضوء.

عندما جاء " سعيد" إلى الحياة كانت له أختان هما:  درية، وخانم، وأخ اسمه عبد الله . ثم جاء بعده ثلاثة اخوة، هم : محمد، وعبد المجيد، ومرجان([1]).

ونستطيع أن نسجل من مجمل المصادر الموثوقة ونقلاً عن لسانه أن أصل عائلته وأجداده قد أتوا من ولاية اسپارطة وهي ولاية تقع في غربي تركيا([2])، وان نسبه ينتهي إلى أهل البيت، فمن جهة الأب إلى سيدنا الحسن رضي الله عنه ومن جهة الأم إلى سيدنا الحسين رضي الله عنه([3]).

 نشأته

منذ طفولته المبكرة ظهرت عليه امارات الذكاء والتفوق إذ لم يكن كأطفال القرية الآخرين، كان محباً للاستطلاع، يرغب في معرفة سبب كل شيء يقع عليه نظره أو يمر بخاطره، فكان دائم الاستفسار كثير الأسئلة، وكان والداه يتحملان بكل صبر أسئلته الكثيرة التي لا تكاد تنتهي، وكان دقيق الملاحظة.

ففي إحدى الليالي سمع ضجة كبيرة في القرية، إذ كان الأهالي يحاولون إحداث جلبة كبيره وضجة عالية بكل وسيلة وذلك بالضرب على الدفوف والدق على القدور وعلى صفائح المعدن.. فأسرع إلى أمه يسألها عن جلية الأمر وعن سبب كل هذه الضجة، فقالت له وهي تشير إلى خسوف القمر وتكرر ما تعرفه عن هذه الظاهرة:

-لقد بلع الثعبان القمر، والأهالي يحدثون هذه الضجة لإخافة الثعبان وتخليص القمر منه، ولكن سعيداً الصغير لاحظ أنه لا يزال يستطيع مشاهدة القمر وان كان لونه باهتاً جداً، لذا فإن هذا الجواب لم يكن مقنعاً له فقال معترضاً:

-  ولكن القمر لم يختف تماما إذ يمكن رؤيته.

وهذا الاعتراض الوجيه يبين مدى قوة الترابط المنطقي في فكر سعيد الصغير، وعدم تسليمه بكل ما يقال له، وهذا الاعتراض فاجأ والدته فلم تجد بداً من القول له:

إن الثعبان الموجود في السماء  شفاف مثل الزجاج ،لذا فإننا نستطيع رؤية القمر  وهو في بطنه.

ومع أن سعيداً الصغير سكت إلاّ أنه لم يقتنع تماماً بهذا الجواب، ونرى انه بعد سنوات عديدة يتناول هذا الموضوع في رسالةٍ في "اللمعات" ويشرح ماهية "التشبيه" و "الحقيقة" وتوضيح الحدود بينهما.([4])

كان أحب شيء  إليه حضور مجالس الكبار والاستماع إلى ما يدور فيها من حديث وما يطرح فيها من آراء، ولاسيما مجالس علماء قريته الذين كانوا يجتمعون في منـزل والده في ليالي الشتاء الطويلة، حيث يقبع سعيد الصغير في زاوية من الغرفة  وقد أرهف سمعه إليهم في مسامرتهم ونقاشهم.([5])

ويمر بخاطره مرة سؤال طريف فيقول:

"كنت قد حدّثت خيالي في عهد صباي: أي الأمرين تفضل؟ قضاء عمر سعيد مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم، أم وجوداً باقياً مع حياة اعتيادية ذات مشقة ؟ فرأيته يرغب في الثانية ويتأفف من الأولى، قائلاً: إنني لا أريد العدم، بل البقاء حتى وإن كان في جهنم"([6]).

وهذا يظهر لنا كيف أن مشكلة الوجود والعدم، ومشكلة الحياة والموت كانت تشغل فكره وهو في المرحلة الباكرة من صباه، وهي مشاكل فلسفية وفكرية عميقة شغلت الفلاسفة والمفكرين، ولا تزال تشغلهم، ولم يكن متوقعاً أن تكون مشكلة فكرية لصبي، كما أن هذا الخاطر يبين بشكل واضح كيف أن الرغبة في الخلود  مركوزة وموجودة في أعمق أعماق الإنسان، وأنها أهم مطلب له على الإطلاق، وأن أي مبدأ أو فكر أو فلسفة لا تستجيب لنداء الخلود الموجود في فطرة الإنسان، ولا تحل له مشكلة الوجود والعدم هي فلسفة قاصرة ومبدأ مبتور وفكرة ضيقة وسطحية لا تملك جذوراً عميقة في فطرة الإنسان ولا يمكن لها أن تسعده أو أن تمسح القلق عن روحه.

 دراسته الأولية

كان أخوه الكبير " الملا عبد الله" قد بدأ قبل سنوات دراسته الدينية وأصبح طالباً في مدرسة دينية، لا يأتي إلى قريته والى بيته إلاّ في أيام الجمع، إذ كان يدرس في مدينة أخرى لأن قريته الصغيرة لم تكن فيها مدارس.

 أما سعيد الصغير فقد تلقى أول علومه سنة 1882م في كتّاب قرية قريبة من قريته وهي قرية " طاغ" وكان مدرّسه الأول " محمد أفندي" كما كان ينتهز فرصة رجوع أخيه في عطلة الجمعة فيأخذ دروساً إضافية منه، ولكنه لم يمكث في هذه المدرسة طويلاً إذ تشاجر معه أحد الطلاب فترك المدرسة عائداً إلى قريته قائلاً لأبويه  بأنه لن يعود إلى الدراسة إلاّ بعد أن يكبر. ذلك لأن الطالب الذي تشاجر معه كان أكبر منه بعامين أو ثلاثة. فاقتصرت دراسته على الدرس الأسبوعي الذي كان يتلقاه من أخيه الكبير.

ولكنه عاد إلى الدراسة في مدرسة قريبة من قرية"پرمس" التي كان يشرف عليها الشيخ " نور محمد" ولكن الطلاب الشقاة لم يدعوه هنا أيضاً بسلام إذ اتفق أربعة طلاب ضده وأخذوا يشاكسونه وعندما ضجر من تصرفاتهم ذهب إلى الشيخ "نور " قائلاً له:

-أرجو يا سيدي الشيخ أن تقول لهؤلاء الطلاب الأربعة بالا يأتوا للشجار معي جميعهم معا، ولكن ليأتوا اثنين اثنين.

تعجب الشيخ من هذا الكلام الجريء لهذا الطالب الصغير وقال له :

- أنت تلميذي،  لذا لن أدع أحداً يتعرض لك.

لذا لقب سعيد الصغير هذه الحادثة بـ "تلميذ الشيخ"([7]) ومع أن سعيداً الصغير لم يبق هنا مدة طويلة، إلاّ أن المدة التي مكث فيها كانت كافية لجلب انتباه أستاذه الشيخ وتقديره وإعجابه، فقد كان طالباً فريداً في  كل شيء.. في أخلاقه وفي شجاعته وفي علمه، حتى انه قرر أن يذهب ليرى والدي هذا الطفل الغريب المتميز في كل شيء وليسأل كيف استطاعوا أن يربوه على مثل هذه التربية وينشؤه هذه النشأة..

كانت المسافة بين مدرسة الشيخ وبين قرية "نورس"تحتاج إلى ست أو سبع ساعات من المشي المرهق على الأقدام بين الجبال، إذ لا يوجد طريق مبلط بينهما.. ولكن رغبة الاستطلاع الذي أثاره سعيد الصغير في قلب أستاذه كان كبيراً إلى درجة انه قرر القيام بهذا السفر الشاق، واخذ معه بعضاً من رجال القرية وتوجهوا إلى قرية " نورس" مشياً على الأقدام.

وصلوا إلى القرية وسألوا عن "الصوفي ميرزا" فدلّوهم على البيت، طرقوا الباب فخرجت لهم والدة سعيد وأخبرتهم أن والده على وشك الرجوع من المزرعة، ثم فرشت للزائرين حصيراً تحت شجرة أمام الدار، سألها الشيخ:

- كيف ربيتم هذا الصغير؟

أجابت الوالدة:

عندما أصبحت حاملاً بـ " سعيد " لم أطأ مكاناً دون وضوء، وعندما جاء "سعيد" إلى الدنيا لم أرضعه دون وضوء.

بعد قليل ظهر" الصوفي ميرزا" راجعاً إلى بيته وهو يسوق بقرتين وثورين.. ولكن الشيخ "نور محمد" وأصدقاءه دهشوا عندما رأوا أن أفواه هذه الحيوانات مكممة.. وعندما وصل والد سعيد إلى ضيوفه ورحب بهم لم يتمالكوا أنفسهم من إبداء الدهشة ومن الاستفسار عن سبب المنظر الغريب الذي رأوه، فقال لهم: "إن مزرعتي بعيدة بعض الشيء، وأنا اضطر في الذهاب وفي الإياب إلى المرور عبر مزارع الجيران، لذا أكمم أفواه هذه الحيوانات كي لا تأكل  من حشائش هذه المزارع ونباتاتها، لأني أحذر أن تدخل بيتي لقمة حرام".

كان ما رآه الشيخ "نور محمد" وأصدقاؤه وما سمعوه كافيا للإجابة عن أسئلتهم ولمعرفة الجو العائلي الذي نشأ في ظله سعيد الصغير .وبعد أن قضى  الضيوف ليلتهم هناك رجعوا في الصباح إلى قريتهم.([8])

كان العالم الديني المجاز – علمياً- في شرقي الأناضول آنذاك يملك صلاحية فتح المدارس الدينية الكتّاب وكان القادرون منهم يقومون بالصرف عليها كذلك، و إلاّ تم الصرف من مبالغ الزكاة والتبرعات التي تجمع من أهالي تلك المنطقة، فكان طلاب المدارس الدينية([9]) ينتشرون في مواسم معينة بين القرى لجمع هذه المبالغ، وعندما حلّ ذلك الموسم وبدأ الطلاب يطوفون بالقرى لم يخرج سعيد الصغير معهم، فقد كانت عزة نفسه تمنعه من ذلك ومن قبول أي عطاء من أي شخص كان إلاّ بمقابل([10]). ولم يفد الإلحاح معه، وقد أعجب أهل قريته بأنفة هذا الطالب الصغير . فجمعوا مبلغاً وأعطوه إلى أخيه الكبير ليصرف عليه.

عندما حلّ الشتاء، وهو شتاء قارس في تلك الأنحاء من البلاد تنقطع فيه الطرق بين القرى من تراكم الثلوج، بقي في الدار بجانب والديه، ولكن حادثة مهمة جرت له في ذلك الشتاء.

رأى في منامه رؤيا بقيت محفورة في ذاكرته حتى أواخر حياته، رأى كأن القيامة قد قامت بكل أهوالها وحشر الناس جميعاً، فتملكته رغبة قوية في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام.. ولكن كيف يستطيع ذلك وأين يلقاه في مثل هذا الزحام ؟.. وبينما هو يفكر في ذلك ويجيل طرفه في الناس خطرت له فكرة الذهاب إلى الصراط المستقيم .. نعم لا شك أن الرسول الكريمr سيمر من هناك .. أسرع إلى الصراط المستقيم ووقف ينتظر.. مرّ به الأنبياء الكرام  صلوات الله وسلامه عليهم . فقبّل أيديهم كلهم، ثم أقبل الرسول الكريم r فهوى سعيد الصغير على يديه يقبلهما ثم طلب منه " العلم" فقال له r: " سيوهب لك علم القرآن شريطة إلاّ تسأل أحداً من أمتي سؤالاً "([11]).

 

 عودة إلى الدراسة

استأذن سعيد أبويه في الذهاب للدرس على يد العالم المشهور الشيخ " أمين أفندي" في " بتليس" فأذن له. ولكن الشيخ عندما رأى صغر سن سعيد لم يهتم به، بل أوكل مهمة تدريسه إلى أحد طلابه، مما حزّ كثيراً في نفس سعيد؛ لذا لم يمكث هنا طويلاً. بل ذهب إلى مدرسة "مير حسن ولي".وهنا شاهد أيضاً عدم الاهتمام بتلاميذ المراحل الأولى، فذهب إلى "گواش" التابع لمحافظة "وان" ولم يمكث هنا إلاّ شهراً واحداً. ذهب بعده إلى قصبة "بايزيد" التابعة لمحافظة "ارضروم" وهنا بدأت الدراسة الأساسية بالنسبة إلى سعيد، إذ كانت دراسته الأولى حتى الآن تنصب على الصرف والنحو.([12])

درس سعيد - البالغ من العمر 12-13سنة- هنا على يد أستاذه " الشيخ محمد جلالى" أولاً كتاب "الجامي" ([13]) وأتم دراسته مروراً بالكتب المقررة عادة في هذه المدارس الدينية، كان يفهم المتون مباشرة دون قراءة الشروح والهوامش. وكان يقرأ من كل كتاب خمسة أو عشرة دروس ثم ينتقل إلى كتاب آخر وعندما سأله أستاذه عن ذلك قال:

"لا أستطيع قراءة كل هذه الكتب وفهمها. فهذه الكتب عبارة عن صندوق جواهر ومفتاحه لديكم، لذا أرجو منكم إرشادي إلى ما يحتويه هذا الصندوق، فعندما أعلم محتويات هذه الكتب والمواضيع التي تبحثها أستطيع اختيار العلوم التي توافق طبيعتي وتأنس إليها نفسي"([14]).

ذلك لأن سعيداً لم يكن يرغب في ضياع وقته في التيه بين الشروح والهوامش لكتب  لا فائدة تذكر من قراءتها، لأنه كان يريد الوصول إلى اللب.

دامت هذه الفترة الخصبة والأساسية من تحصيله العلمي ثلاثة أشهر. كان يقرأ فيها كل يوم ما يقارب مئتي صفحة أو يزيد كمعدل من متون أصعب الكتب مثل" ابن حجر"([15]) "وجمع الجوامع"([16]) و" شرح المواقف"([17]) ويفهمها دون معونة أحد، وقد ساعدته على دراسته هذه حدة ذكائه وذاكرته المدهشة التي كانت تختزن كل ما يقرأه، فقد كان باستطاعته حفظ صفحة كاملة من أعقد المتون بمجرد قراءتها قراءة واحدة([18]) واستغرق في حمى القراءة هذه حتى انقطعت صلته تقريباً مع العالم الخارجي.

في هذه الفترة دخل إلى مرحلة زهد وتقشف ورياضة نفس عنيفة متأثراً في ذلك بآراء وسلوك بعض الحكماء الإشرافيين([19]). ولم يدخل إلى ذلك بشكل تدريجي كما هو المفروض وكما فعل هؤلاء الحكماء، بل دخلها فجأة فكان يكتفي بقطعة صغيرة من الخبز لمدة ثلاثة أيام، بل انه اقتات فترة من الوقت على الأعشاب فقط، اتباعاً لما فهمه آنذاك من قاعدة :"دع ما يريبك إلى مالا يريبك"([20]). كما بدأ يقضي جل وقته قرب ضريح أحد الأولياء هناك واسمه: "احمد خاني"([21])، وقد افتقده أصدقاؤه في إحدى الليالي وفتشوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، وبعد عناء وجدوه جالساً إلى جانب الضريح وهو يقرأ في ضوء شمعة.([22])

ثم استأذن سعيد -الذي أصبح يطلق عليه اسم الملا سعيد -أستاذه بالسماح له بالذهاب إلى بغداد لالتقاء علمائها فأذن له، فتزيا بزي الدراويش وانطلق في طريقه، ولكنه لم يتبع الطريق المعتاد، بل سلك سبيله بين الجبال الموحشة والغابات المخيفة ليلاً ونهاراً لاختصار المسافة. ولكنه لسبب ما غير فكره في الذهاب إلى مدينة بغداد فتوجه إلى مدينة "بتليس" وعندما وصل إلى "بتليس" عرج على أستاذه السابق "الشيخ محمد أمين أفندي" وبقي عنده يومين حضر فيهما دروسه، وعندما اقترح عليه أستاذه لبس الكسوة العلمية، رفض ذلك لأنه رأى انه لا يستحقه قائلاً:

إنني لم أبلغ بعد سن البلوغ يا أستاذي، فكيف يحق لي لبس لباس المدرّسين الأفاضل، وكيف أستطيع وأنا صبي الظهور بمظهر العلماء؟([23])

ثم ذهب إلى مدينة شيروان حيث كان أخوه الكبير الملا عبد الله يتابع دراسته الدينية هناك .. كانت قد مضت على فراقهما أشهر، لذا فبعد فرحة اللقاء جرت بينهما المحاورة التالية، إذ سأله أخوه الكبير:

- بعد آخر لقاء معكم أنهيت " شرح الشمسية".([24]). وأنت ماذا تقرأ الآن؟.

- لقد قرأت ثمانين كتاباً.

- ماذا؟..

- نعم قرأت ثمانين كتاباً، بل قرأت كتباً أخرى علاوة على كتب الدراسة.

إذن سأمتحنك

-  إنني حاضر للامتحان.. سل ما بدا لك. ([25])

فقام الملا عبد الله بامتحانه، وكانت نتيجة الامتحان مفاجأة له، فأخوه الصغير هذا الذي كان قبل ثمانية أشهر فقط تلميذاً له بدا له شخصاً آخر تماماً، شخصاً عالماً متمكناً واقفاً على دقائق الأمور، والطريف انه طلب أن يتلقى العلم عنه.. أي أصبح تلميذاً له.

 الملا سعيد في "سعرد"

بقي "  الملا سعيد" مع أخيه فترة من الزمن،ثم شد الرحال إلى مدينة "سعرد" وهناك ذهب إلى مدرسة العالم المشهور آنذاك "الملا فتح الله أفندي" والذي كان أحد أساتذته السابقين، فسأله الملا فتح الله:

 -كنتم تقرأون " السيوطي"([26]) في السنة الماضية، فهل تقرأون "الجامي" هذه السنة.

 - لقد أنهيت قراءة " الجامي".

وبدأ أستاذه يسرد عليه أسماء الكتب المعروفة والمهمة فيقول عن كل كتاب انه قرأه، فبدأ الشك يساور قلب أستاذه السابق، إذ كيف يستطيع أحد أن يقرأ كل هذه الكتب في فترة قصيرة، لذا لم يملك نفسه من القول له مازحاً:

-لقد كنت مجنوناً في السنة السابقة، فهل أنت مجنون هذه السنة أيضاً؟

فأجابه الملا سعيد:

- إن الإنسان لكي يكسر كبرياء وغرور نفسه قد يكتم الحقيقة عن الآخرين، ولكنه لا يستطيع سوى قول الحقيقة المحضة لأستاذه الذي تكون مكانته عنده اكبر من مكانة الوالد. وأنا الآن طوع أمرك وأرجو أن تمتحني في جميع الكتب التي ذكرتها.

وكم دهش أستاذه عندما رأى تلميذه الصغير وهو يجيب أفضل إجابة عن كل سؤال سأله عن هذه الكتب. وفي نهاية الامتحان قال له:

-أجل، أنت تملك ذكاءً خارقاً، ولكن دعنا نرى قوة حفظك.. خذ كتاب " مقامات الحريري" واقرأ منه بضعة أسطر مرتين فقط لنَرَ إن كنت قادراً على حفظها.

تناول "الملا سعيد" الكتاب وقرأ منه نصف صفحة مرة واحدة فقط، وكانت كافية للحفظ، فلم يملك أستاذه نفسه من القول في إعجاب ودهشة:

-        إن اجتماع الذكاء الخارق مع القابلية الخارقة للحفظ في شخص واحد من الأمور النادرة جداً.

-        وهناك حفظ الملا سعيد كتاب "جمع الجوامع" في ظرف أسبوع واحد بمعدل قراءة ساعة أو ساعتين في اليوم، وعندما علم أستاذه بذلك كتب على الكتاب هذه الجملة:(قد جمع في حفظه جمع الجوامع جميعه في جمعة).([27])

وبدأ أستاذه لا تجمعه جلسة مع علماء المدينة إلاّ ويذكر إعجابه بعلم تلميذه السابق وبذكائه، وانه لا يتردد في الإجابة عن أي سؤال يوجه إليه. وقد أثار هذا المديح المتكرر فضول علماء "سعرد" وأرادوا أن يروا وان يمتحنوا هذا الصبي العالم، وجاء " ملا سعيد" إلى جلسة الامتحان بصحبة أستاذه " الملا فتح الله أفندي" وبدأ العلماء بإلقاء أصعب الأسئلة عليه، ولكن "  الملا سعيد" لم يخيب ظن أستاذه فيه، إذ لم يتلعثم في الإجابة عن هذه الأسئلة دون استثناء، فكانت الحيرة والتقدير والإعجاب عاماً بين العلماء..

وما لبث الخبر أن شاع وانتشر بين الأهالي وازدادت منـزلته لديهم، مما أثار حسد بعض طلاب المدارس الدينية وغيظهم إذ كيف يأتي طالب غريب وفي عمر الصبا ويجمع كل هذا التقدير والإعجاب من أهالي مدينتهم.. ولما كانوا غير قادرين على منازلته والتغلب عليه في ساحة المعرفة وفي ميدان العلم، إذن فلا طريق سوى طريق القوة لإيذائه، ولكن أهالي المدينة حالوا دون ذلك وأنقذوا سعيداً من بين أيديهم. وسرعان ما وصل الخبر إلى متصرف "سعرد" فأرسل قوة من الجندرمة للحيلولة دون وقوع أية حادثة ثم ليدعو "الملا سعيد"  إليه ومرسلاً الخبر مع رئيس الجندرمة بأنه سينفي هؤلاء الطلاب من المدينة لسوء تصرفهم هذا. ولكن "الملا سعيد" قال لرئيس الجندرمة:

-"نحن طلاب مدرسة قد يختلف أحدنا مع الآخر ثم نتصافى فيما بيننا، لذا لا أرى من المناسب أن يتدخل بيننا أحد خارج مسلكنا هذا، ولهذا لا أرى سبباً للذهاب معكم إلى المتصرف الذي أرجو تبليغه بأن الخطأ كان صادراً مني".

وهكذا  صرف الجندرمة، إذ لم يرغب في إيقاع الأذى بأي أحد كان. ثم ذهب إلى "بتليس" مرة أخرى وقد سبقته شهرته إلى هناك إذ أصبح الناس يطلقون عليه اسم "سعيدي مشهور" أي "سعيد المشهور".. وبقي هناك فترة قصيرة من الزمن انقسم فيها الأهالي إلى قسمين: قسم من أنصاره وقسم من أنصار عالم هذه المدينة "الشيخ أمين أفندي" أستاذه السابق. وقد خشي متصرف هذه المدينة أن يقع احتكاك بين الجماعتين فاصدر أمره بنفي سعيد من المدينة، فذهب إلى مدينة "شيروان" مرة أخرى.

في هذه المدينة جاءه رجل من إحدى قرى "سعرد" قائلاً له:

- لقد ظهر في "سعرد" عالم صغير يتراوح عمره بين 14-15 عاماً ولكنه غلب كل علماء المدينة، لذا أرجو منكم الذهاب إلى هناك لمناظرته.

لبّى سعيد هذه الدعوة وتهيأ للسفر معه، وبعد أن تركا المدينة وسارا لمدة ساعتين سأل سعيد مرافقه الداعي عن أوصاف ذلك الفتى العالم فقال له:

-        إنني لا أعرف اسمه، ولكنه كان يلبس ملابس الدراويش عند قدومه مدينتنا ثم تزيّا بزي طلاب المدارس الدينية، وأفحم جميع العلماء.

-        عند ذلك علم سعيد بأن ذلك العالم الفتى لم يكن إلاّ نفسه، أي انه كان مسافراًِ لمناظرة نفسه! لذا رجع إلى "شيروان".

ثم ذهب إلى إحدى قصبات مدينة "سعرد" تدعى "تيلّو" حيث اعتكف هناك، وفي أثنائه حفظ من كتاب "القاموس المحيط" للفيروزآبادي حتى باب السين. أي حفظ ما يزيد على ألف ومئة وخمسين صفحة من القطع الكبير الذي تحتوي كل صفحة فيه على ١٤ سطراً. وعندما سئل عن سبب قيامه بذلك أجاب:

-"إن القاموس يورد المعاني المختلفة لكل كلمة، وقد خطر ببالي أن أضع قاموساً أنحو فيه عكس هذا المنحى، أي أورد فيه عدد الكلمات المختلفة التي تشير إلى المعنى نفسه".

وفي أثناء اعتكافه كان أخوه الصغير "محمد" يجلب له طعامه فكان ينثر حبات الطعام من رز أو غيره إلى النمل الموجود هناك ويكتفي بغمس الخبز في مرق الطعام وتناوله، وعندما سئل عن سبب تصرفه هذا قال:

-"إنني معجب جداً بالحياة الاجتماعية للنمل وبنشاطها وجدّها ومثابرتها في العمل وأنا أريد أن أكافئها على نظامها "الجمهوري" وان أعاونها عليه".([28])

 

 الملا سعيد و مصطفى باشا

كان السلطان عبد الحميد الثاني قد أعطى رتبة الباشوية لبعض رؤساء العشائر الكردية في شرقي البلاد حيث كان هؤلاء يؤلفون باتباعهم المسلحين"ميليشيات" مسلحة تقوم بوظيفة الحراسة على الحدود مع روسيا وتعاون الجيش النظامي، وتحفظ الأهالي من هجمات العصابات الأرمنية المسلحةكذلك. كما كان السلطان يؤمّن بهذه الطريقة ربط رؤساء هذه العشائر بالدولة ويحول دون قيامهم بحركات عصيان ضد الدولة لذا فانه كان يكثر من مجاملتهم وإرسال الهبات والعطايا لهم.

ولكن أحد رؤساء هذه العشائر واسمه"مصطفى باشا" رئيس عشيرة "ميران" كان معروفاً بغروره وبظلمه، حتى ضاق أهالي "جزيرة ابن عمر"(جزرة) وحواليها منه  ومن ظلمه.

كان هذا هو وضع "مصطفى پاشا" المغرور.. هذا الپاشا الذي التقاه "الملا سعيد".

ففي إحدى الليالي رأى "الملا سعيد" في منامه الشيخ "عبد القادر الكيلاني" وكان يحبه جداً.. رآه في المنام وهو يقول له:

- ملا سعيد... اذهب إلى مصطفى پاشا رئيس عشيرة "ميران" وادعه إلى الهداية والى ترك الظلم والى أداء الصلاة، وأوصه للقيام بالأمر بالمعروف، فان لم يستجب لك فاقتله.

وفي الصباح الباكر تهيأ" الملا سعيد" للسفر متوجهاً إلى "الجزيرة" ولكنه لم يجد "مصطفى پاشا" هناك، إذ علم انه موجود في مزرعته على الهضبة القريبة. صعد إلى هناك ودخل إلى خيمة الباشا.. لم يكن موجوداً فيها.. فجلس ينتظره ويلتقط أنفاسه فقد تعب في ذلك اليوم، وبدأ يتسامر مع الموجودين في الخيمة، الذين طرقت أسماعهم شهرته.

بعد قليل حضر الباشا فهبّ الجميع وقوفاً سوى"الملا سعيد" ولم يخفَ ذلك عن نظر الباشا المغرور الذي ساوره شعور بالدهشة وبالغضب.

وعندما جلس سأل أحد رفقائه:

- من يكون هذا الشاب؟

- انه " الملا سعيد" المشهور يا سيدي

حاول الباشا كظم غيظه وهو ينظر إلى "الملا سعيد" ويسأله:

-        لماذا أتيت إلى هنا؟

-        فأجابه بثقة واطمئنان:

-- جئت لأدعوك إلى الهداية.. عليك أن تترك الظلم وان تبدأ بأداء الصلاة.

-ازدادت دهشة الباشا وحدّته، إذ لم يتجرأ أحد على مخاطبته بهذا الأسلوب، فقال ورنة الغضب تشوب صوته:

-- فإن لم أفعل ما تقول؟

-بنفس الثقة والاطمئنان أجابه:

-- سأقتلك.

خيّم صمت ثقيل على الجالسين، وأيقن أكثرهم بأن نهاية هذا العالم الشاب المشهور قد دنت، أما الباشا فكان لا يصدق سمعه.. وبجهد كبير استطاع أن يتمالك نفسه، ولكنه لم يتحمل الجلوس فاندفع خارج الخيمة، وبعد أن تجول قليلاً وسكنت حدته رجع إلى الخيمة، وكرر سؤاله السابق وكأنه لم يصدق الإجابة التي تلقاها منه.

- لماذا أتيت إلى هنا؟

- لقد ذكرت لك سابقاً سبب مجيئي.

أشار الباشا إلى سيف " الملا سعيد" المعلق على عماد الخيمة، وقال ساخراً:

- أتقتلني بهذا السيف القذر؟

فتلقى هذا الجواب القاطع كحد الحسام:

- السيف لا يقطع.. اليد هي التي تقطع.

مرة أخرى خرج مصطفى باشا من الخيمة وهو يفور من الغضب.. لم يكن حتى الآن قد مدّ يده بالسوء إلى أي عالم دين، ولكن ها هو هذا العالم الشباب يكاد يجبره على أن يغمس يديه بدم عالم ديني.. والمشكلة انه لم يكن عالماً دينياً اعتيادياً، بل عالماً مشهوراً بدأ الناس يتكلمون عنه بإعجاب وتقدير وليس من البعيد أن يكنّ الكثير من رجاله واتباعه الحب والاحترام له، أي إن قتله سيثير ضده متاعب كبيرة.

بعد برهة رجع إلى الخيمة بعد أن استقر رأيه على عرض معين يتقدم به إليه.

قال له:

-        إن لي علماء في منطقة "جزيرة ابن عمر" وسأهيئ مناظرة بينهم وبينك، فان استطعت أن تغلبهم فيها فعلت ما قلته لي، أما إذا لم تستطع ذلك فسألقيك في النهر.

-        توجهت الأنظار والأسماع إلى العالم الشاب منتظرين الرد بفارغ الصبر.

-قال له:

-        إنني لا أملك حق الادعاء بأنني سأغلب العلماء جميعاً، كما انك لا تملك حق إلقائي في النهر، فان استطعت أن أجيب جميع هؤلاء العلماء فإنني أطلب منك إعطائي بندقية "ماوزر" لأنني سأقوم بقتلك بتلك البندقية إن لم تحافظ على وعدك.

وهكذا تأجل الموضوع حتى انعقاد المناظرة.

نـزل الجميع من المزرعة إلى المدينة.. إلى خان "باني" الأثرى على ضفاف دجلة حيث ستجري المناظرة فيه، وأرسل الباشا رجاله إلى علماء المدينة المعروفين يعلمهم بالموضوع ويطلب منهم التهيؤ واختيار أصعب الأسئلة ثم الحضور للمناظرة..

كان الباشا في عجلة من أمره، إذ كان يريد تلقين هذا الشاب درساً لا ينساه، ذلك لأن هزيمته أمام العلماء سيقلل من قيمته واحترامه أمام الناس فيسهل عليه إيقاع العقوبة به بعد أن ينـزع منه هالة الشهرة.

 أما "  الملا سعيد" فقد طلب أن يخصص له مكان للنوم، فقد كان مرهقا من السفر، وفعلاً استغرق في نوم عميق حال استلقائه على الفراش، واثقاً بنفسه غير آبه بشيء رغم أن حياته كانت تبدو معلقة بنتيجة هذه المناظرة، وبينما كان العلماء يقلبون الكتب ويختارون أصعب الأسئلة لم يخطر بباله قط أن يلقي نظرة على أي كتاب كان، بل استغرق في نوم هادئ.

بعد عدة ساعات عندما فتح عينيه قيل له أن المجلس منعقد والعلماء حاضرون والباشا بانتظاره.

دخل "الملا سعيد" المجلس وسلم على الحاضرين، ثم جلس، وبدأت أقداح الشاي تدور على الحاضرين، ولكن العلماء كانوا في شغل عن الشاي، إذ كانوا يقلبون صفحات الكتب ويتحدث بعضهم همساً مع البعض الآخر. أما صاحبنا العالم الشاب فقد جلس يشرب شايه وينتظر الأسئلة، ثم تناول مازحاً قدح شاي أحدهم وشربه ثم قدح الآخر، وهكذا شرب أقداح شاي لثلاثة أو أربعة من العلماء المشغولين بالنظر في الكتب.

كان مصطفى باشا يراقب مجرى الأمور، وعندما لاحظ مدى هدوء هذا العالم الشاب، ومدى قلق العلماء قال لهم:

-أيها السادة! إنني لست شخصاً متعلماً، ولكني أرى من الآن أنكم ستغلبون أمام "  الملا سعيد" ذلك لأنني لاحظت أنكم لكثرة انشغالكم في التفكير نسيتم حتى شرب شايكم بينما شرب "الملا سعيد" شايه ثم ثلاثة أو أربعة أقداح من شايكم.

كان العلماء قلقين، إذ كانوا يخشون أن يوجه إليهم هذا العالم الذي سمعوا عن شهرته الكثير سؤالاً أو أسئلة لا يستطيعون الإجابة عنها. ولكن " الملا سعيد" طمأنهم، إذ قال لهم:

- "أيها السادة! لقد سبق وان وعدت بألاّ أطرح أي سؤال كان. ولكني حاضر للإجابة عن أي سؤال تسألونه".

شعر العلماء براحة كبيرة عقب هذا الكلام فاقبلوا بطرح أسئلتهم التي اختاروها بدقة من بطون كتبهم، وقد بلغ مجموع أسئلتهم ما يقارب أربعين سؤالاً، أجاب عنها "  الملا سعيد" بطلاقة ودون أي تردد، ولكنه أخطأ في جواب أحد الأسئلة ولم ينتبهوا لذلك إذ وافقوا على إجابته، ولكنه عندما انفض المجلس، وبدأوا بالخروج تذكر الجواب الصحيح فاستوقفهم قائلاً لهم:

- عذراً أيها السادة، لقد سهوت في جواب السؤال الفلاني،والجواب الصحيح هو كذا وكذا" فوافقوه وهم مذهولون، وطلب منه بعضهم إلقاء الدروس عليهم. أما مصطفى باشا فقد وفى بوعده وأهداه بندقية "ماوزر" وبدأ بأداء الصلاة وبالمعاملة الحسنة. غير انه عاد بعد فترة إلى عادته القديمة.([29])

 في مدينة ماردين

في سنة 1892م نرى "  الملا سعيد" في مدينة "ماردين". وهناك ذاعت شهرته وأصبح الناس يتحدثون عنه إلى درجة أن " نادر بك" متصرف تلك المدينة خشي أن يتطور الوضع إلى مالا تحمد عقباه فأمر بإخراج "سعيد المشهور" من المدينة، فذهب إلى مدينة "بتليس" الذي كان "عمر پاشا" والياً عليها.

كان هذا الوالي واسع الاطلاع محباً للعلم وللعلماء يملك في بيته مكتبة ضخمة حافلة بكل أصناف العلم، وعندما علم بقدوم " سعيد المشهور" إلى مدينته استدعاه إليه.

منذ اللقاء الأول أعجب الوالي به وبعلمه. وانِستْ نفسُه إليه، وعلم انه أمام شخص نادر، فعرض عليه أن يقيم في غرفة في قصره الكبير، وقد رفض "سعيد المشهور" هذا العرض أول الأمر، إلاّ أن الوالي ألحّ عليه كثيراً وذكر له بأن مكتبته العامرة ستكون تحت تصرفه،وأخيراً وبعد طول إلحاح ورجاء قبل ذلك.

بقي في دار الوالي مدة سنتين استطاع فيها مطالعة أمهات الكتب في المنطق وعلم الكلام، وفي التفسير والحديث والنحو والفقه.. الخ ولقدرته الفائقة في الحفظ فقد اختار ثمانين كتاباً من هذه الكتب وحفظها عن ظهر قلب، وكان يراجع في نفسه هذه الكتب ويختمها كل ثلاثة أشهر.([30])


الفصل الثاني

 بديع الزمان

"لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها"

سعيد النورسي

 في مدينة "وان"

في سنة 1894م وصلت  إليه دعوة من " حسن باشا" والي "وان" يدعوه إليه، حيث بقي عنده بإصرار وإلحاح منه،  لكن ما أن سمع "طاهر باشا" بقدوم هذا العالم المشهور حتى ذهب  إليه ورجاه أن يقيم عنده، فقد كان " طاهر باشا" يملك مكتبة كبيرة تحوي كتب العلوم الحديثة، كالفيزياء والجيولوجيا والرياضيات.. الخ علاوة على الكتب الإسلامية، كما كان يملك مختبراً علمياً في قصره فقد كان شغوفاً بالعلم وواسع الاطلاع، وكان مجلسه ملتقى العلماء، فقبل ذلك.

في هذا المنـزل تيسرت له لأول مرة كتب العلوم الحديثة فأقبل على قراءتها بشغف وباهتمام، وكان السبب المباشر لذلك دخوله مرة في نقاش علمي مع أحد أساتذة المدارس، إذ علم آنذاك قصور باعه في هذه العلوم، لذا فقد انكب على هذه العلوم وأحاط بأسسها بل ألف كتاباً في هذه الفترة عن الرياضيات، ولكن هذا الكتاب أصبح طعمة للنيران في حادثة حريق. لذا فانه كان يستطيع تناول جميع المواضيع العلمية - وليست الدينية فقط - في المجالس التي كانت تعقد في قصر "طاهر باشا" أوفي المجالس الأخرى ويجيب عن جميع الأسئلة الموجهة إليه، فزادت شهرته لتعدد مواهبه ولذكائه الخارق وقوة ذاكرته حتى أطلق عليه لقب "بديع الزمان"([31]).

استقر"بديع الزمان" في مدينة "وان" سنوات عدة، قضاها في إرشاد الناس وفي تدريس الطلاب، وكانت له طريقة تدريس خاصة تختلف عن طرق التدريس التي كانت متبعة آنذاك في المدارس الدينية، إذ كان يدرس بروح العصر الجديد ويستخدم العلوم الحديثة في تقوية براهينه ويوصل معلوماته إلى تلاميذه بطرق سهلة متجنباً الطرق المعقدة القديمة في التدريس.

كان "بديع الزمان" يشاهد عدم جدوى الطرق القديمة المتبعة في المدارس الدينية أو في حلقات العلماء ويرى كيف أن الطلاب لا يتزودون من العلوم الحديثة شيئاً فيأسف ويغتم لذلك، فاقتنع بأن الخطوة الأولى للإصلاح يجب أن تبدأ بإصلاح نظام التعليم. إذ كان يرى أن المدارس الحكومية الاعتيادية تدرس القوانين العلمية دون التأكيد على أنها نواميس إلهية، وان المدارس الدينية تدرّس العلوم الدينية دون الإشارة إلى العلوم الحديثة، لذا فالإصلاح يبدأ من قيام المدارس الحكومية بتدريس الدين بجانب العلم لكي لا ينحرف الطلاب إلى الشك والى الإلحاد، وقيام المدارس الدينية بتدريس العلوم الحديثة لكي لا ينحرف طلابها إلى التعصب أو إلى ضيق الأفق، لذا أصبح  إنشاء جامعة إسلامية تجمع بين تدريس الدين وتدريس العلوم الحديثة مطمحه وأمله، وكان يريد  إنشاء هذه الجامعة في شرقي الأناضول في "وان" أوفي "ديار بكر" باسم "مدرسة الزهراء" لتكون شقيقة للجامع الأزهر في مصر.([32])

وانشغل في هذه الفترة أيضاً في السعي للصلح بين القبائل هناك، إذ كانت هذه القبائل في نـزاعات مستمرة بعضها مع البعض الآخر، مما كان يؤدي إلى إراقة الدماء والى انتشار العداوة والبغضاء بينها لمدة سنين عديدة، وكانت الإدارة العثمانية تحاول إجراء الصلح بين هذه القبائل بوساطة المسؤولين، إلاّ أنها كانت تخفق في حالات عديدة، ولكن " بديع الزمان" كان يستطيع بما له من محبة وتوقير لدى نفوس أبناء القبائل ورؤسائها أن ينجح في إزالة الخصومات وإرساء الصلح والتفاهم بينها.([33])

في أثناء إقامته في "وان" كان يتتبع مع طاهر باشا الأخبار التي تنشرها الجرائد، وفي أحد الأيام ناوله الباشا إحدى الجرائد مشيراً إلى خبر مثير هزه من الأعماق هزاً عنيفاً، إذ نشرت هذه الجريدة ما قاله وزير المستعمرات البريطانية " غلادستون"([34]) في مجلس النواب البريطاني وهو يحمل في يده مصحفاً:

"ما دام هذا القرآن موجوداً في يد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، فإما أن نأخذه من يد المسلمين أو نقطع صلته بهم".

وتجاه هذا التصريح الوقح والمعادي لمشاعر المسلمين والذي يبين فيه المستعمرون نياتهم وخططهم في الطرق التي تكفل  لهم الاستمرار في استعمار وامتصاص دماء الشعوب الإسلامية فقد  ثارت ثائرة "بديع الزمان" وأعطى عهداً بأن يكرس حياته لإظهار إعجاز القرآن للعالم أجمع وقال:"لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها".([35])

وقد قوى هذا الخبر من عزمه على  إنشاء "مدرسة الزهراء" التي يستطيع من خلالها وبوساطتها تحقيق هذا العهد وهذا الوعد، فتهيأ للسفر إلى استانبول لعله يستطيع أن يقابل المسؤولين هناك ويقنعهم بضرورة  إنشاء هذه الجامعة وأهميتها.

 

 "بديع الزمان" في استانبول 1896م

توجه "بديع الزمان" إلى استانبول حاملاً في قلبه أمل  إنشاء جامعة إسلامية بنظام تدريس حديث، وحاملاً في جيبه رسالة توصية من " يحيى نـزهت باشا" إلى أحد الأشخاص القريبين من السلطان عبد الحميد الثاني.

قضى "بديع الزمان" سنة ونصف السنة تقريباً في استانبول ثم رجع إلى "وان"، والظاهر انه لم ينجح في مسعاه لدى المسؤولين في استانبول.

وبعد إحدى عشرة سنة، أي في سنة 1907 عاد مرة ثانية إلى استانبول يحدوه الأمل نفسه، وهو أمل  إنشاء مدرسة الزهراء، وسكن في خان شكرجى - أي في فندق شكرجي- في منطقة "فاتح" بالقرب من جامع "فاتح"، الذي بناه محمد الفاتح . وكان هذا الخان مقر كثير من الأدباء وملتقى المفكرين المعروفين آنذاك في استانبول من أمثال الشاعر "محمد عاكف"([36]) واللغوي المعروف الأستاذ جلال، والعالم الفلكي الأستاذ فطين وغيرهم.

وفي أثناء إقامته في هذا الخان علّق لوحة على بابه كتب فيها "هنا تحّل كل معضلة ويجاب عن كل سؤال من دون توجيه سؤال لأحد([37]). ولا شك أن مثل هذا الإعلان كان تحدياً غريباً غير مألوف وإعلاناً مثيراً يجلب  الانتباه والفضول. فبدأ الناس وطلاب المدارس والعلماء يتقاطرون عليه ما بين مصدق ومكذب، ولكن الجميع كانوا يخرجون من عنده بانطباع واحد لا يختلف كثيراً وهو أن هذا الشخص عالم غريب نادر لم يروا له شبيهاً من قبل.

يقول السيد " حسن فهمي باش اوغلو" الذي اصبح فيما بعد عضواً في هيئة الاستشارة للشؤون الدينية في تركيا.([38])

عندما كنت طالباً في " مدرسة فاتح" زمن المشروطية([39]) سمعنا بقدوم شاب إلى استانبول اسمه "بديع الزمان" علق لوحة على باب غرفته في الخان الذي يقيم فيه كتب فيها هنا تحلّ كل معضلة ويجاب عن كل سؤال من دون توجيه سؤال لأحد. وقد خطر ببالي أن صاحب مثل هذا الادعاء لا بد أن يكون  مجنوناً، ولكن كثرة الثناء والمديح المتكرر الذي بدأت اسمعه من الناس ومن الطلبة ومن العلماء الذين قاموا بزيارته أثارت في نفسي رغبة كبيرة لزيارته، فقررت أن أختار أصعب الأسئلة لأدق المسائل لأطرحها عليه، وكنت آنذاك أعدّ من الطلبة المتفوقين في المدرسة. وفي مساء أحد الأيام تهيأت واخترت من علوم العقائد أدق المواضيع التي تحتاج الإجابة عليها إلى عدة كتب، وذهبت  إليه في اليوم التالي ووجهت  إليه تلك الأسئلة فكانت أجوبته خارقة ومدهشة وعجيبة فكأنه كان معي يدقق الكتب البارحة لأن أجوبته كانت تامة وكاملة. أما أنا فقد اطمأننت تماماً وعلمت علم اليقين بأن علمه ليس كسبياً كعلمنا، بل هو علم لدني، ثم أخرج لنا خارطة أوضح عليها مدى أهمية وضرورة فتح المدارس العلمية في شرقي البلاد التي كانت تدار آنذاك من قبل " الولايات الحميدية"([40]) فبين عدم كفاية هذا الطراز من الإدارة لتلك المنطقة، كما بين ضرورة إيقاظ هذه المنطقة علمياً وذلك بأسلوب مقنع، وانه لم يأت إلى استانبول الاّ من أجل تحقيق هذه الغاية وكان يقول: الدين هو ضياء القلوب، أما العلوم المدنية فهي نور العقول..([41])

ويقول الكاتب التركي " ماهر إز":

"عندما أتى "بديع الزمان" إلى استانبول كان شاباً، ويتجول بملابسه المحلية، وكان شخصاً بليغاً ماهراً في الحديث وخطيباً مفوهاً ومن أصحاب الذكاء الخارق الذي أنجبته المنطقة الشرقية للبلاد، دعا العلماء للمناظرة وتحداهم جميعاً لأنه كان واثقاً من نفسه".([42])

ويسرد السيد " علي همت بركي" وهو من رؤساء محكمة التمييز السابقين ذكرياته حول وصول "بديع الزمان" إلى استانبول فيقول:

كنت آنذاك طالباً في مدرسة القضاة أي كلية الحقوق عندما انتشرت إشاعة تقول أن شخصاً اسمه " بديع الزمان"  ذا قيافة غريبة جاء من شرقي البلاد وانه يجيب عن أي سؤال كان يوجه إليه، فشعرنا بفضول كبير وذهبنا لرؤيته.. كان جالساً يتناول بالتفنيد والدحض الفلسفة السوفسطائية بأدلة عقلية ومنطقية.. كان جديراً فعلاً بلقب "بديع الزمان" إذ لم يكن هناك حد لمعلوماته في الفلسفة الإسلامية أي في علم الكلام وفي علم اللغة".([43])

ومن الذين زاروه بعد أن سمعوا بشهرته هو العالم الفاضل "حسن أفندي" الذي قضى عمره المديد 90 عاماً في التدريس ولم يغب يوماً عن تدريس طلابه الاّ يوماً واحداً وهو اليوم الذي قرر فيه زيارة " بديع الزمان" إذ قال لطلابه: لن أحضر درس هذا اليوم لأن عالماً يلقب بـ"بديع الزمان" جاءنا من شرقي البلاد وأنا ذاهب الآن لزيارته.

وفي اليوم التالي عندما حضر للتدريس قال لطلابه عنه: لم يشاهد أحد مثله، فهو من نوادر الخلق.([44])

ويأتيه شخص كان يلقب بـ" الدهري"([45]) معروف بنقاشه المستمر مع العلماء ومحاولة إحراجهم بأسئلته، وبدأ  يطرح أسئلته سؤلاً إثر سؤال، وبدأ يتلقى عن كل سؤالٍ جواباً مقنعاً حتى نفدت جعبته من الأسئلة فأسرع يريد الخروج من عنده لأنه خشي أن يطرح " بديع الزمان" سؤالاً عليه، وقبل أن يصل الباب سأله: " ولكنك يا أخي لم تذكر لي أأنت طالب أم أستاذ؟" فأجابه مسرعاً :"إنني طالب يا سيدي".([46])

 

 بديع الزمان يحاول مقابلة السلطان

لما كان " بديع الزمان" عاش مشكلة المنطقة الشرقية للبلد فانه تقدم بطلب لمقابلة السلطان عبد الحميد الثاني. وهنا تختلف الروايات، فرواية تذكر انه قابل السلطان نفسه ورواية أخرى تقول أن السلطان أناب أحد أعوانه الكبار لمقابلته : وهذه هي الرواية الأرجح : وأياً كانت الحقيقة فقد شرح بديع الزمان في هذه المقابلة مشكلة هذه المنطقة التي تعاني من الفقر والجهل وقلة الخدمات حيث قال:

"مع أن الدولة على علم بأحوال أهالي المنطقة الشرقية الذين يُعّدون جزءاً مهماً من الأمة العثمانية، إلاّ أنني أرجو مع ذلك السماح لي بتقديم بعض الآراء و المطاليب التي هي ضمن الواجب العلمي المقدس".

ثم يستمر:

"نعم، لقد تم فتح بعض المدارس في شرقي الأناضول، ولكن لا يستفيد من العلوم التي تدرس في هذه المدارس سوى الطلاب الذين يعرفون اللغة التركية أما الذين لا يعرفون التركية فلا يجدون أمامهم سوى الانخراط  في المدارس الدينية. ولعدم معرفة معلمي هذه المدارس اللغات المحلية فان الأطفال يبقون محرومين من الدراسة والتعليم، وهذا يؤدي إلى زيادة الجهل والى زيادة القلاقل، وهذا يشغل أذهان ذوي الغيرة".

ولتلافي هذا النقص فقد اقترح "بديع الزمان" قيام الحكومة بفتح مدارس في أماكن مختلفة من شرقي الأناضول مثلاً في "بتليس" و"وان" و" سعرد"، وتعليم  خمسين طالباً في كل مدرسة على حسابها، على أن تدرس المواد العلمية في هذه المدارس جنباً إلى جنب مع العلوم الدينية.

وهكذا يتم إرساء أسس المعارف التي ستؤدي إلى تقوية الوحدة. وبذلك فبدلاً من توجيه القوة المادية والمعنوية لهذا العنصر المهم في هذه البلدان إلى الخارج، فان هذه القوة ستكون في يد الحكومة لاستعمالها من أجل الدين والوطن، ويتيسر لأهالي هذه المنطقة السبيل لإظهار قابليتهم الفطرية واستعدادهم للمدنية.([47])

في هذه الأثناء كان السائح التركي والعالم المشهور عبد الرشيد إبراهيم([48]) موجوداً في استانبول، وكان الروس قد نفوه مع موسى جار الله([49]) لنشاطهما الجم سنة 1904 فالتجآ إلى اليابان وهناك أبديا نشاطاً كبيراً في نشر  الإسلام وأسّسا هناك جمعية " آسيا الكبرى"، ثم زار "عبد الرشيد إبراهيم" الصين وشاهد الحالة السيئة للمسلمين هناك وضرورة وجود علماء  مسلمين بالعدد الكافي لارشاد هؤلاء المساكين والحفاظ على دينهم من الضياع، لذا حضر إلى استانبول مستنجداً بالسلطان عبد الحميد الثاني وقد اهتم السلطان بهذا العالم وبالمشكلة التي يطرحها، فقد استدعى  إليه شيخ  الإسلام "جمال الدين" وحوّل  إليه الطلب طالباً منه أن يعمل ما بوسعه في ذلك المجال.

ثم قال بديع الزمان في هذه المقابلة وهو يشير إلى موضوع طلب "عبد الرشيد إبراهيم" وهو لا يدري أن السلطان قد أمر بإجراء ما يلزم:

"إن مقام الخلافة لا ينحصر في إقامة شعائر صلاة الجمعة، فكما أن للخلافة قدرة وقوة معنوية فيجب أن تكون لها القدرة المادية التي تكفل مصالح الأمة المحمدية في أقطار الأرض جميعاًِ.

إن "عبد الرشيد إبراهيم" مجاهد كبير في سبيل هذا الدين المبين وان عدم إجابة طلبه ذنب عظيم. فإذا كان مقام المشيخة عاجزاً فهناك في هذا البلد ولله الحمد من أرباب الدين من هو مستعد للتضحية بنفسه في هذا الميدان، فلماذا لم يعلن طلبه هذا في جميع أرجاء المملكة العثمانية؟"([50])

ثم حوّل حديثه إلى نظام الحكم قائلاً:

"لا استبداد في الإسلام، فما يصدر حول فرد من الأفراد من قرار  يجب أن يصدر بعد استكمال جميع مراحل المحاكم التي يجب أن تكون علنية وضمن العدالة الشرعية، وليس من  الجائز صدور القرار من قبل أشخاص غير معروفين ونتيجة دسائس معينة واعتماداً على تقارير سرية" ([51])

وقد أثارت أقوال بديع الزمان هذه شكوك السلطات، أكان هذا الشخص أحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي؟([52]) هذه الجمعية التي كانت آنذاك في نشاط محموم ضده بدعم من الدول الأجنبية كانگلترة وفرنسا، أم هو أحد زعماء عشيرة كردية تتهيأ لإثارة القلاقل في شرقي البلاد؟ لذا فقد أحيل إلى التحقيق.

نستطيع أن نلخص مطاليب "بديع الزمان" بما يأتي:

١-  الاهتمام بالمنطقة الشرقية وفتح المدارس فيها وتوفير الخدمات وإيصال أسباب المدنية إليها.

٢- إجابة طلب المجاهد " عبد الرشيد إبراهيم".

٣-  الابتعاد عن نظام الاستبداد وعدم الاعتماد على تقارير المخبرين السريين.

بالنسبة للمطلب الأول فلا شك أن مناطق كثيرة في الدولة العثمانية كانت تشكو من الإهمال والفقر والجهل، فقد تسلم السلطان عبد الحميد دولة على وشك  التفكك والانهيار غارقة في ديون لا تكفي مواردها المالية لإيفائها ودفع فوائدها خاصة بعد الحرب الروسية- التركية المنهكة وما تبعتها من وجوب قيام الدولة العثمانية  بدفع تعويضات حرب كبيرة لروسيا، مما زاد من مشاكلها وأعبائها المالية حتى لم تجد الدولة العثمانية مناصاً من تخصيص كثير من مواردها المالية لدفع هذه الديون مثل الملح والتبغ... بل بلغ الضيق الاقتصادي إلى حد أن الدولة أصبحت مضطرة في بعض المرات إلى تأخير دفع مرتبات موظفيها.

وقد كان السلطان عبد الحميد على وعي كامل بخطورة هذه الديون الدولية التي اقترضها أسلافه، وأنها طوق على عنق الدولة العثمانية وحجة في التدخل في شؤونها الداخلية، لذا نراه يهتم اهتماماً خاصاً بدفع هذه الديون وتخليص رقبة الدولة من هذا القيد، وفي أثناء حكمه الطويل الذي دام أكثر من ثلاث وثلاثين سنة دفع معظم هذه الديون، لذا كان من الطبيعي أن يعجز عن مدّ يد التعمير إلى أجزاء كثيرة من الممالك العثمانية التي أصبحت خراباً من طول الإهمال السابق، مع انه قام بحركة تعمير على قدر استطاعته. فمدّ السكك الحديد في الجهات الاستراتيجية من المملكة كخط سكك حديد الحجاز، وانشأ جميع الكليات الضرورية مثلاً كلية الطب والهندسة...،وانشأ المئات من المدارس الابتدائية والصناعية...الخ ([53])

ولكن هذه الحركة العمرانية والعلمية كانت أقل من الحاجة الفعلية للبلاد فبقيت مناطق كثيرة تشكو الفقر والإهمال مثل شرقي الأناضول التي تتألف من مناطق جبلية وعرة والتي تكلف  إنشاء طريق واحد فيها أو مد خط سكة حديد إليها أضعاف كلفة الطريق أو السكة الحديد في المناطق الأخرى غير الجبلية، ولهذا السبب - مع أسباب أخرى- نرى أن هذه المنطقة لا تزال حتى الآن وبعد انقضاء أكثر من ثلاثة أرباع القرن متخلفة من ناحية الخدمات عن المناطق الأخرى.

أما بالنسبة لطلب المجاهد "عبد الرشيد إبراهيم" فان السلطان لم يهمله بل استدعى  إليه شيخ  الإسلام جمال الدين أفندي وكلفه بمتابعة الموضوع وبذل المساعدة على قدر الاستطاعة.

أما بالنسبة لنظام الحكم الذي وصفه "بديع الزمان" بأنه استبدادي فذلك أيضاً يحتاج إلى شرح موجز حيث يستطيع  من يرغب في التفاصيل مراجعة كتابنا المذكور سابقاً.

نظام حكم السلطان عبد الحميد الثاني - الذي ورثه عن أسلافه -كان دون شك نظام حكم فردي، وقد اضطر إلى الاستمرار في ذلك  اضطراراً في تلك الظروف. ذلك لأن الدولة العثمانية التي كانت تحيط بها دول قوية طامعة، كانت تتألف من قوميات وعناصر وأديان ولغات ومذاهب مختلفة مما كانت تشكل مجالاً خصباً لتدخل الدول الأخرى في شؤونها الداخلية وذلك بإثارة هذه العناصر والقوميات، لذا فان التجربة الأولى التي تمت في أوائل حكم السلطان عبد الحميد الثاني للحياة النيابية سنة 1876م أخفقت تماماً واستغلت ضد الدولة العثمانية إذ تم جرّها بمؤامرة شارك فيها نواب الأقليات غير المسلمة إلى حرب ضروس مع روسيا أنهكتها تماما؛ لذا فان الوضع لم يكن ملائماً لوضع شكل نيابي ديمقراطي للحكم فيه، ولم يكن مستوى البلد من النضج بحيث ينجح مثل هذا الشكل من الحكم. وقد أثبتت الأيام عدم إمكانية تطبيق هذا النوع من الحكم حتى من قبل دعاته وأنصاره من جمعية الاتحاد والترقي، الذين أسسوا عندما جاءوا إلى الحكم دكتاتورية حزبية كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وعندما جاء "مصطفى كمال" إلى الحكم استمر الحكم الحقيقي فردياً ولم يكن المجلس النيابي الاّ مظهراً خادعاً إذ لم يكن يملك من أمره شيئاً تجاه رغبة الحاكم الفرد، واستمر هذا الوضع حتى سنة 1950 عندما وصل الحزب الديمقراطي إلى الحكم  حيث تأسس نوع من الديمقراطية ولكن الجيش بدأ يتدخل في الحياة السياسية بين فترة وأخرى حيث قام بعدة انقلابات عسكرية كان آخرها في سنة 1980.. أي انه رغم مرور ما يزيد على قرن كامل منذ تولي السلطان عبد الحميد الحكم وفي بلد صغير –تركيا- نسبة إلى الإمبراطورية العثمانية ومتجانس بشكل كبير فان تأسيس حكم ديمقراطي لم يكن سهلاً أبداً ولم يتم بشكله المشاهد في كثير من الدول الأوربية، ويكفي إلقاء نظرة واحدة على أنماط الحكم في دول العالم الثالث لمعرفة مدى بعدها عن الحكم الديمقراطي رغم دخولها في القرن الحادي والعشرين.

إذن فان مطالبة السلطان عبد الحميد في تلك الفترة وفي ظروفه تلك وفي دولته الواسعة والضعيفة والمؤلفة من عناصر وقوميات وأديان ومذاهب مختلفة ومعادية بعضها للبعض الآخر في أحيان كثيرة بإرساء حكم نيابي وديمقراطي صحيح مطالبة بما لا يستطاع رغم انه مطلب حق بحد ذاته، لذلك نرى السلطان يقول للبروفسور ارمينوس دامپرى أستاذ اللغة ورئيس جامعة پوادبست في أوائل سلطنته.

"إن الأفكار الليبرالية انتشرت وترسخت في أوروبا بشكل تدريجي وطوال عدة عصور، وهنا في بلدي يطالبونني أن أزرع هذه الأفكار في تربة آسيا الصلبة، المحرومة من المطر، علماً بأن هذه التربة غير ملائمة لهذا النبات حالياً، إني احتاج إلى مهلة لكي أزيل الصخور والأشواك وأقلب  التراب وأسقيه، عند ذلك يمكن لهذه النبتة الجديدة في هذا البلد أن تنمو وتنتشر دون ضرر وصدقني بأنني سأكون وقت ذاك أول السعداء لانتشارها وقوتها".([54])

وفي السنوات الأخيرة من حكمه([55]) حمل السلطان عبد الحميد أملاً في أن الفترة الماضية أي بعد ما يزيد عن ثلاثين سنة كافية وان من الممكن إدخال النظام الدستوري إلى البلد، لذا نراه يدرس القوانين والدساتير لمختلف الدول ويكلف المسؤولين بذلك تمهيداً لاختيار ما يتفق منها مع ظروف الدولة العثمانية، إذ يذكر "تحسين باشا" رئيس كتاب قصر يلدز([56]) في كتابه "ذكريات يلدز" عن هذا الموضوع ما يأتي:

"وبدأ عبد الحميد بالتفكير في مسألة إعادة الدستور حتى انه بدأ بجلب و ترجمة الكثير من  دساتير البلدان الأوروبية، فقام مترجم المابين([57]) "ولي بك" بترجمة الدستور الألماني، وإذا كان ما سمعته صحيحاً فان عبد الحميد أصدر أوامره الخاصة لبعض الأشخاص لتهيئة مسودة دستور بعد تدقيق الدساتير الأوروبية..

".. وحسب ما سمعته فان السادة " شمس الدين سامي" و"مراد" و"إسماعيل كمال بك" كانوا من بين هؤلاء الأشخاص. وقد أرسل إسماعيل كمال بك برقية مطولة حول هذا الموضوع من پاريس  وتلقى الجواب عليها".([58])

وقد بين التاريخ أن مدة ثلاثين سنة لم تكن كافية، بل ان ذلك يتطلب أكثر من قرن من الزمان.

أما وجود المخبرين السريين فشيء لا تستغني عنه أية دولة حالياً أو سابقاً، ولا سيما الدولة العثمانية آنذاك التي كانت نظام المخابرات الانگليزية والروسية والفرنسية والدول الأخرى نشطة في تدبير المؤامرات ضد الدولة العثمانية، بل إن المخابرات الانگليزية والفرنسية  هي التي دبرت وساعدت على نجاح الانقلاب العسكري الذي تم ضد " السلطان عبد العزيز"

ولكن السلطان عبد الحميد لم يكن يعمل بالتقارير التي كانت تصل  إليه عن المواطنين ولم يظلم أحداً منهم بسببها.

يقول أمير البيان شكيب ارسلان في كتابه "سيرة ذاتية":

"وليس من الصحيح ان السلطان كان يعمل بموجب تقاريرهم([59]) كما هو شائع، بل كان يرمي أكثرها ولا يصدق ما فيها".([60])

وقد أدرك "بديع الزمان"  فيما بعد بشكل أوضح الظروف القاسية المحيطة بالسلطان وانه كان معذوراً في التهم التي كانت تكال له سابقاً، لذا نراه يتألم عند سماعه بنبأ كاتب تهجّم بقسوة على السلطان، ويقول:

"كان السلطان عبد الحميد خليفة لـستين مليوناً من المسلمين، وأنا أعدّه ولياً من أولياء الله".([61])

عندما أحيل "بديع الزمان" إلى لجنة تحقيق المحكمة العسكرية لـ"يلدز" سأله رئيسها الفريق شاكر پاشا الذي شك في أن يكون "بديع الزمان" على رأس حركة كردية انفصالية:

  -إلى أية عشيرة كردية تنتسب؟.

فأجابه " بديع الزمان"

 -وأنت إلى أية عشيرة تترية تنتسب؟.. إنني شخص عثماني، وكرديتي لم تنشأ الاّ من الاسم الذي أطلقه عليّ أهالي المنطقة التي ولدت وترعرعت فيها..

ثم كرر في هذه المحكمة أفكاره التي سبق وان طرحها أمام السلطان فذعر المدعي العام "سروري أفندي" فقاطعه قائلاً له:

 -كيف تتجاسر على مثل هذا الكلام الذي يجلب دون شك غضب سلطاننا ويوقعك تحت طائلة العقاب؟

 -إنني قلت ذلك للسلطان نفسه، فان كنت في شك من ذلك فاسأل السلطان.

فزع أعضاء المحكمة من هذا الكلام، واعتقد أحدهم وهو إسماعيل باشا الذي  كان يشغل أيضاً وظيفة المفتش العسكري العام للمدارس العسكرية بأن " بديع الزمان" لا بد أن يكون قد مسته لوثة من الجنون. لذا اقترح إرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية ليتم فحص قدرته العقلية هناك، وتم فعلاً اخذ قرار بهذا الشأن من هذه المحكمة حيث وقّع هذا القرار خمسة من الأطباء طبيب تركي وطبيب رومي وطبيب أرمني وطبيبان يهوديان.

وهكذا أرسل "بديع الزمان" إلى مستشفى الأمراض العقلية في منطقة طوب طاشي.([62])

بعد أسابيع من دخوله المستشفى حضر الطبيب المسؤول لكي يفحصه ويكتب تقريراً عن حالته العقلية، وكم كانت دهشة هذا الطبيب عندما حادثه فوجده في قمة الذكاء والعقل، فوقف أمامه مبهوتاً كما يقف التلميذ في حضرة أستاذه، مما جعله يكتب في التقرير الذي قدمه إلى الجهات الرسمية:

"لو كانت هناك ذرة من الجنون عند "بديع الزمان" إذن لما كان هناك عاقل واحد في الدنيا بأسرها".([63])

ولكن الروتين الرسمي المعقد ابتداءً من تقديم التقرير والمصادقة عليه من مراجع عديدة وحتى حصول الإذن بالخروج أخذ وقتاً طويلاً، لذا نرى ان مدة مكوثه في هذا المستشفى بلغت ثمانية أشهر. ([64])

وبعد خروجه من المستشفى اقتيد "بديع الزمان" إلى لجنة التفتيش العسكري حيث جرت المحاورة التالية بينه وبين رئيس هذه اللجنة شفيق پاشا.

شفيق پاشا: السلطان يسلم عليك، كما أمر بصرف مرتب شهري لك بمبلغ ألف قرش وعندما تعود إلى بلدك سيرتفع هذا المرتب إلى ثلاثين ليرة، كما أرسل لك مبلغ ثمانين ليرة ذهبية كمنحة سلطانية.

بديع الزمان: أنا لست متسول مرتب وان بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا الاّ من أجل بلدي وليس من أجل نفسي، ثم إن ما تحاولون تقديمه لي ليس الاّ أتاوة للسكوت.

شفيق پاشا: أنت تردّ عطايا السلطان، وهذه العطايا لا ترد.

بديع الزمان: إنني أردها لكي يتكدر السلطان ويقوم باستدعائي، عند ذلك أجد الفرصة لقول الحق عنده.

شفيق پاشا: ستكون العاقبة وخيمة.

بديع الزمان :لو كانت نتيجتها إلقائي في البحر فان البحر سيكون لي قبراً واسعاً، وان تم إعدامي فسأرقد في ضمير الأمة. علماً بأنني عندما حضرت إلى استانبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا لكم. وأنا أعني ما أقول، لأنني أريد تنبيه مواطني وذلك خدمة للدولة التي انتسب إليها وليس من أجل جني مرتّب . ثم ان الخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة الاّ بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها الاّ عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، وهذه لا تكون إلا عندما تكون دون مقابل وبعيدة عن المنافع الشخصية، لذا فإنني معذور عندما أرفض هذا المرتب.

شفيق باشا: إن اقتراحك بنشر المعارف والعلوم في بلدك هو الآن موضع دراسة في مجلس الوزراء.

بديع الزمان: إذن فلماذا أجّل بحث المعارف واستعجل في المرتب؟ وعلى أي أساس تم هذا ؟ لماذا تفضلون المنافع الشخصية على المنافع العامة ؟.([65])

ومع هذا الحوار الغاضب والصريح والنقد اللاذع للحكومة فقد تم إطلاق سراحه.   

 

بديع الزمان في "سلانيك"

قبيل إعلان المشروطية الثانية في 23 تموز عام 1908 ذهب "بديع الزمان" إلى مدينة "سلانيك" التي كانت آنذاك المركز الرئيسي لنشاط جمعية " الاتحاد والترقي" السرية والمناهضة لحكم السلطان عبد الحميد، وقد اتصل زعماء هذه الجمعية به، ذلك لأن شعارهم المعلن:الحرية، الاخوة،المساواة كان في خطٍ موازٍ مع أفكاره حول "الشورى" وحول الاخوة الإسلامية، والعدالة الإسلامية التي لا تميز بين الفقير والغني وبين القوي والضعيف.

وكان "بديع الزمان" يؤكد آنذاك علي مبدأ الشورى بشكل خاص، ذلك علاوة على انه مبدأ إسلامي واضح فان التأكيد عليه آنذاك كان ضرورياً لرد اتهامات مفكري وأحزاب وصحافة الغرب بأن النظام الدكتاتوري والنظام الفردي نتيجتان طبيعيتان للدين الإسلامي الذي ينظر إلى الخليفة وكأنه " ظل الله في الأرض" حسب تعبيرهم. فكان تكرار "بديع الزمان" على أن  الإسلام يؤكد على الشورى يميّزه عن بقية علماء الدين الذين كانوا نادراً ما يشيرون إلى هذا الركن من أركان النظام الإسلامي في الحكم تجنباً من الخوض في أمر قد يجلب لهم سخط الحكومة.

وعندما أعلنت المشروطية الثانية ألقى "بديع الزمان" خطبة شهيرة في ميدان الحرية في  مدينة " سلانيك" شرح فيها المفهوم الصحيح للحرية، وانها هي الحرية الشرعية، أي الحرية التي يرسم الشرع حدودها وليست الحرية الفوضوية التي لا ضابط لها. مؤكداً ضرورة اقتباس العلوم التي تغذي التقدم دون أخذ الجوانب السلبية في الحياة الاجتماعية للغرب . وأشار إلى أن فئات ثلاثة يتحملون قسطاً كبيراً في مسؤولية تأخر الدولة العثمانية: فئة علماء الدين، وفئة المتعلمين الذين لم يفهموا الغرب حق الفهم، وفئة أصحاب التكايا، فكل فئة منغلقة على نفسها وتتهم الآخرين بالكفر وبالجهل".([66])

في مدينة "سلانيك" أحاط أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بـ"بديع الزمان" محاولين جره إلى صفوفهم والاستفادة من شهرته ومن شعبيته، ولكنه مع تأييده لهم في بادئ الأمر فانه بقي مستقل الفكر والاتجاه، يلتقي معهم في النواحي التي يرى انهم محقون فيها ويختلف معهم في النواحي الأخرى. وقد حاول اليهودي المعروف "عمانوئيل قره صو" - العضو البارز في المحفل الماسوني والذي أدى دوراً بارزاً في خلع السلطان عبد الحميد الثاني فيما بعد - أن يجتمع به في إطار محاولات التأثير فيه ولم يمانع "بديع الزمان" في مقابلته ولكن هذا اليهودي سرعان ما قطع الاجتماع وتركه هرباً من تأثير شخصية " بديع الزمان" إذ قال وهو لا يكاد يصدق نفسه: "لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يجعلني مسلماً بحديثه"([67]).

ولكن عندما وصلت جمعية "الاتحاد والترقي" إلى الحكم وأسفرت عن وجهها الحقيقي القبيح وبدأت باغتيال معارضيها في الطرقات وبنصب حبال المشنقة تصدى لها " بديع الزمان" مندداً بها وبظلمها. وسنرى أن جمعية الاتحاد والترقي ستقبض عليه وترسله إلى محكمة عسكرية حيث لا تبقى بينه وبين المشنقة إلا خطوة واحدة.

 "بديع الزمان" مع مفتي الديار المصرية

في هذه الأثناء حضر إلى استانبول مفتي الديار المصرية وهو الشيخ "بخيت المطيعي"([68]) الذي كان عالماً معروفاً، وقد بدا للبعض  انه سيكون شيئاً طريفاً أن يقوم هذا العالم بمناظرة "بديع الزمان"، فلعله ينجح فيما لم ينجح فيه علماء استانبول فيلزمه الحجة، وعرض هذا الاقتراح على العالم المصري فلم يمانع في ذلك بل قبله، وفي ذات يوم وفي مقهى قرب جامع "ايا صوفيا"وبعد صلاة العصر انتهز العالم المصري وجود "بديع الزمان" هناك فبدأ الحديث معه فطرح عليه السؤال الآتي أمام جمع من العلماء:

- ما قولك عن الحرية الموجودة في الدولة العثمانية وعن المدنية الأوروبية؟.

فأجابه " بديع الزمان":

- إن الدولة العثمانية حبلى الآن بجنين أوروپا، وستلد يوماً حكومة مثلها. أما اوروپا فهي حاملة بالإسلام وستلد يوماً ما.

وقد اعجب العالم المصري بهذا الجواب الدقيق والعميق، والتفت ليقول لمن حوله:

    - إنني أوافق على ما قال، لأنني أحمل القناعة نفسها، ولا يمكن المناظرة مع مثل هذا الشاب، لأن مثل هذا الجواب الوجيز والبليغ خاص بـ"بديع الزمان".([69])

نشاطه في هذه الفترة:

بعد إعلان المشروطية الثانية واطلاق الحرية للصحف والمجلات في كتابة ما تشاء، نرى موجة من الفوضى الفكرية تسود الأوساط الثقافية في استانبول، فكانت أصداء المقالات التي تظهر في هذه الصحف تتردد في إنحاء الدولة العثمانية، فكل كاتب أو مفكر، أو صحفي يتوهم أن ما يكتبه ويقدمه من اقتراحات هو الدواء الناجع الذي سيشفي الدولة العثمانية من أمراضها وهو البلسم الشافي لها، ولا شك أن قسماً من هؤلاء المفكرين والكتاب كانت تدفعهم الرغبة المخلصة  في ذلك، ولكننا لا نستطيع إبداء حسن النية بالنسبة للجميع، فلا شك أن قسماً لا يستهان به من هذه الكتابات والاقتراحات والمبادئ التي طفحت بها الجرائد في تلك الفترة القلقة أملتها جهات لم تكن تريد الخير للدولة، فان كثيراً من الدول الأوروپية وعلى رأسها انگلترة وفرنسة وروسيا كانت لها مطامع في الدولة العثمانية وكانت تنفق بسخاء لتحقيق هذه المطامع، وكانت الصحف إحدى ساحات فعالياتها، كما كانت للماسونية الدولية التي حققت نجاحاً كبيراً في إيصال جمعية " الاتحاد والترقي " إلى الحكم في الدولة العثمانية أهدافاً معينة تسعى إلى تحقيقها بدأب.

وثمة ظاهرة أخرى جديدة بدت في هذه الفترة لأول مرة وهي ظهور المقالات والأفكار والكتب الإلحادية، فبعد انحسار ظل السلطان عبد الحميد الثاني الذي حارب الإلحاد في سنوات حكمه وحمل راية الجامعة الإسلامية والفكر الإسلامي خلا الميدان للمفتونين بالجانب المادي والإلحادي للفلسفة الغريبة فبدأوا بإصدار العديد من المجلات والكتب والصحف لنشر أفكارهم. من هذه المجلات مجلة "الاجتهاد" وكانت أهمها، ثم مجلة "الفلسفة" و"البيانو" و"الذكاء" ثم مجلات تخدم هذه الأفكار عن طريق الفكاهة والكاريكاتور مثل مجلة "الحمار " و"المعلوم" و "هو أيضاً".([70])

أما اشهر الكتّاب الذين ساهموا في هذا الاتجاه فهم : بهاء توفيق([71]) وعبد الله جودت([72]) وجلال نوري.([73])

ما القيمة الفكرية التي كانت تحملها هذه الكتابات الإلحادية التي ظهرت بدعتها آنذاك؟

للجواب عن هذا السؤال نقتبس الأسطر التالية من الفصل الأول من كتاب " الدين والعلمانية" ([74]) للمفكر التركي الدكتور علي فؤاد باشگيل([75]) وهو يستعرض المدارس الإلحادية فنراه يقول:

"ونحن هنا نحب أن نقف فقط على الإلحاد الذي نشأ في الغرب، ذلك لأن الإلحاد عندنا لم يكن نتيجة تفكير ذاتي مستقل وانما كان تقليداً للغرب خالياً من أي أثر ومن أي جهد فكري حر، وكانت الأقلام الملحدة التي اجتمعت حول مجلة "الاجتهاد" في السنين المصادفة لإعلان الدستور تردد فقط أفكار الفلاسفة الفرنسيين الملحدين في أواخر القرن الثاني عشر".([76])

إذن فلم يكن هؤلاء الكتّاب اصلاء في التفكير بل كانوا مجرد ناقلين ومرددين لأفكار الفلاسفة الملحدين في الغرب دون أي جهد فكري أو فكرة أصيلة من قبلهم.

وقد وجد هؤلاء الكتّاب أمامهم كتاباً آخرين يردّون عليهم وبمستوى أفضل وبأسلوب فلسفي ومنطقي وعقلي، وكان أشهر هؤلاء الكتاب احمد حلمي شاهبندر زاده([77]) وإسماعيل فنّي.([78])

أما "بديع الزمان" فلا شك انه كان في مقدمة من قاموا بردّ موجة الإلحاد والشك، ولكن ليس بأسلوب فلسفي وعقلي صرف، لأن ذلك لم يكن في متناول إدراك الجماهير، لذا نراه يبسط هذه المسائل الفلسفية بالأمثلة وبالقصص وبالحوار ويخاطب في ذلك العقول والقلوب معاً في أسلوب سهل ممتنع يفهمه الشخص العادي ويستفيد منه العالم المتبحّر كلّ حسب قدرته واستيعابه، ولا جدال في أن هذا النوع من الكتابة كان أبقى أثراً وأوسع اننشاراً وأعم فائدة من كتابات فلسفية ومنطقية صرفة باردة تخاطب العقول فقط وتنحصر ساحة تأثيرها وفائدتها في قلة قليلة من المشتغلين في ميدان الفلسفة وعلم الكلام.

لا ننسى ان نستدرك هنا فنقول ان "بديع الزمان" تفرغ لكتابة مثل هذه الكتب -وكتب غيرها كما سيأتي تفصيلها- بدءً  من سنة 1926 وهو في منفاه في "بارلا" . أما في هذه السنوات، أي السنوات التي أعقبت إعلان المشروطية في سنة 1908 فقد انشغل بكتابة المقالات الصحفية التي كان يريد منها تقويم الاتجاهات المنحرفة التي بدأت تظهر لتغيير الطابع العام للدولة ولتغيير وجهة الدولة ودفة سيرها.

فمثلاً طرحت فكرة " العلمانية" في السنة الأولى من المشروطية أي في سنة 1908 وذلك من قبل الصحفي "حسين جاهد يالجين"([79]) رئيس تحرير جريدة طنين واحد الأعضاء البارزين في جمعية "الاتحاد والترقي". فقد انتهز هذا الصحفي مناسبة تناول موضوع إصلاح المدارس الدينية والمقترحات المقدمة في هذا الخصوص، فكتب مقالة قال فيها :"انه آن الوقت لأن نفكر جدياً في اقتباس "العلمانية" حيث ان الغرب لم يتقدم الاّ عندما مزّق سيطرة الكنيسة وسيطرة رجال الدين المسيحيين".

فكتب " بديع الزمان" مقالة يرد فيها عليه ويشرح فيها أن  الإسلام ليس فيه "رجال دين" بالمفهوم الغربي المسيحي، لذا فان المقارنة باطلة وخاطئة:

"ليس في  الإسلام طبقة الرهبان، ذلك لأن النص الوارد في انه لا رهبانية في  الإسلام يشكل قاعدة رئيسة من قواعد تفكيرنا ويجب أن يكون كذلك في الواقع أيضاً. والمنطق يرفض أن نحمل النتائج الضارة الناتجة من التطبيق السيئ لهذه الفكرة وان نجعلها موضع نقاش.. لا يوجد عندنا رهبان، ولكن يوجد عندنا المرشدون والدالون على الطريق الصحيح. وليس من الجائز أبداً القيام بإجراء مقارنة بين التصوف الإسلامي وبين المذاهب المسيحية وطوائفها المختلفة، بل يستحيل ذلك. ذلك لأن  الإسلام  نظام كامل للحياة. فشريعتنا لم تدع وظائفنا التعبدية شيئاً نظرياً وأمراً منفصلاً عن الحياة بل أدمجتها ضمن هذه الحياة وضمن نظامها فان انفصلت عقائدنا تماماً عن قلب الحياة فلا يبقى هناك في أيدينا سوى شيء نظري، بينما تكفل  الإسلام للذين يفتخرون بالانتساب  إليه بوضع نظام قائم على العقل وعلى المنطق لحياتهم الدنيوية والأخروية ووضع الأحكام اللازمة لذلك.

ويخيل إلي أن خطأكم ينبع من هذه النقطة على الأخص. وعندما يكون هناك انحراف في البداية، أي من نقطة الانطلاق، فان النتائج التي يتم التوصل إليها لا تنجو أبداً من النتناقضات".([80])

واضطر " حسين جاهد" إلى كتابة رد مقتضب تراجع فيه عما قاله سابقاً  وأوّله قائلاً ؛ بأنه يؤمن بالأسس التي ذكرها "بديع الزمان" وانه يتمنى فعلاً ان يرى التطبيق العملي للحكم الإسلامي الذي ينص انه: لا رهبانية في الدين.([81])

ولكننا نرى الصحفي نفسه بعد خمس عشرة سنة تقريباً أي بعد إعلان الجمهورية التركية وهو يكرر أفكاره عن العلمانية ويدعو إليها بحرارة في جريدته طنين التي عاود إصدارها، ولكن لم يجد تجاهه أحداً تجاسر على الرد  عليه، وذكر حقيقة انه لا توجد في  الإسلام " دولة ثيوقراطية" تستند إلى التفويض الإلهي كما كانت الحال سابقاً في الحكومات المسيحية في القرون الوسطى، وكما كانت في روسيا القيصرية تحت حكم "آل رومانوف".

كما نراه - أي بديع الزمان- يرد على المقترحات التي يقدّمها الأمير محمد صباح الدين([82]) لإنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها، وتتلخص هذه الاقتراحات بتبني الإدارة اللامركزية في الدولة العثمانية واعطاء حكم ذاتي للأقليات العنصرية والقومية والدينية في الدولة العثمانية، ولكن "بديع الزمان" رأى خطراً كبيراً يكمن وراء هذه الأفكار إذ رآها بمثابة مشرحة للدولة العثمانية فضلاً عن كونها حلاً خيالياً في ذلك الوقت ولا يصد أطماع الدول الاوروپية وبدلاً من ذلك دعا إلى تقوية الوحدة الإسلامية والى الإيمان بأن الإسلام هو وحده العلاج لأنه بأحكامه العادلة يحفظ حقوق الجميع وهو رحمة للجميع ومن ضمنهم غير المسلمين.([83])

ولم يقتصر نشاطه في هذه الفترة على كتابة المقالات في الصحف المختلفة بل كان يهبّ لإطفاء نار أية فتنة كانت تندلع في تلك الفترة القلقة المضطربة، لذا نراه يهبّ لإخماد نار فتنة كادت تحدث في أحد الاجتماعات الخطابية الذي انعقد على مسرح "فرح" في منطقة "شاه زاده باشى" في استانبول بين أنصار جمعية "الاتحاد والترقي" وبين معارضيهم وكادت الفوضى التي عمت المسرح ان تنقلب إلى نـزاع دموي، فأسرع "بديع الزمان" واعتلى المنصة وخاطب بصوته الجهوري الحاضرين داعياً لهم إلى النظام والإخلاد إلى السكون أولاً ثم مذكراً إياهم بأن عليهم أن يروّضوا أنفسهم على احترام رأي المقابل واحترام حرية النقاش، وان من العار على أمة أعلنت المشروطية ألا تراعي هذا الأمر، ومذكراً إياهم برحابة صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وقيامه بالمشورة مع أصحابه. واستطاع فعلاً إقرار السكون والهدوء في ذلك  الاجتماع الذي كاد ينقلب إلى مذبحة. كما نراه يتدخل في إنهاء إضراب الحمالين الذي كاد يتطور تطوراً سيئاً. ففي ٩ رمضان سنة 1326هـ ٩ تشرين الأول 1908م أعلنت النمسا ضم  البوسنة والهرسك إليها مستفيدة في ذلك من أفول نجم السلطان الداهية عبد الحميد الثاني ومجيء ضباط شباب لا خبرة لهم بالسياسة الدولية ودقائقها  ودهاليزها.

 على اثر هذا القرار تم إعلان مقاطعة جماهيرية للبضائع النمساوية وللمخازن التي تبيع هذه البضائع، وأعلن الحمالون مقاطعتهم لتفريغ البضائع النمساوية، ولكن الأمور لم تبق محصورة في هذا المجال بل تطورت إلى حد هدد الحياة التجارية في استانبول، كما انحرفت وجهة المقاطعة إلى عصيان الحمالين لأوامر رؤسائهم رؤساء الحمالين واصبحوا يتجمعون في بعض المقاهي وفي مركز رئيسي لهم في خان عشيرة فأصبح الجو مهدداً بالانفجار، فذهب إليهم "بديع الزمان" وألقى عليهم خطبة جميلة حسب مداركهم استطاع فيها الحيلولة دون التطور السيئ للأحداث، حتى أن مفتش الشرطة العام لاستانبول قدّم شكره وتقديره لمساعيه الحميدة.([84])

كما ان المؤرخ التركي "جمال قوتاي" أورد نص خطابه هذا في أحد كتبه التاريخية.([85])

وفي 27 شباط سنة 1909 تجمع الآلاف من طلبة المدارس الدينية في منطقة "بايزيد" في استانبول للاحتجاج على القرار الصادر من وزارة الحربية  التي غيرت بعض البنود القانونية فيما يتعلق بإعفاء طلاب المدارس الدينية من أداء الخدمة العسكرية.

لنشرح هذا الموضوع باختصار:

كان طلاب المدارس الدينية معفين من أداء الخدمة العسكرية ليتمكنوا من التفرغ للدراسة الدينية. ولكن بعضهم أساء استخدام هذا الأمر فأصبحت غاية بعضهم من التسجيل في هذه المدارس ليس للتحصيل العلمي بل للتهرب من الخدمة العسكرية، لذا فقد ازداد عدد هؤلاء الطلاب ازدياداً كبيراً، فقررت وزارة الحربية إجراء امتحان لهؤلاء الطلاب فمن نجح أعفي من الخدمة العسكرية واستمر في دراسته وإلا وجبت عليه الخدمة العسكرية، وعينت الوزارة  تاريخاً محدداً للامتحان، ولكن المدة الباقية للامتحان كانت قصيرة جداً بحيث تعذر  على الطلاب الاستعداد الكافي له، مما أحنقهم فقاموا بتلك المظاهرة الاحتجاجية الصاخبة التي كان من الممكن ان تتطور تطوراً سيئاً وان يحدث صدام مع  قوات الحكومة، ولكن "بديع الزمان" أسرع إلى الطلاب وألقى عليهم كلمة مناسبة ساعدت على تلطيف الجو وتسكين الحدة وتفريق المظاهرة بهدوء ولكن هذه المشاكل لم تكن تعد شيئاً لما تخبئه الأيام.. فقد كانت الفتن كقطع الليل المدلهم على وشك الهبوب..

وكان من قدر " بديع الزمان" أن يقف في وجه هذه الفتن وان يقضي حياته كلها في هذه السبيل.

 

 جمعية الاتحاد المحمدي

في 5 نيسان 1909م قام "سهيل باشا" و"محمد صادق" و"الفريق رضا باشا" و" الدرويش وحدتي" مع آخرين بتشكيل جمعية "الاتحاد المحمدي" في استانبول وأعلن عن تشكيلها  بعد اجتماع ديني حاشد لم تر استانبول مثيلاً له في جامع "آيا صوفيا".

كانت هذه الجمعية رد فعل للمخاوف التي بدأت  تسري بين صفوف الشعب من مظاهر العداء  للإسلام التي بدأت تسيطر على مقاليد الأمور، وكذلك في بعض الصحف التي بدأت بنشر المقالات الإلحادية، وقد حضر "بديع الزمان" هذا الاجتماع يحف به جمع غفير من طلاب المدارس الدينية وألقى في هذا الاجتماع خطبة استمرت قرابة ساعتين حث فيها الجميع على التمسك بآداب  الإسلام كما تناول فيها جميع القضايا  المهمة آنذاك والتي كانت تشغل الأذهان.([86])

ونرى ضرورة إعطاء بعض المعلومات عن " الدرويش وحدتي" صاحب جريدة "وولقان"  أي البركان التي اشتهرت بمقالاتها العنيفة ، وغير المتوازنة، ضد جمعية الاتحاد والترقي.

كان "درويش وحدتي" قبرصي الأصل، أتي إلى استانبول بعد إعلان المشروطية الثانية وعمره  عشرون عاماً وبدأ يصدر جريدته "وولقان" التي أصبحت بمثابة لسان حال جمعية  "الاتحاد المحمدي" ومع أن " بديع الزمان" لم يكن من مؤسسي هذه الجمعية إلا انه كان ينشر بعض مقالاته فيها مثلما كان ينشر في جرائد أخرى عديدة أمثال: جريدة "الأقداح" و"سربستي" و" الميزان" و "المصباح"...الخ.

كانت مقالات "بديع الزمان" في جريدة "وولقان" كلها من المقالات البنّاءة التي تحض على وحدة الصف وتجنب التفرقة وتجنب الحركات المتطرفة، وبعض هذه المقالات كانت موجهة إلى " الدرويش وحدتي" نفسه ينصحه ويبين له الطريق الصحيح، فقد كتب  إليه مرة ليكبح شططه ويهدئ من مقالاته غير المتوازنة:

إلى أخي الدرويش وحدتي:

إن الأدباء يجب أن يتحلوا بالأدب، ولاسيما بالأدب الإسلامي، وليكن الضمير الديني هو الحارس لنظام المطبوعات.([87])

ولكن جميع نصائح "بديع الزمان" له ذهبت  أدراج الرياح إذ استمر على نهجه، وكانت النتيجة أن القي القبض عليه بعد حادثة 31 مارت - التي سنأتي على ذكرها- وقدم إلى المحاكمة وشنق.

كان "بديع الزمان" يقول عنه :"انه متمسك بالدين الاّ انه يعوزه المنطق العقلاني".([88])

 حادثة 31 مارت

هي حركة عصيان وتمرد اتهم بإثارتها السلطان عبد الحميد وهو منها برىء واتخذت ذريعة لعزله عن العرش، وقبل أن نشرح العوامل التي أدت إلى هذه الحركة نلقي نظرة سريعة على أحداثها.

بدأت الحركة قرب منتصف ليلة 31 مارت 13 نيسان في ثكنة  "طاش قشلة"([89]) عندما قام جنود "آوجي طابوري"([90]) بحبس ضباطهم في الغرف ثم تدفقوا إلى ساحة "سلطان أحمد" وبدأوا عند حلول صباح اليوم التالي بإطلاق الرصاص في الهواء مما ولد فزعاً ورعباً عند الأهالي، ثم أخذوا يهتفون:

    - نريد الشريعة.. نريد الشريعة..

ثم أرسل الجنود المتمردون رسلاً إلى معسكرات الجيش الأخرى يطلبون الالتحاق بهم، وفعلاً التحق بهم بعض الجنود الآخرين كما التحق بهم بعض طلبة المدارس الدينية والصوفية وبعض المدنيين من المعارضين لجمعية الاتحاد والترقي.

ومع أن السلطان أرسل رئيس كتابه للمتمردين حال سماعه النبأ يخبرهم بأن الشريعة بخير وانه لا يستطيع أحد أن يمسها بسوء، إلا أن المتمردين أصبحت لهم مطالب أخرى منها تغيير الصدر الأعظم حسين حلمي باشا، ووزير الحربية علي رضا باشا،  وقائد الفرقة الأولى محمود مختار باشا، ورئيس مجلس المبعوثان أحمد رضا، ونفي الاتحاديين من البلد وإعادة ضباط الـ "آلايلي"([91]) إلى الخدمة، والعفو عن جميع المشتركين في هذا التمرد لانهم لا يقصدون سوءاً. في هذه الأثناء كان الجنود يفتشون عن رئيس مجلس المبعوثان أحمد رضا بك وعن الصحفي حسين جاهد يالچين لشيوع عداوتهما للإسلام، غير أنهم لم يعثروا عليهما فقد اختفيا عن الأنظار، ولكن قتل وزير العدل ناظم باشا إذ ظن المتمردون انه احمد رضا بك، كما ذهب نائب اللاذقية الأمير محمد أرسلان ضحية خطأ أيضاً إذ حسبه الجنود المتمردون الصحفي المعادي للإسلام حسين جاهد، كما قتل عدد غير معلوم من الضباط من خريجي الكلية الحربية، إذ كان المتمردون يستوقفون الضباط ويسألونه: هل أنت ضابط متخرج من المدارس أم ضابط خدمة آلايلي؟ فان كان الجواب أنه خريج الكلية الحربية قتل.

ومع أن السلطان بدل الصدر الأعظم وعين توفيق باشا مكانه كما تم تبديل وزير الحربية وقائد الفرقة الأولى نـزولاً عند رغبة المتمردين طمعاً في إنهاء حركة التمرد إلا أن حركة التمرد لم تنته.

لم تلبث "سلانيك" وهي مركز الاتحاد والترقي أن انهالت بالبرقيات على قصر "يلدز" تتهم السلطان بأنه هو المدبر لهذا التمرد لكي يقضي على المشروطية الثانية وعلى جمعية الاتحاد والترقي حامية هذه المشروطية.

وأخيراً تقرر إرسال قوة من سلانيك للقضاء على هذا التمرد. وقد أطلق على هذه القوة اسم "جيش الحركة" تحت قيادة محمود شوكت پاشا. ولم تكن هذه القوة جيشاً نظامياً، بل كانت تتألف علاوة على الجنود الأتراك من متطوعين من مختلف الجنسيات من بلغاريين وألبانيين ومن يهود مدينة السلانيك، والحقيقة ان هؤلاء المتطوعين لم يكونوا سوى أعضاء العصابات المقدونية التي حاربت الدولة العثمانية طوال سنوات عديدة.

خرجت هذه القوة من سلانيك يوم 15 نيسان ووصلت إلى ضواحي استانبول يوم 22 نيسان([92]).

 

 المحكمة العسكرية

كان "سعيد النورسي" من بين الذين قدموا لهذه المحكمة العسكرية التي رأسها الحاكم العسكري "خورشيد باشا" المعروف بقسوته وبطشه، وكانت هذه المحكمة فرصة طيبة للاتحاديين لكي يتخلصوا من خصومهم بحجة اشتراكهم في هذه الحادثة أو تعاونهم مع القائمين بها، ولا ننسى ان الاتحاديين اتخذوا هذه الحادثة ذريعة لخلع السلطان عبد الحميد، مع انه لم تكن له أدنى علاقة بها، ومع أن السلطان طلب تأليف لجنة تقوم بالتحقيق في مسببي و محرضي هذا التمرد الاّ أن رجال الانقلاب الاتحاديين خشوا أن يظهر التحقيق براءة السلطان فرفضوا طلبه.([93])

ومع أن "بديع الزمان" لم تكن له أدنى علاقة بهذه الحادثة، بل على العكس فقد نصح الجنود باحترام أوامر ضباطهم والعودة إلى الهدوء والطاعة([94]) الاّ ان الاتحاديين لم يكونوا قد نسوا المقالات العنيفة التي كتبها ضد جمعية الاتحاد والترقي في جريدة "وولقان"، كما قامت جمعية الاتحاد والترقي بحلّ "جمعية الاتحاد المحمدي".

عندما اقتيد "بديع الزمان" إلى المحكمة، كانت هناك ما يزيد عن عشر جثث من المشنوقين تتدلى من أعواد المشانق المنصوبة في باحة المحكمة العسكرية.

دخل "بديع الزمان" قاعة المحكمة بخطى ثابتة ليواجه هيئة المحكمة العسكرية برئاسة "خورشيد باشا" الذي ابتدره قائلاً بلهجة امتزج فيها التهديد بالسخرية.

    - وأنت أيضاً كنت تدعو إلى "الشريعة" و تطالب بها؟.. أنظر.. ان من يطالب بها يشنق هكذا.

وأشار بيده إلى جثث المشنوقين الظاهرة من خلال نافذة المحكمة.

فقام "بديع الزمان" وألقى أمام المحكمة دفاعاً جريئاً رائعاً نقدم هنا مقتطفات منه، قال:

"إنني طالب علم، لذا فإنني أزن كل شيء بميزان الشريعة، والإسلام وحده هو ملتي، لذا فاني أقيِّمُ كل ّ شيء من وجهة النظر الإسلامية.

إنني إذ أقف في عالم البرزخ الذي تدعونه "السجن" منتظراً قطار الآخرة في محطة "أعواد المشانق" ومنتقداً الأحوال الغادرة للمجتمع الإنساني، فإنني هنا لا أخاطبكم وحدكم بل لعلي أخاطب بني الإنسان بأجمعهم..

إنني متهييء وبكل شوق للرحيل إلى الآخرة، ومستعد لأن أرحل مع هؤلاء المشنوقين.. فمثلي هو مثل البدوي الذي سمع عن استانبول وعن مباهجها ولكنه لم تتيسر له رؤيتها، فهو في شوق شديد إليها، كذلك فأنا في شوق لرؤية الآخرة وعالمها العجيب، فإرسالي إليها لا يعد بالنسبة لي عقاباً وتعذيباً، ولكن إن كان في قدرتكم أو في استطاعتكم تعذيبي وإيقاع العقوبة عليّ فعليكم أن تجدوا لي عذاباً قلبياً وعذاباً ضميرياً، والاّ فان أي عقاب آخر لن يكون عقاباً لي بل فخراً.

إن هذه الحكومة - في عهد الاستبداد - كانت تعادي العقل، أما الآن فإنها تعادي الحياة بأكملها، فإذا كان هذا هو شكل الحكومة ومنطقها..

فليعش الجنون..

وليعش الموت

ولتعش جهنم للظالمين وللطاغين..

تقولون: لقد دعوت أنت أيضاً إلى الشريعة.. وأنا أقول: بأنه لو كان لي ألف روح لكنت مستعداً للفداء به في سبيل حقيقة شرعية واحدة.. ذلك لأن الشريعة هي السبيل الوحيد للسعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة.. الشريعة الحقة وليست الشريعة التي طالب بها المتمردون.

تقولون: هل انضممت إلى "الاتحاد المحمدي"، وأقول: نعم.. وبكل فخر.. فأنا أصغر فرد من أفراد هذا الاتحاد، ولكن بالصيغة التي أعرّفها. ومَن الذي يرضى أن يبقى خارج هذا الاتحاد سوى الملحدين.. أروني مَن؟"

ثم استشهد بهذا البيت العربي:

"اذاً محاسني اللاتي أدِلُّ بها       كانت ذنوبي، فقل لي كيف أعتذر؟".([95])

وبعد أن شرح للمحكمة كيف انه عندما سمع بتشكيل جمعية بهذا الاسم خشي جداً أن يقترف بعض الأشخاص وتحت هذا الاسم المبارك بعض الأخطاء، ثم إن هذا الاسم حق عام للمسلمين وليس من حق أحد ان يضيّق حدوده.

ثم توجه إلى المحكمة مشيراً إلى الاتجاه الاستبدادي لجمعية "الاتحاد والترقي" التي بدأت بإلصاق تهمة "الرجعية" بكل من يخالفها، مع إنها كانت تدعو إلى "المشروطية" أي إلى مبدأ "الشورى" وعدم الاستبداد بالرأي.. فقال:

"ان كانت "المشروطية" تعني مخالفة الشريعة واستبداد جماعة معينة، فليشهد الثقلان اني رجعي([96])، ذلك لأن الاتحاد القائم على الكذب كذب أيضاً، والمشروطية القائمة على أسس فاسدة ومفسدة؛ مشروطية فاسدة، ذلك لأن المشروطية الحقة التي لها الدوام هي المشروطية القائمة على الحق وعلى الصدق وعلى المحبة وعلى أساس لا امتيازات فيه..

سوف أقول الحقيقة فقط، ولن أجانب الحق أبداً، ذلك لأن مقام الحق سامٍ ولن أضحي به لخاطر أحد، لذا لن يصرفني عن ذكر الحق لومة لائم".([97])

ثم أخذ يعدد الأسباب التي أدت إلى قيام حركة 31مارت".

"1- لقد كانت هذه الحركة موجهة على الأكثر ضد الاتحاد والترقي وضد استبدادهم ودكتاتوريتهم.

2- كما كانت ترمي إلى تبديل وتغيير الوزراء الذين كانوا محل نقاش وجدال بين الفرقاء والأحزاب.

3- إنقاذ السلطان المظلوم([98]) من الخلع الذي قد تقرر وصُـمّم عليه.

4- منع وإنهاء التعليمات والتلقينات التي لا تليق مع الآداب العسكرية ومع الآداب الدينية.

5- الكشف عن قاتل السيد "حسن فهمي"([99]) بعد أن تم تضخيم موضوع اغتياله.

6- تسوية موضوع الضباط "الآلايلي" الذين أخرجوا من الخدمة العسكرية، وإنصافهم.

7- الوقوف تجاه عدّ التصرفات السفيهة ضمن مفهوم  الحرية، أي تحديد الحرية بالآداب الشرعية، ثم القيام بتطبيق الحدود الشرعية التي لا يفهم العوام منها سوى قطع اليد"([100]).

ثم عاد ينتقد الأوضاع التي أنشأها "الاتحاد والترقي" باسم المدنية التي ادّعوا انهم أنصارها، فقال:

"إذا كانت المدنية هي هذه التصرفات التي تمس الكرامة الإنسانية وتعتدي عليها، وهي هذه الافتراءات التي تؤدي إلى النفاق، وهي هذه الأفكار التي تغذي الحقد والانتقام، وهي هذه المغالطات الشيطانية والتحلل من الآداب الدينية.. إذا كانت هذه هي المدنية فليشهد الجميع بأنني أرجح وأفضل قمم الجبال الشاهقة في الشرق في بلدي، وافضل حياة البداوة في تلك الجبال -ـ حيث الحرية المطلقة - على موطن النفاق الذي تسمونه أنتم قصر المدنية.

ثم تمثل بهذه الأبيات العربية:

ولولا تكاليف العلى ومقاصد       غوال واعقاب الأحاديث في غدٍ

لأعطيت نفسي في التخلي مرادها        وذاك مرادي مذ نشأت ومقصدي

واكتم أشياء ولو شئتُ قلتها        ولو قلتها لم اُبقِ للصلح موضعاً".([101])

وتكلم بديع الزمان.. وتكلم وكأنه موج هادر، أو سيل جارف.. وانقلب الوضع فاصبح هو الذي يحاكم، وهو الذي يتهم، وهو الذي ينتقد، وأصبحت هيئة المحكمة وكأنها هي المتهمة. فلم يعتذر، ولم يستعطف، ولم يسترحم.. لم يتلجلج، ولم يتلعثم، ولم يتردد.. وفغر أعضاء المحكمة أفواهم دهشة.. كانوا تجاه أنموذج فريد لم يجربوه بعد.. لم يكن  كالمتهمين السابقين الذين وقفوا أمامهم والذعر يلفهم، لا يستطيعون رفع أنظارهم الوجلة إلى وجوههم.. كان شيئاً آخراً، انموذجاً فريداً ومهيباً، وأحسوا أنهم يدينون له بالاعتذار، ففي جلسة واحدة فقط صدر قرار الحكم ببراءة "بديع الزمان"، من تلك المحكمة الرهيبة التي أرسلت العديد إلى حبال المشنقة.

بعد إطلاق سراحه غادر مدينة استانبول سنة 1910 متوجهاً إلى مدينة "وان" وهناك بدأ بالتجول بين العشائر ملقياً على أفرادها ورؤسائها دروساً دينية واجتماعية وتوجيهية راداً على أسئلتهم ومصححاً مفاهيمهم في شؤون الدين والدنيا، ومن هذه الأسئلة والأجوبة ألّف كتابه "المناظرات" باللغة التركية ثم أعاد تأليفه بالعربية تحت اسم "رچتة العوام"، وقد طبع كتابه "المناظرات" في استانبول سنة 1913 في مطبعة أبو الضيا وأعيد طبعه مرات عديدة بعد ذلك، فقد سجل فيه أغلب آرائه السياسية والاجتماعية وتوقعاته لأحداث المستقبل.

 

 إلى الشام

وفي شتاء سنة 1911م - 1327هـ زار ديار الشام حيث كانت أخته وزوجها هناك، وألقى خطبة باللغة العربية في "الجامع الأموي" في دمشق تحت إلحاح العلماء وإصرارهم، حيث استمع إلى الخطبة جمع غفير من الناس فيهم مئات من علماء الشام. وقد طبعت ونشرت خطبته هذه في كراسة تحت عنوان "الخطبة الشامية" وأعيد طبعها مرتين في أسبوع واحد لنفادها، وقد أعاد المؤلف النظر فيها سنة 1951 وصاغها بالتركية بعد تنقيحها وزيادة هوامش وفقرات.([102])

وندرج هنا مقتطفات من هذه الخطبة:

"لقد تعلمت من واقع الحياة الاجتماعية، ومن الواقع الذي تعيشه البشرية في يومنا هذا: أن هناك ستة أمراض قاتلة؛ جعلتنا نقف على أعتاب القرون الوسطى، ونتيه في مسالكها المظلمة؛ في الوقت الذي طار فيه الأجانب - ولاسيما الأوروپيين - بخطى سريعة نحو المستقبل. وهم يتسابقون في ميادين الرقي والتقدم العلمي.

وهذه الأمراض هي:

أولاً - حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه.

ثانياً- موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.

ثالثاً - حبّ العداوة.

رابعاً - الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.

خامساً- سريان الاستبداد، سريان الأمراض المعدية المتنوعة.

سادساً- حصر الهمة في المنفعة الشخصية".

ثم بيّن الدواء لكل مرض من الأمراض المذكورة مبتدءاً بـ "الأمل".

"أجل..عليك أن تصدق في كل ما تتكلمه، ولكن ليس صواباً أن تقول كل صدق، فإذا ما أدى الصدق أحيانا إلى ضرر فينبغي السكوت. أما الكذب فلا يسمح له إطلاقا.

عليك أن تقول الحق في كل ما تقول، ولكن لا يحق لك أن تقول كل حقٍ، لأنه إن لم يكن الحق خالصاً فقد يؤثر تأثيراً سيئاً، فتضع الحق في غير محله".

"ان الود والمحبة والأخوة هي من طباع  الإسلام وروابطه. والذي يحمل في قلبه العداء فهو أشبه ما يكون بطفل فاسد المزاج، يروم البكاء بأدنى مبرر للبكاء. وقد يكون ما هو أصغر من جناح ذبابة كافياً لدفعه إلى البكاء. أو هو أشبه ما يكون برجل متشائم لا يحسن الظن بشيء ما دام سوء الظن ممكناً. فيحجب عشر حسنات للمرء بسيئة واحدة. ومن المعلوم أن هذا منافٍ كلياً للخلق الإسلامي القاضي بالأنصاف وحسن الظن".

"إن الحرية الشرعية النابعة من الإيمان تأمر بتوفير شيئين أساسين:

1- أن لا يُذَلّل المسلم ولا يَتَذلَلَ.. من كان عبداً لله لا يكون عبداً للعبيد.

2- أن لا يجعل بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله. إذ مَن لا يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعاً من الربوبية لكل شيء، كل حسب نسبته، فيسلطه على نفسه.

نعم.. الحرية الشرعية عطيّة الرحمن وتجلٍّ من تجليات الرحمن الرحيم، وهي خاصة من خصائص الإيمان".

إلى استانبول مرة أخرى:

بعد انتهاء زيارته للشام ذهب إلى بيروت ومنها توجه إلى استانبول عن طريق البحر. وما ان استقر في استانبول حتى بدأ بالاتصالات مع الجهات المعنية لتحقيق حلمه القديم في  إنشاء جامعة الزهراء، حيث تدرس العلوم الشرعية جنباً إلى جنب العلوم الحديثة إذ يجب أن ترتكز نهضة المسلمين على الفهم الصحيح للدين وعلى امتلاك ناصية العلم ولا طريق آخر سواه.

في هذه الأثناء تقرر سفر الخليفة محمد رشاد([103]) إلى "روملي"([104]) وانتخب بديع الزمان ممثلاً عن الأقاليم الشرقية لمصاحبة السلطان في هذه السياحة.([105])

وقد خصص السلطان لإنشاء الجامعة المذكورة مبلغاً قدره19 آلف ليرة ذهبية، وأرسيت قواعدها فعلاً، إلاّ أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.([106])


الفصل الثالث

 في غمرة الحرب العالمية الأولى

 

"وعلى الرغم من أنني لم أكن أعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن الذي يرى الحرب العالمية، لابد أن يشيب، حيث مرت أيام يشيب من هولها الولدان، وكأن سراً من أسرار الآية الكريمة (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ( قد سرى فيها، ومع أنني كنت قريباً من الأربعين إلاّ أنني وجدت نفسي كأنني  في الثمانين من عمري".

سعيد النورسي

 "بديع الزمان" قائداً للفدائيين

في سنة 1912م وفي الأسابيع الأولى من "حرب البلقان"([107]) عين بديع الزمان قائداً للقوات الفدائية التي تشكلت من المتطوعين المسلمين القادمين من شرقي الأناضول للاشتراك في هذه الحرب.

وما ان تجمعت الغيوم السوداء في سماء السياسة الدولية قبيل الحرب العالمية الأولى حتى عُين "بديع الزمان" في مؤسسة عسكرية وسياسية سرية جداً اسمها "التشكيلات الخاصة" شكلت بأمر من السلطان محمد رشاد وأحيطت بسرية تامة وغذيت بأشهر رجال الفكر، وكان "بديع الزمان" يعمل في قسم "الاتحاد الإسلامي" ضمن هذه المؤسسة التي أنيطت بها وظيفة المحافظة على سلامة ووحدة أراضي الدولة العثمانية([108]).

وما ان دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى حتى قامت هذه المؤسسة بإصدار فتوى الجهاد من علماء الدين الأعضاء فيها وهم:

1- شيخ  الإسلام خيري أفندي

2- الشيخ صالح شريف السنوسي.

3- حمدي يازر

4- محمود أسعد أفندي قام بكتابة نص الفتوى

5- بديع الزمان سعيد النورسي([109])

لاشك أن دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى بجانب الألمان خاصة بعد تباطؤ الهجوم الألماني وظهور البوادر على ان الألمان خسروا.. كان هذا الدخول أكبر حماقة ارتكبتها جمعية "الاتحاد والترقي" لذا فان "بديع الزمان" كان يعارض الدخول إلى الحرب وكان يرى ان على الدولة العثمانية تجنب هذه الكارثة والدخول في مفاوضات صلح مع الأطراف المتحاربة.

بعد ان شارك "بديع الزمان" في إصدار فتوى الجهاد رجع إلى مدينة "وان" فقد كان عليه ان يسرع بتشكيل الفرق الفدائية من طلابه ومن الأهالي،وان يبدأوا بالتدريب فقد كانوا يقفون لمواجهة روسيا القيصرية التي كانت تتمتع بتفوق سكاني كاسح علاوة على تفوق في المعدات الحربية.

كان الخطر الداهم على الأبواب..

وكانوا قلة.. قلة في العدد وفي العُدد.

لذا نراه يقول لطلابه:

    - تهيأوا واستعدوا.. ان زلزالاً رهيباً على الأبواب.([110])

وتهيأ طلابه وتدربوا حتى اشتهروا بدقة التصويب والتهديف علاوة على جرأتهم وشجاعتهم، إذ لم يكونوا جنوداً عاديين، بل مجاهدين يبتغون الشهادة ويسعون إليها، ولم يكن أمام "بديع الزمان" مواجهة الجيوش الروسية التي لا أول لها ولا آخر، بل مواجهة عصابات الأرمن الذين كانوا يغيرون على القرى الآمنة فيقتلون ويذبحون الجميع.. رجالاً ونساءً.. أطفالاً وشيوخاً، فقد كان الأرمن([111]) يسكنون بالقرب من الحدود الروسية، وكانت روسيا تمدهم بالمال والرجال والعتاد والذخيرة وتدفعهم للقيام بحروب عصابات لإنهاك الدولة العثمانية لاسيما بعد إعلان الحرب العالمية الأولى، فكان على "بديع الزمان" وطلابه خوض غمار حروب العصابات هذه وحماية القرى من غدر الأرمن، وسرعان ما عرفت العصابات الأرمنية بعد صدام أو صدامين مع هؤلاء الفدائيين أي نوع من الرجال يقاتلون، لذا بدأوا يتجنبون الاصطدام بهم ما أمكنهم ذلك.

كان النظام الذي وضعه "بديع الزمان" لطلابه الفدائيين نظاماً فريداً من نوعه..

كانوا يدرسون ويحفظون القرآن ويتلقون الدروس..

وكانوا من جانب آخر يتدربون على القتال، ويسهرون الليالي على قمم الجبال يحرسون، أو يهاجمون الأعداء في عمليات فدائية..

القرآن في يد.. والبندقية في يد أخرى.

دين ودنيا ممتزجان في وحدة واحدة لا يمكن فصلهما.

بل الغريب ان "بديع الزمان" ألّف كتابه القيم "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"([112]) حول الإعجاز القرآني في خنادق القتال وباللغة العربية..

نعم في خنادق القتال.. أملاه على تلميذه الفدائي "الملا حبيب" الذي نال مرتبة الشهادة في إحدى المعارك فيما بعد..

واعتقد انه أول كتاب أو أول كتاب إسلامي في الأقل يؤلف في خنادق القتال. وتحت نيران المدافع وأزيز الرصاص.

هذه اللوحات الرائعة من كان يرسمها لولا هذا الدين الإسلامي.

لوحات رائعة حتى في أكثر العصور انحطاطاً في تاريخ المسلمين.

ولكي تكتمل صورة القائد والطلاب.. صورة العلم والبندقية، ننقل هذه الذكريات التي يرويها السيد "نور الدين براق" عن والده "زين الدين براق":

"كان نظام التدريس في شرقي تركيا آنذاك كما يأتي:

كان العالم الديني يعطي دروسه حسبة لله دون أي أجر أو مقابل بل كان يؤَمن معيشة بعض طلابه الفقراء إيضاً، ويجمع لهم المعونة من الأهالي، لذا فلم تكن هناك معاناة في الدراسة أو عوائق جدية تحول دونها. وكانت شهرة العالم الديني وغزارة علمه من أسباب الترجيح، فإذا ما اشتهر أحدهم بأنه عالم كبير زاد عدد طلابه.. وقد بدأت أنا مع بعض الأصدقاء بالبحث عن أستاذ أو عالم كبير فقيل لنا ان هناك عالماً كبيراً يدعى "سعيد المشهور" يقوم بالتدريس في مدرسة "خورخور" في ولاية "وان".

توجهت مع صديقين لي إلى تلك المدرسة، وعندما وصلنا إليها لم يكن الأستاذ موجوداً فاستقبلنا شخص يدعى "الملا حبيب" وسمح لنا بالدخول قائلاً بأن الأستاذ سيأتي عن قريب.

في هذه الأثناء استرعت جدران المدرسة انتباهنا إذ كانت مغطاة ببنادق الماوزر وبالسيوف والحراب وطلقات الرصاص وبأسلحة مختلفة، بينما كانت الكتب تعلو مناضد الدراسة، والحقيقة أننا لم نستطع ان نكتم دهشتنا واستغرابنا..

بعد قليل قيل لنا: لقد حضر"الأستاذ" تهيأنا للقائه.. دخل علينا مُسلماً ومرحباً، ثم سألنا عن سبب مجيئنا..

الشيء الآخر الذي جلب انتباهنا وكان مثار دهشتنا هو مظهر الأستاذ وتصرفه وسلوكه.. ذلك لأننا لم نرَ عليه زي علماء الدين الذين ألِفنا رؤيته حتى ذلك الحين، إذ كان الأستاذ بقلنسوته وبجزمته وبالحربة المعلقة في وسطه وبمشيته القوية العسكرية أقرب إلى منظر القائد العسكري منه إلى العالم الديني، ثم ان صغر سنه أثار لدينا الشك: أيملك هذا الشاب علماً كافياً؟.. ولكننا رأينا ان تلميذه "الملا حبيب" وهو المشرف على الطلبة هناك كان يقرأ دروساً متقدمة، أمثال كتاب "الجامي".

قلنا للأستاذ بأننا حضرنا لتحصيل العلم على يديه، فقال لنا: حسناً.. ولكن لديّ شروط يجب مراعاتها..ثم أضاف قائلاً: "الشخص الذي يبدأ معي يجب ان يستمر معي إلى نهاية عمره وليس هناك أي مجال للتراجع([113]). ثم قال:

-        ولا يخطرن ببال أحدكم بأن من الممكن ان يُقبل الآن - بعد الوعد بالبقاء - ثم يستطيع ترك الدراسة متى ضجر أو ظهر أي سبب آخر؛ لأن والي مدينة "وان" طاهر باشا صديقي وأستطيع أن أجلبكم واسترجعكم مرة أخرى.. أنتم ضيوفي هذه الليلة، أرجو ان تفكروا جيداً وأعطوني قراركم صباح غد.

-        أما نحن فقد تحيرنا تجاه هذا الاقتراح، ولم ندر ماذا نقول، لذا استشرنا "الملا حبيب" وسألناه: "أأنت هنا مع الأستاذ بهذا الشرط؟ أجاب: نعم.. لقد أعطيناه هذا العهد. صحيح انه شرط صعب، ولكن هذا الأستاذ يملك علماً غزيراً.. على أي حال فهذا الأمر من شأنكم.. فكروا جيداً، وقرروا ما يناسبكم.. فقلنا - ونحن في غاية الخجل - إننا لا نستطيع القبول.. وهكذا فارقنا المدرسة"([114])

وعن الموضوع نفسه، وعن الفترة نفسها يقول السيد "سنان اومور" صاحب جريدة "الإنسان الحر "

"عندما أعلنت الحرب العالمية الأولى كنا طلاباً في مدرسة المعلمين في استانبول، كانت أعمارنا آنذاك ثمانية عشر عاماً، فأخذونا إلى الجندية، وقد تيسر لي ان أرى قائد قوات الميليشيا "بديع الزمان" لأول مرة في "آب" أغسطس سنة 1331هـ - 1915م فوق سفوح "جبل سبحان".. كان على صهوة جواد أبيض يتنقل هنا وهناك ليرفع معنويات الجنود.. كان آنذاك قائداً لقوات الميليشيا وعلى رأسه عمامة بيضاء وعلى كتفيه "الكتفية العسكرية".. كان صديقاً لـ "أنور پاشا"([115])، وقد كلفه "أنور پاشا" بتنظيم قوات الميليشيا في شرقي تركيا،  فقام "بديع الزمان" بذلك وجمع هذه القوات التي أصبح قوامها 4 -5 آلاف متطوع هناك.([116])

 جبهة القفقاس في الحرب العالمية الأولى:

التهبت جبهة القفقاس بمعارك دامية، وكانت روسيا التي استفادت من تفوقها السكاني الكبير وقدرتها على التركيز على جبهة القفقاس بخلاف الدولة العثمانية التي كانت تقاتل في جبهات عديدة تحاول الوصول إلى الأناضول بأسرع وقت ممكن، ولكن المقاومة البطولية التي أبداها الجيش العثماني والفدائيون من الأهالي كان يؤخر هذا الاندفاع - واخيراً وفي 16شباط 1916م استطاع الجيش الروسي المتفوق بنسبة 3:1 بالنسبة للجيش العثماني الدخول إلى مدينة أرضروم.

يقول السيد "صالح يشيل" - الذي أصبح نائباً عن أرضروم في المجلس النيابي الأول([117])- في إحدى رسائله عن جهاد "بديع الزمان" في الحرب العالمية الأولى:

".. وقد نال ميدالية حرب كبيرة تقديراً لقيامه بواجب الجهاد والإرشاد في الوقت نفسه عندما كان قائداً لقوات المتطوعين في جبال القفقاس المكسوة بالثلج".([118])

ويسرد "بديع الزمان" بعضاً من ذكرياته عن هذه الحرب قائلاً:

"في أثناء الحرب العالمية الأولى كنت مع الشهيد المرحوم "الملا حبيب" نتهيأ للهجوم على الروس في جبهة "باسينلر" كانت المدفعية الروسية تطلق علينا القذائف بمعدل ثلاث قذائف في كل دقيقة أو دقيقتين..فمرت ثلاث قذائف من فوق رؤوسنا بارتفاع مترين تقريباً.. بدأ جنودنا القابعون في الخنادق خلفنا بالتراجع.. قلت للملا حبيب أمتحنه: ماذا تقول يا ملا حبيب.. إنني لن اختبئ من هؤلاء الملعونين، فقال لي: "وأنا لن أتخلى عنك ولن أتراجع".. سقطت القذيفة الثانية للمدفع على مقربة منا..

قلت للملا حبيب وأنا واثق من حفظ العناية الإلهية لنا:

"هيا نتقدم إلى الأمام.... ان قذائف هؤلاء لا تستطيع قتلنا.. لن نتدنى إلى درك التقهقر إلى الخلف ([119])

وبعد أن جاهد في هذه الجبهة جهاد العالم البطل، أسرع إلى "وان" حالما سمع أن الجيوش الروسية المتفوقة في العدد والعُدَدِ تتقدم نحو "وان" حيث تم اتخاذ قرار بإخلاء المدينة من الأهالي لينقذوهم من المذبحة المنتظرة عند دخول الروس إلى المدينة.

عقد "بديع الزمان" عزمه هو وطلابه أن يبقوا في قلعة المدينة للدفاع عنها حتى يستشهدوا بأجمعهم، ولكن الجهات العسكرية الرسمية لم توافق، إذ كانت الخطة تقضي بالانسحاب إلى قصبة اسمها "گواش".

وفي أثناء هجرة الأهالي من المدينة، أخذ "بديع الزمان"، وطلابه على عاتقهم حفظ الأهالي من هجوم فرسان القازاق الروسية عليهم، فأبلوا في ذلك بلاءً حسناً.

في هذه المعارك استشهد تلميذه "الملا حبيب"، وكثير من طلابه الآخرين  ممن حملوا القلم والسلاح في الوقت نفسه وكانوا بحق رجال علم وجهاد.. فقد علمهم أستاذهم ذلك وكان قدوة حسنة لهم.

في إحدى المعارك تظاهر هؤلاء الفدائيون بالهزيمة، وبدأوا بالانسحاب وتقدمت طلائع الجيش الروسي مطاردةً لهم.. ولكن ذلك لم يكن إلاّ خدعة حربية، إذ ما ان اطمأن هؤلاء الفدائيون   على دخول العدو المنطقة السهلة من تلك البقعة التي تحيط بها الجبال من كل جانب حتى استداروا وأحاطوا بهم ليبيدوهم عن بكرة أبيهم. وفي إحدى المرات استولى الجيش الروسي على ثلاثين مدفعاً من الجيش التركي المتقهقر، فجمع "بديع الزمان" طلابه والفدائيين وسألهم :

"من يأتي معي لاستخلاص هذه المدافع من أيدي الروس؟" فتطوع ثلاثمائة شخص معه، وقاموا باستخلاص هذه المدافع من أيدي الروس في غارة ليلية شنوها عليهم، وكان "بديع الزمان" يجر بنفسه أحد المدافع مع ثلاثة آخرين من طلابه.

في أثناء تلك المعارك كان شباب الأرمن - الملتحقين بالروس ضد الدولة العثمانية على أمل تأسيس دولة الأرمن بمساعدة الروس بعد انهيار الدولة العثمانية - يغيرون على القرى المسلمة، ثم يقتلون الأسرى بأجمعهم حتى الأطفال، بدأ العوام من المسلمين يردّون بالمثل فيقتلون الأطفال الأسرى من الأرمن.. وفي إحدى المرات تجمع آلاف من أسرى أطفال الأرمن في الناحية التي كان يوجد فيها "بديع الزمان"، ولكن "بديع الزمان" متبعاً تعاليم  الإسلام حذّر الجنود العثمانيين من إلحاق أي أذى بهم قائلاً لهم: "إياكم ان تمدوا أيديكم إليهم بأي أذى".. ثم أمر بإطلاق سراحهم وسمح لهم بالذهاب إلى المعسكر الروسي حيث التحقوا بأهاليهم خلف الخطوط الروسية، وقد كان لهذا التصرف النبيل لـ "بديع الزمان" أثر كبير في نفوس زعماء الأرمن، فبعد ان استولى الروس على قرى عديدة مسلمة نرى زعماء القوات الأرمنية يتخلون عن عادتهم في ذبح أطفال هذه القرى، أي ان "بديع الزمان" كان سبباً في انقاذ الآلاف من الأطفال الأبرياء من كِلا الجانبين.([120])

وأصبحت فعاليات وجهاد "بديع الزمان" من الشهرة والذيوع بحيث نجد ذكرها في بعض الكتب الأجنبية التي اهتمت بتاريخ تلك الفترة من الحرب، ومنها الكتاب الوثائقي الفرنسي: "وثائق حول المظالم الروسية والأرمنية"  (Documents Sur les Atrocutes Arme'no _ Ruses)

إذ نجد في هذا الكتاب ذكر دور "بديع الزمان" وطلابه في المعارك في الجبهة الشرقية، كما نجد في هذا الكتاب شرحاً للمآسي التي كانت تقع هناك.

 

 من مآسي الحرب

بدأ الروس في شباط سنة1916 بالاستيلاء على بعض المناطق في شرقي الأناضول، وتقدموا حتى مشارف مدينة "بتليس" للاستيلاء عليها، فبدأت الحكومة بإخلاء الدوائر الرسمية ونقلها من هذه المدن، وبدأ الأهالي بالتهيؤ للهجرة. ولكن الروس لم يستطيعوا دخول المدينة بفضل البطولة التي أبداها الجنود الأتراك والمتطوعون من المدنيين، ولكن ما لبث الروس ان ظهروا مرة أخرى وبدأت المعارك مرة أخرى،و وبدأت أصوات المدافع تسمع من المدينة..

كانت الثلوج قد تراكمت بارتفاع ثلاثة وأربعة أمتار، وبدأ الأهالي بالاستعداد لترك المدينة والهجرة منها بأمر من الحكومة، والعوائل التي كانت تملك ستة أو سبعة من الأطفال كانوا لا يستطيعون سوى أخذ طفل أو طفلين فقط ([121]) ويضطرون إلى ترك الأطفال الباقين على الطرق الرئيسية وتحت أقواس الجسور مع قليل من الطعام..  وبين دموع  الأطفال وصراخهم وبكاء الأمهات يتم مشهد فراق يفتت أقسى القلوب قساوة.. هذه صورة واحدة من صور مآسي الحرب العالمية الأولى.

ولن ندخل في تفاصيل كثيرة عن هذه الحرب فهذه ليست موضوع هذا الكتاب.

إذن لنرجع مرة أخرى إلى "بديع الزمان" الذي بقي في مدينة "بتليس" مع طلابه للدفاع عنها ضد الآلاف المؤلفة من الجيش الروسي.

لم يلبث الجيش أن دخل هذه المدينة فبدأ قتال عنيف في شوارع المدينة وأزقتها، واستبسل "بديع الزمان" وطلابه في القتال.. ولكن الفرق بين الجيش النظامي الروسي بكل عُدد الحرب والقتال التي يملكها وبين هذه القوة الصغيرة من الفدائيين الذين لا يملكون سوى البنادق والحراب كان فرقاً شاسعاً لا يقبل المقارنة..

في هذه المعركة جرح "بديع الزمان" جرحاً بليغاً وانكسرت ساقه وسقط في بركة ماء متجمد مع أحد طلابه تحت أحد أقواس المياه لإحدى البنايات الكبيرة التي كان الروس قد احتلوها.. كانت الدماء تنـزف منه ويكاد جسمه يتجمد من البرد.. وبقي في تلك الحال ست وثلاثين ساعة حتى غشي عليه من كثرة النـزف، وشدة البرد، ورأى تلميذه ان أستاذه  سيهلك لا محالة فخرج من مكانه وأخبر الجنود الروس بموضع أستاذه.. وهكذا تم أسر "بديع الزمان".([122])

بعد أسره عامله القائد الروسي معاملة طيبة وعالجوا الكسر في ساقه وذلك طمعاً في استمالته والاستفادة منه إذ سرعان ما قدم القائد الروسي الاقتراح الآتي له:

    - أنت قائد معروف، لذا فإنني أرى ان تبعث برسائل إلى العشائر الكردية تدعوها إلى تسليم أسلحتها، عند ذلك نستطيع التفاهم وعقد اتفاقية ننسحب بموجبها من هذه الأراضي ونتركها لكم.

أجابه "بديع الزمان" قائلاً:

    - بل أرى أن تقوموا أنتم بجمع الأسلحة من الأرمن، فإذا دخلوا في حمايتنا عند ذلك نستطيع التفاهم معكم.

اعترض القائد الروسي على هذا الاقتراح قائلاً:

    - يوجد ما يقارب35 ألف مسلح أرمني في منطقتي "بتليس" و"موش" ومن المستحيل جمع أسلحتهم، فقال بديع الزمان:

   - مع أننا  أعطينا الأرمن كل هذه الحرية فانهم جلبوا علينا هذه المآسي، إذ قاموا بمذبحة عامة لم ينجُ منها حتى الأطفال، وانتم ترغبون الآن بدسائسكم القضاء على البقية الباقية من السكان بوساطة هؤلاء الأرمن.. وأنا أقول لك: لو امتلأت هذه الجبال والسهول والوديان بجنودك، فانك لن تستطيع تجاوز وتخطي ممر "دلك طاش".([123])

بعد أن قطع القائد الروسي أمله من تعاون "بديع الزمان" معه أرسله مع الأسرى الآخرين إلى أحد معسكرات الأسر في مدينة "قوصتورمة" في شمال شرقي روسيا.

 "بديع الزمان" في الأسر الروسي:

بدأت أيام الأسر تمشي كئيبة وحزينة مع "بديع الزمان" ومع غيره من الأسرى في ذلك المعتقل النائي.. البارد، فالجو متلبد أبداً بالغيوم.. وعلى امتداد البصر لا يرى المسجونون الأسرى من خلال أسوار السجن أو نوافذها سوى الثلج وهو يغطي السهول والأشجار وكل شيء.. صحراء من الثلج.. أو بحر من الثلج.. منظر رتيب ممل، يزيد من كآبة الأسر وحزنه

وفي الليالي الطويلة الحالكة حيث تسكن الأصوات إلاّ صوت أقدام الحراس أو صفير الرياح يجثم همّ  ثقيل على قلوب الأسرى.. وتتداعى ذكرياتهم، وتتململ أشواقهم لأبنائهم ولأهليهم ولأصدقائهم.. ويزداد ألم الغربة ولوعتها وتفيض، ويسأل كل أسير نفسه أو يسأل رفيقه: هل يقيض الله لهم مخرجاً أم سيدركهم الموت في هذا المعتقل النائي بعيداً عن الأهل والأحبة؟

ولا شك ان نفساً حساسة كنفس "بديع الزمان" كانت مثقلة بهموم الأسر ولواعج الفراق وألم الغربة، ولكنه استعان على هذه الآلام بذكر الله وبالعبادة وبالتأمل، وبإلقاء الدروس للأسرى الذين كانوا يجلونه ويحترمونه كثيراً، وكانت أحاديثه تخفف من أحزانهم وآلامهم، فكان بالنسبة لهم بصيص السلوى الوحيد في ذلك الأسر حتى بالنسبة للأسرى من ضباط الألمان والنمساويين.

ولكن حدث ما أفزع الجميع..

نعم فحتى هذه السلوى الوحيدة كانت على وشك الزوال وبشكل مأساوي، فقد تشكلت محكمة عسكرية روسية لمحاكمة "بديع الزمان" بتهمة إهانة القيصر والجيش الروسي وأصدرت حكمها بالإعدام عليه..

كيف تم ذلك؟ وما السبب؟.

كان خال القيصر والقائد العام للجبهة الروسية "نيكولا نيكولافيج" يزور معسكر الأسرى، فقام جميع الأسرى لأداء التحية ما عدا "بديع الزمان".

لاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه.. فلم يقم له كذلك، وفي المرة الثالثة وقَفَ تجاهه وجَرت المحاورة الطريفة الآتية بينهما بوساطة مترجم للقائد:

   - الظاهر انك لم تعرفني!

   - بل لقد عرفتك.. انك نيكولا نيكولافيج، خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.

   - إذن فَلِمَ تستهين بي؟.

   - كلا، إنني لم استهن بأحد، وانما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.

   - وماذا تأمرك عقيدتك؟

   - إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً فالذي يحمل في قلبه ايماناً هو أفضل من الذي لا إيمان له. ولو أنني قمت لك لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.

   - إذن فانك بإطلاقك عليَّ صفة عدم الإيمان تكون قد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، فيجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.

تشكلت المحكمة العسكرية وقدم إليها "بديع الزمان" بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي.

ويسود حزن عميق في معسكر الأسرى ويلتف حوله الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويين ملحين عليه بالقيام بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ انه رفض ذلك بإصرار قائلاً لهم:

   - إنني أرغب في الرحيل إلى الآخرة والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لذلك فإنني بحاجة فقط إلى جواز سفر للآخرة، وأنا لا أستطيع ان أعمل بما يخالف إيماني.

وتصدر المحكمة قرارها بالإعدام، وفي التنفيذ تحضر ثلة من الجنود على رأسها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام، ويقوم "بديع الزمان" من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسي:

   - أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدي واجبي الأخير. فيتوضأ ويصلي ركعتين.

وهنا يأتي القائد العام بعد أن كان يراقبه عن بُعد ليقول له بعد فراغه من الصلاة:

   - أرجو منك المعذرة، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصداً إهانتي ولكنني واثق الآن انك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، لذا فقد اُلغي قرار المحكمة، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك.. وأرجو المعذرة مرة أخرى.([124])

 

 ذكريات الأسر

بعد ان مكث "بديع الزمان" في الأسر مدة سنتين وأربعة أشهر وأربعة أيام، استطاع الهرب منه أثر حدوث الثورة البلشفية وما تبعها من اضطراب وفوضى، فوصل ألمانيا حيث استقبل هناك استقبالاً كبيراً ومنها توجه إلى استانبول.

سجل "بديع الزمان" ذكرياته عن أيام أسره قائلاً:

"كنت أسيراً في أثناء الحرب العالمية الأولى في مدينة بعيدة جداً، في شمال شرقي روسيا تدعى قوصترما كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر فولغا المشهور.. كنت ضجراً من بين زملائي الضباط الأسرى، فآثرت العزلة، إلاّ انه لم يكن يسمح لي بالتجوال في الخارج دون إذن ورخصة، ثم سمح لي بأن أظل في ذلك الجامع بضمانة أهل حي التتار وكفالتهم، فكنت أنام فيه وحيداً، وقد اقترب الربيع، وكانت الليالي طويلة جداً في تلك البقعة النائية.. كان الأرق يصيبني كثيراً في تلك الليالي الحالكة السواد، المتسربلة بأحزان الغربة القاتمة، حيث لا يسمع إلاّ الخرير الحزين لنهر فولغا، والأصوات الرقيقة لقطرات الأمطار، ولوعة الفراق في صفير الرياح.. كل ذلك كان كافياً لأن يوقظني - موقتاً - من نوم الغفلة العميق.. ورغم أنني لم أكن أعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن الذي يرى الحرب العالمية لابدّ ان يشيب، حيث مرّت أيام يشيب من هولها الولدان، وكأن سراً من أسرار الآية الكريمة: (يوماً يَجعلُ الولدانَ شيباً)المزمل17.. قد سرى فيها، ومع أنني كنت قريباً

من الأربعين إلاّ أنني وجدت نفسي كأنني في الثمانين من عمري..

في تلك الليالي المظلمة.. الطويلة.. الحزينة، وفي ذلك الجو الغامر بأسى الغربة.. ومن واقعي المؤلم، جثم على صدري يأس ثقيل نحو حياتي، وموطني، فكلما التفت إلى عجزي وانفرادي؛ انقطع رجائي وأملي. ولكن جاءني المدد من القرآن الكريم.. فردد لساني: (حسبنا الله ونعم الوكيل) وقال قلبي باكياً: أنا غريب.. أنا ضعيف.. أنا عاجز.. أنشد الأمان.. أطلب العفو.. أخطب العون.. في بابك يا إلهي.

أما روحي التي تذكرت أحبابي القدامى في بلدي، وتخيلت موتي في هذه الغربة، فقد تمثلت بأبيات نيازي المصري ([125])، وهي التي تبحث عن صديق:

مررت بأحزان الدنيا.. وأطلقت جناحي نحو العدم

طائراً في شوق... صائحاً في كل لحظة:

صديق... صديق....

على أي حال.. فقد أصبح عجزي وضعفي في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب إلى الله سبحانه، وشفيعين متضرعين  إليه حتى أنني لا أزال مندهشاً كيف استطعت - بعد أيام قليلة - من الفرار، وأقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشياً على الأقدام إلاّ في عام كامل، علماً أنني لست ملّماً باللغة الروسية. فلقد تخلصت من الأسر بصورة عجيبة محيّرة بفضل العناية الإلهية التي أدركتني بناءً على عجزي وضعفي، ووصلت استانبول ماراً بـ وارشو وفينا.

وهكذا نجوت من ذلك الأسر بصورة تدعو إلى الدهشة لسهولتها، حيث أكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كاملين ([126]).

 

 "بديع الزمان" عضواً في دار الحكمة الإسلامية  ([127])

وبعد وصوله إلى استانبول استدعاه أنور باشا، حيث هنأه بسلامة الوصول واستفسر عن أحواله وعن حياته في الأسر، وعندما شعر "بديع الزمان" ان "أنور باشا" قد يعيّنه في وظيفة ما قال له:

"ان كنتم ترومون إعطائي وظيفة كي أتدبر بها أموري المعاشية، فإنني لا أرغب في ذلك ولا أستطيع قبوله. أما ان كانت الخدمة المنتظرة مني تتعلق بالخدمة العلمية فلا بأس، ولكني أحتاج حالياً إلى الراحة ذلك لأنني عانيت كثيراً من الظلم والمشقة في أثناء الأسر".([128])

وهكذا لم يقبل أية وظيفة من "أنور باشا" ولكن وزارة الحربية أعطت له مكافأة قدرها 150 مائة وخمسون ليرة مع ميدالية حربية تقديراً لشجاعته وجهاده في جبهات القتال..

وفي 13 أغسطس عام 1918م عين في استانبول عضواً في دار الحكمة الإسلامية تقديراً له واعترافاً بعلمه وفضله([129]) وذلك دون علمه حيث كانت عضوية الدار لا توجه إلاّ للأشخاص والعلماء البارزين، إذ كان من أعضائها: الشاعر "محمد عاكف" والعالِم "إسماعيل حقي" والمفسر المعروف "حمد الماليلي" وشيخ  الإسلام "مصطفى صبري" و "سعد الدين باشا" وغيرهم.([130])

ولم يشارك "بديع الزمان" في اجتماعات "دار الحكمة" لما كان يحس به من حاجة حقيقية إلى الراحة بعدما قاساه من عناء أيام الأسر. وعندما تكرر غيابه أرسل طلباً يرجو إعفاءه من هذه العضوية.

وعندما نقرأ ما كتبه "بديع الزمان" عن هذه الفترة من حياته في استانبول نراه دائم المراقبة لنفسه، ودائم الاتهام لها، يرى في أحيان كثيرة أنها في غفلة، فهو دائم الرجوع إلى نفسه يذكرها بالموت وبان الحياة فانية، وكلما زاد إحساس الشخص بذاته وبكيانه صعب عليه الفناء ووداع هذا الكيان، ولكنه يعود فيذكر نفسه؛ ان الموت ليس نهاية كل حي وكل نفس فهناك حياة أخرى هي التي يجب أن نسعى لها.

يسجل "بديع الزمان" خلجات نفسه هذه بعد وصوله إلى استانبول فيقول:

"حينما خالط بعض شعرات رأسي البياض الذي هو علامة الشيخوخة وكانت أحداث الحرب العالمية

الأولى وما خلفه الأسر لدى الروس من أثار عميقة في حياتي عمّقت فيّ نوم غفلة الشباب، وتلا ذلك استقبال رائع عند عودتي من الأسر إلى استانبول، سواء من قبل الخليفة أو شيخ الإسلام، أو القائد العام، أو من قبل طلبة العلوم الشرعية، وما قوبلت به من تكريم وحفاوة أكثر مما أستحق بكثير.. كل ذلك ولّد عندي حالة روحية زادت من سكرة الشباب وغفلته، وعمّقت فيّ ذلك النوم أكثر، حتى تصورت معها ان الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.

ففي هذا الوقت، ذهبت إلى جامع بايزيد في استانبول، وذلك في شهر رمضان المبارك لأستمع القرآن الكريم من الحفاظ المخلصين فاستمعت من لسان أولئك الحفاظ ما أعلنه القرآن المعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الإنسان وزواله، ووفاة ذوي الحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريمة:

(كلُ نفسٍ ذائِقَةُ الموتِ( آل عمران185.

نفذ هذا الإعلان الداوي إلى صماخ أذني مخترقاً وممزقاً الطبقات الكثيفة الغليظة للنوم والغفلة والسكرة حتى استقر في أعمق أعماق قلبي.

رأيت نفسي - لبضعة أيام - كأن اعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بما بقي من آثار ذلك النوم العميق المستقر فيّ منذ أمد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البحر المضطربة البوصلة.. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما نظرت إلى المرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تخاطبني قائلة: انتبه!.

نعم.. إن الأمور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت: ان الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً بأذواقه يقول لي: الوداع.. وان الحياة الدنيا التي كنت أرتبط بحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت أتشبث بها، بل كنت مشتاقاً إليها وعاشقاً لها، رأيتها تقول لي: الوداع.. الوداع.. مشعرة إياي، بانني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها - أي الدنيا - هي الأخرى تتهيأ للرحيل لتقول: وداعاً.

كل ذلك بما انفتح إلى القلب من المعنى الكلي لهذه الآية الكريمة: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ومن شموليتها، ذلك المعنى الذي يتضمنها وهو:

أن البشرية قاطبة كالنفس الواحدة، فلابد انها ستموت كي تبعث من جديد، وان الكرة الأرضية - كذلك - نفسٌ فلابد أنها سوف تموت ويصيبها البوار كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الخلود، وان الدنيا هي الأخرى نفس وسوف تموت وتنقضي كي تتشكل بصورة آخرة.

فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت:

ان الشباب - الذي هو مدار الأذواق واللذائذ - ذاهب نحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الأحزان. وان الحياة الساطعة الباهرة لفي ارتحال، وتتهيأ الحياة المظلمة المخيفة - ظاهراً - وهي الموت لتحل محلها.

ورأيت الدنيا التي هي محبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة وتُظنّ انها دائمة، رأيتها تجري مسرعة إلى الفناء. ولكي انغمس في الغفلة واستمر في خداع نفسي وليّت نظري شطر أذواق المنـزلة الاجتماعية ومقامها الرفيع - الذي حظيت به والذي خُدعت به نفسي وهو فوق حدّي وطوقي - في استانبول من الحفاوة والإكرام والسلوان والإقبال والإعجاب.. فرأيت ان جميعها لا يصاحبني إلاّ إلى حد باب القبر القريب مني. وعنده تنطفئ؛ لذا لم أر لها أيّ جدوى ونفع.

ورأيت أن رياءً ثقيلاً، وأثَرة باردة، وحيرة مؤقتة، تكمن تحت الستار المزركش للإعجاب بالنفس، التي هي المثل الأعلى لأرباب الشهرة وعشاقها، ففهمت أن هذه الأمور التي خدعتني حتى الآن لن تمنحني أي سلوان، ولا يمكن أن أتلمس فيها أي قبس من نور.

ولكي استيقظ من غفلتي مرة أخرى وانتبه منها نهائياً، بدأت بالاستماع كذلك إلى أولئك الحفاظ الكرام في "جامع بايزيد" لأتلقى الدرس السماوي للقرآن الكريم.. وعندها سمعت بشارات ذلك الإرشاد السماوي من خلال الأوامر الربانية المقدسة في قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا..) البقرة([131])..25

وفي زيارة له إلى المقبرة التي فيها قبر الصحابي الجليل "أبو أيوب الأنصاري" رضى الله عنه، وكانت في ضاحية من ضواحي استانبول آنذاك، تنتابه يقظة روحية أخرى فنراه يقول:

"بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلة عليّ - مرة أخرى - طوال سنتين من حياتي في استانبول، حيث الأجواء السياسية وتياراتها تصرف نظري عن التأمل في نفسي، وتحدث تشتتاً في ذهني وفكري.

كنت جالساً ذات يوم في مقبرة "أبي أيوب الأنصاري" - رضى الله عنه - وعلى مرتفع مطلّ على وادي سحيق، وبينما كنت مستغرقاً في تأمل الآفاق المحيطة باستانبول، إذا بي أرى كأن دنياي الخاصة أوشكت على الوفاة، حتى شعرت - خيالاً - كأن  الروح تنسل مني انسلالاً من بعض جوارحي وكياني. فقلت: تُرى هل الكتابات الموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعتني إلى هذا الخيال؟.

أشحتُ نظري عن الخارج وأنعمت النظر في المقبرة دون الآفاق البعيدة فألقي في روعي:

ان هذه المقبرة المحيطة بك تضم مئة استانبول؛ حيث ان استانبول قد أفرغت فيها مئة مرة، فلن تستثني أنت وحدك من حكم الحكيم القدير الذي أفرغ جميع أهالي استانبول هنا، فأنت راحل مثلهم لا محالة..

غادرت المقبرة وأنا أحمل هذا الخيال المخيف، ودخلت إلى الغرفة الصغيرة في محفل جامع أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - والتي كنت أدخلها مراراً في السابق فاستغرقت في التفكير في نفسي: إنما أنا ضيف، وضيف من ثلاثة أوجه:

إذ كما أنني ضيف في هذه الغرفة الصغيرة، فأنا ضيف كذلك في استانبول، بل أنا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى المسافر ان يفكر في سبيله ودربه.

نعم، كما أنني سوف أخرج من هذه الغرفة وأغادرها، فسوف أترك استانبول ذات يوم وأغادرها وهكذا فسوف أخرج من الدنيا كذلك.

وهكذا جثمت على قلبي وفكري - وأنا في هذه الحالة - حالة أليمة محزنة مكدّرة. فلا غرو أنني لا أترك احباباً قليلين فحسب، بل سأفارق آلاف الأحبة في استانبول، بل سأفترق عن مئات الآلاف من الأحبة في الدنيا الجميلة التي ابتلينا بها.

ذهبت إلى المكان نفسه في المقبرة مرة أخرى وأنا في تلك الحالة، فبدا لي ان أهالي استانبول إنما هم جنائز يتحركون مثلما يظهر أولئك الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الأفلام السينمائية. إذ كنت أتردد إليها أحياناً للعبرة. فقال لي خيالي: ما دام قسم من الراقدين في هذه المقبرة يمكن ان يظهروا - كالشخوص السينمائية - متحركين، ففكّر في هؤلاء الناس كذلك، انهم سيدخلون هذه المقبرة، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

وبينما كنت أتقلب في تلك الحالة المحزنة المؤلمة إذا بنور من القرآن الحكيم وبإرشاد من الشيخ الكيلاني قدس سرّه يقلب تلك الحالة المحزنة ويحولها إلى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكّرني النور القادم من القرآن الكريم ونبهني إلى ما يأتي:

كان لك أصدقاء من الضباط الأسرى عند أسرك في قوصترما في الشمال الشرقي من روسيا، وكنت تعلم حتماً ان هؤلاء الأصدقاء سيرجعون إلى استانبول. ولو خيّرك أحدهم قائلاً: أتذهب إلى استانبول أم تريد ان تبقى هنا؟. فلا جرم من أنك كنت تختار الذهاب إلى استانبول - لو كان لك مسكة من عقل - بفرح وسرور حيث إن تسعمئة وتسعة وتسعين من ألف حبيب وحبيب لك هم الآن في استانبول، وليس لك هنا إلاّ واحد أو اثنان، وهم بدورهم سيرحلون إلى هناك، فالذهاب إلى استانبول بالنسبة لك إذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت إليها، ألم تصبح راضياً وشاكراً؟ فلقد نجوتَ من بلد الأعداء، ومن لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت استانبول الزاهية الجميلة كأنها جنة الدنيا. وهكذا الأمر حيث إن تسعاً وتسعين من مئة شخص، ممن تحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتحلوا إلى المقبرة، تلك التي تبدو لك موحشة مدهشة، ولم يظل منهم في هذه الدنيا الاّ واحد أو اثنان، وهم في طريقهم إليها كذلك. فوفاتك إذن ليست بفراق، ولا هي بافتراق، وانما هي وصال ولقاء مع أولئك الأحبة الأعزاء.

نعم ان أولئك - أي الأرواح الباقية - قد تركوا مأواهم وعشهم المندرس تحت الأرض،فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالم البرزخ.([132])

ويكتب عن هذه الفترة من حياته قائلاً:

"عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي عبد الرحمن في منـزل فخم على قمة چاملجة في استانبول. ويمكن ان تعتبر هذه الحياة التي كنت أحياها - من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا - حياة مثالية؛ ذلك لأنني نجوت من الأسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة أمامي في دار الحكمة الإسلامية وبما يناسب مهنتي العلمية، والشهرة والصيت والإقبال عليَّ تحفّ بي بدرجة لا أستحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من استانبول چاملجة وكل شيء بالنسبة لي على ما يرام، حيث ان ابن أخي عبد الرحمن - رحمه الله - معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحٍّ وخادم وكاتب معاً، حتى كنت أعدّه ابناً معنوياً لي.

وبينما كنت أحس بأني أسعد شخص في العالم، نظرت إلى المرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في الأسر في جامع "قوصترما" تبدأ بالظهور، فأخذت أنعم النظر وأفكر مدققاً في تلك الحالات التي كنت أرتبط بها قلبياً، وكنت أظنها مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه، إلاّ رأيت: أنه سبب تافه، وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. وفضلاً عن ذلك وجدت في تلك الأثناء قلة وفاء - بل عدمه - من صديق حميم، يُعدّ أوفى الأصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر على بال.. كل ذلك أدى إلى النفرة والامتعاض من الحياة الدنيا، فقلت لقلبي:

    - يا ترى هل أنا منخدع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون إلى حياتنا - التي يُرثى لها من زاوية الحقيقة - نظر الحسد والغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جميع هؤلاء الناس؟ أم أنا في طريقي إلى الجنون، لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانين بلهاء؟ وعلى كل حال.. فالصحوة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أرى أولاً: فناء ما أرتبط به من الأشياء المعرّضة إلى الفناء والزوال.

ثم التفتّ إلى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز.. عندها صرخت روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وتشبثت بالأشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخت من أعماقها:

ما دمتُ فانية - جسماً - فأي فائدة أرجوها من هذه الفانيات؟ وما دمت عاجزة فماذا أنتظر من العاجزين؟.. فليس لدائي دواء إلاّ عند الباقي السرمدي وإلاّ عند القدير الأزلي.

فبدأت أبحث وأستقصي.. راجعت أول ما راجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبحث فيها السلوة والرجاء. ولكن كنت - ويا للأسف - إلى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني - ظناً خطأ جداً - أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدر الرقي والتكامل ومحور الثقافة والتنوّر، بينما تلك المسائل الفلسفية هي التي لوثت روحي كثيراً، بل أصبحت عائقة أمام سموي المعنوي.

نعم، بينما كنت في هذه الحالة، إذا بالحكمة المقدسة السامية للقرآن الكريم تسعفني، رحمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبحانه. فغسلت أدران تلك المسائل الفلسفية، وطهرت روحي منها - كما هو مبين في كثير من الرسائل -  إذ كان الظلام الروحي المنبثق من العلوم الفلسفية، يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فأينما كنت أتوجه بنظري - في تلك المسائل - فلا أرى نوراً ولا أجد قبساً، ولم أتمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء ذلك النور الساطع من القرآن الكريم بما فيه تلقين التوحيد في جملة لا إله إلاّ هو فمزق ذلك الظلام وبدده.. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنّاً هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك بما أخذاه من تعليمات وتلقياه من دروس من أهل الضلالة والفلسفة. فبدأت المناظرة النفسية في هذا الهجوم حتى أختتمت - وللّه الحمد والمنّة - بانتصار القلب وفوزه([133])

 

 هزائم الحرب العالمية الأولى

بعد دخول أمريكا الحرب العالمية في صف انكلترة وفرنسا وروسيا، تعين مصير الحرب بشكل واضح وبدأت قوات دول المحور دول الائتلاف تمنى بالخسائر في جميع الجبهات تقريباً، وكانت إيطاليا قد غيرت صفها فانتقلت من جانب دول المحور إلى جانب دول الحلفاء، كما ثار الجيش البلغاري حليف ألمانيا وهجم على عاصمته بلغراد فاضطر فرديناند ملك بلغاريا إلى الفرار. وأعلن الجيش النمساوي استسلامه، واضطرت الجيوش الألمانية إلى التراجع أمام القوات الأمريكية نحو برلين، وبدأت الجيوش العثمانية تتراجع في جبهات فلسطين وسوريا أمام القوات الجديدة التي ساقتها انكلترة إلى هناك إذ تم أسر الجيش العثماني الثامن بكامله في هذه الجبهة.

كانت الصورة واضحة وجلية.. لقد فقدت الدولة العثمانية وكل حلفائها الحرب وانهزمت.. والويل للمهزوم.. بل ان استانبول نفسها كانت تحت تهديد الاحتلال..

في ظل هذه الهزائم والظروف القاسية سقطت حكومة الاتحاديين 8 تشرين الأول عام 1918 وشكلت وزارة تحت رئاسة أحمد عزت باشا التي اضطرت إلى  توقيع هدنة "موندروس" في جزيرة "ليمين"([134])  تشرين الأول 1919، والتي أمليت فيها شروط قاسية على الدولة العثمانية منها:

١ - على الجيوش العثمانية الموجودة في شبه الجزيرة العربية تسليم نفسها مع أسلحتها وعتادها إلى دول الحلفاء.

٢ - على الجيش العثماني الموجود في جبهة القفقاس التراجع عن المناطق التي احتلها. وكذلك إطلاق سراح الأرمن الذين اُسروا في أثناء الحرب.

3 - تسريح الجيش العثماني كاملاً ويتم الاقتصار على عدد محدد من الجنود والشرطة لحفظ الأمن في المدن وعلى طول الحدود.

٤ - من حق دول الحلفاء احتلال أية مدينة تراها ضرورية لحفظ أمنها في تركيا.

٥ - تقوم جيوش الحلفاء باحتلال مضايق "چنق قلعة" ومضايق البحر الأسود.

٦ - على القوة البحرية العثمانية البقاء في موانئها وعدم الخروج منها.

٧ - توضع جميع المواني التركية وسكك الحديد فيها تحت رقابة دول الحلفاء وتصرفها.

أجل.. كانت هذه هي أهم شروط الهدنة..

ويروى أن السلطان وحيد الدين عندما قرأ بنود هذه الهدنة اصفر وجهه وتجمد في مكانه وسقطت المسبحة من يده وقال:

"ولكن هذه ليست بنود هدنة.. إنها بنود استسلام كامل"([135]).

كانت هذه هي النهاية الحزينة للمغامرة الجنونية التي جرّ الاتحاد والترقي الدولة العثمانية إليها.. هذه الجمعية التي نشأت في أحضان الدول الأجنبية، وفي حماية المحافل الماسونية ومساندتها([136]) رغم كون بعض قادتها من غير الماسونيين أمثال "أنور باشا" الذي كان سليم النية غيوراً. إلاّ أن  هؤلاء القادة لم يجدوا في أنفسهم الشجاعة الكافية ليواجهوا الأمة، وليقدّموا أمامها الحساب، بل فضلوا الهرب إلى خارج البلاد.


الفصل الرابع

 حصاد الهشيم

إنني أستطيع ان أتحمل كل آلامي الشخصية، ولكن آلام الأمة الإسلامية سـحقتني. إنني اشعر بأن الطعنات التي وجّهت إلى العالم الإسلامي وجهت إلى قلبي اولاً، ولهذا تروني مسحوق الفؤاد، ولكني أرى نوراً سينسينا هذه الأيام الحالكة بإذن الله.

بديع الزمان سعيد النورسي
 

استانبول تحت أقدام المحتلين

استانبول.. هذه المدينة الجميلة الفاتنة.. مدينة التاريخ وبلدته.. ملتقى السماء والأرض والمياه.. وملتقى آسيا وأورپا.. مدينة الجوامع الفخمة والمآذن الرشيقة .. استانبول هذه كانت تعيش أياماً حزينة باكية.. ففي كل بيت.. وفي كل عائلة وأسرة كانت الدموع تذرف على زوج أو أخ أو على ابن شهيد([137]). أما في جبال القفقاس أو في سهول سوريا وفلسطين.. أو في چناق قلعة.. وكأن هذه الأحزان لم تكن كافية فقد أضيف حزن جديد ومصيبة جديدة.. ففي 13 تشرين الثاني سنة 1919 دخلت خمس وخمسون سفينة حربية لأسطول دول الحلفاء إلى استانبول حسب هدنة "موندروس".. اثنتا وعشرون منها لانكلترة.. اثنتا عشرة منها لفرنسا.. سبع عشرة منها لإيطاليا.. واربع منها لليونان.. وصلت هذه السفن إلى البوسفور أمام قصر "دولمه باغچه" ووجهت مدافعها نحو قصر الخليفة الذي أصبح في حكم الأسير.. وهكذا داست استانبول أقدام جنود احتلال لأربع دول دفعة واحدة..

وخرجت الأقليات غير المسلمة تصفق وتهلهل لجنود الاحتلال..

كان ذلك مثالاً لا نظير له في الجحود وفي صفاقة الوجه.. فبعد قرون وقرون من العيش بكل اطمئنان في كنف الدولة العثمانية التي وفرت لهم حرية العقيدة وحرية الكسب والعيش الكريم وتبوأ الكثيرون منهم مناصب وزارية فيها، واعفوا من الخدمة العسكرية.. بعد كل هذا كان هذا هو مقدار وفائهم وعرفانهم للجميل..

هرب اليهود من اسپانيا لينجوا بأنفسهم من ابشع صور القتل على أيدي محاكم التفتيش التي قتلت منهم الآلاف بأفظع طرق التعذيب والقتل، ولم يجدوا أمامهم إلاّ الدولة العثمانية - في عهد السلطان سليمان القانوني - تقبل لجوءهم إليها وتوفر لهم حرية العقيدة والعيش الكريم..

أما الأرمن الذين قاسوا الأمرين، عندما كانوا تحت حكم الفرس الذين حاولوا ان يمجّسوهم، وعندما دخلوا تحت حكم البيزنطيين حوربوا في مذهبهم، وحاول البيزنطيون  إدخالهم في مذهبهم الارثدوكسي كما حاربوا لغتهم وتراثهم. ولم يجدوا حرية العقيدة والعيش الكريم إلاّ في ظل المسلمين في العهد الأموي والعباسي ثم في العهد العثماني.

وعندما فتح "محمد الفاتح" استانبول سمح للأرمن ببطريركية مستقلة، بينما قاسى إخوانهم الذين عاشوا تحت حكم روسيا القيصرية أفظع أنواع الظلم. ولكن عندما بدأ الضعف يدب في جسد الدولة العثمانية أصبحوا أداة في أيدي الدول الأجنبية وعلى رأسها روسيا لإثارة القلاقل ضد الدولة العثمانية تمهيداً لتقويضها، وها قد تحقق حلمهم وبدأت دول الحلفاء باحتلال استانبول فما المانع من إظهار الفرح، بل إظهار الشماتة

كذلك عاش الروم أي اليونانيون القاطنون في تركيا بكل اطمئنان وحفظت حقوقهم وعقيدتهم دون ان يتعرض لهم أحد بأذى حتى ان السلطان "محمد الفاتح" منحهم حقوقاً عديدة سميت بـ "الامتيازات الدينية".

خرج اليهود والأرمن وهم يلوحون بقبعاتهم لهؤلاء المحتلين ويصفقون لهم وينثرون عليهم الورود.

أما الروم فقد كانوا يحملون الأعلام اليونانية الصغيرة في أيديهم ويصيحون "زيتو.. زيتو.. - Zito .. Zito .. " أي يحيى.. يحيى"..

وبين هتاف وتصفيق ومظاهر فرح اليهود والأرمن والروم، اخترق القائد الفرنسي الجنرال "فرانس ديپرس Franse Deperes" شارع "بك اوغلو" متوجهاً إلى بناية السفارة الفرنسية ممتطياً جواداً أبيض وملوحاً بيديه لهؤلاء المستقبلين مقلداً في ذلك الفاتحين العظماء في التاريخ، ولم يتورع من وطء العلم العثماني بحوافر جواده([138]).

أما المسلمون فقد كانوا يشاهدون هذه المناظر بقلوب كليمة، وعيون تجمدت في مآقيها الدموع.. ويطوون هذه الآلام في أعماق قلوبهم.

في الأيام التي تلت هذا الاحتلال سرت أخبار بأن سلطات الاحتلال عازمة على جلب نواقيس كبيرة لتعليقها على جامع "ايا صوفيا".. كان خبراً مذهلاً... ذلك لأن "ايا صوفيا" كان قد اصبح  رمزاً لفتح استانبول.. ورمزاً لانتصار الإسلام. ومع ان الخليفة وحيد الدين كان قابعاً في قصره كالأسير دون حول ولا قوة تجاه جيوش الدول المحتلة، إلاّ انه لم يتحمل هذا الخبر فأمر وحدة حرسه الخاص بالذهاب إلى جامع "أيا صوفيا" ومنع ذلك وان أدى ذلك إلى فنائهم جميعاً.

والظاهر ان الدول المحتلة تراجعت عن هذه النية خوفاً من حدوث حركة شعبية لا يعرفون مدى ما تأخذ من أبعاد.

ولم تكن مدينة استانبول هي المدينة الوحيدة التي  احتلتها دول الحلفاء بموجب الصلاحية التي أعطتها لها مقررات هدنة "موندروس" بل تم احتلال مدن أخرى عديدة كذلك. ذلك لأن الجيش العثماني تم تسريحه فأصبح البلد مفتوحاً لهذه الدول.

فقد احتل الأرمن مدينتي "قارس"، و "أطنة" واحتل الإيطاليون "قوش آداسي" و"انطاليا" و"بوردر".

واحتل الانكليز "إزميت" علاوة على احتلالها لاستانبول.

واحتل اليونان مدناً عديدة أهمها إزمير، باليكسير، باندرما، مودانيا، مَنَمَنْ، آيدن، تكير داغ، كوتاهيا، اسكي شهر، آفيون قره حصار، بورصة، ادرنة.

وقد أوقع اليونان مذبحتين وحشيتين في "ازمير" وفي "منمن" سجلت في التاريخ صحيفة سوداء ضد اليونان.

لنعد إلى استانبول.. المدينة التي احتلتها جيوش أربع دول من الحلفاء.. شوارعها مملوءة بالجنود السكارى.. وفي الليل لهو وصخب وسكر وعربدة في ملاهيها.. وحزن صامت في الأحياء الإسلامية.

في هذا الجو الأليم بعدما توالت الهزائم على الدولة العثمانية وقد تراجعت جيوشها في جميع الجبهات، وفقدت كل ممتلكاتها ومئات الآلاف من زهرة شبابها في أتون الحرب، ثم عندما دخلت جيوش دول الحلفاء أراضي تركيا واضطرت أخيراً بعد هدنة "موندروس" إلى عقد معاهدة "سيڤر"([139]) التي كانت استسلاماً شبه مطلق لهذه الدول - أحس "بديع الزمان" وكأن هذه الطعنات توجه إلى أعماق قلبه.. كان يحس بألم كبير وكان أصدقاؤه يحاولون التسرية عنه والتخفيف من حدة آلامه، فكان يقول لهم والأسى يعصر قلبه

"إنني أستطيع أن أتحمل كل آلامي الشخصية، ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني، إنني أشعر بأن الطعنات التي وجهت إلى العالم الإسلامي كأنها وجهت إلى قلبي أولاً، ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد ولكني أرى نوراً ينسينا هذه الآلام إن شاء الله تعالى".([140])

في هذه الأيام العصيبة التي شكلت هذه الآلام جرحاً عميقاً في قلبه رأى رؤيا عجيبة، لنقرأها بقلمه

 حوار في رؤيا

"المعنى وكذا الألفاظ التي ظلت في الخاطر هي نفسها كما جاءت في الرؤيا"

كنت في أيلول سنة 1919 أتقلب في اضطراب شديد، من جراء اليأس البالغ الذي ولّدته حوادث الدهر. كنت أبحث عن نور بين هذه الظلمات المتكاثفة القاتمة.. لم استطع أن أجده في يقظة هي رؤياً في منام. بل وجدته في رؤيا صادقة هي يقظةٌ في الحقيقة.([141])

سأسجل هنا تلك النقاط التي استنطقها واُجريت على لساني من كلام، دون الخوض في التفاصيل. وهي كالآتي

دخلتُ عالم المثال في ليلة من ليالي الجمعة. جاءني أحدهم وقال

   - يدعوك مجلس موقر مهيب منعقد لبحث مقدرات العالم الإسلامي، وما آلت  إليه حاله.

فذهبت، ورأيت مجلساً منوراً قد حضره السلف الصالحون، وممثلون من العصور، من كل عصر ممثل.. لم أر مثيلهم في الدنيا.. فتهيبت، ووقفت في الباب تأدباً وإجلالاً.

قال أحدهم موجهاً كلامه لي

   - يا رجل القدر... ويا رجل عصر النكبة والفتنة والهلاك... بيّن رأيك في هذا الموضوع. فان لك رأياً فيه.

قلت وأنا واقف:

   - سلوني أجب

قال أحدهم:

   - ماذا ترى في عاقبة هذه الهزيمة - التي آلت إليها الدولة العثمانية - وماذا كنتَ تتوقع ان يؤول  إليه أمر الدولة العثمانية لو قُدِّر لها الانتصار؟.

قلت:

   - ان المصيبة ليست شراً محضاً، فقد تنشأ السعادة من النكبة والبلاء، مثلما قد تفضي السعادة إلى بلاء.. فهذه الدولة الإسلامية التي أخذت على عاتقها - سابقاً - القيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - حفاظاً على العالم الإسلامي، وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء لأجله، وحملت راية الخلافة اعلاءً لكلمة الله وذوداً عن استقلال العالم الإسلامي.. ستعوّض عما أصابتها من مصيبة، وستزيلها السعادة التي سوف يرفل بها عالم الإسلام.

إذ إن هذه المصيبة قد عجّلت بعث الاخوة الإسلامية ونماءها في أرجاء العالم الإسلامي. تلك الاخوة التي هي جوهر حياتنا وروحها. حتى أننا عندما كنا نتألم كان العالم الإسلامي يبكي، فلو أوغلت أورپا في إيلامنا لصرخ العالم الإسلامي.

فلو متنا فسوف نموت عشرين مليوناً من العثمانيين الأتراك - ولكن نُبعث ثلاثمائة - "أي ثلاثمائة مليوناً من المسلمين".

نحن نعيش في عصر الخوارق. فبعد مضي سنتين أو ثلاث على موتنا سنرى أحياءً يبعثون.

لقد فقدنا بهذه الهزيمة سعادة عاجلة زائلة، ولكن تنتظرنا سعادة آجلة دائمة، فالذي يستبدل مستقبلاً زاهراً فسيحاً بحال حاضرٍ جزئي متغير محدود، لاشك أنه رابح..

وإذا بصوت من المجلس:

   - بيّن و وضّح ما تقول

قلت:

   - حروب الدول والأمم قد تخلت عن مواضعها لحروب الطبقات البشرية. والإنسان مثلما يرفض ان يكون أسيراً لا يرضى ان يكون أجيراً أيضاً. فلو كنا منتصرين غالبين، لكنا ننجذب إلى ما لدى أعدائنا من الاستعمار والتسلط، وربما كنا نغلو في ذلك. علماً ان ذلك التيار - التيار الاستعماري الاستبدادي - تيار ظالم ومنافٍ لطبيعة العالم الإسلامي، و مباين لمصالح الأكثرية المطلقة من أهل الإيمان، فضلاً عن ان عمره قصير، ومعرّض للتمزق والتلاشي.

ولو كنا متمسكين بذلك التيار لكنا نسوق العالم الإسلامي إلى ما ينافي طبيعته الفطرية. فهذه المدنية الخبيثة التي لم نرَ منها غير الضرر، وهي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتُها على حسناتها، تحكم عليها مصلحة الإنسان بالنسخ، وتقضي عليها يقظة الإنسان وصحوته بالانقراض.

فلو كنا منتصرين لكنا نتعهد حماية هذه المدنية السفيهة المتمردة الغدارة المتوحشة معنىً في أرجاء آسيا.

قال أحدهم من المجلس:

    - لِمَ ترفض الشريعة هذه المدنية؟([142]).

قلت:

    - لأنها تأسست على خمسة أسس سلبية:

٭ فنقطة استنادها هي القوة، وهذه شأنها الاعتداء.

٭ وهدفها وقصدها المنفعة، وهذه شأنها التزاحم.

٭ ودستورها في الحياة الجدال والصراع، وهذا شأنه التنازع.

٭ والرابطة التي تربط المجموعات البشرية هي العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين. وهذه شأنها التصادم، كما نراه.

٭ وخدمتها للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي تشجيع هوى المنفعة، وإثارة النفس الأمارة، وتطمين رغباتها وتسهيل مطاليبها. وهذا الهوى شأنه إسقاط الإنسان من درجة الملائكية إلى درك الحيوانية الكلبية. وبهذا تكون سبباً لمسخ الإنسان معنوياً.

فمعظم هؤلاء المدنيين لو انقلب باطنهم بظاهرهم لوجد الخيال تجاهه صور الذئب والدب والحية والخنـزير والقرد.

ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية إلى أحضان الشقاء وأخرجت عشرة بالمئة منها إلى سعادة مموهة زائفة. وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء وأولئك، علماً أن السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية؛ بيد ان سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس.

لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.

ثم، انه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولت الحاجات غير الضرورية إلى ما يشبه الضرورية، إذ بينما كان الإنسان محتاجاً إلى أربعة أشياء في حياة البداوة والبساطة إذا به في هذه المدنية يحتاج إلى مئة حاجة، وهكذا أردَته المدنية فقيراً مدقعاً.

ثم، لأن السعي والعمل لا يفيان بالمصاريف المتزايدة انساق الإنسان إلى مزاولة الخداع والحيلة وأكل الحرام. وهكذا فسد أساس الأخلاق.

وبينما تعطي هذه المدنية للجماعة والنوع ثروة وغنى وهيبة إذا بها تجعل الفرد فقيراً محتاجاً، فاسد الأخلاق.

ولقد قاءت هذه المدنية وحشية فاقت جميع القرون السابقة.

وانه لجدير بالتأمل استنكاف العالم الإسلامي من هذه المدنية، وعدم تلهفه لها، وتحرجه من قبولها، لأن الهداية الإلهية التي هي الشريعة تعطي خاصية الاستقلال والاستغناء عن الآخرين، ولا يمكن أن تطعّم هذه الشريعة بالدهاء الروماني ولا أن تمتزج معها ولا يمكن ان تبلعها أو أن تتبعها.

ان دهاء الرومان واليونان - أي حضارتهما  - وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الأحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية أو دمجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لا يقبلان الامتزاج، بل انهما يعيشان الآن بروحهما بأنماط متنوعة وأشكال مختلفة.

فلئن كان التوأمان، مع وجود عوامل المزج والدمج والأسباب الداعية له، لم يمتزجا  طوال تلك الفترة، فكيف يمتزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي أساسها دهاء روما

لا يمكن بحال من الأحوال ان يمتزجا أو يهضما معاً.

قالوا:

    - فما هي المدنية التي في الشريعة؟

قلت:

    - أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً إيجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.

نعم.

٭ إن نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة والحق من شأنه العدالة والتوازن.

٭ وهدفها الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها التجاذب.

٭ وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية الرابطة الدينية، والوطنية، والمهنية بدلاً من العنصرية. وهذه شأنها الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند تجاوز الأجانب.

٭ ودستورها في الحياة التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والاتحاد.

وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكماً على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى رفع الإنسانية إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحدد الهوى وتحدّ من النـزعات النفسانية تطمئن الروح وتشوقها إلى المعالي..".([143])

٭٭٭

بعد أن احتل الإنكليز وحلفاؤهم استانبول بدأوا باتباع أسلوب الحرب النفسية أيضاً..

لقد انهدم الجانب العسكري والمادي من الدولة العثمانية، إذن فلابد من الإجهاز على الجانب المعنوي وعلى الجانب النفسي للأمة المغلوبة لكي يكون الانتصار كاملاً ونهائياً ودون أي احتمال لإبداء أية مقاومة.. يجب ان تسلم الضحية رقبتها برضائها ودون تذمر إلى جلاديها..

لذا فقد بدأ الإنكليز بنشر أفكار معينة ضمن هذه الحرب النفسية غايتها تحطيم روح المقاومة لدى الشعب المسلم فمثلاً لابد ان هزيمة الدولة العثمانية وانتصار الحلفاء عقاب من الله تعالى للمسلمين، وليس الإنكليز وحلفاؤهم سوى أدوات تحقيق هذه الإرادة الإلهية في عقاب المسلمين، لذا فما عليهم إلاّ الرضوخ للقدر الإلهي والرضاء به.

سرت آثار هذه الحرب النفسية في كثير من الأوساط الشعبية والعلمية، بل استطاعت القوى المحتلة - وعلى رأسها الإنكليز -  استمالة بعض العلماء - ومن ضمنهم شيخ  الإسلام آنذاك - إلى جانبها بالترغيب والترهيب وضد حركة الاستقلال التي اشتعلت أوارها في الأناضول.

وعندما شاهد الأستاذ النورسي مدى سريان هذه الحرب النفسية وقوة تأثيرها قام بنشر رسالة "الخطوات الست" بيّن فيها مكايد الإنكليز وردّ على الشبهات التي أثاروها وروّجوا لها، كما شدّ من عزائم المسلمين مبعداً عنهم مشاعر القنوط واليأس التي رافقت مآسي الهزيمة في الحرب العالمية الأولى التي انتهت بتمزيق الدولة العثمانية ووصول المستعمرين إلى استانبول والى مدن أخرى عديدة.

ولم يكن في الإمكان نشر هذه الرسالة بشكل علني في تلك الظروف، لذا أخذ طلابه على عاتقهم طبع هذه الرسالة ونشرها وتوزيعها سراً وعلى أوسع نطاق.

ونورد هنا نص هذه الرسالة لأهميتها، لأنها توضح موازين كثيرة مهمة، إذ انها ليست مجرد رسالة حماسية ضد المحتلين

 

 الخطوات الست

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة: 168)

اعلم ان لكل زمان شيطاناً انسياً، هو وكيل الشيطان  وقد لبس صورةَ انسانٍ فردٍ أو روح جماعة. وعزازيل([144]) زماننا هو الروح الغدّار الذي نشر الفساد في جوانب العالم بسياسته الفتانة، فيفسد العالم الإسلامي "بخطوات ست"  إذ يتحرى في الأناسي وفي الجماعات المنابعَ الخبيثة، فيستعملها لأغراضه، ويتوسم في الطبائع، المعادنَ المضرة فيستخرجها ويستخدمها لمصالحه بوساوسه الفعلية أي بدعاياته واشاعاته. ويتفطن في النفوس إلى الأعصاب الضعيفة والعروق الواهية التي لا تقاوم، فيحرّكها لمفاسده، فيستعمل من بعضٍ حرصَ الانتقام ..ويحرك من بعضٍ حرصَ الجاه.. ويهيج من بعضٍ حسّ الطمع.. ويستغل من بعضٍ الحمق.. ومن بعضٍ الإلحاد.. وهكذا، ومن العجيب انه يستغل من بعضٍ التعصب، فيتخذ كل ذلك وساطة لإنفاذ سياسته.

 الخطوة الأولى

انه يوسوس بالذات، أو بالوسيلة، فيقول صراحةً او يجعل غيره يردد ما يقوله:

أنتم تعترفون أنكم مستحقون لهذه المصيبة، فالقدر الالهي يعدل ولا يظلم، اذنً فارضوا بما اعاملكم به ، لأني وسيلة لما استحققتم.

نردّ هذه الوسوسة والشبهة، فنقول:

ان القدر الإلهي يصيبنا بمصيبة بسبب عصياننا لاوامر  الله. فالرضى بما قدر الله هو عين التوبة عن سبب المصيبة، وهو الذنوب. ولكنك ايها الواسط الملعون تظلمنا لكوننا مسلمين، وتصيبنا بظلمك لاسلامنا، لا لذنوبنا ومعاصينا، فالرضى بما تعمل، واطاعتك طوعاً انما هو ندامة عن الاسلام واعراض عنه  والعياذ بالله.

نعم ان الشئ الواحد يكون ذا جهتين؛ فهو مصيبة من جهة القدر، فتكون عدالة، لترتبها على السبب الباطن من ذنوب وشرور فينزلها القدرالالهي زجراً عنهما. فالرضى بهذه المصيبة - من هذه الجهة -  متضمن للندم من الذنوب.

والشيء نفسه يجيء من جهة البشر في الوقت نفسه، فيظلم البشر، لأن السبب عنده ليس كوننا مذنبين، بل كوننا مسلمين. فالرضى به من هذه الجهة اعظم الجنايات.

 الخطوة الثانية

يوسوس بالذات أو بالوساطة ، فيقول:

 بانكم قد اتفقتم مع من هو مثلي في الكفر ([145]) ، فَلِم تتجنبون من المصافاة  معي وموالاتي؟

نقول رداً على هذه الشبهة:

نحن نقبِّل يد المعاونة، ولا نَقْبل يد المعاداة فهما شيئان متغايران، لأن كل صفة من صفات الكافر ليست بكافرة أو ناشئة من كفره، لذا لا مشاحة  في مصافحة يد الكافر الذي مدها لمعاونة الاسلام، وذلك لدفع عدو الاسلام المعتدى العريق . بل قبولها انما هو خدمة للاسلام. أما أنت ايها الكافر الملعون فتمدّ يد الخصومة التي لا تهدأ، وتريد منـا تقبيلهـا مع الاستسلام. ونحن نعلـم أن مسها - فضلا عن تقبيلها - جناية على الاسلام وعداء له.

 الخطوة الثالثة

 يوسوس بالذات أوبالوساطة فيقول:

أن من ساسوكم الى الان افسدوا واستهانوا بحقكم وشوشوا عليكم الادارة وظلموكم، اذاً فلستم اهلاً للادارة ، فاتخذوني وصيّاً عليكم وارضوا بحكمي وادارتي شؤونكم.

نرد هذه الشبهة فنقول:

ايها الموسوس الخناس ! ان السبب الاصلي للسيئات التي ارتكبها رؤساء امورنا ما هو الا انت، لأنك قد ضيقت عليهم الدنيا، وقطعت في كل فرصة مجاري حياتهم، وبثثت بينهم اولادك غير الشرعيين، واجبرتهم على ترك الدين للدينا اذ تنكحهم مدنية لا تأخد مهرها الا من دينهم ولا تعين حاكماً  الا وقد أخذتَ منه دينه رشوة لقاء منصبه.

ومع ذلك فلو حكمناك فينا بدلاً منهم، نصير كمن تنجس ثوبه بماء نجس فيغسله ببول الخنزير.

انك لا تُبقى لنا الا حياة  حيوانية مؤقتة،  وتقتل فينا حياتنا الانسانية والاسلامية.

 أما نحن فنحيا -  على رغمك - بحياة الاسلام وشرف الانسانية.

 الخطوة الرابعة

يوسوس بالذات أوبالوساطة ، فيقول :

بأن الذين يخاصمونني من اولياء اموركم في الاناضول ([146])، نيتهم فاسدة ومقصدهم ليس مقاصدكم الاسلامية عينها.

نرد هذه الوسوسة فنقول :

انهم وسائل، وتأثير النيات في الوسائل قليل، اذ لا تغير حقيقة القصد. لأن المقصود يترتب على وجود الوسيلة وليس على ما فيها من نية.

فمثلاً: اني احفر ارضاً لاستخراج الماء أو للعثور على كنز، وجاء احدهم وعاونني في الحفر بنية ستر نفسه في الحفرة أو بدفن شئ فيها، فنيتهُ هذه لا تؤثر في وجدان الماء ولا الكنز، لأن خروج الماء يتوقف على فعل الحفر وليس على نية الحافر وقلبه.

نعم! ان قصد المخاصمين لك  وهدفهم هو توجيه المسلمين شطر الكعبة لا الى الغرب، والحفاظ على مكانة القرآن الرفيعة ذلك الكتاب الآمر باعلاء كلمة الله بالعزة الاسلامية. فهم يقيمون خصومة  اوروبا مقام محبتها التي هي اساس كل مشاكلنا وسوء اخلاقنا.  فكيفما تكن نيتهم لا تغير حقيقة هذه المقاصد الثابتة.

 الخطوة الخامسة

يقول بنفسه أو بوسائله :

ان الإمام - أي الخليفة - يؤيد سياستنا ويميل الى الود معنا، وامره مطاع!

فنرد هذه الشبهة:

ان ميل الشخص نفسه وامره الخاص وفكره الذاتي، مغاير تماماً للميل الحاصل من الشخصية المعنوية لأمر أمين الامة المتقلد امانة الامامة والخلافة فهذه الارادة تنبثق من عقل وتستند الى قوة وتتوجه الى مصلحة العالم الاسلامي.

 أما عقله فهو شورى الأمة، وليس شبهتك ووسوستك! وقوته هو جيشه المسلح وامته الحرة، وليس سلاحك وحرابك. والمصلحة انما تتوجه من المحيط الاسلامي الى المركز، فترجح الفائدة العظمى للاسلام والمسلمين على المصالح الشخصية. والا لو انعكس الامر ورجحت - عند التعارض - مصلحة القربى على المصلحة العظمى، كترجيح سرير السلطنة على استانبول وهي على الاناضول وهو على الدولة وضُحي بالعالم الاسلامي لأجل الدولة فهذا الترجح لايطاع. وهو امر غير وارد  اصلا. فالسلطان المتدين، وحيد الدين لو اصبح أفجر انسان، فلا يمكنه ان يقوم بهذا الأمر بارادته لسبب واحد هو أنه يحمل اسم الخليفة ، فان قام به فلا يقوم الا مكرهاً. فطاعته عند ذاك بترك طاعته.

 الخطوة السادسة

انه يوسوس فيقول :

بأن مقاومتكم لا فائدة فيها ولا جدوى منها، انكم تلقون انفسكم بايديكم الى التهلكة، اذ كيف تقتدرون وحدكم على مالم تقتدروا عليه مع حلفائكم؟

فنرد هذه الشبهة:

ان قوتك العظيمة المخاصمة لنا، انما تتماسك متخاذلة على رجلَي الحيلةَ والافساد، فلا نيأس لإسباب ثلاثة:

الاول: ان الحيلة والافساد انما تؤثران اذا استترتا تحت حجاب الخفاء والغفلة، فاذا ما تظاهرتا أفلستا، وانطفأت قوتهما.. وها قد تمزق الحجاب تمزقاً صيّر كذبك وهذيانك وافسادك اضحوكة، وشيئاً عقيماً لا يؤثر في شيء.

الثاني: ان قوتك المأفونة المنخورة المخاصمة لنا ليست بلا اعداء اذ تقابلها اعداء لا يقبلون الائتلاف معك ابداً، مما يقضي عليها ويجعل تسعين بالمئة منها معطلة لا نفع فيها. اما بقية قوتك فلا يمكنها ان تديم - كما ادامت في الماضي - استبدادات قاتمة تجثم على عالم الاسلام وتسكته بكمّ الافواه وتأسره حتى تتركه دون حراك، ذلك العالم اليقظ الذي تشترك اجزاؤه في الداء والدواء.

فهذا احتمال بعيد جداً، ان اعتقدته فانك اذاً احط من الدابة واحمق من الحمار مع انك شيطان خبيث.

الثالث: ان كان لابد من الهلاك بيدك فالموت بعزة حياة لنا والحياة بذلٍ هي الموت بعينه. والموت على نوعين وصورتين:

احدهما: التسليم والتذلل تحت اقدامك، فحينها نكون قاتلين لروحنا ووجداننا بأيدينا. ثم يقتل الخصم جسدنا كأنه قصاص لقتلنا الروح والوجدان.

والنوع الثاني: ان يحافظ المرء على وجدانه ويقاوم خصمه، ويبصق في وجهه وينزل صفعته على عينه، فيحيا الروح والوجدان، ويستشهد الجسد، وتتنزه الفضيلة عن الرذيلة والعقيدة عن الاستخفاف وعزة الاسلام  عن الاستهزاء.

وحاصل الكلام:

ان محبة الاسلام توجب عداءكم وخصومتكم، اذ كيف يصالح جبرائيل (عليه السلام) عزازيل!

ان أشد العقول بلاهة عقلٌ يرى امكان التوفيق والتلاؤم بين اطماع (الانكليز) ومنافعهم وبين عزة الاسلام ومصلحته.

وان اكثر القلوب حماقة قلبٌ يظن إمكان الحياة تحت حمايتهم اذ يعلقون حياتنا بشرط محال في محال، اذ يقولون: احيوا حياةً ولكن  بشرط الاّ تُرى في فرد منكم خيانة وإلاّ ندمّر عليكم الديار ونمحي المتهم والبرئ معاً.

فلو تحدى ظلمهم صادق لوجه الحق، والتجأ الى جامع اياصوفيا، فلا يتحرجون من هدم ذلك البناء الشامخ الذي لا يقدّر بثمن. واذا ما وجد في قرية من يقاومهم فلا يرون بأساً من إبادة القرية كاملة بشيبها وشبابها اذ يرون ان لهم صلاحية افناء جماعة برمتها اذا كان فيها من يضرهم. فتباً لمدنيةٍ خولتهم هذه الصلاحية.

اذاً أفيمكن ان يتفق قلبٌ مع قلبِ مَن يتلذذ بغرز خنجر الظلم فيه؟

أفيمكن ان لا يوجد مشاغب في مدينة أو قرية أو جماعة؟ فكيف يمكن اذاً ادامة حياة انسانٍ مريض مقيد، سُلب منه عصاه، وسلط عليه كلبان ذوا مخالب وانياب: ان (الانكليز) كالشيطان الرجيم يثير احاسيس الانسان الخبيثة ويشجع الاخلاق الرذيلة في حين يطفئ جذوة المشاعر النبيلة.

وان ما يظهره هذا العدو من حقد دفين لا يسكن ليس هو نتيجة الحرب الحالية لان انهزامنا كان كافياً لتسكينه كما سكن لدى الآخرين!..

فيا ايها المسلمون، أفبعد كل هذه الاحوال تنخدعون؟ أفبعد ما رأيتم من قربٍ قبحَ الكفار وشناعتهم - بعد ما كان يُرى جميلاً من بعيد - تستحسنون ما استقبحه الشرع والعقل ومصلحة الاسلام.

استعيذوا بالله من همزات الشيطان، والتجئوا اليه متضرعين نادمين وتوسلوا برحمة الرحمن الرحيم.

***

واشتركت الكنيسة الإنكليزية في الشماتة بالمسلمين، لذا نراها توجه ستة أسئلة إلى المشيخة الإسلامية حول الدين الإسلامي على أن تتم الإجابة عنها بستمائة كلمة، فحولت المشيخة هذه الأسئلة إلى عدد من العلماء كان منهم "سعيد النورسي" الذي كان جوابه

"إن هذه الأسئلة لا يجاب عنها بستمائة كلمة ولا بست كلمات ولا بكلمة واحدة، بل ببصقة على الوجه الصفيق للإنكليزي اللعين".

ولكنه قال انه سيجيب من أجل الحقيقة وليس جواباً للإنكليز.

من نماذج هذه الأسئلة والأجوبة نسوق ما يأتي:

سؤال: ما الدين المحمدي؟

الجواب: هو القرآن.

سؤال: ماذا أعطى للحياة وللفكر؟

الجواب: أعطى التوحيد والاستقامة.

سؤال: ما علاج الأزمات التي تعاني منها البشرية؟

الجواب: تحريم الربا، وفرض الزكاة.

سؤال: ما تفسير هذا الزلزال؟ أي الصراع بين البرجوازيين وطبقة العمال.

الجواب: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم)  (39 : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34) ([147])

 

٭٭٭

بعد ان تمزقت أوصال الدولة العثمانية بدأت أطراف كثيرة في المطالبة بتأسيس دول على أنقاضها، إذ طالب الأرمن بتأسيس دولة أرمنية، كما ظهرت رغبة عند بعض المثقفين الأكراد في إنشاء دولة كردية في الجزء الشرقي من تركيا حيث سكان الولايات الشرقية أكثرهم من الأكراد، ولما كان "سعيد النورسي" ذا شهرة وصيت في جميع أنحاء تركيا وبصورة خاصة ذا منـزلة ومحبة وتقدير في قلوب أهالي الولايات الشرقية، فقد فكر أحد هؤلاء المثقفين وكان صحفياً واسمه رفعت بك بمفاتحة "النورسي" بهذا الاقتراح فأرسل  إليه رسالة بهذا الخصوص، ولكن "سعيد النورسي" وهو العالم المسلم الذي آلمه تمزق الدولة العثمانية ما كان ليرضى مزيداً من التمزيق ولا اتخاذ رابطة الدم بديلاً عن رابطة الإيمان والفكر، لذا فقد أجابه بالرفض برسالة مطولة.([148])

وكان بعض المثقفين الأكراد قد أسسوا لهم جمعية أطلقوا عليها اسم "جمعية تعالي الأكراد"، فتوجه رئيس هذه الجمعية وهو السيد عبد القادر إلى "النورسي" بهذه الاقتراح، مرة أخرى، فتكرر رفضه.([149])

 

 حركة المقاومة

كانت جيوش الاحتلال الإنكليزي والفرنسي واليوناني والإيطالي والعصابات الأرمنية قد احتلت كما ذكرنا مدناً تركية عديدة. فخيم أول الأمر يأس وقنوط ثقيلان على الأنفس، إلاّ ان حركة المقاومة سرعان ما انفجرت في الأناضول فحمل الشعب ما تبقى من السلاح وتجمع بشكل عصابات فدائية بادئ الأمر، ثم بدأ الضباط ينظمون هذه العصابات ويجمعون الجنود الهاربين، وبدأت سرايا وأفواج عسكرية بالالتحاق بهذه الحركة التي بدأت تكبر وتنمو وتنقلب إلى جيش نظامي يقوده ضباط متمرسون، وبدأ علماء الدين يحثون الجماهير للانخراط في هذه الحركة بداعي الجهاد في سبيل الله، فكان لهم تأثير كبير وواسع، لذا فقد فكر الإنكليز المحتلون - حيث كانوا يحتلون استانبول مركز الخلافة - القيام بحركة معاكسة فاستصدروا من شيخ  الإسلام "عبدالله أفندي" فتوى ضد هذه الحركة وضد القائمين بها، ولكن سرعان ما هبّ العلماء والمفتون وبعض النواب باستنكار هذه الفتوى وإصدار فتوى مضادة بتأييد هذه الحركة، وكان "سعيد النورسي" ضمن هؤلاء العلماء إذ قال

"ان فتوى تصدر عن مشيخة وإدارة موجودة تحت إمرة الإنكليز وتحت ضغطهم لابد ان تكون فتوى غير سليمة ولا يجوز الانصياع لها، لأن القائمين بمقاومة احتلال الأعداء لا يمكن اعتبارهم عصاة، لذا يجب سحب هذه الفتوى"([150]).

ونتيجة لتوسع هذه الحركة الوطنية وانضمام كثير من الضباط والجنود إليها ومساندة الجماهير لها فقد انتصرت في النهاية مما ادّى إلى تقوية حكومة أنقرة التي كانت تقود هذه الحركة وكان مصطفى كمال على رأسها، وتضعضع وضع حكومة استانبول. واضطر الخليفة محمد السادس إلى الهرب، وقد حلت معاهدة "لوزان" محل معاهدة سيڤر فيما بعد. أما معاهدة "لوزان" فكانت تحوي البنود التالية:

1- ضم تراقيا الشرقية ومن ضمنها ادرنة إلى تركيا.

2- تخلي تركيا عن جميع حقوقها في سوريا وفلسطين والعراق ومصر والسودان والجزيرة العربية وكذلك عن قبرص.

3- جزر الدوديكانيز تصبح تحت سيادة إيطاليا.

4- تضم اليونان لها جزر بحر ايجه باستثناء جزيزتي امبروس وتينيدوس.

5- ضمان حرية الملاحة في المضايق مع ازالة الاستحكامات القائمة على ضفاف البوسفور وبعض سواحل بحر مرمرة ازيلت هذه الفقرة بمعاهدة مونتريه  سنة 1936.

6- تتعين الحدود الشمالية للعراق في مفاوضات قادمة، واذا لم يحل الخلاف يعرض الأمر على عصبة الأمم.

وقد ذكر بعض المؤرخين ان من بين البنود السرية لهذه المعاهدة شرط إلغاء الخلافة وإعلان العلمانية. وقد تم ذلك كما هو معلوم.

وهذا موضوع طويل لا نملك هنا إعطاء التفاصيل حوله.([151])

 

٭٭٭

 سعيد النورسي في أنقرة

كانت أنقرة قد أصبحت مركز حركة المقاومة، وكان "مصطفى كمال" قد أصبح على رأسها، ولما كان "سعيد النورسي" يملك تاريخاً طويلاً في الجهاد وفي مقاومة الاحتلال الأجنبي فقد دعي للالتحاق بالحركة والقدوم إلى أنقرة.

رفض "النورسي" هذه الدعوة بادئ الأمر، إذ كان يحس بأن بقاءه في استانبول ومقاومته للاحتلال الإنكليزي هناك يُعدّ أفضل من الذهاب إلى أنقرة، وقال في رفض الدعوة "إنني أريد أن اُجاهد في اكثر الأماكن خطراً، وليس من وراء الخنادق، وأنا أرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول"([152])..

ولكن محبيه كرروا الدعوة وألحوا عليه فأرسل بعض طلابه أول الأمر منهم "دمير اوغلو" و "ملا سليمان" ثم ذهب هو إليها سنة 1922 قبل أسبوع واحد من عيد الأضحى.. وفي محطة قطار أنقرة كان هناك حشد كبير من الأهالي ومن أعضاء البرلمان في استقباله.

وفي يوم 9 تشرين الثاني سنة 1922 أقيم احتفال في مجلس المبعوثان أي مجلس الأمة بمناسبة قدوم "النورسي" وزيارته للمجلس([153])، وصعد "النورسي" إلى المنصة حيث ابتهل إلى الله تعالى ان ينصر المجاهدين ضد الغزاة المستعمرين.

ولكن "النورسي" رغم مظاهر الحفاوة التي أحيط بها في أنقرة لم يكن سعيداً بالمرة، إذ لاحظ والأسى يعصر قلبه مظاهر البعد عن الدين عند العديد من النواب فأكثرهم كانوا لا يؤدون الصلاة، كما أن السلوك المعادي للإسلام قد بدأ واضحاً في تصرفات "مصطفى كمال" وأفكاره، لذا فقد قرر أن يوجه بياناً إلى هؤلاء النواب، وقد قام فعلاً بإلقاء خطاب جامع في مجلس الأمة بتاريخ 19 كانون الثاني 1923، ونص الخطاب - الذي سنورده بعد قليل - لا يزال محفوظاً في سجلات المجلس، وكان من تأثير هذا الخطاب ان عدداً يتراوح بين 50 - 60 من النواب بدأوا بأداء الصلاة حتى ان مسجد بناية المجلس لم يعد يسع للمصلين فتم تخصيص غرفة كبيرة لأداء الصلاة([154]).

ولم يرض "مصطفى كمال" عن هذا الخطاب ولا عن آثار نشاط "النورسي" فاستدعاه  إليه حيث حدثت مشادة عنيفة بينهما، إذ عاتبه "مصطفى كمال" قائلاً:

    - إننا لا شك بحاجة إلى عالم قدير مثلك، لذا فقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك المهمة، ولكن أول عمل قمت به هنا هو الحديث عن الصلاة، أي ان أول جهودكم هنا كان في بث الفرقة بين أعضاء هذا المجلس.

فأجابه "النورسي" وهو يشير بإصبعه  إليه محتداً:

    - يا باشا.. يا باشا.. ان أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة وان الذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود.

وقد أدرك "مصطفى كمال" خطورة بقاء "النورسي" في أنقرة ففكر بإبعاده عنها، فعرض عليه وظيفة واعظ عام أي رئيس الوعاظ" في الولايات الشرقية وبراتب كبير،  أو إرجاعه عضواً في دار الحكمة الإسلامية مع تخصيص بيت كبير له، ولكن "النورسي" رفض الطلب.([155])

ونورد هنا نص ترجمة خطاب "النورسي" إلى مجلس الأمة التركي ألقاه في 19 كانون الثاني 1923

 خطاب إلى مجلس الأمة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً)

يا أيها المبعوثون! إنكم لمبعوثون ليوم عظيم.

أيها المجاهدون! ويا أهل الحل والعقد!

أرجو أن تعيروا سمعاً إلى مسألة يُسديها إليكم هذا الفقير إلى الله في بضع نصائح وفي عشر كلمات:

أولاّ: إن النعمة الإلهية العظمى في انتصاركم هذا تستوجب الشكر، لتستمر وتزيد، إذ أن لم تُستقبل النعمة بالشكر تزول وتنقطع. فمادمتم قد أنقذتم القرآن الكريم من إغارة العدو - بفضل الله تعالى - فعليكم إذا الامتثال بأمره الصريح وهو الصلاة المكتوبة، كي يظل عليكم فيضهُ وتدوم أنواره بمثل هذه الصورة الخارقة.

ثانياً: لقد أبهجتم العالم الإسلامي بهذا الانتصار، وكسبتم ودّهم وإقبالهم عليكم، ولكن هذا الودّ والتوجّه نحوكم إنما يدومان بالتزام الشعائر الإسلامية؛ إذ يحبكم المسلمون ويودّونكم لأجل الإسلام.

ثالثاً: لقد توليتم قيادة مجاهدين وشهداء في هذا العالم وهم بمثابة أولياء صالحين، فمن شأن أمثالكم من الغيارى السعيُ والجدّ لامتثال أوامر القرآن الكريم لنيل صحبة أولئك النورانيين، والتشرف برفاقتهم في ذلك العالم. وإلاّ تضطرون إلى التماس العون والمدد من أبسط جندي هناك، في حين انتم قادة هنا. فهذه الدنيا بما فيها من شهرة وشرف لا تستحق أن تكون متاعاً ترضي كراماً أمثالكم، ولا تكون لكم غاية المنى ومبلغ العلم.

رابعاً: إن هذه الأمة الإسلامية مع أن قسماً منهم لا يؤدون الصلاة. إلاّ انهم يتطلعون أن يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة. بل إن أول ما يبادر أهل كردستان - الولايات الشرقية - مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم. فان كانوا مقيمين لها، فبها ونِعمَت ويثقون بهم، وإلاّ فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في أداء واجباته. ولقد حدثت في حينه اضطرابات في عشائر "بيت الشباب" فذهبتُ لأستقصي أسبابها، فقالوا: إن كان مسؤولنا "القائمقام" لا يقيم الصلاة ويشرب الخمر، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين؟ هذا علماً أن الذين قالوا هذا الكلام هم أنفسهم كانوا لا يؤدون الصلاة، بل كانوا قطاع طرق!.

خامساً: إن ظهور اكثر الأنبياء في الشرق واغلب الفلاسفة في الغرب رمزٌ للقدر الإلـــهي بأن الذي يستنهض الشرق ويقوّمه إنما هو الدين والقلب، وليس العقل والفلسفة.. فمادمتم قد أيقظتم الشرق ونبهتموه، فامنحوهم نهجاً ينسجم مع فطرته. وإلاّ ستذهب مساعيكم هباءاً منثوراً، أو تظل سطحية موقتة.

سادساً: إن خصومكم وأعداء الإسلام الإفرنج - ولاسيما الإنكليز - قد استغلوا ولا يزالون يستغلون إهمالكم أمور الدين، حتى أستطيع أن أقول: إن الذين يستغلون تهاونكم هذا يضرون بالإسلام بمثل ما يضرّ به أعداؤكم - اليونان - فينبغي لكم باسم مصلحة الإسلام وسلامة الأمة تحويل هذا الإهمال إلى أعمال. ولقد تبيّن لكم كيف لاقى زعماء الاتحاد والترقي نفوراً وازدراءً من الأمة في الداخل رغم ما بذلوه من تضحية وفداء وعزم وإقدام حتى كانوا سبباً - إلى حدٍ ما - في هذه اليقظة الإسلامية، وذلك لعدم اكتراث قسم منهم بالدين وبشعائره، بينما المسلمون في الخارج قد منحوهم التقدير والاحترام لعدم رؤيتهم تهاونهم وإهمالهم في الدين.

سابعاً: على الرغم من تمكن عالم الكفر في الإغارة على العالم الإسلامي منذ مدة مديدة فانه لم يتغلب عليه دينياً مع جميع إمكاناته وقدراته ووسائله الحضارية وفلسفته وعلمه ومبشريّه. فبقيت الفرق الضالة جميعها - في الداخل - أقلية محكومة. لذا ففي الوقت الذي حافظ الإسلام على صلابته ومتانته بأهل السنة والجماعة لن يتمكن تيار بدعي مترشح من الجانب الخبيث للحضارة الأوروبية، أن يجد سبيلاً إلى صدر العالم الإسلامي. أي أن القيام بحركة انقلابية جوهرية لا يمكن أن تحدث إلاّ بالانقياد لدساتير الإسلام، وإلاّ فلا. علماً انه لم يحدث مثل هذه الحركة في السابق، ولو كانت قد حدثت فلقد تلاشت سريعاً وأفلَت.

ثامناً: ليس بالإمكان القيام بعمل إيجابي بنّاء مع التهاون في الدين، حيث اقتربت الحضارة القرآنية من الظهور وأوشكت الحضارة الأوربية الضالة المسؤولة عن ضعف الدين على التمزق والانهيار. أما القيام بعمل سلبي فليس الإسلام بحاجة إليه، كفاه ما تعرض له من جروح ومصائب.

تاسعاً: إن الذين يولونكم الحب قلباً ولساناً، ويثمنون خدماتكم وانتصاراتكم في "حرب الاستقلال" هذه، هم جمهور المؤمنين، وبخاصة طبقة العوام، وهم المسلمون الصادقون. فهم يحبونكم بجد، ويعتزون بكم بصدق، ويساندونكم بإخلاص، ويقدّرون تضحياتكم، ويمدّونكم بأضخم ما تنبه لديهم من قوة. وانتم بدوركم ينبغي لكم الاتصال بهم والاستناد إليهم اتباعاً لأوامر القرآن الكريم ولأجل مصلحة الإسلام، وإلاّ فان تفضيل المتجردين من الإسلام والمبتوتي الصلة بالأمة من مقلدي أوربا المعجبين بها، وترجيحهم على عامة المسلمين منافٍ كلياً لمصلحة الإسلام؛ وسيولي العالم الإسلامي وجهه إلى جهة أخرى طلباً للمساعدة والعون.

عاشراً: إن كان في طريق تسعة احتمالات للهلاك، واحتمال واحد فقط للنجاة، فلا يسلكها إلاّ مجنون طائش لا يبالي بحياته.. ففي أداء الفرائض الدينية نجاة بتسع وتسعين بالمائة، علما انه لا يستغرق - هذا الأداء - إلاّ ساعة واحدة في اليوم، مقابل ما قد يمكن أن يكون احتمال ضرر واحد فقط يصيب الدنيا ومن حيث الغفلة والكسل. بينما إهمال الفرائض وتركها فيه احتمال تسع وتسعين بالمائة من الضرر مقابل واحد بالمائة من احتمال النجاة من حيث الغفلة والضلالة.. فيا ترى أي مسوّغٍ وأيّ مبرر يمكن ابتداعه في ترك الفرائض الذي يصيب ضرره الدين والدنيا معاً؟ وكيف تسمح حمية الفرد ونخوته بذلك التهاون؟

إن تصرفات هذه القافلة المجاهدة من أعضاء هذا المجلس العالي بالغة الأهمية، إذ إنها سوف تُقلّد.. فالأمة إما أنها تقلّد أخطاءهم أو تنتقدها، وكلاهما مليء بالأضرار والأخطار. أي أن تمسكهم بحقوق الله وتوجههم لأداء الفرائض يتضمن حقوق العباد أيضاً.

إن عملاً جاداً لا ينجز مع أولئك الذين يرضون بأوهام براقة نابعة من سفسطة النفس ووسوسة الشيطان ويصمّون آذانهم عن البلاغ المبين والبراهين الساطعة بالتواتر والإجماع.. ألا إن الحجر الأساس لهذا الانقلاب العظيم يجب أن يكون متيناً صلداً.

إن الشخصية المعنوية لهذا المجلس العالي قد تعهدت معنى "السلطنة" بما تتمتع به من قوة، فان لم يتعهد - هذا البرلمان - معنى "الخلافة" وكالةً أيضاً ولم يقم بامتثال الشعائر الإسلامية ولم يأمر الآخرين بالقيام بها، أي إذا اخفق في تقديم "معنى الخلافة" ولم يستوف حاجة الأمة الدينية - هذه الأمة التي لم تفسد فطرتها والمحتاجة إلى الدين اكثر من حاجتها لوسائل العيش - والتي لم تَنس حاجتها الروحية تحت كل ضغوط المدنية الحاضرة ولهوها، فإنها تضطر إلى منح معنى الخلافة إلى ما ارتضيتموه - تماماً - من اسم ولفظ. فتمنح له القوة والإسناد أيضاً لإدامة ذلك المعنى. والحال أن مثل هذه القوة التي ليست بيد المجلس ولا تأتي عن طريقه تسبب الانشقاق، وشق عصا الطاعة يناقض امر القرآن الكريم الذي يقول:

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) 1

إن هذا العصر عصر الجماعة، إذ الشخصية المعنوية - التي هي روح الجماعة - اثبت وامتن من شخصية الفرد. وهي اكثر استطاعة على تنفيذ الأحكام الشرعية. فشخصية الخليفة تتمكن من القيام بوظائفها استناداً إلى هذه الروح المعنوية. إن الشخصية المعنوية تعكس روح العامة فان كانت مستقيمة فان إشراقها وتألقها يكون أسطع وألمع من شخصية الفرد، أما إن كانت فاسدة فان فسادها يستشري وفق ذلك. فالشر والخير محددان في الفرد، بينما لا يحدهما حدود في الجماعة. فإياكم أن تمحقوا المحاسن التي نلتموها تجاه الخارج بإبدالها شروراً في الداخل.

انتم اعلم بأن أعداءكم الدائميين وخصومكم يحاولون تدمير شعائر الإسلام، مما يستوجب عليكم إحياء هذه الشعائر والمحافظة عليها. وإلاّ فستُعينون - بغير شعورٍ منكم - العدو المتحفز للانقضاض عليكم.

إن التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي إلى ضعف الأمة، والضعف يُغرى العدو فيكم ويشجعه عليكم ولا يوقفه عند حدّه.

حسبنا الله ونعم الوكيل.. نعم المولى ونعم النصير.([156])

 

٭     ٭      ٭

مؤلفاته في هذه الفترة

نتوقف هنا هنيهة لنلقِ نظرة سريعة على مؤلفاته التي نشرها منذ عودته من الأسر الروسي، وخلال إقامته في استانبول وفي أنقرة.

ان أول كتاب نشره كان كتاب "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" الذي كان قد ألفه في ساحات القتال باللغة العربية كما قلنا. وفي سنة1920 نشر رسالة "الخطوات الست" ضد الاحتلال الإنكليزي.

وفي سنة 1921نشر "سنوحات" باللغة التركية، أما في سنة 1923 فقد نشر عدة رسائل، إذ نشر "اشارات" و "طلوعات" و"لمعات" و"شعاعات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم" و"نقطة من نور معرفة الله" وكلها باللغة التركية.

أما في أنقرة التي بقي فيها ثمانية أشهر فقد نشر "ذيل الذيل" و"الحباب" باللغة العربية، وبعض أجزاء من "المثنوي العربي النوري".

كانت هذه الرسائل - وخاصة المؤلفة منها في أنقرة - تتناول مسألة الإيمان بالله والأدلة القاطعة عليه وعلى وحدانيته وذلك محاولة منه التصدي لموجة الشك والإلحاد التي بدأت تظهر بوضوح في أوساط مقلدي الغرب والمفتونين به، وكانت هذه الظاهرة واضحة أكثر في مدينة انقرة.

و "النورسي" يسجل هذا في مقدمة رسالته في "الطبيعة" إذ يقول:

"دعيت لزيارة أنقرة" سنة 1338هـ1922م وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلاّ أنني أبصرت - خلال موجة الفرح هذه - زندقة رهيبة تدب بخبث ومكر، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفت من أعماق روحي، وصرخت مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسور هذه الآية الكريمة (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (إبراهيم:10) من هذا الغول الرهيب الذي يريد أن ينقض على أركان الإيمان، ويُعْمِل معاوله في أسسه وأصوله، فجئت - ضمن هذه الرسالة - ببرهان قوي حاد قاطع يقطع رأس تلك الزندقة ويدحرج أشلاءها وقد صنفتها بالعربية واستقيت معانيها وأفكارها من نور هذه الآية الكريمة لأثبت بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة "يني گون" في أنقرة.. إلاّ أنني لم ألمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها إلى أذهان الناس، وسبب ذلك - على ما أظن - كونه مختصراً ومجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يتقنون العربية في تركيا وندرة المهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت أوهام ذلك الإلحاد واستشرت في صفوف الناس مع الأسف الشديد، مما اضطرني إلى إعادة كتابة تلك الرسالة ببراهينها بالتركية، مع شيء من البيان والتوضيح فكانت هذه الرسالة".([157])

 

 من أنقرة إلى "وان"

قضى "بديع الزمان" ثمانية أشهر في أنقرة أدرك فيها الاتجاه الخاطئ الذي بدأت حكومة أنقرة تتجه إليه، وعرف بثاقب بصره النوايا المعادية للإسلام التي بدأت تظهر على السطح بعد أن كانت مخفيةً في بعض النفوس، فغادر أنقرة إلى "وان" غضبان أسفاً. وفي محطة القطار عندما كان "بديع الزمان" في انتظار تحرك القطار إلى "وان" وحوله طلابه وأصدقاؤه الذين حضروا لتوديعه إذا بـ"مصطفى كمال" يفاجئ الجميع بالحضور إلى المحطة - إذ كان يسكن آنذاك في مبنى من مباني المحطة - وهناك جرى نقاش حاد بينهما إذ أن "مصطفى كمال"  كان قد بدأ بنصب تماثيله في تركيا، لذا فانه كان يدافع عن نصب التماثيل، فقال له بديع الزمان:

"إن هجوم آيات قرآننا العظيم إنما ينصّب على التماثيل. أما النُصب التذكارية التي يجب على المسلمين إقامتها فهي المستشفيات والمدارس وملاجئ الأيتام والأقسام الداخلية للطلبة ودور العبادة وشق الطرق..".([158])

عندما ودع "بديع الزمان" مدينة "أنقرة" كان يودع في الحقيقة مرحلة من حياته ليبدأ مرحلة جديدة كان يودع مرحلة حياة "سعيد القديم" الذي أراد خدمة  الإسلام عن طريق الدخول في معترك السياسة وصراعاتها وعن طريق محاولة استمالة كبار السياسيين والعسكريين والمفكرين إلى الإسلام، ولكنه بعد أن خبر ذلك جيداً أدرك عقم هذه المحاولات في ذلك الجو المضطرم بالأحداث والصراعات والألاعيب السياسية المحلية منها والعالمية فرأى ان محاولاته ليست إلاّ صيحة في واد ونفخة في رماد. لذا فقد أدرك ان عليه ان يبدأ من القاعدة والأساس وينشئ جيلاً قرآنياً سليم العقيدة، ويترك دهاليز السياسة العقيمة وصراعاتها، وعليه أن يخلو إلى نفسه في مكان هادئ صافٍ فيزكيها بالعبادة وبالتأمل.. وهناك في قمة جبل عالٍ وبين أحضان الطبيعة الهادئة ومع نفر من أخلص طلابه كان يقضي أوقاته في الصلاة والدعاء والتأمل والتدريس.

أكان "سعيد النورسي" راغباً في ترك كل شيء والانـزواء إلى العزلة والتفرغ إلى العبادة والاكتفاء بالسمو الروحي والعيش في أجواء اللذائذ الروحية؟.. نرى انه في أوائل هذه الفترة كان في فترة تأمل وتفكير عن طريق آخر لخدمة  الإسلام غير طريق السياسة التي رآها طريقاً عقيمة آنذاك في تلك الأجواء والظروف، والظاهر أن رأيه استقر على القيام بتشكيل نواة قوية من تلاميذه، والانطلاق من هذا المنطلق لخدمة الإسلام، لأننا نرى أن أحد تلاميذه - وهو ملا حميد([159]) - يروي عنه في هذه الفترة قوله لهم؛ وهو يشير إلى جزيرة "آق دامار"([160]):

"لو بقيت في هذه الجزيرة عشر سنوات وقمت بتربية خمسين طالباً لاستطعت بهؤلاء الطلبة الخمسين نشر  الإسلام في العالم أجمع"([161]).

وسنرى كيف هيأ الله له ما كان ينويه ويتمناه.

وفي "وان" بدأ يقضي أشهر الصيف في العبادة والتأمل في خرائب في جبل "أرك" بالقرب من قرية "جورافانيس" أما أشهر الشتاء فكان يقضيها في بيت شقيقه عبد المجيد([162]) في "وان" أو في جامع "نورشين" حيث يقوم بالتعليم والتدريس لنخبة خاصة من تلاميذه.

ويسرد الأستاذ "النورسي" بعض ذكرياته وخلجات قلبه وروحه عند قدومه إلى مدينة "وان" فيقول:

"بعدما نجوت من أسر الروس في الحرب العالمية الأولى، لبثت في استانبول لخدمة الدين في دار الحكمة الإسلامية حوالي ثلاث سنوات. ولكن بإرشاد القرآن الكريم وبهمّة الشيخ الگيلاني، وبانتباهي إلى الشيخوخة، تولّد عندي سأم وملل من الحياة الحضارية في استانبول، وبت أنفر من الحياة الاجتماعية البهيجة التي فيها، فساقني الشوق والحنين المسمى بداء الغربة إلى بلدتي إذ كنت أقول ما دمت سأموت فلأمت إذن في بلدتي فتوجهت إلى مدينة وان.

وهناك قبل كل شيء ذهبت إلى زيارة مدرستي المسماة بـ خورخور، فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما أحرقوا بقية البيوت الموجودة في وان في أثناء الاحتلال الروسي.. صعدت إلى القلعة المشهورة في وان وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تحتها مدرستي الملاصقة لها تماماً، وكانت تمرّ من أمامي أشباح أولئك الأصدقاء الحقيقيين والاخوة المؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة أصبح قسم من أولئك الأصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين مجازيين، لم أتمالك نفسي من البكاء والنحيب، صعدت إلى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو المئذنتين اللتين تعلوان المدرسة، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الخيال إلى ذلك الزمان لما لخيالي من قوة، ولعدم وجود مانع يحول بيني وبين ذلك الخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، إذ كنت وحيداً منفرداً على تلك القمة المطلة على مدرستي.

شاهدت تحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثماني سنوات حتى أنني رأيت انه كلما كنت أفتح عيني فلا أرى إلاّ كأن عصراً قد ولّى ومضى بأحداثه.. رأيت ان المدينة المحيطة بمدرستي - التي هي بجانب القلعة - قد أحرقت من أقصاها إلى أقصاها ودمرّت تدميراً كاملاً. فنظرت إلى هذا المنظر نظرة حزن وأسى.. إذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ما كنت فيه وبين ما أراه الآن وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه المدينة.. كان أغلب الذين يعمرّون هذه البيوت المهدّمة من أصدقائي، بل كانوا أحبّة أعزّاء عليّ.. فلقد توفّى قسم منهم في أثناء الهجرة من المدينة وذاقوا مضاضتها وهلك الآخرون فيها - تغمدهم الله جميعاً برحمته - .. حيث دمرّت بيوت المسلمين في المدينة كلّياً ولم تبق إلاّ محلة الأرمن فتألمت من الأعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن - ويا للأسف - لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئات من طلابي الأحبة الذين أرتبط بهم روحياً - كعبد الرحمن المار ذكره في الرجاء الثاني عشر - رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت منازلهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسد معنى هذه الفقرة لأحدهم:

لولا مفارقة الأحباب ما وَجدت         لها المنايا إلى أرواحنا سبيلا

أي أن اكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.

نعم، انه لم يؤلمني شيء ويبكيني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغم والحزن والهم يؤثر فيّ إلى درجة قد يسلب الروح منّي. ولقد رأيت اللوحة الصادقة للفراق وهي حيّة أمامي لما كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم عليها.. لذا بكت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمرّ بعد مئتي سنة على ديار  أحبّته وأطلالها..

عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة - السارة - التي قضيتها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الأماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فأصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة لا بأس بها تجاه هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف انهم يخدعون أنفسهم، فالوضع هذا يبيّن - بداهة - أن الدنيا لا محالة فانية، وان الإنسان فيها ليس إلاّ عابر سبيل، وضيفاً راحلاً، وشاهدت بعيني مدى صدق ما يقوله أهل الحقيقة لا تنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة .. مكّارة.. فانية...

ورأيت كذلك أن الإنسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن أبكي بعينيّ لشيخوختي - باعتبار وجودي - كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بحاجة إلى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة الشبيهة بالميتة.

كنت أسمع حقيقة ما جاء في الحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح لِدوا للموت وابنوا للخراب اسمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فان خيالي منذ عشرين سنة يذرف الدموع أيضاً كلّما مرّ على تلك الحال. نعم ان دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمّرت آلاف السنين، واكتهال المدينة التي تحتها خلال ثماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانمائة سنة، ووفاة مدرستي - أسفل القلعة - التي كانت تنبض بالحياة والتي كانت مجمع الأحباب.. كل ذلك يشير إلى وفاة جميع المدارس الدينية في الدولة العثمانية. ويبين العظمة المعنوية لجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة - التي هي صخرة صلدة واحدة - قد أصبحت شاهدة قبرها. ورأيت ان طلابي - رحمهم الله جميعاً - الذين كانوا معي في تلك المدرسة - قبل ثماني سنوات - وهم راقدون في قبورهم، رأيتهم يبكون معي، وحتى بيوت المدينة المدَمَّرة، بل حتى جدرانها المنهدّة  وأحجارها المبعثرة - رأيتها - تشاركني البكاء والحزن.

نعم إنني رأيت كُلّ شيء، وكأنه يبكي، وعندئذٍ  علمت أنني لا أستطيع أن أتحملّ هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب إليهم في قبورهم أو عليّ أن أنسحب إلى مغارة في الجبل منتظراً أجلي، إذ طالما في الدنيا مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لا يمكن أن يُصبر عليها، ولا يمكن أن تقاوم، وهي مؤلمة ومحرقة إلى هذه الدرجة، فلا شك أن الموت أفضل من هذه الحياة، ويرجح على مثل  هذه الأوضاع التي لا يمكن أن تتحمل.. لذا وليّت وجهي سارحاً بنظري إلى الجهات الست.. فما رأيت فيها إلاّ الظلام الدامس، فالغفلة الناشئة من ذلك التألم الشديد والتأثر العميق أرتني الدنيا مخيفة مرعبة، وأنها خالية جرداء وكأنها  ستنقض على رأسي. كانت روحي - حينئذٍ - تبحث عن نقطة استناد وركن شديد تجاه البلايا والمصائب غير المحدودة التي اتخذت صورة أعداء ألدّاء. وكانت تبحث أيضاً عن نقطة استمداد تجاه رغباتها الكامنة غير المحدودة والتي تمتد إلى الأبد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوان والتسرّي من الهموم والأحزان المتولدة من الفراقات غير المحدودة والتخريبات الهائلة، إذا بحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم المعجز وهي:

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )( الحديد:1 -2) تتجلى أمامي بوضوح وتنقذني من ذلك الخيال الأليم المرعب، وتنجيني من ألم الفراق والأفتراق، فاتحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُ إلى الأثمار المعلقة على الأشجار المثمرة وهي تنظر اليّ مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي "لا تحصرنَّ نظرك في الخرائب وحدها.. فهلاّ نظرت الينا، وأنعمت النظر فينا.."([163]).

 

٭٭٭

 ذكريات هذه المرحلة

يسرد أحد تلاميذه المخلصين وهو الملا "حميد" ذكرياته عن أستاذه "النورسي" في هذه الفترة فيقول:

"كنت أنشرح كثيراً عندما أصلي مقتدياً بالأستاذ. كان قيامه للصلاة يزيد الإنسان رهبة وخشوعاً. وكان يرشدنا إلى أن التسبيحات والأذكار عقب الصلاة إنما هي بحكم نوى للصلاة وبذورها.([164]) وكان يسبّح ويذكر الله بصوت رخيم حزين، فعندما يقول سبحان الله.. سبحان الله كنا نسمعه يصدر على مهل من أعمق أْعماق قلبه.

إنني شخصياً لم أرَ مثل الأستاذ قط مَن يصلي ثم يسبّح بهذا الخشوع والحزن، مع أنني رأيت كثيراً من الشيوخ والعلماء.

وعندما كان يقول لا اله إلاّ الله ويبدأ بالتسبيحات ويستمر بها يصبح صوته كفرقعة المدافع في قوته وشدته، فلو كان عنده شخص من أهل الطرق الصوفية إذن لأخذته الجذبة والشوق"([165]).

٭ "كان يقوم لصلاة التهجد كل ليلة. وكنت أحياناً أراه وهو يصلي فلا أستطيع النوم. وعندما كان يراني مستيقظاً يقول:

    - ما دمت مستيقظاً فتعال وشاركني في الدعاء.

ولكني كنت أجهل قراءة أي دعاء، فكان يقول لي

   - سأدعو أنا وردّد أنت بعدي آمين، فأنا أدعو بدعاء سيدنا يونس عليه السلام([166]) وبدعاء أويس القرني([167]) واطرق باب رحمة الله بهما.

وكنت أغفو أحياناً في أثناء الدعاء فكان ينظر اليّ ويقول

    - لقد كنتُ أنا أيضاً مثلك.. ولكنك ستتعود".([168])

  "عندما كنا مع الأستاذ في جبل أرك، أعددت مجموعة من الأسئلة عَلّني أجد جوابها عنده، ولكن في أثناء حديثه في جلستنا الاعتيادية أخذت جواب أسئلتي من دون أن أسأله عنها، وبقي لدي سؤال واحد فقط  دون جواب وهو سؤال يتعلق بالنظر إلى النساء... ظل السؤال يراودني دون أن أبوح به، وإذا بالأستاذ يضرب فخذه بقوة ويقول:

    - أنا لست راضياً عن أعمال سعيد القديم وتصرفاته، سوى ثلاث حالات كانت عنده، فأنا راض عنها([169]).

ثم قال:

    - كنت استبدل كل أسبوع ملابسي واختار أجملها وأكثرها أناقة أيام كنت في استانبول ذات الحياة البراقة البهيجة.. كنت أذهب إلى أجمل مناطقها حتى ان أصدقائي العلماء التفتوا إلى هذه الظاهرة، فعينوا أحدهم - دون علمي - مراقباً لتصرفاتي وأوصوه بملاحظة جميع ما أقوم به وأعمل.

وبعد مضي ثلاثة أيام - من المراقبة الخفية - جمعتنا جلسة معهم، فقالوا لي:

    - يا أخانا سعيد أنت على حق مهما عملت من عمل. فأنت مسدد إلى الحق وسيوفقك الله.

استغربت من هذا الكلام ومن حكمهم هذا عليّ، وعندما استفسرت عن السبب قالوا

    - كنا نراقبك منذ ثلاثة أيام، ونحصي تصرفاتك في جميع مناطق استانبول، ومن دون علمك، فلم نر ما يخالف  الإسلام قط بل رأيناك منهمكاً بنفسك دون الآخرين، ولهذا نسأل الله أن يوفقك في مسعاك..

نعم يا اخوتي؛ كما أن ناراً صغيرة بل حقيرة - كعود الكبريت - تحرق غاية عظيمة كثيفة تدريجياً وتجعلها أثراً بعد عين، كذلك النظرة إلى النساء تحرق عمل المؤمن شيئاً فشيئاً.. وأخشى أن تكون عاقبته وخيمة.

ثم أضاف:

    - إن سعيداً القديم وهو في عنفوان شبابه وفي قلب استانبول وطوال عشر سنوات لم ينظر نظرة حرام ولو مرة واحدة ولله الحمد.".([170])

 

 ثورة الشيخ سعيد پيران

في هذه الأثناء اي في1/ 2 /1925 نشبت ثورة في بعض الولايات الشرقية من تركيا بقيادة الشيخ "سعيد پيران" الذي كان رئيساً لإحدى العشائر الكردية، وكانت هذه الثورة تعبيراً عن السخط والنقمة التي بدأت تسري بين أوساط الشعب للاتجاه الحكومي المعادي للدين آنذاك.

وقد أراد الشيخ "سعيد پيران" أن يجمع حوله كل الناقمين على الوضع آنذاك وكل من له كلمة مسموعة ولا سيما بين العشائر الكردية، لذا نراه يرسل عدة رسائل إلى "سعيد النورسي" يطلب منه الانضمام إليه، ولكن "سعيد النورسي" رفض طلبه مع انه كان ضد سياسة أنقرة، ذلك لأنه لم يكن يرغب في إراقة دماء المسلمين من الطرفين في حركة لم يكن يرى فيها بارقة أمل.

ويروي "الملا حميد" و "علي جاويش" وهما من طلاب الأستاذ ما جرى بين الأستاذ وبين "حسين پاشا" وكان من رؤساء العشائر الكردية الذي أتاه وهو يتعبد في جبل "أرك" وطلب  إليه أن يأمر طلابه بالخروج لينفرد به لأن عنده ما يريد الإفضاء به  إليه وحده فرفض الأستاذ هذا وقال له:

    - يا حسين باشا أن طلابي هؤلاء مثل أعضاء بدني.

وعند ذلك أخرج "حسين باشا" من راحلته منديلاً مملوءاً بالذهب قائلاً له:

    - إن هذا الذهب زكاة من مالي الخاص، والزكاة لا منّة فيها. لذا أرجو قبولها لكي توزعها على الفقراء وتصرف منها على طلابك وعلى ضيوفك.

فاحتد الأستاذ ولم يقبلها قائلاً له:

    - يا باشا ألم تسأل أحداً من العلماء أو الفقهاء؟ ألا تعلم ان الزكاة لا تنقل من مكانها؟ ألا يوجد في قريتك فقير من أهلك أو من أقاربك؟ إذن فلِمَ أتيت بها إلى هنا؟..

عند ذلك قال له "حسين باشا":

    - لقد أتيت لكي أستشيرك في أمر.. أن جنودي على استعداد تام، ولدي الأسلحة والذخائر والخيول ونحن في انتظار إشارة منك.

    - ماذا تقول؟ وماذا في نيتك ان تعمل؟ من ستحارب؟

    - سأحارب "مصطفى كمال".

    - ومن هم جنود "مصطفى كمال"؟.

    - لا أدري ماذا أقول. هم العساكر كما تعلم.

   - إن هؤلاء العساكر هم أبناء هذا الوطن.. أي أقربائي وأقرباؤك.. فعلى من ستطلق النار؟ وعلى مَن سيطلقون هم النار؟ فكّر وأفهم.. أتريد ان يقتل أحمد محمداً وان يقتل حسن حسيناً؟.

    - إنني أفضل الموت على مثل هذه الحياة.

   - ما ذنب الحياة؟ ان كنتَ قد مللت هذه  الحياة فما ذنب جميع المسلمين وجميع المساكين؟ وماذا تطلب منهم؟.

عند ذلك تحيّر "حسين باشا" ولم يدر ماذا يقول. وظهرت الحيرة والتردد على وجهه ثم قال:

    - لقد أفسدت عليّ عزيمتي وثبطت همتي، وأنا الآن أخشى الذهاب إلى بيتي، ذلك لأن العشيرة مجتمعة تنتظر مني القرار، فإذا ذهبت إليهم وكلمتهم بهذا فانهم سيقولون  لقد خاف حسين وجبن.. لقد أنـزلت مكانتي إلى الصفر.

فقال له الأستاذ:

    - وماذا يهمك إن كانت مكانتك صفراً بين الناس، وتنال القبول والرضا من عند الله رب العالمين؟

وبعد أيام وصلت رسالة من الشيخ "سعيد پيران" إلى الأستاذ النورسي جاء فيها ما يأتي:

يا سيدي

إن نفوذكم كبير فإذا تفضلتم واشتركتم في حركتنا هذه فإننا سنغلب..

أي كان يدعوه صراحة إلى الاشتراك في تلك الحركة المسلحة، فأجابه "النورسي" برسالة جاء فيها:

"... نحن مسلمون، والأتراك إخواننا فلا تجعلوا الأخ يقاتل أخاه، فهذا لا يجوز شرعاً، إن السيف لا يُشهر إلاّ بوجه الأعداء الخارجيين، ولا يستعمل السيف في الداخل. إن السبيل الوحيد أمامنا للخلاص في هذا الزمان هو القيام بإرشاد الناس إلى حقائق القرآن والى حقائق الإيمان، والقيام بمكافحة الجهل الذي هو أكبر أعدائنا، لذا أرى أن تصرفوا النظر عن محاولتكم هذه لأنها محكومة بالإخفاق، إذ سيهلك الآلاف من الرجال والنساء بسبب حفنة من القتلة والمجرمين.".([171])

ولكن نصائح "النورسي" لم تجد آذاناً صاغية من الشيخ "سعيد پيران" إذ بدأ بثورته المعروفة التي شاركت فيها كثير من القبائل الكردية.

بعد نشوب الثورة بمدة قصيرة قرر بعض رؤساء العشائر الكردية ومن ضمنهم "حسين باشا" الاتصال مع "النورسي" والإلحاح عليه للاشتراك معهم في حركتهم هذه، ذلك لأن انحياز "النورسي" إليهم كان يُعدّ بالنسبة إليهم كسباً كبيراً. وكان "النورسي" آنذاك - كما قلنا - يتعبد في خرائب معبد مهجور على جبل أرك، ولكنه كان ينـزل كل يوم جمعة من الجبل ويتوجه إلى جامع نورشين في مدينة وان لأداء صلاة الجمعة، لذا قرر رؤساء العشائر هؤلاء التقاءه بعد صلاة الجمعة في ذلك الجامع، ولكن والي مدينة وان الذي شك وقلق من مجيء هؤلاء الرؤساء إلى المدينة بعث عيونه وارصاده إلى الجامع ليتسقط له الأخبار.

بعد انتهاء صلاة الجمعة وشعور هؤلاء الرؤساء بالعيون المترصدة دعا "عمر أفندي" - وكان موظفاً في الأوقاف ومن مؤيدي الحركة الأستاذ النورسي إلى حديقة بيته الملاصق للجامع.

دخل النورسي حديقة البيت وما لبث رؤساء العشائر الكردية ان دخلوا اثره، فأحس "النورسي" أن هناك شيئاً معداً، وسرعان ما أدراك ببصيرته سبب هذا الاجتماع فالتفت إليهم قائلاً:

    - أيها السادة لا شك أنكم آتون إلى هنا بأفكار سلبية.

 أجابه "حسين باشا" نيابة عنهم:

    - أجل

ثم شرح له عزمهم على دعوته للاشتراك معهم في الثورة، فاحتد الأستاذ النورسي وقال له:

    - انني أعلم من قبل ان فكرك مشبع بهذه الأفكار الخاطئة، وهذه الأفكار ليست خاطئة فحسب بل هي أفكار جاهلة أيضاً.. لا أدري ما السبب الذي يحدو بك للسعي وراء هذه الأفكار.. وأنا أسألكم أتريدون بها تطبيق الشريعة؟ إن مثل هذه الحركة وهذا التصرف مخالف أصلاً للشريعة، وأغلب الظن ان مصدرها ومثيرها هي الأصابع الخارجية.. لا يمكن جعل المطالبة بالشريعة آلة وذريعة لمخالفة الشريعة نفسها.. لا يمكن المطالبة بالشريعة بهذا الأسلوب ان مفتاح الشريعة عندي.

ثم استمر في كلامه موجهاً خطابه إلى "حسين باشا":

    - لو طلبت منك يا "حسين باشا" ان تأتي من قريتك "پاتنوس" مع رجالك الثلاثمائة لتطبيق الشريعة، فإنكم وانتم في طريقكم إلى هنا ستقومون بالنهب والسلب والقتل، وهذا يخالف الشريعة تمام المخالفة. أيمكن ان نخالف الشريعة في الوقت الذي ندعي المطالبة بها؟ دعوا مثل هذه الأفكار الخاطئة.([172])

ثم خرج من البيت ورجع إلى مكانه في جبل أرك.

وكان من تأثير نصائحه هذه ان "حسين پاشا" ورجال العشائر لم يشتركوا في الثورة وبذلك فقد حفظ "النورسي" دماء الآلاف من الأبرياء وصانها.

ولا يفوت الدكتور محسن عبد الحميد الإشارة إلى هذا الموقف الإيجابي للأستاذ النورسي من ثورة سعيد پيران في كتابه الموسوم؛ بـ "النورسي الرائد الإسلامي الكبير" تحت عنوان النورسي والتغير:

"ينظر الأستاذ النورسي إلى الكون في رسائله جميعاً على انه موضع تجليات أسماء الله الحسنى، فكل ظاهرة تحدث فيه، إنما هي تعبير واقعي عن معانيها السامية وفي هذا يسير على طريق مفكري  الإسلام كالغزالي والرازي الذين بينوا معاني تلك الأسماء وارتباطها الوثيق بما يحدث في الوجود كله.

وبناءً على ذلك فان كل تغير يحدث في الكون، فلابد ان يخضع للسنن الكونية التي تتجلى فيها تلك الأسماء السامية. لا سيما اسم الحكيم إذ في ضوء معناه وأسراره نستطيع أن نفسر أحداث الوجود، من خلال العلية الدقيقة والغائية المطردة في انتظام الكون.([173])

ومن هنا فإنه يؤمن "بالنظام" ويبعد "الفوضى"، ويؤمن "بالتدرج" ولا يعتقد "بالطفرة".

فالنظام والتدرج هو أساس الوجود كله، وأي خروج عليه يعني إدخال الفساد عليه، وهو خروج واضح على تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فالقرآن هو الكون المقروء والسنة هي الكون المطبق في الحياة العملية.

وفي ضوء ذلك فان النورسي يدعو إلى تغير اجتماعي منظم يتمسك بقانون التطور الفطري التدريجي، ويجب أن يبدأ من القاعدة ويصعد إلى القمة، لا العكس، لأن العكس سيؤدي إلى زعزعة الحياة الاجتماعية ويحصل منه شر مستطير وتخريب كبير.

فهو يقول:

"إن من يشق طريقاً في الحياة الاجتماعية ويؤسس حركة لا يستثمر مساعيه ولن يكون النجاح حليفة ما لم تكن الحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون بل تكون جميع أعماله لأجل التخريب والشر([174]).

ويقول "مثلما هو محال لجسم الإنسان تجديد جميع ذراته دفعة واحدة وانشاء ذرات جديدة بدلاً منها كذلك تتعذر على الدولة - إن لم يكن محالاً - تغيير جميع موظفيها دفعة واحدة وإقامة موظفين جدد بدلاً عنهم"([175]).

وينطلق النورسي في نظرته التغييرية هذه من القانون الكوني الذي يؤمن به أشد الإيمان وهو:

"ان في الكون نـزوعاً إلى الكمال لذلك فان خلق الكون يتبع قانون التكامل. وبما ان الإنسان هو ثمرة الكون وجزء منه فله حصته الموفورة من ذلك النـزوع العام نحو الكمال".([176])

إذن فلابد أن يكون قانون التغير في حياته  هو التغير التدريجي، حتى لا يختل توازن الحياة فيؤدي إلى نتائج عكسية.

ولا أشك أنه انتهى إلى هذا الرأي بعد أن استقرأ جميع الثورات الاجتماعية في العالم في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، ومن ضمنها انقلاب الاتحاد والترقي والانقلابات الكمالية في بلده.

ولإيمان الأستاذ بالتغير في إطار انتشار الوعي الاجتماعي والدعوة السلمية فانه لا يبيح الجهاد المسلح الداخلي الموجه إلى حكام المسلمين لأن ذلك لا يخدم من وجهة نظره إلا العدو الخارجي المتربص بالمجتمع الإسلامي من حيث هو كل.

فهو يقول:

"ان الجهاد المسلح لا يُحشد كلياً الاّ ضد العدو الخارجي، فالصراع المسلح داخل البلاد الإسلامية هو ما يصبو  إليه العدو الخارجي، إذ ان سفك دماء المسلمين فيما بينهم أمر يهمهم"([177]) .

ويضيف:

"إن الجهاد، إنما جهاد معنوي يوصل إليه عن طريق تنوير الأفكار وإصلاح القلوب والأرواح. ويكون جهاداً ايجابياً بنّاءً لصد التخريبات المعنوية ويتصرف فيه وفق سر الإخلاص.. فهناك بون شاسع بين الجهاد في الخارج والجهاد في الداخل. فنحن نبذل قصارى جهودنا للحفاظ على استقرار البلاد وأمنها وفق العمل الإيجابي البناء.. في هذا الوقت الفرق عظيم جداً بين الجهاد الداخلي والخارجي"([178])

وقد طبق النورسي رأيه هذا عملياً في أثناء ثورة الشيخ سعيد پيران، أحد زعماء العشائر الكردية في شرق الأناضول. وقد وجه ثورته ضد سياسة "مصطفى كمال" الذي أثار نقمة الشعب باتجاهه المعادي للدين الإسلامي."([179])

وبعد شرح قيام الثورة الكردية وإخفاقها بعد أن أهرقت دماء كثيرة يقول:

"... كما توقع النورسي فقد أخفقت حركة الشيخ سعيد، لأنها لم تنطلق من الوعي الإسلامي الشامل والإعداد الكامل، وكانت نتائجها وخيمة، فقد اشتدت الحملة على  الإسلام وأهله أكثر من ذي قبل، وانتهك اللادينيون فيها كرامة الشعب المسلم تدميراً وقتلاً وإفساداً وإبعاداً له عن كل ما يمت إلى  الإسلام بصلة. بينما استمر النورسي في تطبيق نظريته التغييرية عن طريق نشر حقائق  الإسلام بالأدلة والبرهان وتكوين الجيل المؤمن الصالح وبث الوعي الإسلامي بخطورة الحملة الشرسة على  الإسلام والمسلمين، وتهيئة صفوف الأمة للوقوف أمام الموجة اللادينية الطاغية ونقل التربية الإسلامية إلى داخل البيوت.

وعلى الرغم من أنه لم ينج - كما بينا - من السجن والتشريد والنفي إلاّ ان أسلوبه قد نجح إلى حد بعيد. ولو أن باحثاً منصفاً تابع تطور الحياة في تركيا في النصف الأخير من القرن وجد كيف ان خطة النورسي آتت ثمرتها اليانعة، فبنت على الرغم من العقبات الكؤود، مدرسة إسلامية روحية ثقافية كبيرة، وارفة الظلال، انتهت إلى إحداث وعي إسلامي قوي وقف أمام الكفر وأهوى بمعاول التوحيد الحق على مراكز الثقافة الفكرية والاجتماعية التي تفرعت من المدارس المادية التي سادت في القرن الأخير، الأمر الذي ظهرت نتائجه في انتخابات عام 1950م المشهورة في تركيا، وما تبعها من الصحوة الإسلامية العامة، وبدء عودة المجتمع في كثير من مظاهر حياته إلى عقيدته وحضارته الإسلامية."([180])

 

٭٭٭

 

 اعتقال "النورسي" ونفيه 25 شباط  1925

عندما اقتربت ثورة الشيخ سعيد پيران إلى خاتمتها المحتومة([181]) بدأت الحكومة التركية باعتقال كل رؤساء العشائر والمشايخ والأشخاص من ذوي النفوذ في الولايات الشرقية ومنها ولاية وان حتى وان لم يكن لهم أي ضلع أو أي دور في هذه الحركة ونفيهم إلى غربي الأناضول، أي القيام بإبعادهم عن مسرح الأحداث ومسرح الحركة المسلحة. وذلك لأسباب أمنية ومن باب الاحتياط حسب ادعاء الحكومة وضماناً لعدم التحاق أي منهم في هذه الحركة.

يسرد أحد طلاب الأستاذ النورسي، وهو "علي چاويش" ذكرياته عن هذه الفترة فيقول:

"... بعد سلسلة الاعتقالات هذه سرت الشائعات حول نية الحكومة اعتقال الأستاذ النورسي ونفيه، لذا فان بعضاً من العلماء من محبي وأصدقاء الأستاذ ولا سيما الشيخ أنور باتوا في قلق كبير عليه، وكان الشيخ أنور يخشى أن يصاب الأستاذ النورسي بأذى، لذا فقد كان يوصينا على الدوام وبإصرار على وجوب خروج الأستاذ من وان إلى مكان آمن. وعندما اكثر من إلحاحه في هذا الخصوص قلت له:

    - يا سيدي، نحن نستطيع محافظة الأستاذ النورسي وحراسته، فهو شخص واحد، والأفضل أن تهتم بالمحافظة على نفسك.

عند ذلك احتد الشيخ أنور وقال غاضبا:ً

    - إن ألف شيخ مثل الشيخ أنور لا يساوي قلامة ظفر من الأستاذ، فكيف تجرؤ أن تقارن الأستاذ النورسي بالشيخ أنور؟.

كنت في تلك الأثناء في القرية وعندما سمعت نبأ القبض على الشيخ معصوم مفتي مدينة وان ازدادت مخاوفي، ولم يمض إلا قليل حتى شاهدت ضابطاً مع ثلاثة جنود وهم يصعدون الجبل إلى مقر الأستاذ".([182])

إذن فقد توجه ضابط مع ثلاثة جنود إلى العالم المنعزل عن العالم على قمة جبل والمنقطع للعبادة والتأمل لكي يلقوا القبض عليه..

ماذا حدث بعد ذلك؟

لنستمع إلى ما حدث من مذكرات طالب آخر وهو "زبير كوندوز آلب".

"قامت المفرزة العسكرية بمداهمة المغارة التي كان الأستاذ بديع الزمان منـزوياً فيها للعبادة، وكان تصرف قائد المفرزة تجاه الأستاذ قاسياً وخشناً جداً، فكأنه أتى للقبض على مجرم أو على رئيس عصابة، وكان رد فعل الأستاذ رداً قوياً وشجاعاً ذلك لأنه كان يعلم أن الأجل واحد لا يتغير ولو اجتمعت الدنيا ضده، وتكهرب الجو بسرعة كبيرة وتوتر إلى أقصى حد. ولم يمهلوا الأستاذ إذ سرعان ما أخذوه معهم. وبعد أن مشوا مدة أقتربَ منهم بعض طلاب الأستاذ وبعض الأهالي وتحدثوا معه بلغة أخرى([183]). وأبدى الطلاب استعدادهم لتهريبه إلى مكان آخر، أو تهريبه إلى خارج الحدود إلى أي بلد إسلامي آخر، ولكنه لم يقبل وقال لهم بأنه يذهب مع المفرزة بكامل رغبته، وان الجنود هم بمثابة طلابه، ونصحهم بالرجوع إلى بيوتهم بسكون. وهنا لاحظ أحد طلابه، أن حذاء الأستاذ قديم وبالٍ فذهب مسرعاً واتى بحذاء جديد، ولكن الأستاذ - كعادته في عدم قبول الهدايا - أصر على اعطائه  ثمن الحذاء.([184])

وما لبث خبر اعتقال الأستاذ النورسي أن انتشر بسرعة البرق بين أهالي مدينة وان فكان وقع الخبر عليهم وقع الصاعقة، فهرع الآلاف منهم إلى أسلحتهم .. كان عليهم ان ينقذوا الأستاذ ويهربوه ويبعدوه إلى مكان آمن مهما كان الثمن، كانت المفرزة العسكرية قد جلبت الأستاذ إلى مدينة وان وكانوا في انتظار انتهاء عملية تجميع المنفيين التي كانت تجري على قدم وساق واستمرت لعدة أيام فأرسلوا  إليه من أخبره بنية الأهالي في إنقاذه وبأخذهم كل الأخطار بنظر الاعتبار في هذا السبيل، ولكن الأستاذ رفض ذلك وبإصرار قائلاً: "إنني أذهب بكامل رغبتي إلى الأحضان الرحيمة للأمة التركية في الأناضول.. أتمنى لكم السلامة والعافية"([185]).

وهكذا حال دون حدوث مجابهة بين الأهالي وبين الحكومة تراق فيها الدماء بسببه.

خرجت قافلة المنفيين من مدينة وان وكان عدد الأفراد المنفيين عدة مئات من رجال وأطفال وشيوخ  وهم يذرفون الدموع ويودعون مدينتهم وموطنهم.. كان طول القافلة يتجاوز الكيلومتر الواحد، والقافلة خليط من وسائط النقل، فهناك العربات التي تجرها الخيول والزحافات التي تجرها الخيول أو الثيران، وهناك من يمتطي الخيول أو يمشي هذه المسافات الطويلة راجلاً، ثم الجنود المدججون بالأسلحة أمام القافلة وخلفها وحواليها، وقد خرجت القافلة في عز الشتاء القارس تأخذ طريقها بين ركام الثلوج.

في هذه القافلة أوثقوا اليد  اليسرى للأستاذ النورسي بقيد حديدي مع اليد اليمنى للشيخ معصوم - مفتي وان - حيناً من الوقت..

كان الأستاذ النورسي يسير بهدوء مسلّماً أمره إلى الله ومتوكلاً عليه لا يشكو ولا يتذمر، أو يركب أحد الزحافات، أما الشيخ معصوم فانه عندما أحس بعد ساعات من السفر بأن يده الموثوقة قد أضر بها القيد وتسلخ جلد رسغه، طلب من الجندي الحارس ان يفك وثاقه ولو لمدة بسيطة، فكان الجواب الذي تلقاه ضربة شديدة بأخمص البندقية جعلته ينبطح على وجهه في الطين.. كان منظراً عصر قلب كل من شاهده.. وبدأ الأستاذ النورسي يمسح الطين عن وجهه المفتي ويغسل وجهه من ماء نبع، ويوصيه بالصبر.

ويسرد أحد الجنود وهو مصطفى آغريلى الذين اشتركوا في حراسة قافلة المنفيين هذه ذكرياته عن هذه الرحلة فيقول:([186])

"عندما كنت أؤدي وظيفتي في الخدمة العسكرية في مدينة وان كنت أسمع عن اسم الأستاذ بديع الزمان وعن شهرته كثيراً، فالجميع كانوا يتحدثون عنه، مما جعلني في شوق كبير لرؤيته. وعندما كلفت بالاشتراك في حراسة قافلة المنفيين كان ذلك فرصة كبيرة لرؤيته.

عندما خرجت القافلة كان الموسم شتاءاً والثلج يغطي كل مكان، وكان في القافلة ما يقارب 70 - 80 زحافة تجرها الخيول أو الثيران. وقبل بدء الرحلة توضأت استعداداً للصلاة، وقد عينني القائد على زحافة بديع الزمان ولكني لم أكن أعرفه لأنني لم أكن قد رأيته بعد، ومع أن الزحافات الأخرى كانت ملأى بالأحمال فان زحافة بديع الزمان كان خالياً([187]) وكان وحده.. كان يضع شالاً أبيضاً مخرماً على رأسه ثم عمامة طويلة، وكانت له شوارب كثة لكن دون لحية.

جئت وركبت الزحافة معه وأنا لا أزال أجهل انه هو الملا سعيد المشهور.. كنت أجول بعيني في المسافرين وأسأل نفسي أين هو يا ترى؟ كنت أفتش عن شخص ملتحٍ يلبس جبة وبقيافة علماء الدين، وعند حركة القافلة لاحظت شخصين يلبسان لباس العلماء فكنت أتساءل ترى أيهما هو سعيد الكردي المشهور - كما كان يطلق عليه آنذاك - ".

"في المساء وصلنا إلى إحدى القرى فاستقبلنا أهلها عن بكرة أبيهم.. كان قائد الرحلة في ورطة، إذ كيف يستطيع ان يبيت في هذه القرية الكردية وان يحافظ ويحرس ويمنع هروب أي شخص؟ لم يكن من الممكن ان يوزع المنفيين على بيوت القرية، وأخيراً قرر جمعهم في مكان واحد لتسهل حراستهم.. وهكذا كان ولكن الأكراد من أهل القرية استقبلونا استقبالاً جيداً ورحبوا بنا وقالوا بأنهم سيقومون بواجب الضيافة، وانهم لن يقبلوا أن يطبخ القائد والجنود أي طعام، لأنهم سيقومون بإطعام المنفيين والجنود كذلك. وقال لي القائد ستبقى مع الأستاذ هذا المساء وتبيت معه.. حتى ذلك الحين لم أكن أعرف مَن هو، وكنت أخشى ألاّ أستطيع مراقبته بمفردي فطمأنني القائد قائلاً "ستذهب أنت معه.. لا تخشَ شيئاً، فلن يحدث شيء، ذلك لأنه برئ براءة الطفل"، ثم أخبرني بأنه هو الملا سعيد الكردي.. إذ كانوا يطلقون عليه هذا اللقب آنذاك.. ذهبنا إلى الغرفة، كانت غرفة صغيرة لا تسع إلاّ لمنام شخصين، وكان القرويون يحومون حولنا مبدين حفاوة كبيرة بنا.. وقد أحاطوا بنا من كل جانب، وكأنهم ينتظرون إشارة واحدة من بديع الزمان، ولكن بديع الزمان ما كان يسمح أن يحدث أي شيء، وفي المساء جلبوا لنا أصنافاً متعددة من الأطعمة، ولكن الأستاذ قال بأنه مريض لذا لم يمد يده للأكل، ولكنه دعاني للأكل، ثم صلينا العشاء وبعدها فرشوا له فراشاً، وفراشاً لي قرب الباب.. ولغبائي وجهلي فقد راودتني الشكوك ماذا لو أنه أخذ بندقيتي في الليل وذهب؟.. ولكن لم تكن لديه أية نية في هذا.. كان شخصاً جليلاً ذا هيبة ووقار.. تمددت في فراشي بملابسي كاملة، أما هو فقد طوى فراشه وجلس متكئاً عليه.. عجبت من أمره لماذا لا ينام؟ وماذا في نيته ان يعمل؟.. ولكن سرعان ما غلبني النوم فنمت..

بعد حين انتبهت على صوت حركة، فتحت عيني فرأيته وهو يخرج وبيده فانوس زيتي حيث توضأ في الباحة المغطاة بالثلج، ثم وقف للصلاة، فقضى الليلة في الصلاة والعبادة.

التفت اليَّ عندما أحس انني يقظان وقال لي "لايزال أمامك متسع من الوقت للنوم. نحن على المذهب الشافعي نستيقظ مبكرين، أما أنتم فعلى المذهب الحنفي وتستطيع ان تؤدي الصلاة بعد حين".. ولكنه في الحقيقة لم يكن قد استيقظ مبكرآً لأنه لم ينم أصلاً، اما أنا فلم أنم بل قمت وتوضأت وصليت الفجر معه..

كانت هناك مدفأة في الغرفة.. قام وغلّى شيئاً من الماء عليها، وكان معه زنبيل صغير، أخرج منه بيضة واحدة وسلقها.. كانت قد مرت ساعات طويلة منذ خروجنا من مدينة وان، ولأول مرة كان يتناول طعاماً في هذا الفطور..

ثم أخرج أدوات الحلاقة وحلق ذقنه..

لا أتذكر اسم هذه القرية.. كنا نبيت على الدوام في القرى التي تقع على طريق سيرنا.. كنت أراقبه عن كثب فرأيته يهتم بالنظافة والحلاقة والعبادة اهتماماً كبيراً، ولم يكن يتناول طعام أحد، وكان قائد الرحلة "صائم بك" يحترمه جداً ولكنه لم يكن يستطيع صرف اهتمام ورعاية خاصة به لأنه كان يخشى ذلك.([188])

كان خط سير قافلة المنفيين كما يأتي

اتجهت القافلة من مدينة وان إلى أرجش ومنها إلى پاتنوس، حيث استراحت هناك ما يقارب أربعة أيام ثم توجهت إلى مدينة آغري وبقيت فيها يوماً واحداً، ومنها إلى ارضروم حيث قضت فيها اسبوعاً واحداً وتوجهت منها إلى مدينة طرابزون وقضت فيها عشرين يوماً، ثم اتجهت إلى استانبول بالباخرة وبلغتها في موسم الربيع ومكثت فيها 20 - 25 يوماً.([189])

 من استانبول إلى بوردور

بعد أن مكث الأستاذ النورسي ما يقرب من خمسة وعشرين يوماً في استانبول صدرت الأوامر بإرساله إلى مدينة بوردور فتوجه مخفوراً بالباخرة إلى ازمير ومنها إلى انطاليا ومنها إلى بوردور.

مكث الأستاذ النورسي في بوردور سبعة أشهر أقام فيها في جامع دلي بابا ألف خلالها رسالة "المدخل إلى عالم النور"، وقد استنسخت هذه الرسالة بخط اليد نسخاً عديدة وتداولها الناس فيما بينهم.

ويسرد الأستاذ النورسي ذكرياته في هذه الفترة فيقول؛ وهو يشير إلى يد القدر الإلهي في دفع العاملين للعمل في خدمة القرآن

"كنت منشغلاً بإلقاء دروس في حقائق القرآن على طلابي في مدينة وان، كانت حوادث الشيخ سعيد پيران تقلق بال المسؤولين في الدولة. وعلى الرغم من ارتيابهم من كل شخص، لم يمسوني بسوء، ولم يجدوا عليّ حجة ما دمت مستمراً في خدمة القرآن. ولكن ما إن قلت في نفسي ما لي وللآخرين وفكرت في نفسي فحسب، وانسحبت إلى جبل أرك لأنـزوي في مغاراته، وأنجو بنفسي في الآخرة، إذا بهم يأخذونني من تلك المغارة وينفونني من ولاية شرقية إلى أخرى غربية.. إلى بوردور.. كان المسؤولون في هذه المدينة يراقبون المنفيين مراقبة شديدة، وكان على المنفيين إثبات وجودهم بحضورهم مساء كل يوم لدى الشرطة.. إلا أنني وطلابي المخلصين اُستثنينا من هذا الأمر ما دمت قائماً بخدمة القرآن، فلم أذهب لإثبات الحضور ولم أعرف أحداً من المسؤولين هناك. حتى أن الوالي شكا من عملنا هذا لدى فوزي باشا([190]) عند قدومه إلى المدينة، فأوصاه هذا قائلاً: احترموه لا تتعرضوا له.

إن الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامة العمل للقرآن ليس إلاّ، إذ حينما استولت عليَّ الرغبة في إنقاذ نفسي وإصلاح آخرتي، وفترت عن العمل للقرآن - مؤقتاً - جاءتني العقوبة بخلاف ما كنت أقصده وأتوقعه، أي نفيت من بوردور إلى منفى آخر.. فأخذوني إلى اسپارطة، وهناك توليت العمل للقرآن العظيم كذلك.. ولكن بعد مرور عشرين يوماً على الخدمة القرآنية كثرت عليَّ التنبيهات من بعض المتخوفين، حيث قالوا ربما لا يحبذ مسؤولو هذه البلدة عملك هذا فهلاّ أخذت الأمر بالتأني والتريث؟.. سيطر عليَّ الاهتمام بخاصة نفسي وبمصيري، فحسب، فأوصيت الأصدقاء بترك مقابلتي وانسحبت من ميدان العمل.. وجاء النفي مرة أخرى.. فنفيت إلى منفى ثالث.. إلى بارلا.([191])

ويذكر الأستاذ النورسي هذه الحادثة التي جرت بينه وبين المنفيين من رؤساء العشائر في بوردور فيقول "لقد حصلتُ أحياناً - وحصل أصدقائي - على عشرة أضعافٍ من البركة بسبب الاقتصاد حتى أنني قبل تسع سنوات([192]) سعى قسم من رؤساء العشائر المنفيين معي إلى بوردور وأصرّوا عليّ قبول زكاتهم كي يحولوا بيني وبين وقوعي في مهاوي الذلة والحاجة لقلّة ما عندي من النقود، فقلت لأولئك الرؤساء الأثرياء "مع أن نقودي قليلة جداً إلاّ أنني أملك الاقتصاد، وقد تعودت على القناعة، فأنا أغنى منكم بكثير." فرفضت تكليفهم المتكرّر الملحّ.. ومن الجدير بالملاحظة أن قسماً من أولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غَلَبَهم الدَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، إلاّ أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني - ولله الحمد - ببركة الله في الاقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم يُرق مني ماء الوجه، ولم يدفعني لعرض حاجتي إلى الناس، ولم تفسد عليّ ما اتخذته دستوراً لحياتي وهو الاستغناء عن الناس.".([193])

 

٭٭٭

 

 نفي آخر.. إلى بارلا  1926

والظاهر أن الحكومة لاحظت انه ما إن يمكث في مدينة حتى يتوافد عليه الناس والطلاب وحتى يصبح مجلسه مجلس إرشاد ودعوة إلى  الإسلام وتذكير بالآخرة، فقررت نفيه إلى مكانٍ ناءٍ صغير كي يخمل ذكره وينساه الناس، فقررت نفيه إلى ناحية بارلا، فجلب من اسبارطة إلى اگريدر ليتم نقله عن طريق بحيرة اگريدر بزورق شراعي إلى ناحية بارلا التي كانت تقع على الطرف الآخر من البحيرة.

لنستمع إلى ذكريات الجندي الذي كلف بنقل الأستاذ من اگريدر إلى بارلا واسمه "شوكت دمير آي"

"كنت في أگريدر عندما استدعوني إلى مركز البلدية صباح أحد الأيام فذهبت إليه.. كان هناك القائمقام ورئيس الجندرمة مع بعض أعضاء هيئة البلدية، وكان هناك أيضاً شخص معمم في العقد الرابع من عمره ويلبس جبة وله هيئة وقورة.

قال لي رئيس الجندرمة:

    - اسمع يا بني.. مهمتك ان تأخذ شيخنا هذا المعروف بـ بديع الزمان إلى بارلا.. ان مهمتك هذه في غاية الأهمية، وعندما تسلمه إلى المخفر هناك اطلب منهم أن يوقعوا على الأوراق الرسمية، ثم أخبرنا بذلك.

قلت له حسناً يا سيدي.

ثم خرجت مع الشيخ وقلت له في الطريق

    - يا شيخنا إنني أعدّك بمثابة والدي، وهذه مهمة كلفت بها فأرجو منك ألا تستاء مني..

وصلنا إلى المرفأ وتفاهمت مع أحد أصحاب الزوارق هناك إذ قَبِل نقلنا مقابل خمسين قرشاً.. أخرج بديع الزمان وأعطى المبلغ إلى صاحب الزورق، ثم أعطى عشرة قروش لشراء شيء من الزبيب.. عندما ركبنا الزورق كانت كل حاجياته عبارة عن زنبيل فيه أدوات صنع الشاي وبعض الأقداح وسجادة صلاة، وكان في يده الأخرى قرآن كريم.. كنا خمسة في الزورق، اثنان يقودان الزورق وصديق لصاحب الزورق ثم نحن.. كان الوقت بعد الظهر بقليل وكان الجو بارداً إذ ان الموسم موسم الجمرة الاولى، وكانت أجزاء هنا وهناك من البحيرة قد تجمدت.. في مقدمة الزورق كان أحد موجهي الزورق يكسر الجليد بعصا طويلة فيفتح الطريق أمام الزورق الشراعي، قام بديع الزمان بتوزيع بعض الزبيب علينا وبعض الحلوى.. كنت أراقبه عن كثب.. كان هادئاً ساكناً مستغرقاً في تأمل البحيرة والجبال المحيطة بها.. كانت أصابع يديه دقيقة وطويلة وتلمع وكأن داخلها كهرباء.. كان يلبس خاتماً فضياً في وسطه فص، وكانت عليه ملابس ثمينة..

ولكون النهار قصيراً آنذاك فلم يلبث أن أزف وقت صلاة العصر... رغب في الصلاة، فوجهنا الزورق إلى القبلة.. سمعت صدى صوت يقول "الله اكبر" لم أكن قد سمعت طوال حياتي تكبيرة بهذه المهابة.. شعرت بأن شعر أجسادنا وقف رهبة من هذه التكبيرة التي دخل بها الصلاة.. لم تكن حاله تشبه حال أي عالمٍ آخر.. كنا نحاول المحافظة على سير الزورق باتجاه القبلة.. وعندما أنهى صلاته وسلم التفت إلينا قائلاً "شكراً لكم يا اخوتي.. لقد أتعبتكم"..

كان شخصاً دمث الخلق جداً.. وبعد ساعتين من السفر وصلنا إلى مرفأ بارلا وهناك رأيت "برهان" مراقب المرفأ فناديته "تعال يا بني"... أسرع إلينا فأعطيته زنبيل الأستاذ وحاجياته حيث حملناها على الدابة... في هذه الأثناء تناول محمد صاحب الزورق بندقية المحافظ محاولاً صيد طيور البشق، ولكن بديع الزمان منعه من ذلك قائلاً: "إن الربيع قريب، وهذا موسم وضع البيض لهذه الطيور، لذا فالصيد الآن غير مستحب، أرى أن تصرف النظر عن هذا".. فمنعه بذلك من إطلاق النار، وطارت هذه الطيور وبدأت تحلق فوق رؤوسنا.. علقت بندقيتي على كتفي الأيسر وأمسكت باليد اليسرى للأستاذ وبدأنا نصعد سفح الجبل ببطء..وصلنا إلى بارلا بعد مسيرة ساعة تقريباً، كانت الطيور التي طارت من ساحل المرفأ لا تزال تتعقبنا وتحلق فوق رؤوسنا..كان المساء قد أقترب عندما دخلنا مخفر الشرطة الملاصق لمسجد بارلا المسمى بـآق مسجد([194]).. كان بحري بابا مدير الناحية موجوداً هناك وكذلك مسؤول المخفر.. سلمت بديع الزمان إليهم وطلبت منهم التوقيع على الأوراق فوقعوا.. قضينا الليلة هناك، وفي الصباح رجعت إلى أگريد.".([195])


الفصل الخامس

ظلام على تركيا

"تُرى أي مصير رهيب كان ينتظر تركيا، لو لم يقيض الله سبحانه وتعالى لها هذا الرجل، في وقت بدأت فيه فؤوس الحقد، ومعاول الهدم تعمل على زلزلة الإيمان وتقويض بنيانه ومسح آثاره من البلاد..

ويتراءى لنا طيف "الأندلس" شاحباً باكياً وقد انحسر عنه  الإسلام وغادره إلى غير رجعة..".

عن كتاب . "سعيد النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان"

 أديب إبراهيم الدباغ

قبل أن نستمر في متابعة حياة الأستاذ النورسي لنلق نظرة على أحوال تركيا في تلك السنوات.

كانت هذه السنوات سنوات حافلة بالأحداث المتتابعة العاصفة في تركيا، فكأن زلزلاً رهيباً ضرب البلاد من أقصاها إلى أقصاها.. فالسلطة الحاكمة آنذاك كانت تريد أن تقلب كل شيء وان تغير كل شيء.. عقيدة الأمة وتراثها.. عادات البلاد وتقاليدها.. ملابسها وأزياءها.. حروف كتابتها.. أعيادها وأفراحها وأيام عطلها.. الخ.. والخلاصة؛ فقد كانت تريد سلخ جلد الأمة التركية ولصق جلد صناعي غريب ومستورد من الخارج بجسدها، وكل ذلك تحت شعار "المنجزات الثورية" ولم تكن هذه المنجزات الثورية" في الحقيقة إلاّ مظهراً لهبوط فكري مخيف، وإلاّ تقليداً  قردياً مضحكاً ومبكياً في الوقت عينه.

ولن نستطيع أن ندرك مغزى ومعنى العمل الذي قام به سعيد النورسي وأهميته إلاّ إذا علمنا طبيعة ونوع الظروف القاسية المحيطة به من كل جانب، وإلاّ إذا أدركنا شدة الأعاصير التي كانت تضرب البلاد وتقوض كل شيء في طريقها آنذاك.

وقبل أن نشرح باختصار ماهية "المنجزات الثورية" للسلطة الحاكمة آنذاك نود أن نلقي نظرة سريعة على العوامل الرئيسة التي كانت تشكل الخلفية المؤدية إلى هذه المأساة.

1- كانت الدولة العثمانية قد دخلت مرحلة التخلف والتراجع والانحطاط منذ مئات السنوات، هذا التخلف كان عاماً وشاملاً يتناول كل مظاهر الحياة وشُعبها ومسالكها ومظاهرها ومناحيها، ومن بينها ناحية الدين والإيمان، فالجهل كان سائداً ومنتشراً بين علماء الدين مثل انتشاره في الطوائف الأخرى، لذا فانهم كانوا عاجزين عن الاستجابة للمتغيرات الاجتماعية التي تسارعت في العقود الأخيرة نتيجة لزيادة الاتصال مع العالم الغربي، كما ازدادت الخرافات وانتشرت بين الناس، وأصبح من المتعذر على المتعلم الاعتيادي التمييز بين الدين الحقيقي النقي الصحيح وبين هذه الخرافات والأوهام، مما ولدت شكوكاً كبيرة في أذهان الكثيرين، ولاسيما في أنصاف المتعلمين الذين كانوا يُعدّون آنذاك من المثقفين الذين يشار إليهم بالبنان في تلك الفترة من التخلف الفكري والحضاري.

2- من الملاحظ أن الحروب الطويلة الأمد وما ترافقها وتنتج عنها من مآسي كبيرة وآلام عميقة لا تكاد تنجو من آثارها أية أسرة.. مثل هذه الحروب تنشر عادة ظلاً ثقيلاً من اليأس والقنوط وانقطاع الرجاء فينمو الشك في النفوس الضعيفة الإيمان، ويطفو السؤال القديم حول مشكلة الخير والشر، ويتردد لدى الكثيرين السؤال الزائف: ولكن أين العناية الإلهية؟ ولماذا لا تضع حداً لهذه المآسي؟..

وينسى هؤلاء ان الدنيا دار اختبار، وان العناية الإلهية لو تدخلت في وضع الأمور دائماً في نصابها ومنعت حرية الإنسان في اقتراف الشر وتدخلت في هذه الحرية، لما أصبحت الدنيا دار امتحان، بل أصبحت هي الجنة الموعودة.. بينما اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون هذه الدنيا دار تجربة وامتحان وابتلاء، لذا فلابد أن يملك الإنسان حرية فعل الخير وحرية اقتراف الشر، وكان الأجدر بهؤلاء أن يلوموا حكامهم القصيري النظر الذين جروهم إلى مهاوي الهلاك ودفعوا بهم إلى أتون الحرب..

هذه هي النتائج المدمرة للحروب التي تترك آثارها المفجعة في نفوس الأفراد وتهز المجتمعات من أسسها، وكانت تركيا قد دخلت عدة حروب في السنوات الأخيرة منها: الحرب البلقانية سنة 1912م التي حاربتها أربع دول هي بلغاريا والصرب واليونان والجبل الأسود، ثم دخلت إلى أتون الحرب العالمية الأولى التي أفنت فيها زهرة شبابها، وبعد انتهاء هذه الحرب المدمرة اضطرت أن تدخل في معارك الاستقلال.. حروب.. حروب.. حروب.. هذه الحروب المدمرة  والمستمرة لعدة سنوات أتت على الأخضر واليابس في تركيا، وجلبت لها مآسي وفواجع يصعب وصفها، ونشرت الموت والدمار والفقر واليأس والقنوط، فأصبحت هناك أرضية صالحة لظهور النظرة التشاؤمية للحياة وانقطاع الرجاء، من العناية الإلهية وكلها مشاعر وأحاسيس تنبت في ظلها الأفكار الإلحادية وانقطاع الرجاء من العناية الإلهية وإنكار الحياة الأخرى والشك في وجود معنى أو غاية لهذه الحياة.

٣- لأسباب تاريخية معروفة فقد حدث خصام بين العلم وبين الكنيسة في الغرب -لا مجال لشرحها- أي بين العلم والدين حسب تفكير الكثيرين، ولم تكتمل نهضة الغرب إلاّ بعد تحرره من قبضة الكنيسة -أي من قبضة الدين حسب مفهوم الكثيرين- ولما كانت البلدان الغربية غالبة، والشرق -ومن ضمنه تركيا- مغلوباً، والمغلوب - عادة - ينبهر بالغالب ويحاول ان يقلده في كل شيء، فقد بدا لمعظم المثقفين في تركيا أن سبيل النهضة لا يكون إلاّ بالتحرر من الدين لأنه القيد الذي يقيد حركة التقدم والعلم والحضارة بزعمهم.. وعندما تيسر لبعض هؤلاء أن يمسكوا بزمام الحكم في تركيا فانهم بذلوا كل جهدهم في إبعاد تركيا عن  الإسلام ودفعها وراء الغرب في كل شيء، فتوالت المحن وتتابعت، وأصبح كل ابتعاد عن روح  الإسلام وكل انقياد لقيم الغرب "انجازاً ثورياً" يهتف بها المتزلفون والمنافقون ويصفق لها خدام الطبقة الحاكمة الجديدة.

هذه هي باختصار ما كانت تعيشه تركيا آنذاك..ضمور في العقل وفي الروح..جهل متفشٍ بين معظم علماء الدين وفقهائه..يأس وقنوط نتيجة مصائب الحروب وفواجعها وآلامها..

انبهار بالحضارة الغربية وبكل قيمها دون أي فرز أو دراسة أو تحليل أو جرأة لنقدها..

سلطة حاكمة ترى خلاص تركيا وتقدمها في إبعادها عن الإسلام..

وكانت النتيجة أن هبّت ريح عاتية تريد أن تقتلع  الإسلام من جذوره وان تخمد جذوة الإيمان التي كانت شعلتها هي القوة الدافعة والحارسة والحافظة لهذا البلد الذي كان يقود امبراطورية واسعة مدت جناحيها على قارات ثلاث..

تم تحريم تدريس الدين في المدارس، وبدلت الحروف العربية في الكتابة إلى الحروف اللاتينية، وحرم الأذان باللغة العربية -إذ اخترعوا أذاناً باللغة التركية-، واُعلنت علمانية الدولة، وفسرت هذه العلمانية؛ ليس على أساس ان الدين لا يتدخل في أمور السياسة وان الدولة لا تتدخل في المؤسسات الدينية، بل فسرت تفسيراً عدائياً، إذ منع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، فمنع طبع الكتب الإسلامية([196])، وتم تغيير الزي، وشنق العديد من الأشخاص منهم علماء أجلاء لأنهم رفضوا الانصياع لهذا القانون.. وتألفت المحاكم التي جابت البلاد طولاً وعرضاً وأرسلت المعارضين والعلماء إلى حبال المشانق.. فساد جو من الذعر ومن الإرهاب في البلد، حتى ان الأب كان يخشى ان يعلم ابنه قراءة القرآن الكريم، وحتى أصبح الكثيرون يخفون القرآن الكريم في بيوتهم ولا يضعونه في مكان ظاهر من البيت، وحلت محل كلمات -الله، الرب، الخالق، الإسلام- كلمات -الطبيعة، التطور، القومية التركية..الخ- وأصبح يعدّ من الجهل الإيمان بالله أو بالملائكة أو بالحشر، وأخذ المعلمون والمدرسون يحاولون مسح كل أثر إيماني من قلوب الطلاب الصغار إذ أصبحوا يلقنون بأن عليهم إلا يؤمنوا إلا بما يشاهدونه وما يلمسونه، وهذا إرجاع بالعقل الإنساني إلى الوراء آلاف السنين.

ولعل من المفيد ان ننقل ترجمة الفقرة الأخيرة من مادة كلمة لفظ الجلالة -الله- الواردة في -دائرة معارف الحياة- التركية المطبوعة في استانبول سنة 1932 -الجزء الأول- لكي يتضح الجو الفكري السائد آنذاك عند مدعي العلم والتوجيه في تركيا، فبعد ان نقرأ مفهومهم عن كيفية نشوء فكرة الإله عند الإنسان البدائي وكيفية تطورها ومجيء الأديان نقرأ الأسطر الآتية.

"ان الفكرة التي تريد الأديان الموجودة حالياً ان تبينها هي. ان الله واحد وانه هو الذي خلق الكون.. ولكن التقدم العلمي بدأ يوضح شيئاً فشيئاً بأن هذه الفكرة باطلة وانه لا وجود لشيء اسمه -الله-، وقد انتشرت فكرة عدم الاعتقاد بالله بين أوساط المثقفين".([197])

وعندما ننظر إلى مادة -آدم وحواء- في الموسوعة نفسها، نجد التعريف الآتي بالحرف الواحد:

"آدم وحواء: تذكر كتب الأديان أن آدم هو أول إنسان أتى إلى الدنيا، فحسب الأساطير الدينية فان الله قام بخلق الإنسان بعد خلقه الأرض كما خلق في الوقت نفسه امرأة باسم حواء ووضعهما في الجنة، ولكنهما طردا من الجنة ونـزلا إلى الأرض بعد قيامهما بأكل الثمرة التي حرمت عليهما. ومن تناسلهما وجد الناس الحاليون. ويستحيل اليوم الإيمان بهذه الأسطورة الدينية. ذلك لأن العلم كشف تقريباً عن كيفية ظهور الإنسان. انظر إلى مادة. الإنسان".([198])

وعندما ننظر إلى مادة - الإنسان- نرى شرحاً مفصلاً عن كيفية تطور الإنسان من مخلوقات أدنى بفعل الانتخاب الطبيعي..

وهكذا وجهت جميع وسائل النشر والتعليم وجميع المناهج الدراسية وجهة معينة لزعزعة الإيمان والعقيدة في النفوس.

ونقدم هنا بعض النصوص التي جاءت في كتاب منهجي طبع سنة 1930م وهو كتاب -اللغة التركية والأدب التركي:

"من المعلوم ان الإنسان مخلوق من قبل الطبيعة"....

و"كان الإنسان في أول الأمر عبداً للطبيعة، ثم اضيفت عبودية أخرى إلى هذه العبودية، وهي العبودية للأشخاص الذين ادعوا وصول القوة والحكم لهم من السماء".. أي إنكار النبوة ووصف الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام- بالكذب.

"أما نحن فإننا لا نستوحي إلهامنا من السماء ولا من الغيب بل من الحياة مباشرة".

"ان الأمة التركية التي انبثقت من قلب هذا الوطن، وكذلك النتائج والعبر المستخلصة من تاريخ الأمم المملوء بالمآسي هي التي ترسم وتحدد لنا الطريق".([199])

علاوة على هذه العوامل فقد  قامت السلطة الحاكمة آنذاك بتسخير جميع إمكانياتها وأجهزتها وقوتها ومحاكمها الثورية وسطوتها للوصول إلى هدف واحد محدد وهو قطع كل الوشائج والعلاقات التي تربط هذه الأمة بدينها، واهتمت بشكل خاص بتنشئة جيل جديد بعيد عن روح الأمة وعن عقيدتها، وهي عندما فعلت ذلك لم تستطع ان تقدم فكراً بديلاً ولا عقيدة أو فلسفة أو فكراً يمكن أن يملأ الفراغ الفكري والنفسي والروحي المتوقع بعد هذه الحرب الشرسة التي شنتها على العقيدة الإسلامية.. لم تستطع أن تملأ هذا الفراغ لأنها كانت أعجز من ان تقدم أو ان تملك أصلاً أي فكر أو عقيدة أو فلسفة أو نظرة شاملة عن الحياة وعن الفرد وعن المجتمع وعن الكون. ففلسفتها وفكرتها التي كانت تتخلص في جملة واحدة وهي -ان الخلاص هو في اتباع الغرب- كانت من السطحية والتفاهة والابتذال بحيث لم تكن تملك أية جدارة أو امكانية للعيش وللاستمرار إلا تحت ظلال حراب الدولة وسيفها المُصْلَت على الرقاب.

ولكي نحيط بالأجواء النفسية آنذاك فاننا سننقل هنا بعض الفقرات من كتاب -كيف أفسدوا جيلاً كاملاً- للكاتب التركي المعروف "عثمان يوكسل" الذي عاصر تلك الأحداث وعاش في ظل تلك الظروف وشهد تلك السنوات السوداء فكتب ذكرياته عن ذلك العهد المظلم وكيف قامت السلطة الحاكمة آنذاك بافساد منظم ودؤوب للجيل الناشيء، فنراه يكتب عن ذكرياته الأولى في المدرسة الابتدائية فيقول وهو يخاطب نفسه.

".. وتتذكر انك بدأت بالدوام إلى المدرسة الابتدائية على وجل، وفي أحد الأيام التفت اليكم المعلم مستفسراً.

-   أيها الصغار! ما رأيكم؟ هل هناك شيء اسمه الله؟

    واحتار الطلاب الصغار أمام هذا السؤال الذي لم يسمعوا ولم يفكروا به سابقاً.. بقوا صامتين وقد ألجمهم الذعر.. ولكنك لم تسكت بل صرخت: نعم! يوجد. فضحك المعلم وهو يقول : لا وجود لمثل هذا الشيء أيها الصغار.. فهذه حكايات العجائز.. وهو كذب.

ازدادت حيرة واضطراب الطلاب.. حكايات.... عجائز.... كذب.... وبدأوا يفكرون في -الغيلان- التي يسمعون عنها في الأساطير..

فهل كان الله غولاً (حاش لله)؟.. بدأ المعلم الحديث مرة أخرى: لا أيها الصغار.. اهتفوا جميعاً وبصوت واحد : اعطنا حلوى يا رب.. هتف الصغار.

-            اعطنا حلوى يا رب ..

-            فلم يرد أي جواب..

-      ثم قال المعلم: والآن اهتفوا : اعطنا الحلوى يا معلمنا. فهتف الصغار مرة أخرى:

-      اعطنا الحلوى يا معلمنا ..

-      ابتسم المعلم ابتسامة صفراء واستدار مخرجاً بعض الحلوى الذي كان قد خبأه وبدأ بتوزيعه على الصغار الذين كانوا يراقبون المعلم بنظرات وجلة وحائرة.. لم يكن أحد منهم قد استوعب بعدُ معنى ما حدث.. كان صمت عميق يسود الصف، فالكل ينتظر ويتشوق لمعرفة ما سيؤول  إليه الأمر.. ثم علا صوت المعلم ثانياً:

      - كما ترون أيها الصغار فان الله غير موجود.. فلو كان موجوداً لرأيتموه  كما ترونني الآن.. لقد هتفتم طالبين الحلوى منه فلم يسمعكم ولم يجلبها اليكم ولم يعطها لكم.. وطلبتم الحلوى مني فجلبتها اليكم واعطيتها لكم، ذلك لانني موجود وانتم موجودون، فنحن نعطي ونحن نأخذ... وهنا قذفت الحلوى -التي كانت ملتصقة بيدك بسبب العرق- بوجهه صارخاً: أنت كافر.. لطمك المعلم على وجهك وأمسك بأذنك وأخرجك من الصف".([200])

وفي موضع آخر من الكتاب.

"... بعد يوم واحد من ذلك الدرس قام المعلم بتعليق صورة شخص يلبس  على رأسه قبعة -مثل قبعة المعلم- على السبورة السوداء قائلاً. هذا هو إلهنا، فهذا نراه بأعيننا ونستطيع لمسه بأيدينا، هذا هو مصطفى كمال الذي أنقذنا وأوجدنا من العدم".([201])

وانظروا إلى نوع التمثيليات والحفلات المدرسية التي كانت تقام آنذاك.

"وفي المساء كانت هناك حفلة سمر في المدرسة.. كان الكل مدعوين إليها، وذهبتَ أنت كذلك، فقد كان كثير من أصدقائكَ مشتركين  فيها.. الكل ينتظرون بفضول.. وأخيراً رُفعت الستارة.. كان هناك في ركن من المسرح شخص بملابس عالم دين غليظ الرقبة ذو كرش كبير جالس على حصيرة يتمتم ببعض الكلمات وهو يهتز يميناً وشمالاً، وفي يده كتاب مغلف بجلد يمثل القرآن الكريم.. كان يقرأ، ومن حين لآخر يتجشأ، وفي كل مرة يتجشأ فيها يقول : استغفر الله، وفوق رأس الشيخ كانت هناك فلقة معلقة، وفي زاوية أخرى علقت لوحة داخل اطار لآية من القرآن الكريم، وعلى حين غرة ملأ الغرفة أطفال متسخو الثياب ذوو هيئة زرية يسيل المخاط من أنوفهم.. وقفوا أمام الشيخ بمذلة ثم جلسوا على ركبهم.. كان الشيخ يقرأ أحياناً في الكتاب ثم يلقي بنظرات غاضبة على الطلاب ويكثر من التجشؤ.

كم كان هذا الشخص كريهاً.. لم يكن في الإمكان عدم الاشمئزاز منه، كان الهدف طبعاً هو تشويه  الإسلام والاستهزاء من ممثليه وتحقيرهم وتهوين شأنهم أمام أنظار الناس.

بعد قليل دخلت الغرفة امرأة شابة متحجبة، لم تكن هذه امرأة، بل كان رجلاً في ملابس النساء للأداء التمثيلي.. ذهبت المرأة وقبلت يد الشيخ وجلست أمامه على ركبتيها.. أشار إليها الشيخ بكشف صدرها، فبدأت المرأة بفك  أزرارها.. أخرج الشيخ قلمه وغمسه في الحبر.. اقترب من المرأة وبعد قراءة البسملة بدأ يكتب على صدرها.. يكتب ثم يمسح، ثم يعاود الكتابة ويعاود المسح.. وفجأة يدخل الغرفة شخص مهندم عليه سترة وبنطلون يتبعه معيته حيث يصيح بالشيخ مهدداً:ما هذه السفاهة؟ فيهب الشيخ والطلاب مذعورين حيث يطاردهم هذا الشخص قائلاً: اخرجوا حالاً.. ثم يأخذ الكتاب الموضوع فوق المقعد فيرميه أرضاً ويعمد إلى تكسير اللوحة المعلقة في الزاوية بعصاه، وينـزل الفلقة من على الحائط ويضع بدلاً منه صورة مصطفى كمال باشا. كما يعلق لوحة كتب عليها: نحن جمهوريون، شعبيون، علمانيون، ثوريون دوليون([202])  قوميّون. وبعد أن اخرج الطلاب من الصف قامت الشرطة بسحب الشيخ وإخراجه كذلك. ولم يلبث أن دخلت الغرفة مجموعة من الطلاب الحسني الملبس من ذوي الياقات البيضاء النظيفة بدلاً من الطلاب ذوي الثياب الوسخة المهلهلة. وما أن دخل هؤلاء الصف حتى هتفوا بصوت واحد :أنا تركي مستقيم ومجتهد. وهنا نـزلت الستارة وانتهت حفلة السمر. كانت هذه مقارنة بين المدارس القديمة والمدارس الحديثة، ولم تكن قد رأيت في حياتك مثل هذا الشيخ الوسخ الكريه المنظر الذي يتجشأ على الدوام، وأين هؤلاء من الشيوخ الذين كانوا يجمعون أهالي القرية في البيادر ويحضونهم على الجهاد ويتلون الأدعية.. لم يكن هناك أي شبه بين هذا الشيخ وبين أولئك.".([203])

كانت هذه صورة واحدة فقط مما يجري في المدارس وفي الصحف وفي الإذاعة من تشويه الدين وعلمائه وإهانتهم والسخرية منهم، علماً بأن حروب الاستقلال التركية ما كانت لتستمر وتنتهي بالانتصار لولا جهود علماء الدين ولولا فكرة الجهاد الإسلامي التي ما كانت أية فكرة أخرى أو عقيدة أخرى تدانيها في قوة التأثير في دفع أبناء الشعب إلى ساحات القتال وعن طيب خاطر.

وفي المدارس المتوسطة والثانوية كانت الأمور أسوأ والأوضاع أمَـرّ، فلم يترك مدرسو التاريخ والفلسفة أمراً يمت إلى التاريخ الإسلامي أو إلى العقيدة الإسلامية بصلة إلاّ وأشبعوه سخرية وهدماً وتزييفاً، فحوربت عقيدة الإيمان بالله وباليوم الآخر ونـزع من الصدور كل معنى جميل، وكل فكرة سامية وأقيمت مكانها فكرة المنفعة المادية واللذة العاجلة.

"بدأ كل معنى جميل ومحبوب كان قد سكن في القلوب واستقر في الأذهان بالتلاشي.. فكأن الفراغ كان يستولي على كل مكان، وكأن كل شيء كان يغيب، فلا يبقى ما يمكن التعلق به والإعجاب به والشعور بالحب تجاهه.. فراغ.. فراغ.. لا أول له ولا آخر".([204])

وانظروا إلى الايحاء الذي كانوا ينشرونه آنذاك بين طلاب المدارس نحو آبائهم وأمهاتهم.. لنقرأ ما كان يقوله مدرس الفلسفة لطلاب المدارس الثانوية:

"يجب عليكم إيقاظ هذه الأمة من سباتها الطويل، عليكم أن ترشدوا آباءكم وأمهاتكم، ليس هناك شيء تستطيعون أخذه منهم والإفادة منه، فالنيام لا يستطيعون الكلام.. لا تخشوا من آبائكم وأمهاتكم، بل قولوا لهم الحقيقة، فالدنيا كلها ليست إلا لحظة لذة ونشوة، فقد أتيتم أنتم إلى الدنيا نتيجة لحظة لذة. وما دامت -لحظة اللذة- سبب وجودنا، إذن يجب أن تكون حياتنا وغايتنا هي اقتناص اللذة. ان أمهاتكم لسن إلاّ معامل تفريخ، وليس اباؤكم إلاّ مكائن الضغط، فالإنسان ليس إلاّ آلة وماكنة.".([205])

تأملوا مثل هذا الإيحاء المفزع.... هذا الإيحاء الذي يهبط بمراحل عن النظرة الحيوانية للإنسان فينـزل إلى درك النظرة الآلية للإنسان، أي اعتبار الإنسان آلة من الآلات دون مشاعر ودون عواطف.. دون قيم ودون روح، وفكروا في الثمر الشيطاني الذي ينتج عن مثل هذه القيم المرعبة التي كانت تضخ إلى عقول الطلاب الغضة في تلك المرحلة المبكرة من أعمارهم.

ثم لنأت إلى شرح موجز لـ "المنجزات الثورية" بتعبير السلطة الحاكمة آنذاك والتي لم تكن سوى عملية قتل جذور الأمة التركية.

 

١- القبعة.

كان لبس القبعة خاصاً بالأمم الغربية. لذا أصبحت القبعة رمزاً للغرب ولدينه -الذي هو النصرانية- أي أصبح لبسها كلبس القسس للزنار أو تعليقهم للصليب. لذا أصبحت القبعة رمزاً للدين النصراني وللأمم الغربية التي دخلت في صدام وخصام وعداء وحروب لا تنقطع مع الدولة العثمانية منذ مئات السنين، لذا فقد ترسبت القبعة في أذهان الناس وفي أعماق قلوبهم كرمز لأعدائهم، لذا فان الذين قادوا حروب الاستقلال كانوا يستنهضون همم الناس للقتال فيقولون لهم.

ان الكفار قادمون.. سيجبرونكم على لبس القبعة وسيدوسون على القرآن وسيعتدون على أعراض زوجاتكم وامهاتكم وبناتكم.([206])

إلى هذه الدرجة كانت شناعة لبس القبعة في أذهان الناس آنذاك وفي شعورهم وفي لا شعورهم.

ولما كانت فلسفة السلطة الحاكمة آنذاك هي تقليد الغرب واتباعه في كل شيء، فان الطريق السهل أمامهم كان في تغيير القشرة الخارجية للشعب، لأن اقتباس العلوم والمعارف ووسائل التقدم الحقيقية لم يكن بهذه السهولة، إذن فقد كان الأفضل والأنسب والأسهل لهم تغيير الزي والادعاء أمام أنفسهم وأمام العالم انهم دخلوا عالم المدنية والحضارة الغربية..

يشرح الدكتور "رضا نور([207])" موضوع القبعة في مذكراته الموسومة بـ "حياتي وذكرياتي".

".. كان هذا بعد إصدار قانون "إقرار السكون"([208]). وكان مصطفى كمال منطلقاً في لذاته دون قيد، وفي أحد الأيام خرج مصطفى كمال في إحدى جولاته لابساً القبعة.. وقد خطر هذا بباله في قسطموني([209])  إذ سنّ قانوناً حرم بموجبه لبس الطربوش وبدله بالقبعة([210]). وكانت ردود الفعل مختلفة فبينما ساير بعض رجال الدين هذا القانون خوفاً ورهبة من بطش السلطة فان مدناً عديدة شهدت تمردات عديدة كمدن "مرعش" و "ريزا" و "سيواس" و "ارضروم" فتوجهت الطرادة "حميدية" لقصف مدينة "ريزا" ثم تشكلت "محاكم الاستقلال" التي نصبت المشانق في ميادين المدن وعلقت عليها الكثير من رجال الدين.

ويروي -رضا نور- في كتابه المذكور آنفاً ان الكثير من رجال الدين وأهل التصوف فضلوا ان يسيروا وهم حاسرو الرؤوس على أن يلبسوا القبعة، كما أن البعض باعوا بيوتهم وصفّوا أموالهم وهاجروا إلى سورية، كما انتهز التجار اليهود هذه الفرصة فاستوردوا على عجل عشرات الآلاف من القبعات القديمة والمستعملة من فرنسا، وبعد تنظيفها باعوها بعشرات أضعاف سعرها وبذلك خرجت ملايين الليرات لتدخل جيوب التجار الفرنسيين واليهود.([211])

وقد تناقلت الأفواه الجواب الذي أجابه أحد رجال الدين في "مرعش" عندما دعي - وهو تحت ظل أعواد المشنقة - ان يصرح بأن القبعة ليست حراماً، إذ قال.

"ان القبعة من علامات الكفر، إن لبسها كفر، وأنا أحمد الله بأنني أموت وأنا لم ألبسها".

ويروي أحد المسنين المنظر كما رآه.

"كنت أمر من الميدان الذي يتدلى فيه المشنوقون.. لم يكن هناك أحد باستثناء بعض  الجندرمة.. بدأت الريح تهب.. ولا استطيع أن أنسى منظر اللحى البيضاء على الوجوه الميتة وهي ترف مع الريح".([212])

ولنرجع مرة أخرى إلى ذكريات "رضا نور"

".. ولم يقتصر الأمر على بعض ردود الفعل، فقد أعلن الأهالي العصيان في "سيواس" وفي "أرضروم" وفي إماكن أخرى متعددة، فسارع مصطفى كمال إلى تشكيل "محكمة الاستقلال" تحت رئاسة "كَلْ علي" أي"علي الأقرع" تجولت في هذه الأماكن حيث شنق الكثيرون، وان كنت لا اعرف عدد المشنوقين، فذعر الأهالي واستسلموا وانتهى كل شيء، وقد تألمت كثيراً لأحد رجال الدين الذي لا أذكر اسمه.. فهذا المسكين كان قد نشر رسالة ضد القبعة، وذلك قبل صدور قانون القبعة. وقد تم نشر هذه الرسالة بموافقة من وزارة المعارف، وقد ساقوه إلى محكمة الاستقلال في أنقرة حيث قال للمحكمة: "انني نشرت هذه الرسالة قبل سنة واحدة من صدور هذا القانون، وقد وافقت وزارة المعارف رسمياً على النشر".. ولكنهم لم يستمعوا له وشنقوه.. يا للعجب.... ما دمتم تشنقونه فلم لا تشنقون وزير المعارف الذي أعطاه الموافقة؟.. علماً بأن النشر تم قبل صدور قانون القبعة، والقوانين لا تشمل ما قبلها وهذا من أهم الأسس القانونية".([213])

واسم رجل الدين هذا هو "الشيخ عاطف اسكيبلي"، ونظراً لكون هذه القضية تشكل مثالاً جيداً للكشف عن عقلية السلطة الحاكمة آنذاك وكيفية تصرفها فاننا سنعرضها ببعض التفصيل.

المتهم هو "الشيخ عاطف اسكيبلي" اشتهر بعلمه وورعه، وله عدة كتب مؤلفة منها: مرآة الإسلام، طريق الاسلام، عصر الإسلام، المسكرات في الدين الإسلامي، القوة البرية والبحرية في نظر الشريعة، الحجاب الشرعي، المدنية الشرعية.. وغيرها.

وقد ذاعت شهرة المدرسة التي كان يديرها حتى أصبحت الوفود الأجنبية تزورها.. وعندما زارها وفد أمريكي وقابلوا هذا العالم ووجهوا  إليه أسئلة مختلفة حول  الإسلام ثم أطلعوا على نظام التدريس هناك، تقدم من الشيخ عاطف كهل أمريكي قبل مغادرة الوفد المدرسة قائلاً له:

كم تمنيت لو كنت شاباً وحظيت بدروسكم.

ويأتي إلى استانبول مستشرق إيطالي، ويراجع المشيخة الإسلامية هناك للبحث عن أجوبة لأسئلة عديدة لديه حول  الإسلام فتحيله المشيخة الإسلامية إلى الشيخ عاطف الذي يجتمع به لعدة ساعات ويجيبه عن جميع أسئلته ويفرح هذا المستشرق بالأجوبة المقنعة إلى درجة انه يقول بأنه زار البلدان العربية والهند واجتمع بعلمائها فلم يشبع أحد منهم عقله باجوبته كما فعل الشيخ عاطف.

ويعرض عليه وفد رسمي من القرم المجيء إلى القرم وتقلد منصب وزارة الأوقاف هناك وتنظيم جميع المؤسسات والمدارس الدينية فيرفض ذلك ويفضل البقاء والعمل في وطنه.

وعندما قدم السفير الياباني البارون اوشيد إلى استانبول  كان أول عمل قام به بعد إيفاء الزيارات الرسمية هو زيارة هذا العالم الذي وصلت شهرته إلى اليابان حيث قضى عدة ساعات معه وعندما خرج من عنده قال له:

لو كان هناك بضعة علماء مثلكم لفتح  الإسلام جميع البلدان الشرقية ومن ضمنها اليابان.

لا نريد اعطاء المزيد من التفاصيل.. ما نريد ان نشير  إليه هو أن هذا الشيخ لم يكن شخضاً اعتيادياً، بل كان عالماً ورعاً عاملاً ومعروفاً.

بعد هذا التعريف السريع لهذا الشيخ العالم نعود فنتناول قضيته أو بالأحرى مأساته.

كان هذا العالم قد نشر كتاباً سنة 1340هـ1924م بعنوان "تقليد الإفرنج" أبان فيه وجوب احتفاظ الأمة بشخصيتها المستقلة وعدم الانجراف في تقليد الغرب، وابان التعاليم الإسلامية ومعاييرها في هذا الخصوص.

في 25 كانون الأول سنة 1925 صدر قانون "القيافة" الذي سبق شرحه، وعندما تتابعت الأحداث التي أشرنا إليها والتمردات في كثير من المدن التركية وشكلت محاكم الاستقلال، تم إلقاء القبض على الشيخ عاطف كذلك، ذلك بحجة ان كتابه المذكور آنفاً ضد لبس القبعة. وكان هذا الاتهام اتهاماً غريباً. ذلك لأنه نشر كتابه قبل أكثر من سنة ونصف السنة من صدور قانون القيافة وقد حصل على موافقة وزارة المعارف آنذاك على نشره، والقوانين لا تكون رجعية، أي أن أحكامها لا تسري إلى تواريخ تسبق تواريخ سنها وتشريعها، وهذه قاعدة قانونية معروفة لدى الجميع.

اعتقل الشيخ في استانبول ثم أرسل إلى "گريسون" ليمثل أمام محكمة الاستقلال هناك. فلم تجد المحكمة أي دليل ضده فأعادته إلى استانبول، وبدلاً من إطلاق سراحه أبقوه سجيناً ثم أرسلوه إلى أنقرة ليمثل أمام محكمة الاستقلال هناك حيث كان "كَلْ علي" رئيساً للمحكمة ومعروفاً بهويته الإجرامية، إذ أرسل العديد من الأبرياء إلى حبل المشنقة تزلفاً للسلطة الحاكمة. ونترك المراحل الطويلة للمحكمة لكي نصل إلى أواخرها حيث يطلب المدعي العام إنـزال عقوبة السجن لمدة ثلاث سنوات بالشيخ عاطف. ومع أن هذا الطلب كان طلباً ظالماً وقاسياً لأن براءة الشيخ كانت واضحة تماماً إلاّ ان أصدقاء الشيخ ومحبيه تأكدوا من خلاص الشيخ. فالعادة ان يبالغ المدعي العام في طلب العقوبة والعادة ان يكون الحكم الصادر أقل من طلب المدعي العام، لذا فقد توقعوا صدور الحكم بالسجن لمدة سنة أو سنتين، وتعين موعد الجلسة الأخيرة حيث يقدم المتهم -وهو الشيخ عاطف- دفاعه ثم تصدر المحكمة أحكامها، فقد كان هناك متهمون عديدون يحاكمون بتهمة معارضة لبس القبعة.

يسرد السيد "طاهري المولوي" - الذي كان رفيق الشيخ عاطف في الزنـزانة - ذكرياته عن الليلة السابقة لصدور قرار المحكمة فيقول ان الشيخ عاطف بعد أن أدى صلاة العشاء بدأ بكتابة دفاعه الذي سيلقيه أمام المحكمة. ثم شعر بالتعب وغفا غفوة قصيرة بينما استمر السيد طاهر المولوي بكتابة دفاعه..

يقول السيد المولوي بأن الشيخ فتح عينيه بعد بضعة دقائق ووجهه متهلل بشراً ومد يديه فمزق الأوراق التي كان قد سجل فيها دفاعه ليوم غد، وعندما سأله طاهر المولوي في ذهول عن السبب أخبره بأنه رأى في المنام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يقول له:

- لماذا تكتب الدفاع عن نفسك؟ ألا تريد لقاءنا وصحبتنا؟...

لذا فانه مقتنع بأن الحكم سيصدر عليه بالإعدام غداً.([214])

وفعلاً فقد صدر الحكم عليه بالاعدام واعدم.([215]) رحمه الله رحمة واسعة.

وتوالت الإنجازات الثورية مثل إلغاء القوانين الشرعية والأحكام الإسلامية وإحلال القانون المدني محلها وهو المأخوذ معظمه من القانون السويسري والقانون الفرنسي. ثم إعلان -العلمانية- أي؛ فصل الدين عن الدولة ثم ربط التعليم الديني بوزارة المعارف، وإغلاق التكايا والزوايا..

يقول "فالح رفقي" - وهو أحد الكتاب المتزلفين للسلطة آنذاك - في كتابه "چانقايا":

"لقد تم تحقيق الانتصار النهائي للكفاح في سبيل المدنية - الذي استمر طوال عصر كامل - في عهد تأسيس الجمهورية وذلك بفضل إقرار القانون المدني والعلمانية، وقد كان تصديق القانون من  قبل المجلس النيابي وتصفية الدستور - وذلك بإخراج المادة القائلة بان دين الدولة الرسمي هو الدين الإسلامي- منه لصالح العلمانية بمثابة لبس التاج في مراسيم انتصار دعاوانا الثورية. إذ لم يبق هناك أي عائق تجاه الأمة التركية للتوجه والتطور نحو مجتمعات القرن العشرين، والقضية أصبحت منحصرة في قضية التعليم فقط".([216]) ويورد "رضا نور" رايه حول هذا الموضوع في ذكرياته، فيقول:

"ترجموا القانون المدني السويسري وطبقوه.. والآن ظهرت موضة جديدة هي موضة الثورة، ففي كل يوم هناك ثورة، هو([217]) يأمر الجرائد بالتحدث عنها بكل فخر، وقد سرت هذه العدوى من مصطفى كمال إلى وزرائه.. ما أشد عدوى مرض الثورة هذه؟.. ان عدوى الكوليرا لا شيء بالنسبة اليها.. ففي أحد الأيام تسمع السيد نجاتي([218])  يتكلم عن "ثورة في شؤون العدل" وتتساءل ما هي هذه الثورة.. وبعد لأي تعرف ان كل ما في الأمر انه اصدر أمراً أحمق، أو أنه أصدر قانوناً..تم تسمع بـ "ثورة في المعارف"... ثم انها ليست ثورة واحدة، بل هناك "ثورة المعارف في نيسان" ثم تعقبها "ثورة المعارف في مايس".. ثورة بعد ثورة.... ففي كل شهر من أشهر السنة هناك ثورة.. أي اندلعت عاصفة من الثورات، دارت معها الرؤوس وداخت، علماً بأنهم أفسدوا بهذه الثورات ما كان باقياً في اليد، وقلبوا بها الأمور، ولو أن باحثاً مدققاً قام بتدقيق هذه الأمور وما خسرته الدولة والأمة بجنون الثورات هذه من خسائر مالية وثقافية وعدلية.. الخ وكتب عن الخسائر الجسيمة التي وقعت لكان كتاباً ممتازاً.. إن مثل هذا الكتاب يجب أن يؤلف، إن الأزمة الاقتصادية ليست مصيبة سماوية تهبط علينا من السماء، ولكنها نتيجة لمثل هذه التصرفات.

وقد قام "محمود أسعد" بترجمة القانون المدني السويسري وكان "شكري قايا" ضمن هذه الهيئة، وقد حصروا اهتمامهم في الترجمة إلى اللغة التركية فقط.. حسناً ولكنهم لعدم استطاعتهم فهم هذه القوانين فهماً جيداً فانهم قاموا بالترجمة الحرفية لكثير من أقسامها مما أدى إلى الغموض والى عدم إمكانية الفهم، هذا علماً بأن عدة شروح قد كتبت في سويسرا لفهم النص الفرنسي لهذا القانون.

ثم  إن "شكري قايا" إذا كان يجهل شيئاً فهو لغته الأم "اللغة التركية" لأنه لو كتب سطرين فقط لوجدت عدة أخطاء إملائية، وعدة أخطاء نحوية فيهما.

ثم إن هؤلاء اقترفوا خطأ فظيعاً آخر، ذلك انهم لحرصهم على عدم استعمال أية كلمة عربية فانهم لم يضعوا الاصطلاحات القانونية، بل عبروا عنها بواسطة جمل، علماً بأن هذا الخطأ الجسيم ليس إلاّ جهلاً فظيعاً، لأن هذا الموضوع كان موضوعاً علمياً. وهل يخلو العلم من الاصطلاحات؟.. إن مصطلحاً واحداً في العلم قد يحتاج شرحه إلى خمس أو عشر من الصفحات، وان مثل هذا المصطلح الواحد يعني كل هذه الصفحات عند أرباب العلم..

ثم يستمر:

"لقد مر القانون من المجلس دون تأمل أو مناقشة، وبشكل ارتجالي، وهذا القانون المدني يضم التقاليد المسيحية وأعرافها، ونحن الأتراك مسلمون من قبل عشرة قرون، إن القانون يعني العرف.."([219])

ومن الغرائب انه تم رفع المادة القانونية التي تمنع زواج الاخوة في الرضاعة، أي أصبح الأتراك يستطيعون الزواج من أخواتهم في الرضاعة....

وحول النقل الحرفي لقوانين أمة أخرى نرى مؤلف كتاب "الرجل الصنم"يقول:

"إننا حتى لو أخذنا بقرة من سويسرا وبقرة من الأناضول لرأينا أن هناك فروقاً بينهما من ناحية الخصائص الإقليمية والغذاء والتربية والرعاية، لذلك فان ما يظهره النقل الحرفي والارتجالي لمنظومة القوانين الغربية وإحلالها محل القوانين الإسلامية في المعاملات فيه خروج عن الدين وقتل للشخصية المستقلة وتقليد للعالم الغربي وعبودية له لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح".([220])

٢- وتوالت المنجزات الثورية... أو بالأحرى الطعنات القاتلة في صدر الأمة التركية فصدر القرار بمنع الأذان باللغة العربية وقدموا ترجمة تركية للأذان وعوقب كل من أذّن بالعربية.([221])

٣ - ثم بدلوا حروف الكتابة من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية فقطعوا بذلك كل صلات الأمة التركية مع تاريخها ومع ماضيها ومع أدبها وتراثها وشعرها وفكرها السابق.

يقول مؤلف كتاب "الرجل الصنم" حول هذا الموضوع:

"... لذلك فان إلغاءها "أي إلغاء الحروف التركية القديمة" يعني تمزيق الظرف الذي يحمل الروح الإسلامية، واندلاق هذا الروح في التراب، لذلك فان تغيير الحروف يعتبر أكثر "الثورات" ايغالاً في الفساد وأكثرها جناية.

علاوة على هذا فان الحروف التي طرحت جانباً كانت أجمل وأرقى الأبجديات الموجودة في العالم، وقد قال أستاذ التربية الأمريكي "دُكي" الذي كان يزور استانبول في أثناء الإقدام على تغيير الحروف: "إنكم بطرحكم هذه الحروف ستفقدون من ناحية ثقافتكم أكثر مما ستخسره أمريكا لو فقدت جميع معادنها".

أما صعوبة القراءة والكتابة بالحروف القديمة فليست ذنب أو إثم هذه الحروف ولكنها ذنب إدارة وزارة المعارف السابقة التي لم تستطع تنظيم وترتيب حتى قاموس يحيط بقواعد الإملاء.

ثم إن الحروف القديمة المتركبة بشكل صور للمفاهيم، وابتعادها عن سطحية "الفونتيك" أي؛ أصول التهجي الصوتي وبتعبيرها التجريدي تكون عاملاً في تربية الذكاء. بينما نرى أن الحروف الجديدة ببساطتها الغليظة والخاصة بمستوى عرفاء الشرطة وبنظامها الخالي من الرشاقة تقف حائلاً أمام تربية الذكاء، وهذه الحال تظهر بجلاء أكثر في الجيل الجديد عنه في الجيل القديم، وقد اتفق عالمياً بصدد الذكاء على قبول طرز الكلمة الذي يهتم بصور المفاهيم، ولا يمكن العثور بين لغات العالم بأسره على لغة كاللغة التركية -بالحروف اللاتينية- مسجونة ضمن الجدران الغليظة للـ "الفونتيك"  أي التهجي الصوتي.

وأخيراً فان تبديل هذه الحروف التي تشكل أكمل منظومة للحروف والتي تحوز على صفة الـ "ستينوغرافي" - أي صفة الاختزال - بحيث يمكن بواسطتها تسجيل أكثر الأحاديث سرعة.. إن تبديل مثل هذه الحروف المسطورة باسوأها والتضحية - عن هذا الطريق - بأسمى معاني الروح باوطئها وتقديم الشيء الغريب والأجنبي على انه هو الأصيل وهو النابع عن الأمة، وتصوير الأصيل على انه هو الأجنبي، ونبذ الماضي بكامله ونبذ تاريخ الأمة بكامله ومحاولة قلع جذور الأمة وشرايين دمائها وطرحها جانباً يُعدّ أكبر خيانة يمكن ارتكابها في حق أمة من الأمم .. خيانة لا يمكن أن تستوعبها حتى الأساطير".([222])

ولبيان العقلية الغريـبة للسلطة الحاكمة آنذاك فإننا نذكر بأنها روجت لنظريتين غريبتين هي "النظرية الشمسية في اللغة" وملخصها أن كل اللغات في العالم أصلها ومنشؤها وبدايتها من اللغة التركية.... و"النظرية التاريخية" التي كانت تنسب كل حضارات العالم إلى منبع تركي.

"ثم جاءت من بعد هذا نظرية فقدت الآن سرعتها ولم تكن إلاّ نتيجة لنوع من الهيستريا والجنون، وهذه النظرية كانت تدعي أن أصل الحضارات بأجمعها نبعت من منبع تركي، وان الزمان والمكان بدأا بالأتراك، وان كل ما له قيمة يرجع إلى الأتراك فقط، وانه لا توجد حياة أو مجتمع أو أي شيء البتة خارج الأتراك، وفي الحقيقة فان هذه النظرية لم تكن تعطي الأتراك كل شيء بل كانت تحرمهم من كل شيء، وبدلاً من حبهم والاهتمام بهم كانت تظهرهم بشكل منفر وبشع".([223])

ولم تكن -النظرية الشمسية- الخرقاء أو -النظرية التاريخية- الحمقاء إلاّ نتيجة طبيعية لفكرة القومية التركية التي تبنتها جماعة الاتحاد والترقي والتي بلغت حضيض تطرفها في عهد مصطفى كمال، لذا فمن المفيد إلقاء نظرة عجلى على هذا الموضوع الذي لم يقتصر تأثيره على تركيا فقط بل على أوضاع كثير من البلدان الإسلامية أيضاً ولكننا سنقصر كلامنا على أوضاع تركيا.

من المعلوم أن الدولة العثمانية عندما فتحت القسطنطينية ثم توغلت في قارة أوروپا ارتعبت الدول الأوروپية من ذلك كثيراً ونظمت حملات صليبية عديدة لإخراج المسلمين من أوروپا، ولأمد طويل لم تفلح في ذلك ولكن عندما أصاب الوهن الدولة العثمانية وبدأ ظلها يتقلص ويتراجع عن أوروپا أدامت الدول الأوروپية زخم ضغطها عليها لإخراجها نهائياً منها. وفي خلال مئات السنين من الصراع وقعت مئات من الحروب والمعارك بين الطرفين مما ولّد عداءً عميقاً بينهما، واتخذ هذا العداء في الجانب الأوروپي عداءً صريحاً للدين الإسلامي ولنبي هذا الدين ولكتابه، ولم يكن من الممكن أن يتولد العداء نفسه في جانب الدولة العثمانية ضد الدين النصراني ولا ضد نبيه ولا ضد كتابه لأن الدين الإسلامي يمنع ذلك ويعدّ عيسى عليه السلام من كرام الأنبياء والرسل.

بدءً من القرن السادس عشر بدأت حملة أورپية منظمة لدراسة أحوال الدولة العثمانية وأحوال الممالك الواقعة تحت حكمها.. دراسة جغرافيتها، لغاتها ولهجاتها المحلية، أديانها ومذاهبها، تاريخها... الخ كما بدأت الإرساليات التبشيرية تترى على هذه الممالك.([224])

كانت أمثال هذه الدراسات العملية ضرورية لها على قاعدة. "اعرف عدوك"، وكان واضحاً أن أقوى عامل وعنصر في إسناد الدولة العثمانية حتى في أضعف أدوارها هو عامل الدين الإسلامي([225]) وقد قلقت الدول الأورپية كثيراً عندما شاهدت السلطان عبد الحميد الثاني يرفع راية سياسة الجامعة الإسلامية، وانضمت الحركة الصهيونية بكل ما لديها من قوة ونفوذ في عالم المال والصحافة والسياسة إلى مساعي هدم الدولة العثمانية، وهدم حكم السلطان عبد الحميد خاصة بعد رفضه كل عروض الحركة الصهيونية وكل إغرءاتها في السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين، لذا كان يجب التخلص من السلطان ومن سياسة الجامعة الإسلامية.

أما السلطان فقد تم تهيئة انقلاب ضده بواسطة جماعة الاتحاد والترقي الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية في سلانيك، وأما سياسة الجامعة الإسلامية فقد كان لابد من إيجاد البديل لها.

بديل يرضي الغرور وينفذ إلى القلوب مستغلاً الضعف الإنساني وحاجته إلى الفخر والمباهاة.

وضعوا الفكرة القومية التركية -أي العنصرية الطورانية- مكان فكرة "الأمة" في الإسلام. فكرة الأمة تجمع وتؤلف..ترصّ وتوحّد، وفكرة القومية الطورانية تتعالى وتفرق وتشتت.. وكان هذا هو المطلوب بالضبط للدولة العثمانية، وبينما كانت الجامعة العثمانية والجامعة الإسلامية تؤلف وتوحد كل العناصر والقوميات الإسلامية وغير الإسلامية([226]) كانت الفكرة الطورانية أكبر عامل هدم لوحدة الصف واكبر داعية للقوميات الأخرى لنـزع ولائها عن الدولة والثورة عليها باسم قوميتها هي، أي أصبحت الفكرة الطورانية هي الفتيل التي أشعل نار القوميات الأخرى في الدولة العثمانية بعد مجيء الاتحاد والترقي إلى الحكم بمساعدة خارجية، بل بمؤامرة يهودية صريحة لم تعد أبداً من أسرار التاريخ. ([227])

ولم تكن من الصعوبة لدى الدول الأوروپية بإمكانياتها الكبيرة ان تنصب فخاً ثقافياً وفكرياً للدولة العثمانية بجانب الفخاخ السياسية التي كانت ماهرة في إعدادها. فقد تناول علماء أوروپيون تاريخ المغول وقبائل الهون وبحثوا في مزايا اللغة التركية وأمجاد التاريخ التركي القديم قبل الإسلام، وبالغوا في ذلك مبالغة كبيرة، فمن هؤلاء العلماء "فون لوفوك" و "ماكس موللر" من ألمانيا و "دي جوينيز" و"ليون كهون" من فرنسا و "آرثر لملي دافيد" من انكلترة و"البروفسور غدولاوسكي" من روسيا، وكانت النتيجة ان الأتراك بدأوا ينظرون إلى أن التتار والمغول والأتراك كلهم أمة واحدة، وبدأوا يعدّون السومريين والحيثيين من الأتراك أيضاً([228]) ، أي تم النفخ في المفاخر القومية للأتراك ودفعوا إلى المباهاة بتاريخهم القومي السابق للإسلام، وأصبحت مزايا الحضارة السومرية والحيثية ضمن مفاخرهم القومية، وهذا ما دعا أحد دعاة الطورانية وهو "أحمد آغاييف" إلى القول في اجتماع سري عقد في بيت "عزيز المصري" لإزالة سوء الفهم بين العناصر العثمانية آنذاك."تأكدوا أن هؤلاء السفلة الذين تسمونهم عرباً أو أرناؤوطاً لا شيء، ولا يوجد سوى العنصر التركي الذي سيحكم آسيا، لأن عدد نفوسه يزيد عن خمسمائة مليون.. يريد بذلك أن الصين طورانية".([229])

".. وأثاروا هم نعرة القومية بالحديث عن القومية الطورانية.. ضد مَن؟ ضد رعاياهم.... والنتيجة الوحيدة هي التفتيت، والمفروض ان الحركة القومية تنشأ ضد قومية كبيرة، وتضطهد القومية التي تمثلها الحركة الناشئة.. أما لو رفعت القومية الكبرى أو المسيطرة لواء القومية فهي تحمل لواء تدميرها بنفسها، ولم يحدث في التاريخ ان أثار الحاكمون حرب القوميات إلا ما حدث في حالة الترك".([230])

ويسمع السلطان المعزول عبد الحميد الثاني وهو في منفاه بعض ما يقترفه الحكام من جمعية الاتحاد والترقي من الجرائم السياسية في هذا المجال فيقول في مذكراته بكل أسى:

"قام الذين قبضوا على الحكم من بعدي بإزالة الخلافات من بين العناصر المعادية لنا، وبزرع الخلافات بين العناصر المحبة لنا. فبوساطة قانون الكنائس ([231])دفعوا اليونان الى أحضان البلغار. ورجحوا دعوة القومية بين الأتراك وفضلوها على الغيرة الدينية فأدموا بذلك قلوب العرب، ومثل هذه الأفعال خاطئة جداً.. ومن الغريب أن هؤلاء الذين أثاروا الفتن والاضطرابات في الداخل نتيجة دعوى القومية كانوا يقلقون الدول الخارجية بدعوى الاتحاد الإسلامي.([232])

ولكي نتأكد من ماهية القومية الطورانية يكفي أن نستعرض باختصار الدعاة الذين حملوا لواءها.. فمن كان دعاتها؟.

كان أبرز دعاتها هم:

تكين آلب

وضياء كوك آلب

وأحمد آغاييف

ويوسف أقچورة.

أما "تكين آلب" فهو يهودي.... نعم يهودي واسمه الأصلي هو "موئيز كوهين".([233]) وليس اسم "تكين آلب" الذي اتخذه فيما بعد إلاّ اسماً تركيا مستعاراً للضحك على الذقون وخديعة البسطاء.. أو الاسم الفني " كأسماء نجوم السينما " في لعبة الأمم ومكايد السياسة..

وننقل هنا ملخص مقاطع رئيسة مما جاء في مقالة الدكتور محمد حرب "موئيز كوهين: يهودي عثماني من قادة الطورانية: التي نشرها في مجلة "العربي" الكويتية.

يقول "نيازي بركس" الأستاذ في جامعة ماكجل بكندا في كتابه "المعاصرة في تركيا":

"إن لليهود الاوروپيين واليهود المحليين -في الدولة العثمانية- في القرنين التاسع عشر والعشرين دوراً ضخماً في إرساء تيار القومية الطورانية فالعلماء اليهود في الغرب مثل لوملي دافيد  وليون كاهون وارمينوس فالپري تصدروا للكتابة في أصول الفكرة الطورانية، كما أن اليهود المحليين -في الدولة العثمانية مثل كراسسو "قراصو" وموئيز كوهين وابرهام غالاتني كان لهم ضلع في جمعية الاتحاد والترقي، وبمجرد أن نجحت هذه الجمعية في الإطاحة بحكم عبد الحميد ومن ثم الاستيلاء على السلطة تقدم الصهاينة إلى الاتحاديين برغبتهم في أن تعترف الجمعية بفلسطين وطناً قومياً لليهود".

ولكي نعرف مدى خطورة هذا اليهودي يكفي أن نقول أن "رينيه يينو" وصفه بأنه :أي" موئيز كوهين".

"هو خالق الفكرة القومية الطورانية وان كتابه "طوران" هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية".

والجدير بالذكر هنا أن السير ونستون تشرشل كتب في مذكراته عن الحرب العالمية الأولى يقول إن مرجعه الوحيد في دراسة موقف الدولة العثمانية ومعرفته هو كتاب كوهين الذي نشره عام 1914 بعنوان -Turkizmus und Panturkizmus".

والتقى هذا الشخص بالكاتب والشاعر محمد ضياء - الذي أصبح فيما بعد من أشهر مفكري الترك - في سلانيك.. "وفي سلانيك التقى محمد ضياء بالكاتب والصحافي اليهودي موئيز كوهين واتخذ الاثنان لقباً تركياً مشتركاً وهو آلب فأصبح اسم الأول محمد ضيا كوك ألب، والثاني موئيز كوهين تكين ألب ولم يفترقا حتى الموت".

"ولد موئيز كوهين في سلانيك عام 1883م وتخرج في مدرسة الحقوق. وبعد إعلان المشروطية الثانية ومجيء الاتحاديين إلى السلطة بدأ يكتب في جريدة "روملي" وجريدة "اتحاد وترقي" إذ كان قد انتسب إلى الجمعية عام1905م، ورأس جمعية -تعميم اللغة التركية- كما أصبح عضواً بارزاً في أهم جمعية تركية، وهي "تورك اوجاغي"، كما بدأ بكتابة المقالات في بعض الصحف الأوروپية يعرّف فيها حركة جمعية الاتحاد والترقي، وكان أولها  مقالة باللغة الفرنسية في "ميركوردي فرانس" عام 1912 تحت عنوان "الأتراك يبحثون عن روح قومي".

وفي سنة 1946 أصبح -موئيز كوهين- عضواً في المجلس الإقليمي لحزب الشعب الجمهوري في استانبول. وفي عام 1950 رشحه هذا الحزب عضواً بمجلس الأمة عن استانبول.

"وحتى لا يثير "موئيز كوهين" حساسية القراء العثمانيين عامة والأتراك المسلمين خاصة، لم يستخدم اسمه الحقيقي في الكتابة إلاّ في كتاب واحد فقط من كتبه التي نشرها بالتركية وبضع مقالات قليلة على وفرة مقالاته وتعددها. لكنه استخدم اسمين مستعارين هما. تكين ألب ومؤنس ألب، حتى أن الأغلبية العظمى من قرائه كانوا يقرأون له على انه مسلم عربي.

أسهم موئيز كوهين في التخطيط للسياسة العنصرية الطورانية التي سارت عليها جمعية الاتحاد والترقي وهي السياسة التي أثرت على العلاقات التركية - العربية، خاصة في بلاد الشام.

كتب هذا اليهودي الداعية الأول للطورانية خمسة كتب هي:

١- ماذا يمكن أن يكسب الأتراك في هذه الحرب العالمية الأولى. والكتاب صدر في استانبول عام 1914، وهو الكتاب الوحيد الذي وضع عليه موئيز كوهين اسمه الحقيقي. ودعا فيه الأتراك إلى توجيه عنايتهم إلى: "اتحاد الأتراك في العالم بديلاً عن الوحدة الإسلامية المتمثلة في الجامعة الإسلامية". ومن أقواله في هذا الكتاب "من الألزم ان يتحد جميع الأتراك في سبيل سمو الجنس التركي. وطالما ان هذا التيار وهذه الفكرة لم تنم ولم تتسع بعد فمن الصعب كثيراً على الأتراك العثمانيين خلق الحضارة الجديدة التي يستهدفون اقامتها منذ أمد".

يعقب الكاتب التركي "ارطغرل دوزداغ" على هذا الكتاب بقوله: "ان موئيز كوهين وهو يشير إلى حضارة تركية جديدة ومستقلة يريد ان تكون هذه الحضارة منفصلة عن دين وثقافة العالم الإسلامي، ومستقلة بمعنى قطع الصلة بين الأتراك وبين الأمم الإسلامية الأخرى".

2- الطورانية: لم يضع موئيز كوهين اسمه الحقيقي على هذا الكتاب الذي نشره في استانبول عام 1914 وانما وضعه باسم "تكين"، وفي هذا الكتاب يعرّف هذا اليهودي مفهوم القومية التركية الطورانية وأهدافها، ونشر باللغات الإنكليزية والفرنسية والتركية. ومما يقوله فيه:

"سيحدث ذات يوم ان تنهار روسيا التي يعيش الأتراك في أسرها اليوم، ستنهار روسيا كما انهارت من قبلها الإمبراطوريات".

"ان طوران أكبر من الأناضول بعشر مرات. ان طوران تعيش لكنها تعيش تحت مخلب الصين وحذاء الروس. طوران أسيرة وحبيسة.. طوران ذليلة ومهضومة.. ان أكبر إذلال للقومية التركية ليتمثل في ترك طوران هكذا. ان الواجب الأول والأقدس لكل تركي يدرك واجبه القومي ان يسرع لنجدتها. إنقاذ طوران من التنين الصيني ومخالب النسر الروسي الدامية..".

كان للكتاب تأثير واضح في ضباط الاتحاد والترقي مثل جمال پاشا وأنور پاشا بالذات الذي اهاجته فكرة الطورانية فترك ميادين القتال الرئيسية في أثناء الحرب العالمية الأولى ووجه - وهو وزير الحربية العثمانية - الجيوش لتحرير منطقة طوران. وكانت النتيجة ان مات بفعل العوامل الطبيعية في شتاء روسيا ثمانون ألف ضابط وجندي عثماني من خيرة القوات العثمانية.

3- سياسة التتريك: صدر هذا الكتاب في استانبول عام 1928 وهو عبارة عن"12" مقالاً، وايضاً لم يذكر اسمه الحقيقي في هذا الكتاب، وانما وضع عليه اسمه المستعار "تكين آلب". وعبر فيه -موئيز كوهين- عن رأيه في مسألة تتريك العناصر غير التركية في الدولة العثمانية، وهي سياسة اتحادية سابقة لتاريخ النشر. ويبحث الكتاب في الموضوعات الآتية: مهمة التتريك - قواعد التتريك - غاية التتريك - وفائدته - من هو التركي - مشكلة الأقليات غير التركية - سياسة العناصر المحدودة - ما هي الأمة؟ - تتريك الأسماء - الضمير المشترك - واجب أجهزة الإعلام - جاذبية القومية التركية.

4- كتاب "الكمالية": أصدره موئيز كوهين في استانبول عام 1936 باسم "تكين آلب" وصدرت من هذا الكتاب ترجمة فرنسية في پاريس عام 1937 بتقديم وتقريظ "الدكتور هيريو" - رئيس البرلمان الفرنسي - وترجمة تشيكية صدرت في "براغ" بتقديم مدير جامعة براغ.

في هذا الكتاب يقول موئيز كوهين:

"ان الأمة التركية قد انسلخت من شرقيتها لتأخذ طريقها إلى الغرب" و "ان الشيء الذي يمثل الكمالية ليس أسطورة كما حدث في ماضي الفكرة القومية، بل يمثلها إنسان من لحم وعظام يمتلك ديناميكية وحيوية لا نظير لهما، ليس بإنسان فقط بل انه فوق الإنسان -يقصد أتاتورك- و "ان الكمالية حركة مستقلة، لا علاقة لها بالحركة القومية التي بدأت من قبل، ذلك لأن أول إجراء اتخذته الكمالية كان الابتعاد عن الدين" و "أما الكمالية فقد وجهت حملتها الأولى ضد حكم الدين، وقد انهارت السلطة الدينية الغاشمة بضربة واحدة وجهها إليها أتاتورك. ان رب الكمالية الذي عبدته منذ بدايتها هو القومية".

وتحت عنوان: "فلتسقط حكومة الشريعة" يقول موئيز كوهين:

"كان الشعب التركي مجبراً على العيش تحت تأثير القوانين الدينية والشرعية الموجودة في صحراء بلاد العرب، وهذا شيء يبعد عن الثقافة الغربية" و "ومن نافلة القول ان العمامة أخطر من الطربوش، فالعمامة كانت رمزاً. كانت العمامة هي الشريعة نفسها".

5- كتاب الروح التركية: صدر في استانبول عام 1944 باسم "تكين آلب" ويقصد موئيز كوهين من هذا الكتاب - كما يقول هو - توضيح الصفات الأخلاقية والمعنوية لتلك الروح التركية التي تمكنت من خلق العديد من الإمبراطوريات العظيمة.

ويقول "حلمي ضياء اولكن" في كتابه "تاريخ الفكر المعاصر في تركيا":

"ان موئيز كوهين خصص كتابيه "الكمالية" و " الروح التركية" لعهد أتاتورك، وقسم الكتاب الأخير إلى أربعة عهود.

الأول: عهد الأجداد. ويرى المؤلف ان هذا العهد هو عهد الأبطال الذين أنجبهم التاريخ المشترك للمغول في آسيا الوسطى.

والعهد الثالث: يقول عنه: ان الروح القومية التي استيقظت نتيجة انقلاب الاتحاد والترقي واعلان المشروطية قد بدأت في الظهور في إطار الإسلامية والعثمانية.

والعهد الرابع: عهد الروح القومية الأصلية التي ولدت في عهد الجمهورية الكمالية والتي وجدت التعبير عن نفسها في كل من اتاتورك وعصمت اينونو".

مات موئيز كوهين في 27 سبتمبر -أيلول- عام 1961. وفي 24 مارس  1962 أقامت جمعية التراث التركي اجتماعاً لتأبينه حضرها ابنه إسحاق كوهين.([234])

إذن فهذه هي حقيقة داعية الطورانية....

فإذا عرفنا هذه الحقائق فهل يستطيع أي عاقل ألاّ ينتبه إلى كون فكرة القومية التركية -الطورانية- دسيسة من دسائس الأعداء ومؤامرة يهودية لتمزيق شمل هذه الأمة الإسلامية؟ فكرة على رأسها يهودي....

إذا كان الغراب دليل قوم

فدلاهم على دار الخراب

والآن لنرَ من هو صديقه الحميم الداعية الثاني لهذه الفكرة،.

لنرَ من هو "ضيا كوك آلب".

يقول الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه "بين الكتب والناس" تحت مقالة عنوانها: "الحركة الطورانية":

"... ومن هنا أيضاً تبدأ العوامل المدسوسة عن قصد وتدبير وعلى غير قصد ولا تدبير. فقد كانت مدينة "سالونيك" كعبة الدعوة الطورانية أو كعبة المدرسة الفلسفية التي تبشر بها وتلتمس لها الذرائع من العلم واللغة والتاريخ.

وفي سالونيك هذه كان يقيم " كوك آلب" فيلسوف الحركة ومبشرها الأكبر في القرن العشرين.

و " كوك آلب"هذا رجل غير موثوق من نسبه التركي، ولم يكن من المولودين في البلاد التركية"...

"وكان يقول ان اللغة والثقافة والشعور هي عناصر "القومية" وليست علاقة النسب والميلاد، وكان اكثر من هذا وذاك تلميذاً للعالم الاجتماعي الإسرائيلي "دركيم([235]) " وان لم يحضر دروسه في فرنسا، و-دركيم- هذا كما يعرفه المتعقبون لمساعي الصهيونيين في ميدان الثقافة هو رسول الماركسية في ميدان العلم الاجتماعي، وهو الذي تكفل بنقل آراء كارل ماركس من مباحث الاقتصاد والسياسة إلى مباحث الاجتماع والأخلاق، وكانت خلاصة مذهبه ان الفرد لا قيمة له ولا معنى لتشبثه بالحرية الفردية، وانما القيمة كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والآداب والقيم الروحية وكلها عبث لا قيمة له ما لم تكن نظاماً من نظم الاجتماع.

ولقد كان دركيم يعلم ان إنكار الحرية الفردية في أمم الغرب "الديمقراطي" كلام لا يجد من يصغي  إليه ولا يظفر من أحرار الفكر بالموافقة والقبول، فوضع كلمة "الشخصية" في موضع الفردية وزعم ان هذا الذي سماه -الشخصية- لا يناقض النتيجة التي يؤدي إليها مذهبه. وهي فناء الأفراد في المجتمعات.

ولسنا نستلزم ان يكون المفكرون " الطورانيون" الذين تلقوا ثقافتهم بـ "سالونيك" مدسوسين على الحركة عن قصد منهم ورغبة في خدمة سياسة غير سياستهم، ولكننا نعلم ان سالونيك مدينة يغلب عليها الصهيونيون واتباع "شبتاي زيفي([236]) " الذين دخلوا في دين  الإسلام وبقوا على عزلتهم الدينية باسم "الدونمة" ليعملوا في البيئة التركية غير متهمين ولا محذورين. فمن المستحيل ان يكون هذا شأن المدينة وبيئتها الثقافية، ثم يظهر فيها فيلسوف يتتلمذ على العالم الاجتماعي الإسرائيلي دون غيره، ثم يقال ان الصهيونية لم تعمل شيئاً في هذا الاتجاه يقبله الماضون فيه كما أسلفنا عن قصد وتدبير أو بغير قصد ولا تدبير".([237])

إذن فلم يغب عن عيني المفكر العملاق عباس محمود العقاد الشبهات والشكوك العديدة التي كانت تحيط بهذه الشخصية.

وكان يلي هؤلاء في الأهمية أشخاص مريبون أيضاً وفدوا من روسيا العدو اللدود للدولة العثمانية، كان منهم "يوسف أقجورة" و "أحمد آغاييف" هيأتهم المخابرات الروسية ثم أرسلوا إلى تركيا بعد عزل السلطان عبد الحميد ومجيء جماعة مريبة مثل جماعة الاتحاد والترقي.

فَمن كان يوسف اقجورة؟.

"من نواحي قازان على الفولغا في روسيا، ومن أتراك روسيا، درس أولاً في جامعة لورونبودغ في روسيا، ثم واصل الدراسة بمدرسة العلوم السياسية في پاريس ثم جاء بعد الانقلاب الدستوري إلى الآستانة وانغمس في العمل السياسي مع أتراك تركيا الفتاة.([238]) كان من آرائه ان تتخلى الدولة عن البلاد العربية لتشكيل دولة قومية في الأناضول".([239])

تأمل سياسة التخريب والتفرقة تحت ستار من الغيرة والقومية.

ومن كان أحمد آغاييف؟

"هو أيضاً من أتراك روسيا "تركستان" جاء إلى الآستانة بعد الدستور وتخلى عن جنسيته الأصلية وتجنس بالجنسية العثمانية وبدّل اسمه من اغاييف وجعله "أحمد آغا أوغلي".. وأصبح مدرساً للتاريخ التركي في المدرسة الحربية.. كان من غلاة الدعاة للجامعة الطورانية ومن أكبر مسببي الخلاف بين الترك والعرب".([240])

"وأسس القوميون الروسيو الأصل في ديسمبر سنة 1921 مجلة الوطن التركي "ترك يوردي" الأسبوعية وقد انطلقت الحركة القومية من أتراك روسيا النازحين إلى الآستانة الذين كانوا قد نفوا في عهد عبد الحميد، وأقامت لهم الثورة فرصة العودة والعمل لأفكارهم القومية..

إذن فليست بريطانيا وحدها هي التي لديها مخابرات، وليست بريطانيا وحدها هي التي اخترعت حكاية لورانس والحاج عبدا الله جون فيلبي".([241])

إذا كان هؤلاء هم دعاة الطورانية.. وإذا كانت هذه هي البذور المسمومة التي زرعت في جسد الدولة العثمانية، فليس من الغريب أبداً الثمار الشيطانية التي اثمرتها شجرة هذه البذور.

ادن فقد كان هذا هو الجو السائد في تركيا آنذاك.

محاربة العقيدة الإسلامية، ومنع تدريس الدين في المدارس ومنع الأذان باللغة العربية، تقليد الغرب في كل شأن من شؤون الحياة حتى العطل الأسبوعية والأعياد الدينية والملابس والعادات، وتبديل الحروف، وقطع حاضر الأمة عن ماضيها، وإحلال فكرة القومية التركية مكان الرابطة الإسلامية، ترسيخ حكم طاغ، وتوزيع محاكم الثورة ومشانقها في طول البلاد وعرضها.

في مثل هذا الجو العاصف المدلهم الذي كانت تعيشه تركيا آنذاك نُفي الأستاذ النورسي إلى ناحية -بارلا-، ووضع تحت الرقابة الأمنية.

ماذا كان بوسعه ان يعمل في مثل هذه الظروف التي تولد اليأس في أقوى القلوب وتضعف أقوى العزائم؟...

لقد قرر ان يحصر جهوده في شيء واحد مهم وعاجل لا يتحمل التأخير ولا يتحمل صرف النظر إلى أي شيء أخر..

قرر العمل على "إنقاذ الإيمان".. إنقاذ إيمان شعب كامل أصبح في حكم الأسير.. وأصبحت سهام الكفر تصوب من كل جانب لاغتيال هذا الإيمان وقتله وأماتته موتاً لا حياة بعده..

ولكن كيف؟

كيف يستطيع ذلك وهو وحيد.. وهو منفي.. وهو مراقب.. وهو في بلدة نائية صغيرة؟.

إذن دعونا نتابع حياته لنرَ ماذا عمل وكيف عمل..


الفصل السادس

بارلا

فهو - في هذه الليالي الهادئة الجذلى - يعتصر قلبه، ويحلب روحه في قوارير من نورٍ ويقدّمها للعطاش من إخوانه البشر، فما يكاد يرتشف منها الإنسان رشفة حتى تتحول في دمه إلى سياج نوراني لا تقوى على اختراقه أوهام الكفر ولا ضلالات الملحدين، تلك هي "رسائل النور" التي عكف على كتابتها أو إملائها على تلامذته مدّة الأعوام الثمانية والنصف التي قضاها في "بارلا".

عن كتاب

"سعيد النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان"

أديب إبراهيم الدباغ

 بارلا الجميلة:

"بارلا" ناحية نائية من نواحي ولاية "اسپارطة" تقع في الجنوب الغربي من تركيا... في حضن جبال "طوروس" وعلى مسافة قصيرة منها تقع بحيرة "اگريدر" الجميلة التي تحتوي على جزيرتين تدعى الصغرى منها "جان" والكبرى "نيس".

هذه المنطقة من أجمل مناطق الأناضول، فجبالها الشاهقة مكسوة بأشجار الصنوبر، وقممها العالية بالثلوج، وفيها العديد من ينابيع المياه الباردة التي تفيض منها ثم تسلك سبيلها منحدرة إلى البحيرة بأصوات خرير رقيقة تمتزج مع زقزقة وتغاريد آلاف الطيور التي تنتقل بين أغصانها الكثيفة.

هذه هي "بارلا" ذات الطبيعة الهادئة الساحرة التي وجد الأستاذ سعيد النورسي نفسه منفياً إليها، والتي قضى فيها ثماني سنوات ونصف السنة وبدأ فيها بتأليف مجموعة رسائله التي أطلق عليها اسم "رسائل النور". أي بدأ في هذه البلدة بالعمل الذي استغرق حياته بأكملها والذي عين فيها هدفه بدقة ووضوح تامين وهو "إنقاذ الإيمان".

قضى الأستاذ النورسي ليلته الأولى في "بارلا" في مركز الشرطة، ثم قضى اسبوعاً في أحد البيوت بشكل موقت لحين تخصيص بيت دائمي له، وفعلاً تم اختيار بيت له في منطقة هادئة.. وكانت عيون السلطة تترصد الأستاذ النورسي وترقب حركاته وسكناته.. والأهالي يتخوفون من التحدث  إليه أو مصاحبته.. فهو وحده في غرفته في الشتاء، أما في فصلي الربيع والصيف فان الأهالي كانوا يشاهدونه وهو ينـزل من مسكنه ويتخذ طريقه إلى الجبل حيث يقضي وقته هناك في أعلى الجبل أو يأخذ طريقه إلى ساحل البحيرة يتأمل الطبيعة الساحرة ويتفكر في دقيق صنع الله تعالى، وتنثال المعاني والأفكار عليه فيأخذ في تأليف ما أطلق عليه فيما بعد اسم "رسائل النور".

وفي أيام الربيع كان يصعد على شجرة الدلب الضخمة أمام بيته ويجلس في كشك صغير صنعه له أحد النجارين ويقضي وقته هناك يقرأ القرآن ويتعبد ويذكر الله حتى الصباح، ويمر الأهالي من هناك فيستمعون إلى صوت ذكره ودعائه وتسبيحاته فلا يعرفون متى استيقظ الأستاذ ومتى نام.

كانت روحه الحساسة وقلبه المرهف يحس بألم كبير من هذه الوحدة الموحشة، فقد كانت للصداقة في قلبه مكان متميز، ففراق كل صديق كان يترك لوعة في قلبه وأثراً وجرحاً غائراً.

في ظلام آلام الفرقة والوحدة هذه كان يلجأ إلى الله ويلوذ برحابه فيجد هناك الأنس والراحة، ويجد البلسم الشافي لجروح فؤاده.

إذن دعنا نستمع  إليه وهو يصف هذه الفترة من حياته في "بارلا":

"بينما كنت وحيداً بلا معين في "بارلا" تلك "الناحية" التابعة لمحافظة "اسبارطة"، أعاني الأسر المعذّب المسمى بالنفي، ممنوعاً من الاختلاط بالناس بل حتى المراسلة مع أيٍّ كان، فوق ما كنت فيه من المرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت أضطرب من هذه الحالة وأقاسي الحزن المرير إذا بنور مسلٍّ يشعّ من الأسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الحق سبحانه به عليَّ برحمته الكاملة الواسعة، فكنت أعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما أنا فيه من الحالة المؤلمة المحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي وأحبتي وأقاربي... ولكن - يا حسرتاه - لم أتمكن من نيسان واحد منهم أبداً وهو ابن أخي، بل ابني المعنوي، وتلميذي المخلص وصديقي الشجاع "عبد الرحمن" تغمده الله برحمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات، ولا أعلم حاله كي أراسله وأتحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لخدمتي وتسليتي، نعم لقد كنت في أمسّ الحاجة - ولا سيّما في الشيخوخة هذه - إلى من هو مثل "عبد الرحمن".. ذلك الفدائي الصادق... وفجأة سلمني أحدهم ذات يوم رسالة، ما فتحتها حتى تبين أنها رسالة تظهر شخصية "عبد الرحمن" تماماً.

لقد أبكتني تلك الرسالة كثيراً ولا تزال تبكيني كذلك، حيث يبيّن فيها "عبد الرحمن" بكل صدق وجد انه قد عزف عزوفاً تاماً عن الأذواق الدنيوية وعن لذائذها، وان أقصى ما يتمناه هو الوصول إليّ ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنت أرعاه في صغره، وان يساعدني بقلمه السيّال في وظيفتي ومهمّتي الحقيقية في الدنيا، وهي نشر أسرار القرآن الكريم، حتى انه كان يقول في رسالته: ابعث إليّ ما يقرب من ثلاثين رسالة كي اكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة..

لقد شدتني هذه الرسالة إلى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدت تلميذي المخلص الشجاع، ذا الذكاء الخارق، وذا الوفاء الخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الحقيقي وارتباطه بوالده. فسوف يقوم - بإذن الله - برعايتي وخدمتي، بل حتى أنني - بهذا الأمل - نسيت ما كنت فيه من الأسر المؤلم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة.

كانت تلك الرسالة تقطر ايماناً في منتهى القوة وفي غاية اللمعان، وكأن "عبد الرحمن" قد كتبها وهو ينتظر أجله، إذ استطاع أن يحصل على نسخة مطبوعة من رسالة "الحشر" - الكلمة العاشرة - التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمّدت جميع جراحاته المعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.

وبعد مضي حوالي شهرين وأنا أعيش في ذلك الأمل وأترقب رسالة أخرى منه لنعش معاً حياة دنيوية سعيدة.. إذا بي أفاجأ بنبأ وفاته، فيا أسفاه.. ويا حسرتاه.. لقد هزّني هذا الخبر هزاً عنيفاً، حتى أنني لا أزال تحت تأثيره منذ خمس سنوات، وأورثني حزناً شديداً وألماً عميقاً - للفراق المؤلم - يفوق ما كنت أعانيه من ألم الأسر المعذّب وألم الانفراد والغربة الموحشة وألم الشيخوخة والمرض..

كنت أقول: إن نصف دنياي الخاصة قد انهدَّ بوفاة أمّي، بيد أني رأيت أن النصف الآخر قد توفي أيضاً بوفاة "عبد الرحمن"، فلم تبق لي إذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان "عبد الرحمن" يظل معي في الدنيا لأصبح محوراً سانداً تدور حوله وظيفتي الأخروية في الدنيا ولغدا خير خلف لي. ولحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفيّاً بل مدار سلوان لي وأنس، ولبات أذكى تلميذ لرسائل النور، والأمين المخلص الحريص عليها.. فضياع مثل هذا الضياع - باعتبار الإنسانية - لهو ضياع محرق مؤلم لأمثالي. ورغم أنني كنت أبذل الوسع لأتصبّر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام إلاّ انه كانت هناك عاصفة قوية جداً تعصف بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض عليّ أحياناً لما كان لمثلي أن يتحمل ويثبت.

كنت أذهب وأسرح في وديان "بارلا".. وأجول في جبالها.. وأجلس منفرداً في أماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام المحزنة، فكانت تمر من أمامي لوحات الحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي - أمثال عبد الرحمن - كالفلم السينمائي. فكلما كانت تمّر تلك اللوحات أمام خيالي، كانت تسلب من شدة مقاومتي وتفتّ في عضدي، فضلاً عمّا أنا فيه من الشعور المرهف وسرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.

ولكن على حين غرّة انكشف سرّ من أسرار الآية الكريمة:

(كلُّ شيءٍ هالك إلاّ وَجْهَهُ له الحُكْمُ واليه تُرجَعون("القصص:88" انكشف سرّ هذه الآية انكشافاً بيّناً بحيث جعلني أردّد - مرتين - يا باقي أنت الباقي، يا باقي أنت الباقي.. وبه أخذت السلوان الحقيقي.

أجل.. رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريمة، وعبر تلك الوديان الخالية، ومع تلك الحالة المؤلمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبري - كما أشرت إليها في رسالة "مرقاة السنة".

الأولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خمساً وخمسين سعيداً ماتوا وفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الخامسة والخمسين سنة.

الثانية: رأيت نفسي كالكائن الصغير جداً بل كالنملة تدب على وجه هذا العصر الذي هو بمثابة قبر للجنازة العظمى لمن هم بنو جنسي ونوعي، والذين دفنوا في قبر الماضي منذ زمن آدم عليه السلام.

أما الثالثة: فقد تجسّمت أمام خيالي - بسّر الآية الكريمة - موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما يموت الإنسان، ومثلما تموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة. وهكذا فقد أغاثني المعنى الإشاري للآية الكريمة: (فإن تَوْلَّوا فَقُلْ حَسبي الله لا إله إلاّ هو عليهِ توكلت وهو رَبّ العرش العظيم)"التوبة129" وأمدني بنور لا يخبو فبدد ما كنت أعانيه من الحزن النابع من وفاة "عبد الرحمن"، واهباً لي التسريَ والتسلي الحقيقي.

نعم، لقد علمتني هذه الآية الكريمة: أنه ما دام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو الوكيل وهو البديل عن كل شيء، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث إن تجلياً واحداً من تجليات نوره العميم يمنح تلك الجنائز الثلاث حياة معنوية - أيما حياة - بحيث تظهر أنها ليست جنائز، بل ممن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الأرض فارتحلوا إلى عالم آخر.

ولما كنا قد أوضحنا هذا السرّ والحكمة في "اللمعة الثالثة - مرقاة السنة"، أراني هنا في غير حاجة إلى مزيدٍ من التوضيح، إلاّ أنني أقول:

إن الذي تجّاني من تلك الحالة المحزنة المؤلمة هو تكراري ل- "يا باقي أنت الباقي.. يا باقي أنت الباقي" مرتين، والذي هو معنى الآية الكريمة (كلُّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجهه). وتوضيح ذلك:

إنني عندما قلت "يا باقي أنت الباقي" للمرة الأولى، بدأ التداوي والضماد - بما يشبه العمليات الجراحية - لتلك الجروح المعنوية غير المحدودة الناشئة من زوال الدنيا وزوال مَنْ فيها من الأحبّة - من أمثال عبد الرحمن - والمتولدة من انفراط عقد الروابط التي أرتبط بها معهم.

أما في المرة الثانية فقد أصبحت جملة: "يا باقي أنت الباقي" مرهماً لجميع تلك الجروح المعنوية، ومن ثم بلسماً شافياً لها، وذلك بالتأمل في المعنى الآتي:

ليرحل مَن يرحل يا إلهي فأنت الباقي وأنت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍ من تجليات رحمتك كافٍ لكل شيء يزول، وهو العوض عن كل من نفقد وكل ما نفقد، وما دمتَ موجوداً فكل شيء إذا موجود لمن يدرك معنى انتسابه إليك بالإيمان بوجودك ويتحرك وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الموت والعدم إلاّ ستائر للتجديد وإلا وسيلة للتجول في منازل مختلفة والسير فيها... فانقلبت - بهذا التفكير-  تلك الحالة الروحية المحترقة الحزينة وتلك الحالة المظلمة المرعبة إلى حالة مسرة بهيجة ولذيذة، والى حالة منورة محبوبة مؤنسة. فأصبح لساني وقلبي - بل كل ذرّة من ذرات جسمي - يردد بلسان حاله قائلاً: "الحمد للّّه".

ولقد تجلّى جزء من ألف جزء من ذلك التجلّي للرحمة بهذه الصورة:

عندما رجعت من موطن حزني.. من تلك الوديان، حاملاً معي تلك الأحزان إلى "بارلا" رأيت شاباً يدعى "مصطفى قوله اونلى" قد أتاني مستفسراً عن بعض ما يشغله من مسائل الفقه والوضوء..  فرغم أنني لم أكن استقبل الضيوف في تلك الفترة إلاّ أن روحي كأنها قد قرأت ما في روح ذلك الشاب من الإخلاص، وكأنها شعرت - بحسّ قبل الوقوع - ما سوف يؤديه هذا الشاب من خدمات لرسائل النور في المستقبل، لذا لم أردّه وقبلته ضيفاً ثم تبيّن لي أن الله سبحانه وتعالى قد عوضني عن "عبد الرحمن" بهذا الشاب الذي هو خير خلف لي وهو الوارث الحقيقي والساعي في خدمة رسالة النور. وبعث سبحانه وتعالى إليّ "مصطفى" كممثل عمّا سيعطيه ويمنحه لي من ثلاثين أمثال "عبد الرحمن"، وكأنه سبحانه يقول: أخذت منك "عبد الرحمن" واحداً وسأعوضك به هذا الشاب وأمثاله ممن يسعون في تلك الوظيفة الدينية، وسيكونون لك طلاباً أوفياء، وأبناء أخ كرماء واولاداً معنويين، واخوة طيبين، وأصدقاء فدائيين مضحّين..

نعم.. وللّه الحمد فقد وهبني الباري عز وجل ثلاثين عبداً للرحمن، وعندها خاطبت قلبي: ما دمتَ يا قلبي الباكي المكلوم قد رأيت هذا النموذج وهذا المثال وضمدتَ به جرحك المعنوي، فما عليك إلاّ أن تسكن وتطمئن إلى أن الله سبحانه سيضمد الجروح الباقية التي تقلقك وتتألم منها.([242])

بقي الأستاذ النورسي في هذه البلدة مدة ثماني سنوات ونصف السنة، ألّف فيها معظم "رسائل النور" فمعظم رسائل "الكلمات Sözler" و "المكتوبات Mektubat" و "اللمعات Lemaler" تم تأليفها في هذه الفترة، فقد شاء الله تعالى أن تكون هذه البلدة نواة لدعوة "النور" ومقرها ومدرستها الأولى، وهذا نموذج رائع ودليل قوي على أن الظروف مهما قست وان الظلام مهما اشتد واحلولك فان الداعية لا يعدم وسيلة للعمل، وان القعود عن العمل والاعتذار بأن الظروف غير مساعدة اعتذار غير مقبول، فالظروف الصعبة التي جابهها "النورسي" وهو شخص منفي ووحيد في بلدة صغيرة نائية وتحت ظروف وشروط صعبة لم تستطع أن تمنعه من العمل في سبيل الله وفي سبيل محاربة الكفر والإلحاد.. إذن فمن يخلص النية للعمل في سبيل الله ويعمل بفكر متفتح ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة فان الله تعالى سيساعده ويعاونه ويفتح أمامه أبواب العمل..إذن فهناك شرطان أساسيان يجب توفرها عند كل داعية إلى سبيل اللّه:

النية الخالصة للّه سبحانه وتعالى..

وتوفر الحكمة الكافية لديه ليعرف ما سيعمل وكيف يعمل، وكيف يكيف نفسه للعمل في الظروف والشروط المحيطة به.

كانت الأيام الأولى من إقامته في "بارلا" أيام وحدة ووحشة وعزلة كما قلنا، فقد كان الأهالي يتجنبونه لكونه شخصاً غير مرغوب فيه من الحكومة، ولكن بعد مرور بضعة أشهر بدأت هذه الوحدة والعزلة تقل بعض الشيء وان كان بمقياس ضئيل جداً، واليكم الحادثة التي كسرت طوق هذه الوحدة والعزلة:

"في صباح أحد أيام فصل الصيف خرج الأستاذ النورسي كعادته متوجهاً إلى جبل "چام" الذي كان على بعد أربع ساعات من "بارلا".. كانت الشمس مشرقة ساطعة والجو صافياً رائقاً، وبدأ يرتقي الجبل على مهل وهو يسرح ببصره في جمال الطبيعة حواليه، وبعد ساعات من الصعود وصل إلى إحدى قمم الجبل ولكن ما أن استقر به المقام هناك حتى تلبدت السماء بالغيوم السوداء وأرعدت وأبرقت ثم نـزل المطر مدراراً.. ولم يكن هناك من ملجأ يلجأ  إليه الأستاذ النورسي في قمة الجبل تلك. كما لم تستطع الشجرة التي وقف تحتها من وقايته من البلل.

انتظر الأستاذ النورسي حتى خفت الأمطار وأصبحت تنـزل رذاذاً فبدأ ينـزل من الجبل متوجهاً إلى البلدة وقد تبلل من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وقبل أن يصل البلدة تمزق حذاؤه الجلدي الأسود فخلعه وحمله في يده وبدأ يخوض في الوحل بجواربه الصوفية البيضاء.. وصل البلدة وأخذ يصعد أحد أزقتها الضيقة متوجهاً إلى داره.. وكان هناك جمع من أهالي البلدة تجمعوا قرب النبع يتسامرون بعد انقطاع المطر.. انقطع الحديث وتحولت الأنظار إلى هذا المنظر المؤلم.. إلى العالم الوحيد المنفي المقاطع من الجميع وهو يخوض في الأوحال بجواربه، وحذاؤه في يده وثيابه مبللة تماماً.. ولا شك أن الكثيرين تمنوا لو هرعوا  إليه لمساعدته ولكن الخوف من عيون السلطة والخشية من التورط في متاعب معها وهم في غنى عنها، كانت تلجم هذه  الرغبة، ولكن شخصاً واحداً لم يستطع تحمل هذا المنظر فانفلت من بين الجمع وهرع إلى الأستاذ وتناول منه الحذاء وغسله في النبع ثم اصطحب الأستاذ حتى بيته..

أصبح هذا الشخص المدعو "سليمان كروانچي" أول طالب للأستاذ في "بارلا"، وبقي يخدمه لمدة ثماني سنوات، بكل محبة وبكل إخلاص حتى مفارقة الأستاذ لـ"بارلا".([243]) وبعد رحيل الأستاذ عنها بقي مخلصاً له ولدعوته حتى آخر عمره. إذ توفي سنة 1965 ودفن في مقبرة "بارلا" المطلة على بحيرة "اگريدر".. رحمه اللّه.

على أية حال دعونا نرجع إلى الأستاذ النورسي.. العالم المنفي في "بارلا" وهو وحيد في غرفته أو وهو يتجول على سواحل بحيرة "اگريدر" أو على سفوح جبل "چام" متفكراً ومتأملاً.. عابداً وذاكراً الله تعالى..

... كان يتجول وهو مستغرق في تأملات عميقة وتفكر مستمر.. عليه أن يكتب شيئاً وان يوصل أفكاره إلى طلابه ومحبيه، فالظلام مدلهم.. والنفوس حيرى.. والأرواح عطشى، وبينما هو يسير يوماً على الساحل الهادئ الجميل لبحيرة "اگريدر" ويتأمل مياهها الزرقاء، والسفوح الخضراء للجبال المحيطة بها، منصتاً إلى أصوات الأمواج وهي تضرب الساحل بهدوء والى رفرفة جناح طير وهو يحلق فوق رأسه.. هذا المنظر الساحر الخلاب، أخذ بلبّه وملأ شغاف قلبه فبدأ يردد في جيشان روحي كبير قوله تعالى:

) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)"سورة الروم50" زهاء أربعين مرة هو يذرع الساحل جيئة وذهاباً في نشوة روحية عميقة ملأت نفسه بمعاني هذه الآية الكريمة وفاضت بها فأخذ يُملي على أحد طلابه هذه المعاني فكانت رسالة "الحشر" وهي الرسالة الأولى من "رسائل النور" التي استمر على تأليفها حتى بلغت أكثر من "130" رسالة، ويقدر عدد صفحاتها بما يزيد على ستة آلاف صفحة من القطع المتوسط.

وهذه الرسالة كما يظهر من عنوانها تتناول بالأمثال وبالبرهان وجود الحشر والحياة الأخرى ببراهين عقلية ومنطقية قوية وهو موضوع دقيق وليس من السهل الولوج فيه وإيفائه حقه، حتى لقد قال فيلسوف مثل "ابن سينا" بأن مسألة "الحشر" مسألة نقلية ونصية وانه لا يمكن إثباتها عن طريق العقل، ولقد كان تناول هذا الموضوع مهماً جداً لاسيما في تلك الأيام العصيبة حيث زادت الشكوك والريوب ولم يعد الكثيرون يؤمنون إلاّ بما يرونه أو يلمسونه أو بتعبير آخر؛ "سالت أدمغتهم إلى عيونهم" أي أصبحوا لا يستطيعون التفكير إلاّ بما تراه عيونهم، وهذا هبوط وتدني لا مثيل له في الفكر.

يقول الأستاذ النورسي عن هذه الرسالة:

"لقد دفعت هذه الرسالة بلاءً كبيراً، فبسبب من فوضى الأفكار التي سادت وبسبب من الهزات التي سببتها الحرب العالمية فقد وجد المنافقون الذين ينكرون الحشر الفرصة سانحة لهم، وبدأوا بإظهار ونشر أفكارهم، عند ذلك ظهرتْ هذه الرسالة وطُبعتْ منها ألف نسخة وزعت في مختلف الأنحاء".([244])

وبدأ عدد طلابه يزداد يوماً بعد يوم، وبدأت "رسائل النور" تنتشر في "بارلا" أولاً ثم في استانبول وفي أنقرة، وبدأت حلقة تأثير "رسائل النور" تتسع وتتسع بهدوء ودون ضجة وتجمعت حولها قلوب المئات ثم الآلاف، وبدأت "رسائل النور" تنتقل من يد إلى أخرى ومن موظف إلى تاجر ومن معلم إلى ضابط ومن تلميذ إلى تلميذ.

كانت "رسائل النور" تنتشر بطريقة فريدة في نوعها، فالأستاذ النورسي كان شخصاً منفياً ومراقباً من السلطات ولم يكن معه أية إمكانيات لطبع هذه الرسائل ونشرها بالوسائل الاعتيادية وكانت الحروف العربية المستعملة في كتابة اللغة التركية قد قلبت إلى الحروف اللاتينية بعد حملة كبيرة شنتها الحكومة التركية في هذا المجال فأصبحت الكتب والجرائد والمجلات تكتب بهذه الحروف اللاتينية وسدت المطابع السابقة التي كانت تطبع بالحروف العربية وحظرت الطباعة بها. فكان السبيل الوحيد أو الطريقة الوحيدة والمبتكرة هي القيام باستنساخ هذه الرسائل باليد ثم نشرها سراً. وهكذا انكب المئات من تلاميذ الأستاذ النورسي "طلاب النور" على استنساخ هذه الرسائل ليل نهار، فبعض منهم لم يغادر منـزله قط طوال عدة سنوات وشاغلهُ الوحيد هو استنساخ هذه الرسائل في منـزله، حتى أن أحدهم بقي سبع سنوات متوالية يستنسخ دون كلل أو ملل.

"وقد ساهمت النساء في هذه الحملة مساهمة فعالة جدّية، فالفتيات اللآئي كنّ يعرفن الكتابة، ساهمن في الكتابة، والاستنساخ، واللآئي يجهلنها كنّ يُقلّدنَ الكتابة تقليداً، أي يقمن بالكتابة على طريقة النقش والتصوير، وقد أتت بعض النسوة إلى الأستاذ سعيد النورسي قائلات له:

- يا أستاذنا.. إننا - لكي نشارك في خدمة رسائل النور - قررنا القيام بالأعمال اليومية لأزواجنا لعلهم يتفرغون كلياً لكتابة "رسائل النور".([245])

كانت الرسائل المستنسخة ترسل إلى الأستاذ النورسي الذي كان يدقق صحة الاستنساخ لكل رسالة نسخة فنسخة ويقوم بتصحيحها. ثم يعيدها إلى طلابه الذين يتداولونها أولاً فيما بينهم بالقراءة وبالدرس ثم يهدونها إلى من يتوسمون فيه الخير والصلاح. ولم يكن لدى الأستاذ أية مصادر أو مراجع في أثناء تأليفه هذه الرسائل سوى القرآن الكريم. وكان يعتمد على ذاكرته القوية التي خزنت معلومات أمهات الكتب الإسلامية التي كان قد قرأها سابقاً.

وبدأت هذه الطريقة مع بساطتها بل مع بدائيتها تؤتي ثمارها، وتنتشر بين القرى القريبة من "بارلا" أولاً ثم القرى والنواحي والأقضية ثم المدن الأخرى تدريجياً. وكانت هذه الرسائل علاوة على ما تحملها من غذاء عقلي وروحي للعقول الحيرى وللأرواح العطشى، تكافح أيضاً في سبيل بقاء الحروف العربية وعدم اندثارها في كتابة اللغة التركية.

"لقد حملت "رسائل النور" معاول التوحيد الحق، فأهوت بها على مراكز الثقافة الفكرية والاجتماعية التي تفرعت من المدارس المادية التي سارت في القرون الأخيرة، فأنقذت المجتمع التركي المسلم من كارثة حضارية محققة، لأن الأمر وصل إلى تدريس تلك المبادئ المادية في المدارس والتمكين لها في نفوس الناشئة وأبناء الجيل الجديد على صفحات المجلات والجرائد وعبر أجهزة الإعلام المتنوعة"([246]) .

كانت هناك في الحقيقة معركة بين جهتين غير متكافئتين، بين حكومة تملك كل وسائل السلطة والقوة، وتملك المطابع والجرائد والإذاعة وتسخر كل هذه الوسائل والإمكانيات في سبيل محاربة  الإسلام ومحاولة اجتثاث جذوره، وبين طلبة النور الذين لا يملكون شيئاً سوى جذوة الإيمان التي أشعلها النورسي في صدورهم وسوى إخلاصهم وعملهم الدؤوب في نشر هذه الرسائل التي بدأت تفعل فعلها وتنبت ثمارها وتنتشر على سطح تركيا بموجات متصاعدة على الدوام، بل لقد أخذ طلاب النور على عاتقهم استنساخ أجزاء من القرآن الكريم التي بدأت نسخه بالشحة لعدم قيام الحكومة آنذاك بإعادة طبعه.

وننقل هنا ذكريات أحد طلاب النور واسمه "عبد الله چاويش"" ([247])" الذي كانت وظيفته استلام الرسائل المستنسخة ونقلها إلى الأستاذ النورسي لتصحيحها، ثم نقل هذه الرسائل المصححة الطلاب.

يقول "عبد الله چاويش"

"كنت أغادر قرية "إسلام" بعد المغيب حاملاً في حقيبتي الرسائل التي استنسخها "الحافظ علي" ([248])"، وأسير الليل كله مشياً على الأقدام بين الجبال والوديان حتى أصل مع الفجر إلى "بارلا"، وأرى الأستاذ في انتظاري، ويستقبلني بسرور بالغ.. نصلي معاً صلاة الفجر، ثم استسلم للنوم.. وهكذا أتسلم في اليوم التالي المسودات من الأستاذ وأوصلها إلى "الحافظ علي".

وذات يوم جئت إلى الأستاذ، وإذا بـ "الحافظ علي" وعدد من الطلاب عنده، بدأ الأستاذ يوزع أجزاءً من القرآن الكريم عليهم ليستنسخوه مع تعليمات بكيفية الاستنساخ، وحيث أنا أُمي لا أعرف الكتابة والقراءة، قمت لأهيئ الشاي لهم كي أشاركهم في الأجر، ولكن ما أن أتيت بالشاي لأوزعه عليهم حتى نهض الأستاذ وأخذ الشاي مني وبدأ هو بالتوزيع فخجلت، إذ كيف يوزع الأستاذ الشاي على طلابه، ولكني سكت أمام إلحاحه الشديد ثم قال:

- إن استنساخكم أجزاءً من القرآن الكريم، وسعيكم في سبيل القرآن مقبول عند الله الذي يراكم في وضعكم هذا، وملائكته الكرام يلتقطون صوركم في أوضاعكم هذه، وأنا لكوني خادماً للقرآن الكريم ينبغي أن أقوم بخدمتكم.. فوزّع عليهم الشاي وهم منهمكون بالاستنساخ"([249]) ".

وعلى الرغم من قيام الحكومة بمراقبة الأستاذ وطلابه فان عدداً آخر من الأشخاص بدأوا بزيارته مدفوعين برغبة شديدة في مقابلة مثل هذا الشخص الذي أصبحت شهرته وسيرته على كل لسان والذي بدأت رسائله المتداولة سراً تفتح أمامهم آفاقاً جديدة وتعطي أجوبة شافية لأسئلتهم الحائرة، ولما كان الأستاذ النورسي يملك شخصية مؤثرة فان كل زائر كان يخرج من عنده وهو مأخوذ ومسحور بشخصيته وبعلمه وبكلماته الصادقة.. المخلصة.. الحارة.. النابعة من أعماق قلب يحترق ألماً من حال المسلمين، وكان أكثر هؤلاء الزوار يشعرون بأن شيئاً ما هزّ كيانهم وان هدفهم وغايتهم في الحياة أصبحت شيئاً آخر، لذا فسرعان ما كانوا ينخرطون في صفوف طلاب النور وينذرون حياتهم في سبيل الدعوة إلى الله .

"وان سألت: ما سر نجاح النورسي في إحياء معاني الإيمان في كيان مئات الألوف من الخاص والعام من أبناء جيله والأجيال التالية؟.

قلنا: إن سر نجاحه يكمن في إيمانه العميق، وحماسه المنقطع النظير، وأسلوبه الرباني القرآني الذي ابتعد عن "علم الكلام التقليدي" وتوجه إلى مخاطبة العقل الفطري والقلب السليم ممتزجين، في الجبلة الإنسانية، فلقد ترك أساليب المتكلمين القدماء التي كانت تلائم عصورهم، وحرر نفسه تماماً من إطار موضوعاتهم ومصطلحاتهم"" ([250])".

سنأخذ بعض الأمثلة من ذكريات بعض الأشخاص الذين قاموا بزيارته ثم أصبحوا من طلابه المخلصين حتى أواخر حياتهم.. فمثلاً لنأخذ "خلوصي يحيى گيل" الضابط" ([251])" الذي كان يحسب الأستاذ شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية ولكنه عندما يزوره يقول له الأستاذ بأنه ليس شيخاً، بل إمام، وان عصرنا الآن هو عصر حفظ الإيمان وليس عصر حفظ الطريقة" ([252])" ثم توطدت الصداقة بينهما وأصبح يبيت عنده أحياناً.

يحدثنا هذا الضابط عن ذكرياته مع الأستاذ فيقول:

"كنت أراسل الأستاذ وأسأله أسئلة في رسائلي، كان منها ما اُسأل عنه وأنا بدوري أسأله من الأستاذ، حتى أصبحت رسائلي هذه هي السبب الأساس لظهور الـ "مكتوبات"  فمثلاً: سألني أحد الأساتذة عن الحديث الشريف: (جدّدوا إيمانكم بلا إله إلاّ الله) فكتبته في رسالتي إلى الأستاذ - وهو في "بارلا" عام 1932 - فكان الجواب: " الموجود في "المكتوبات". وهكذا..

"كان الأستاذ يقرأ في الصلوات الجهرية - عندما كان في بارلا - ولا سيما صلاة الصبح السور التي تبدأ بـ "الحمد للّه".. وكانت قراءته قراءة فوق المعتادة، فكأنه يشرح الآيات ويفسرها حيث كانت قراءته تحيط بروحه، فتشعر كأن هالة من نور الهي يغمرك. فقراءته كانت تختلف تماماً عن قراءة غيره من قراء القرآن. فقد كان يقرأه حسب معناه أي حسب التجويد المعنوي.

بتّ ليلة عنده في "بارلا". كان يقوم الليل كله إلاّ قليلاً إما مصلياً أو ذاكراً أو مسبحاً. وما كان ينام إلا قليلاً". ([253])

ثم يقول:

- ولّدت زياراتي إلى الأستاذ - وهو في بارلا - انقلاباً عظيماً في نفسي، فأصبحت روحي مفعمة بنشوة لا أستطيع التعبير عنها الآن.. كنت أكتب الرسائل إلى الأستاذ وأنا في شوق عارم، وكان الجواب يأتيني تطميناً لهذا الشوق كالآتي:

- إن توفيق الله لكم في نشر أنوار القرآن الكريم، وإقدامكم في عملكم، وشوقكم فيه.. كل هذا إكرام الهي لكم، وكرامة قرآنية، وعناية ربانية.. فبارك الله فيكم.

كان الأستاذ يرى ما نستصغره من الأعمال أعمالاً عظيمة، لأنها مرتبطة بالقرآن العظيم وخدمته، لذا كان يحثنا إلى العمل الجاد بإخلاص. فمع فقر استعداداتنا وقصور قابلياتنا إلا انه كان يتوجه إلينا بلطف واهتمام ويشجعنا كثيراً على العمل للقرآن الحكيم.

وعندما تسلمت أمر نقلي من "اگريدر" إلى الولايات الشرقية انتابني حزن شديد حيث إنني سأفارق أستاذي الحبيب.. أدرك الأستاذ حزني هذا فقال لي عند زيارتي له:

- إنني آمرك أن لا تتلهف، ولا تهتم.. لا تحزن يا أخي.

وحالاً زالت مني الأحزان والأكدار كلها واطمأنت نفسي". ([254])

ولا يفوتنا هنا أن نسجل جواب الأستاذ النورسي عن سؤالٍ في كتاب "المكتوبات" ذلك لأنه يعطي صورة حية وبقلم الأستاذ عن حياته في "بارلا":

كان السؤال: كيف حالكم؟ أأنتم في خير وراحة؟

فكان الجواب كما يلي:

"إنني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه إذ أحال أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا إلى أنواع من الفضل والرحمة، واليكم البيان:

بينما كنت منعزلاً في مغارة في أحد الجبال، وقد طلقّت السياسة وتجردت من الدنيا منشغلاً بأمور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفوني ظلماً وعدواناً. فأحال لي الخالق الرحيم والحكيم هذا النفي إلى رحمة، إذ أحال ذلك الانـزواء في الجبل الذي كان معرضاً -بعوامل عديدة- إلى ما يخل بالإخلاص وبالاطمئنان، إلى "خلوة" يحيط بها الأمن والاطمئنان والإخلاص في جبال"بارلا"؛ وعندما كنت أسيراً في روسيا نويت ورجوت الله أن أنـزوي في أواخر عمري في مغارة. فجعل أرحم الراحمين "بارلا" في مقام تلك المغارة ويسّر لي فائدتها ولم يحمل كاهلي الضعيف متاعب المغارة وصعوباتها إلاّ ما أصابتني من مضايقات بسبب الأوهام والريوب التي كان يحملها بضعة أشخاص فيها، ومع أن هؤلاء كانوا أصدقائي - وقد ركبتهم الأوهام ظناً منهم انهم يعملون لصالحي ولراحتي - إلاّ انهم بأوهامهم هذه جلبوا الضيق على قلبي والضرر على خدمة القرآن.

وعلى الرغم من أن أهل الدنيا" ([255])" عفوا عن المنفيين جميعاً وأعطوا لهم وثائق العودة وأخلوا سبيل المجرمين من السجون فقد منعوا العفو عني ظلماً وجوراً، ولكن ربي الرحيم شاء أن يبقيني في هذه الغربة ليستخدمني في خدمة القرآن أكثر ولكي يجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية "التي سميتها "الكلمات"" أكثر فاكثر دون ضجة ولا ضوضاء، فأحال غربتي هذه إلى رحمة سابغة.

ومع أن أهل الدنيا سمحوا لذوي النفوذ والشيوخ ولرؤساء العشائر "من المنفيين" بالبقاء في الأقضية والمدن الكبيرة وسمحوا لأقاربهم ولجميع معارفهم بزيارتهم، فانهم فرضوا عليّ حياة العزلة ظلماً وعدواناً وأرسلوني إلى قرية صغيرة. ولم يسمحوا لأقاربي ولا لأهل بلدتي - باستثناء واحد أو اثنين - بزيارتي. فقلب خالقي الرحيم هذه العزلة إلى رحمة غامرة بالنسبة لي، إذ جعل هذه العزلة وسيلة لصفاء ذهني وتخليصه من توافه الأمور وتوجيهه للاستفاضة من القرآن الحكيم على صفائه ونقائه.

ثم إن أهل الدنيا استكثروا عليّ في البدء حتى كتابة رسالة أو رسالتين اعتياديتين في مدة سنتين كاملتين. بل انهم حتى اليوم لا يرتاحون عندما يحضر لزيارتي ضيف أو ضيفان مرة كل عشرة أيام أو كل عشرين يوماً أو كل شهر، مع أن غرض الزيارة هو ثواب الآخرة ليس إلاّ.

فارتكبوا الظلم في حقي، ولكن ربي الرحيم وخالقي الحكيم بدلّ لي ذلك الظلم إلى رحمة، واكسبني عمراً وحياة معنوية تعادل تسعين عاماً إذ أدخلني في خلوة مرغوبة وعزلة مقبولة في هذه الشهور الثلاثة التي يكسب المرء فيها تسعين سنة من حياة معنوية فالحمد لله على كل حال.

هذه هي حالي وظروف راحتي". ([256])

في سنة 1932 صدر قرار حكومي بمنع الأذان الشرعي للصلاة، إذ أصبح الأذان باللغة التركية" ([257])".. هذا الأذان الذي امتزجت بدماء المسلمين وبعروقهم وبأعمق أعماق نفوسهم وقلوبهم بُدّل إلى صياح غريب على السمع، نشاز على الفؤاد، بعيد عن القلوب.، فكانت مصيبة أخرى علاوة على المصائب السابقة وسهماً دامياً آخر أصاب صدر الأمة التركية المثخنة بالجراح.

كان الأستاذ النورسي يقصد مسجداً صغيراً في "بارلا" قام بتعميره ويؤم بعض المصلين من القرويين، وقد نما الخبر إلى مدير الناحية السيد جمال؛ بأن المصلين في هذا المسجد الصغير يؤذنون بالأذان الشرعي داخله، ونظراً لكون مدير الناحية شخصاً "تقدمياً" و "ثورياً" فقد دبّر كميناً لكي يقبض على هؤلاء وهم متلبسون بهذا "الجرم الخطير!!".

وفعلاً أُلقي القبض على المصلين وهم يهمون بأداء صلاة الفجر، وسيقوا إلى قضاء "اگريدر" في ذلك الشتاء القارس مشياً على الأقدام على الطريق المغطاة بالثلوج.

لنستمع إلى مؤذن هذا المسجد السيد "شمسي كونش" وهو يروي ذكرياته:

".. كم آذونا في مسألة الأذان، عندما اخترعوا لنا أذاناً تركياً..

كان هناك معلم معادٍ للأذان الشرعي - باللغة العربية - وبعض علماء الدين يقولون: يجب إطاعة أولي الأمر. أما أنا فكنت أقول: لا أعرف مثل هذه الطنطنة المسماة بالأذان التركي الغريب، وأنّى لي العلم بأن "حفلة صاخبة" تُعدّ لي؟

ففي أحد الأيام داهموا مسجد الأستاذ سعيد النورسي، وقبضوا على "عبد الله چاويش، ومصطفى چاويش، وسليمان وعليَّ" وطردوا الباقين.. أخذونا إلى مدينة "اگريدر" مشياً على الأقدام فوق الثلوج وهناك أودعونا السجن ومنعوا الجميع من التحدث معنا، وفي أحد الأيام أحضروني عند المدعي العام وكان عنده ضباط برتبة عميد وعقيد، قالوا لي:

 - حسبما سمعنا فقد أعطيت لهذا الكردي "يقصد الأستاذ" مئة وخمساً وعشرين ليرة ذهبية. فما مقدار الذخيرة التي اشتريتموها بهذا المبلغ.. قلت:

- إن الحكومة التركية تشبه سفينة، وأنت أعلم بما يدخل ويخرج من هذه السفينة. إن الأستاذ لا يملك مدفعاً ولا بندقية، بل هو يريد نشر الاطمئنان والوئام.

سألني: هل عندك أطفال؟

قلت: نعم.

قال: إذا لم تصدق. ولم تقل الحقيقة، فالشنق ينتظرك.

قلت: إن هذا الشخص ليس إلاّ خادماً للقرآن. فماذا يعمل بالمدفع والبندقية؟ إن بندقيته ومدفعه هو القرآن لا غير.

وعندما انعقدت المحكمة سألني الحاكم:

- من الذي إذن بالعربية؟

قررت أن أتظاهر بالصمم. فوقفت ساكناً دون جواب وكأنني لم أسمع السؤال.

التفتَ إليَّ الحاكم سائلاً: هل اسمك سليمان؟ قلت: لما كان الوقت شتاء، فقد حضرت قبل يوم.

الحاكم: قلت لك ما اسمك؟

- لقد نمت في الخان يا سيدي.

فغضب الحاكم غضباً شديداً، والتفت حوله صائحاً:

- اخرجوا هذا القذر.([258])


الفصل السابع

نصاعة الحق تبدد الظلمات

 

نعم.. إن أجلّ مسألة في هذا الكون وأعظم سرّ خلق العالم هو سر الإيمان فليس في الوجود مسألة أعظم منه كي يُسخّر في سبيلها ويستخدم لأجلها.

سعيد النورسي
 

 النورسي في "اسكي شهر" 1934

في أواسط صيف 1934 نقل الأستاذ "النورسي" من "بارلا" إلى مدينة "اسپارطة" عل عربة تجرها الخيل.

وفي 25 نيسان1935 بدأت موجة من الاعتقالات لطلبة النور، فقد اعتقل منهم "120" طالباً واعتقل الأستاذ "النورسي" أيضاً، ووضعت القيود الحديدية في معصمي الأستاذ وفي معاصم تلاميذه، ثم حشروا في "لوريات" لنقلهم إلى سجن "أسكي شهر"، وعلى طول الطريق بين "اسپارطة - أفيون" كان الجنود المدججون بالسلاح يأخذون مواقعهم، كما وضع مقر والي "اسپارطة" تحت حراسة مشددة وكأن هناك حركة انقلابية.

في الطريق إلى "اسكي شهر" أمر آمر المفرزة العسكرية فك القيود عن الأستاذ "النورسي" وعن طلابه عندما حان وقت الصلاة فأقيمت الصلاة في الطريق.

ماذا كانت التهم الموجهة إليهم؟

كانت تهماً خطيرة، لا جزاء لها إلاّ الإعدام لو ثبتت صحتها، فقد كانت الحكومة تتهم "النورسي" بأنه يقوم بتأليف جمعية سرية، وان هذه الجمعية تعمل على هدم أسس الدولة وأسس الثورة الكمالية. وأحيلت القضية إلى محكمة الجنايات لمدينة "أسكي شهر" وأرسل المتهمون ومن ضمنهم الأستاذ إلى سجن "اسكي شهر" حيث أودعوا في الزنـزانات الاّ الأستاذ النورسي فقد سجن سجناً انفرادياً.

ونلخص التهم الموجهة إلى الأستاذ "النورسي" والى طلابه بما يأتي:

١- القيام بتأليف جمعية سرية.

٢- السعي لهدم أسس الثورة الكمالية.

٣- تشكيل طريقة صوفية في الوقت الذي قامت الحكومة بمنع هذه الطرق وإغلاق التكايا.

٤- نشر رسالة التستر "الحجاب"، وهي الرسالة التي تشير إلى ان احتشام النساء وتسترهن فطرة مغروزة في نفوسهن، وتدعو إلى اتباع توجيه  الإسلام في هذا الخصوص بعد أن طغت موجة السفور غير المحتشم. وقد عدّت الحكومة هذه الرسالة عملاً ضد "قانون الزي".

وتعرض هناك الأستاذ "النورسي" وطلابه إلى مضايقات كثيرة إذ لم يقدموا لهم الطعام لمدة "12" يوماً، ولم يسمح لطلاب النور الذهاب إلى المرافق الصحية فاضطروا إلى حفر حفرة في أحد أركان ردهتهم وجعلها مكاناً لدفع الحاجة.

أما الأستاذ "النورسي" الذي سجن سجناً انفرادياً - كوسيلة ضغط نفسي عليه - فانه انشغل بالعبادة وبتأليف "رسائل النور" فما كان هناك شيء يستطيع ان يحول بينه وبين تأليف هذه الرسائل. فألف هناك "اللمعة الثامنة والعشرين" و "اللمعة التاسعة والعشرين" و "اللمعة الثلاثين" ثم "الشعاع الأول" و "الشعاع الثاني"، وكان الأستاذ "النورسي" يجد طريقة لإرسال إرشاداته إلى طلابه فيوصيهم بالصبر وتحمل الأذى والالتجاء إلى الله تعالى. كما كان يرسل لهم ما كتبه في قصاصات صغيرة يضعها في علبة كبريت مثلاً وعندما يخرج للمرافق أو يأتيه الحلاق فانه يوصل ما كتبه إلى طلابه الذين سرعان ما يبدأون باستنساخه وتهريبه خارج السجن.

وفي السجن أو في "المدرسة اليوسفية" كما أطلق عليه الأستاذ "النورسي" تحدث ظاهرة عجيبة، فان كثيراً من المجرمين العتاة ومن اللصوص تنصلح أحوالهم ويتركون حلقات القمار والشرب التي يعقدونها سراً في السجن ويتوبون إلى الله ويبدأون بالصلاة.. إذن فان جدران السجن لم تمنع الدعوة إلى اللّه.

أما خارج السجن فقد سرت إشاعة قوية كانت تغذيها الحكومة والأوساط المعادية للإسلام من ان الأستاذ "النورسي" وطلابه سينفذ عليهم حكم الإعدام لا محالة، وكانت الغاية من هذه الإشاعة نشر جو من الإرهاب والخوف بين الأهالي، وصنع حواجز مانعة بين الجماهير وبين الاقتراب من "طلاب النور" أو الانخراط معهم في سلك خدمة القرآن الكريم. ثم جمعت كل "رسائل النور" وكذلك الرسائل الخاصة التي كتبها الأستاذ "النورسي" ووضعت تحت تصرف المحكمة لكي تستخرج منها أدلة الاتهام.

ولا يفوتنا ان ندرج هنا حادثة طريفة ومؤلمة في الوقت نفسه تعكس عقلية المسؤولين آنذاك، وقد حدثت في أثناء موجة الاعتقالات هذه.

"في أثناء حمى البحث والتفتيش عن "طلبة النور"، وعن الأدلة التي تدينهم، عثر بين كتب "رسائل النور" على كتاب، كتب على غلافه بخط اليد عبارة "يخص رمضان".

مَنْ رمضان هذا؟ وأين يعمل؟ ولماذا لم يُقبض عليه حتى الآن؟ لاشك انه شخص مُهم، إذ أن اسمه مسجل على أحد الكتب.. إلا أن جميع "طلبة النور" ينكرون معرفتهم به. إذن فهو من أبرز أعوان "سعيد النورسي". وتصدر الأوامر المشددة بتفتيش جميع القرى، والمدن القريبة وتفتيش كل بيت للعثور على هذا الشخص الرهيب.. رمضان.

وأخيراً يُعثر في قرية بعيدة على قروي بسيط لا يقرأ ولا يكتب، اسمه "رمضان"، ويعتقل هذا المسكين ويُرسل مكبلاً بالأصفاد وفي حراسة مشددة إلى سجن "اسكي شهر" ومع ان المسكين حلف مرّات ومرات بأنه لا يستطيع ان يقرأ ويكتب وانه لم يَرَ في حياته أية رسالة من "رسائل النور"، وانه لم يلتق بـ "بديع الزمان". إلا ان جميع اعتراضاته وتوسلاته تذهب أدراج الرياح، ويقضي في السجن شهرين كاملين حتى يقوم أحد المسؤولين بتدقيق ذلك الكتاب ويتبين انه يبحث عن الصوم وآدابه وحكمته في شهر رمضان" ([259]).

تمت محاكمة الأستاذ "النورسي" وطلابه، ولا نريد ان ندخل هنا في تفاصيل جلساتها، إلاّ أننا يهمنا إيراد مقاطع من الدفاع الطويل الذي ألقاه الأستاذ "النورسي" أمام هيئة المحكمة.

"لقد تم توقيفي بموجب عدة مواد.

المادة الأولى.

لقد أخبرت المحكمة؛ ان هناك نية للقيام بمحاولة رجعية تستغل الدين ربما تؤدي إلى الإخلال بالأمن العام.

أقول جواباً عن هذا الاتهام:

إن احتمال القيام بعمل شيء يختلف تماماً عن وقوعه فعلاً فهما أمران متغايران، إذ أن كل فرد يستطيع أن يقتل الآخرين، فهذا احتمال فحسب. فهل يمكن تقديمه إلى المحكمة بموجب هذا الاحتمال؟ وعود الكبريت يمكنه إحراق بيت، ولكن هل يقضى على علب الكبريت بحجة إمكانية الحرق هذه؟...

ثانياً. حاش لله وكلا ألف مرة. فان العلوم الإيمانية التي ننهمك بها وننكب عليها لن تكون وسيلة لأي شيء آخر غير ابتغاء مرضاته تعالى. فكما ان الشمس لا تكون تابعة للقمر فان الإيمان أيضاً الذي هو مفتاح قدسي نوراني للسعادة الأبدية وشمس الحياة الأخروية لا يمكن ان تكون وسيلة استغلال في الحياة الاجتماعية.

نعم.. إن أجلّ مسألة في هذا الكون وأعظم سرّ في خلق العالم هو سر الإيمان، فليس في الوجود مسألة أعظم منه كي يسخّر في سبيلها ويستخدم لأجلها.

يا حضرات الحكام.

إن الأمر بتوقيفي هذا والأيام الأليمة التي قضيتها في التوقيف لو كان موجهاً إلى شخصي والى حياتي الدنيوية، فما كنت أحرك ساكناً قط، ولبقيت صامتاً كما كنت منذ عشرين سنة..

ولكن بما ان توقيفي هذا يتعلق بالحياة الأخروية للكثيرين، وبرسائل النور التي تفسر الطلسم العظيم للكون. فإنني لو أملك مئة رأس ولو قطع في كل يوم رأس فلن أتخلى عن هذا السر العظيم. ولو نجوت من أيديكم، لما نجوت حتماً من قبضة الأجل.

إنني شيخ كبير، واقف على حافة القبر، فانظروا إلى مسألة واحدة فقط من بين مئات المسائل التي تتعلق بأسرار الكون، تلك التي تقوم "رسائل النور" ببيانها وإظهارها مستلهمة معانيها من تفسير الكشف العظيم للقرآن الحكيم الذي هو الكشاف لطلسم الكائنات العجيب.. انظروا إلى هذه المسألة التي لا يفرّ منها أحد تلك هي؛ مسألة الأجل والقبر.

ترى هل يمكن أن تكون مسائل الدنيا السياسية بأجمعها، قضية مهمة لدى إنسان مؤمن بالأجل والموت؟ فكيف يمكن إذن لمثل هذا الإنسان أن يجعل هذا الإيمان آلة ووسيلة لشيء آخر؟. ذلك لأن الأجل يمكنه أن يقطع الرؤوس كل وقت - حيث لم يحدد وقته - فإما انه إعدام أبدي أو تذكرة سفر إلى عالم أجمل. وان القبر الذي هو دائماً وأبداً فاغرٌ فاه، ولا يسدّ بابه، أما هو باب لبئر العدم وهاوية الظلام الأبدي، أو باب يفتح لعالم خالد أبدي وبهي لا يزول ولا ينتهي.

وهكذا فان "رسائل النور" بفيض كشوفات القرآن العظيم، أثبتت يقيناً وبما لا يدع مجالاً للشك. بأن هناك حتماً حلاً وعلاجاً لقلب الأجل والموت من الإعدام الأبدي إلى تذكرة رخصة وتسريح. وتحويل القبر من بئر العدم الذي لا يرى قاعه إلى جنان غناء.

فأنا لأجل العثور على هذا الحل لا أتردد مطلقاً في التضحية بكل جاه الدنيا وسلطنتها - لو كنت مالكاً لها - بل هذا ما يفعله كل من يملك عقلاً حقيقياً" ([260]).

وبعد ان رد تهمة اشتغاله بالسياسة وشرح انه مهتم فقط بالدعوة إلى الله عن طريق "رسائل النور" قال:

"أما التهمة الرابعة من التهم التي سببت توقيفي وسجني فهي؛ إنني ألقن "طريقة صوفية" التي هي محظورة من قبل الدولة.

وجواباً على ذلك أقول ان جميع كتبي بين أيديكم وهي شاهدة بأن كل اهتمامي منصب على إبراز حقائق الإيمان، وقد ذكرت في سائل متعددة. ان عصرنا الآن ليس عصر طريقة بل عصر إنقاذ الإيمان. فهناك كثيرون يدخلون الجنة دون ان ينتسبوا إلى طريقة صوفية. ولكن لا يمكن دخول الجنة دون إيمان، لذا فان عصرنا الحالي هو عصر العمل من أجل الإيمان.([261])

وتسألون. من أين تعيش؟

أقول. ان معارفي المقربين من أهالي "بارلا" الذي بقيت فيها ما يقارب التسع سنوات يعلمون ان مصاريفي اليومية لم تكن تتجاوز الـ "مئة پارة.([262]) وفي أحيان أخرى كانت أقل من ذلك. وذلك بفضل بركة الاقتصاد الشديد، وببركة الالتزام بكنـز القناعة التامة. حتى أن مصاريفي في اللبس والحذاء طوال سبع سنوات لم تتجاوز السبع ليرات.

ثم ان كتاب سيرة حياتي الموجود لديكم يشهد بأنني رفضت قبول أية هدية أو صدقة من الناس، بل كنت أردّ ولا أقبل حتى هدايا أخلص أصدقائي إلاّ ان أؤدي مقابلها لا محالة، ومعارفي يعلمون ذلك، ولقد قمت بصرف معظم مرتبي الذي كنت قد قبضته في أثناء خدمتي في "دار الحكمة الإسلامية" في طبع الكتب التي الَّفتها آنذاك والجزء القليل منه ادّخرته بقصد الحج. وهذا الجزء القليل من المال كفاني - ببركة الاقتصاد والقناعة - طوال عشر سنين ولم يدفعني إلى إراقة ماء الوجه ولا تزال هناك من ذلك المال المبارك بقية.

سأسرد لكم قضية تصور حالي.

قيل أن سلطاناً كبيراً ابتلي بداء، كان علاجه الوحيد دم صبي، فقام والد ذلك الصبي - استناداً إلى فتوى من الحاكم - ببيع ابنه إلى السلطان مقابل مبلغ من المال. وبدلاً من أن يشكو الصبي ويسترحم أخذ يضحك في مجلس السلطان. فقيل له. لماذا تضحك بدلاً من الاستنجاد والشكوى؟

فأجاب الصبي:

- إن ابتلى شخص ما ببلية فان أول من يلتجئ  إليه هو والده، ثم إلى الحاكم ثم إلى السلطان. أما والدي فقد باعنى وقدمني إلى الذبح، أما الحاكم فقد أصدر قراره بموتي، أما السلطان فانه يرغب في دمي فماذا أستطيع ان أفعل تجاه هذا الوضع الغريب الجائر القبيح وتجاه هذه الحال التي لا مثيل لها سوى الضحك؟..

هذه هي حالنا معكم.([263])

وأخيراً صدرت المحكمة أحكامها في 19 أغسطس سنة 1935 فقضت على الأستاذ "النورسي" بالسجن مدة "11" شهراً جزاء نشره رسالة "الحجاب.([264])

وفي هذه الفترة، يزور السيد "طان أر" الأستاذ "النورسي" في سجن أسكي شهر ويسجل هذه الخاطرة اللطيفة.

"كنت طالباً في الصف المنتهي بكلية الحقوق، كان علينا ان نـزور المحاكم والسجون. ذهبت إلى سجن "اسكي شهر" يوماً، لزيارة الأستاذ، وعندما دخلت عليه رأيته جالساً على سجادته منشغلاً بالأوراد عقب الصلاة، قبلت يده.([265]) وقلت له.

- أستاذي، يقال انه يظهر على يديكم كثير من الكرامات الغيبية.([266]) بيد أني لم أر أياً من الأحوال الخارقة منكم، فان كانت تلك الأحوال موجودة فعلاً، فأظهروها أمامي، ولتمش مسبحتكم هذه مثلاً.

تبسم الأستاذ، وذكر لي هذه القصة ليوضح الأمر.

- كان لأحدهم ولد يحبه كثيراً، فهو وحيده، أخذه - ذات يوم - إلى محل المجوهرات ليشتري له بعض الهدايا الثمينة من الألماس والجواهر حسب رغبة ابنه المحبوب، تعبيراً عن شدة حبه له. وكان صاحب المحل قد زين محله بنفاخات ملونة متنوعة على سقف المحل ليلفت نظر الزبائن. وعندما دخل الطفل هذا المحل المزين بالنفاخات لفتت نظره ألوانها الجذابة، فقال باكياً:

- أبي.. أريد أن تشتري لي من هذه النفاخات.. أريد النفاخات..

- يا صغيري الحبيب، سأشتري لك مجوهرات ثمينة والماسات غالية. ولكن الطفل ألح في طلب النفاخات..

وبعد أن أنهى الأستاذ هذا المثال قال:

- أخي أنا لست إلاّ دلالاً في محل جواهر القرآن الكريم وخادماً فيه، ولست بائع نفاخات ملونة، فلا أبيع في محلي نفاخات وليس في محلي وسوقي إلا الألماس الخالد للقرآن الكريم، فأنا منشغل يا أخي بإعلان نور القرآن.

ففهمت ما يقصده الأستاذ وأدركت خطأي".([267])

 نفي الأستاذ النورسي إلى "قسطموني"

قضى الأستاذ "النورسي" مدة سجنه البالغة أحد عشر شهراً في سجن "أسكي شهر" وبعد انتهاء المدة كان من المفروض ان يخلى سبيله، ولكن الحكومة قضت بنفيه إلى مدينة قسطموني دون أي مبرر أو سند قانوني، فهو قد قضى في السجن المدة التي حكم بها، والمفروض ان يُخلى سبيله، وان يصبح حراً وان يسكن في المدينة التي يرغب فيها دون أي قيد أو شرط، ولكن السلطات الحاكمة آنذاك كانت في خشية بل في رعب منه؛ لذا قررت إرساله منفياً إلى مدينة "قسطموني" في ربيع سنة 1936 بحراسة الجندرمة، أي انه انتقل من سجن إلى نفي.

اسكن في أول الأمر في مخفر شرطة في منطقة "سوق العربات" حيث قضى في هذا المخفر مدة ثلاثة أشهر.

عن هذه الفترة من حياته، أي عن الأشهر الثلاثة التي قضاها في مخفر شرطة. ننقل هنا ذكريات أحد الأشخاص وهو السيد "أمين چاير.([268]) " الملقب بـ"الچايچي" لكي تتبين ملامح هذه الفترة من حياته.

يقول "أمين چاير" في معرض ذكرياته عن الأستاذ "النورسي".

"في أحد الأيام وقع بصري على رجل عليه ملامح الوقار والعلم، فتوجهت نحوه وبعد السلام عليه سألته.

- من أين أنت؟ أجابني.

- لا تقترب مني فرجال الشرطة يراقبونني، أخشى أن يصيبك منهم أذى.

وكان ما في هذا اللقاء من صدق وإخلاص كافيين في جذبي إليه، والبحث عنه في كل مكان في المدينة، حتى وجدته في مركز الشرطة الكائن في السوق. وعرفت بعد ذلك انه يصعد أحياناً إلى قلعة "قسطموني"ويتعقبه أحد أفراد الشرطة.

فذات يوم جاءني شرطي ودعاني إلى القلعة حيث الأستاذ هناك، وعندما التقينا قال للشرطي.

- أخي، ان هذا الرجل من معارفي، فلو سمحت لنا ان نتحدث معاً.. ابتعد الشرطي عنا، وبدأ الأستاذ يشرح لي وضعه وظروفه الصعبة واعتلال صحته من أثر السم الذي دس له في الطعام. ثم قال؛ انه محتاج إلى شيء من السكر والشاي وما إلى ذلك من الحوائج. وقال:

- انهم لا يسمحون لأحد من الناس بمقابلتي. وأنا أريد ان أقول للمفوض بأنني أرغب في بيع فراشي لك، لكي يكون هذا البيع وسيلة اتصال بيني وبينك إلى أن تحل هذه المعضلة. ثم مد يده إلى جيبه وأخرج ثلاث ليرات ذهبية ووضعها في يدي وقال:

- إن هذه الليرات الذهبية من بقايا أيام الحرب العالمية الأولى، كنت أحتفظ بها منذ سنوات طويلة. فخذها واصرفها حسب احتياجاتي. فقلت له:

- إن حالتي المعاشية جيدة ولا أحتاج إلى نقودك. فأجابني بقوله:

- إنني لا أقبل شيئاً دون مقابل.

فأخذت القطع الذهبية وبدلت إحداها في السوق إلى النقود المتداولة الحالية، وفي اليوم التالي ناداني المفوض وقال. ان هذا الأستاذ يريد ان يبيع فراشه. فهل تشتري فراشه؟ فأجبته: نعم.

ثم قال: كيف تعرف هذا الرجل؟ ومن أين؟.

 أجبت: انه أحد معارفي السابقين وكثيراً ما كان يرى بعضنا البعض الآخر.

وبعدما أبديت رغبتي واستعدادي لشراء الفراش أخذني الشرطي إلى المركز لمقابلة الأستاذ وهو في الطابق الثاني. فرأيت الفراش وقدّرته بثمن خمس وعشرين ليرة وأجّرته للأستاذ مرة أخرى. فقلت.

- على شرط أن يدفع لي ثمن المبيت عليه يومياً.

وهكذا أصبحت بواسطة هذا الفراش أذهب إلى المركز يومياً بحجة استلام الأجرة، فآخذ معي ما يحتاجه الأستاذ من ضروريات.([269])

بعد انقضاء هذه الأشهر استؤجر له بيت أمام مخفر الشرطة تماماً لكي يكون هو وزواره وضيوفه تحت المراقبة المستمرة ليلاً ونهاراً.

كان بيتاً خشبياً يتألف من طابقين، الطابق الأسفل عبارة عن مخزن للوقود، أما الطابق العلوي فيحتوي على غرفتين مع مرافق.

في هذا البيت الخشبي، وأمام مخفر الشرطة ورقابتها قضى الأستاذ "النورسي" سبع سنوات، ألفّ فيها رسائل كثيرة منها رسالة "الآية الكبرى". "التي هي حقاً آية كبرى، في عرض الحقائق عن الذات الإلهية والأسرار الربانية وتجليات أسمائها الحسنى في الوجود، من خلال سياحة عقلية وروحية شاملة للتعرف على أسرار الكون ودقائق الحياة، وتذوق جمال الوجود، ونظامه الرائع وغائيته المدهشة وقانونه الموحد في جامعية رائعة.([270])  

حول ظروف الأستاذ النورسي في قسطموني يسرد السيد "عبد الله يكن" ذكرياته فيقول:

"كنت في المرحلة المتوسطة في الصف الثاني في ثانوية قسطموني سنة 1940 - 1941، وقد تولدت لدي رغبة قوية في لقاء الأستاذ وزيارته اثر ما سمعته عنه من بعض زوارنا في البيت ومن ضمنهم صاحب البيت الذي أجّر بيته للأستاذ. وكانت خلاصة ما سمعته عنه هو انه عالم كبير وانه لا يقبل الهدايا، كما لا يسمح للجميع بزيارته.

في أحد الأيام وفي أثناء فرصة الاستراحة في المدرسة فاتحت صديقي "رفعت" بالموضوع وقلت له بأن في بلدنا عالماً كبيراً، فقال لي. إنني اعرفه فبيته أمام بيتنا تماماً، وهو شخص ممتاز، سنذهب معاً  إليه إذ أنني أزوره أحياناً.

ولم نلبث ان قمنا بزيارته في موعد مناسب.. طرقنا الباب، فُتح الباب فصعدنا إلى الطابق العلوي ودخلنا إلى الغرفة اليمنى، قبّل رفعت يده أولاً ثم قبلت أنا وجلسنا.. كان جالساً على ديوان مرتفع يشبه السرير، قد تغطى حتى ركبتيه بلحاف مستنداً بظهره إلى الخلف وممسكاً بكتاب بيده، وانسدل شعره حتى حلمة أذنه.

قال لنا هو ينظر إلينا من فوق نظارته. "أهلاً وسهلاً بكم". ثم سأل من صديقي عني فقال له. انه صديقي في المدرسة. سألني عن اسمي، وأحاطنا بلطفه، وأخذ يحدثنا عن  الإسلام وعن جمال الإيمان وعن الموت والآخرة. وبعد ان بقينا معه مدة فارقناه.

ثم زرته في يوم آخر.. كان جم التواضع وذو قلب كبير... وما كانت الآثار السيئة للأفكار المعادية للدين - التي كان بعض المعلمين يروجونها في المدرسة - تزول عن نفسي إلاّ عندما أذهب إلى زيارة الأستاذ، وعندما كنت أرجع من زيارته يعود إلى قلبي الاطمئنان والأمل.

وفي إحدى زياراتي قلت له:

ان معلمينا لا يحدثوننا عن الله أبداً. أرجو منكم ان تعرفونا بخالقنا.

فبدأ بشرح وافٍ حول هذا الموضوع.

وقد سجل الأستاذ النورسي جوابه عن هذا السؤال في "مرشد الشباب" وجعله المسألة السادسة في رسالة "الثمرة" فنراه يقول:

"جاءني فريق من طلاب الثانوية في "قسطموني" قائلين.

- عرفنا بخالقنا، فان مدرسينا لا يذكرون الله لنا ...

فقلت لهم:

إن كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوماً، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين.

٭ فمثلاً: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدلياً حكيماً، وكيميائياً ماهراً كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم أكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء - نباتاً وحيواناً - وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها، وانتظامها، وعظمتها قياساً على تلك الصيدلية في السوق، وفي مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.

٭ ومثلاً: كما لو ان مصنعاً خارقاً عجيباً ينسج ألوفاً من أنواع المنسوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندساً ميكانيكياً ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الأرضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا - لا شك - صانعَه، ومالكَه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأؤنه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الإلهي، وعظمته قياساً على ذلك المصنع الإنساني.

٭ ومثلاً: كما أن حانوتاً أو مخزناً للإعاشة والأرزاق، ومحلاً عظيماً للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع ونوع من المواد الغذائية، وميز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكاً، مدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للإعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة أربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من أصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها إلى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الأربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الأنواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها إلى الخلق المساكين الذين نفدَ قوتهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينة السبحانية التي تضم آلاف الأنواع من البضائع والأجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - وفق مقاييس علم الإعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن قياساً على ذلك المخزن المصنوع من قبل الإنسان، ويعرفه لنا، ويحببه إلينا.

٭ ومثلاً: لو أن جيشاً عظيماً يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريبه وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزودهم وحده بالأرزاق المختلفة، والأسلحة المتباينة، والألبسة المتغايرة، دون نسيان أي منها ولا التباس، ولا حيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا - بداهة - ذلك القائد الخارق، بل يحببه إلينا بكل تقدير وإعجاب؛ كذلك معسكر الأرض؛ ففي كل ربيع يجند - مجدداً - جيشاً سبحانياً عظيماً مكوناً من أربعمائة ألف نوع وشعب من شعوب النباتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه وأسلحته وتدريبه ورخصة الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، دون نسيان لأحد، ولا اختلاط، ولا تحير، وفي منتهى الكمال وغاية الانتظام.. فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري - لأولي الألباب والبصائر - حاكم الأرض - حسب العلوم العسكرية - وربّها ومدبرها، وقائدها الأقدس الأجل، ويعرّف لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياساً إلى ذلك المعسكر المذكور، بل بحبب مليكه - سبحانه - بالتحميد والتقديس والتسبيح".

ثم يستطرد في ضرب الأمثلة إلى ان يقول:

"وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياساً على ما سبق - ويعرفه لنا بأسمائه الحسنى، ويعلمه إيانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة مبصرة، ونظرات ذات عبرة"([271]).

كما ألف في هذه الفترة، في قسطموني، رسالة "المناجاة " الذي هو "الشعاع الثالث" ثم الشعاع الرابع.([272])

". أما "الشعاع الخامس.([273]) " الذي ألف سابقاً فقد تم تبييضه هنا في "قسطموني"، وكذلك "الشعاع السادس.([274]) ".

استمر الأستاذ النورسي في هذه البلدة بمراسلة طلابه والإجابة عن أسئلتهم، وكانت رسائله تنتقل سراً من يد إلى يد ومن بلدة إلى أخرى، وكما قلنا فقد كان هناك من انكب متفرغاً لاستنساخ "رسائل النور" سبع سنوات متواليات دون ان يخرج من بيته، وكان هناك من استنسخ وحده ألف رسالة. وكانت هذه الرسائل تنتقل بين القرى وحسب مواعيد ثابتة فإذا تأخر ورود رسالة - لأي سبب كان - فان أحدهم كان يصعد على داره وينادي بأعلى صوته أخاهُ في القرية القريبة "يا فلان.. لا تنسَ انك مسؤول أمام اللّه".. وبهذا الإخلاص والحماسة استنسخت ما يقارب"600" ألف نسخة من "رسائل النور([275]) "، وزعت في جميع أرجاء تركيا لتتلقفها الأفئدة الظمآى وتنهل منها العقول الحيرى في ذلك الزمن العصيب.

 

٭٭٭

 حياته في "قسطموني"

سكن "النورسي" كما قلنا في بيت خشبي أمام مخفر للشرطة منشغلاً بكتابة "رسائل النور" والإجابة عن الأسئلة التي كانت ترد  إليه من طلابه أو من الآخرين، وكان يخرج للبساتين القريبة أو يمضي ساعات عدة من نهاره في الجبال القريبة كجبل "قره داغ" وجبل "حاجي بيرام" أو يصعد إلى القلعة التاريخية لمدينة "قسطموني"، حيث يقضي ساعاته في التعبد وفي التأمل وفي تصحيح "رسائل النور".

ويروي لنا السيد "يونس چاويش" - الذي كان يقوم بمهمة مراقبة الحرائق من على برج قلعة قسطموني وكذلك في إطلاق مدفع الإفطار في شهر رمضان - ذكرياته عن زيارات الأستاذ "النورسي" للقلعة فيقول.

"في الصباح الباكر لأحد الأيام، صعد "بديع الزمان" القلعة كعادته، وجلس على البرج العالي المشرف على المدينة وبدأ عمله.([276]) مدلياً برجليه إلى الأسفل.

في هذه الأثناء ظهر في شارع المدينة أسفل البرج سكير قضى الليل في شرب الخمر وهو متوجه إلى بيوت الدعارة.. ولكن هذا السكير ما ان وصل إلى المكان الذي يشرف عليه الأستاذ حتى تسمّر في مكانه لا يستطيع ان يتقدم خطوة إلى الأمام ولا ان يرجع خطوة إلى الوراء.

أما "بديع الزمان" فقد نظر  إليه بكل شفقة وحنان وسلم عليه ثم قال له:

- ارجع يا أخي.... ارجع.... لا تذهب إلى هناك.. ارجع إلى البيت واغتسل وتب إلى الله وابدأ بالصلاة.

تطلع السكّير  إليه بذهول وبحيرة.. لا يدري ما يفعل.. ثم انفجر باكياً وعاد من حيث أتى وهو غارق في دموعه، وتوجه إلى الحمام واغتسل وتاب، ورجع إلى بيته والى أولاده وتخلص من عاداته السيئة تلك.

ويضيف السيد "يونس چاويش" بأن الشرطي الذي كان مكلفاً بمراقبة الأستاذ "النورسي" شهد الحادثة ولكنه لم يفهم ما جرى، لذا فانه أسرع وراء هذا السكير الباكي وأخذ بتلابيبه قائلاً له:

- قل لي.... قل لي.. ماذا قال لك ذلك الكردي؟".([277])

في تلك السنوات كان "مدحت آلتي اوق" والياً على قسطموني، وكان معروفاً بخشونته وبفظاظته وبعداوته للأستاذ "النورسي"، لذا كان ينتهز كل فرصة لإيذائه والتضييق عليه. ولما كان الأستاذ محافظاً على زيه القديم الذي أصبح ممنوعاً بعد صدور قانون القيافة، أصدر الوالي أمراً في أحد الأيام بالقبض على الأستاذ وجلبه إليه.

ما ان انتشر نبأ القبض على الأستاذ "النورسي" وانه سيجلب أمام الوالي بعد مدة، حتى تصاعدت موجة من الإثارة والفضول والترقب لدى الموظفين في ديوان الولاية، فماذا سيفعل الوالي معه؟ وكيف ستكون المواجهة بينهما؟

يقول السيد "نيازي قاراتكي" الذي كان موظفاً هناك آنذاك.

"جلب الأستاذ "النورسي" وأدخل إلى غرفة الوالي.. لم يكن باب الغرفة مسدوداً تماماً، لذا فقد سمعنا صوت الأستاذ وهو يقول محتداً.

 اسمع يا مدحت!. ان الموت الذي تخافون منه ليس بيننا وبينه سوى ستارة رقيقة، فإذا ما مزقنا هذه الستارة فإننا لن نخاف أي شيء، فإذا كانت هناك مخالفة فطبق القانون علينا وافعل ما تشاء.

اصفرّ وجه الوالي وبأصابع مرتعشة امتدت يده إلى الجرس على المنضدة مستدعياً بعض أفراد الشرطة وأمرهم بإعادة الأستاذ إلى بيته".([278])

كان بعض طلابه يقومون بزيارته وبقضاء بعض أعماله وحاجياته وكان منهم السيد "أمين چاير" المار ذكره، حيث كان يقصد بيته من الصباح الباكر أيام الشتاء ويشعل مدفأته، وهو يسرد لنا بعض ذكرياته فيقول:

"كنت اذهب   إليه في الصباح الباكر وأشعل مدفأته.. وفي أحد الأيام ذهبت  إليه كعادتي.. كان يوماً بارداً جداً، ودون ان ادري فقد ذهبت  إليه قبل أذان الفجر بساعتين تقريباً.. كان جالساً يتعبد فوق سجادة.. في ضوء الشمع الباهت، وفي الجو القارس البرودة كان يدعو  بصوت حزين ويتضرع إلى الله بحرارة.. أما أنا فقد وقفت أراقب هذا المنظر العلوي ساعة ونصف الساعة وأنا أرتجف من الرهبة، وقد سرت القشعريرة في جسدي.. وأخيراً تناهى إلى سمعنا صوت الأذان من بعيد .. ولكن الأذان كان أذان ذلك العهد.([279])

التفت إليّ وقال:

 يا أمين.... لقد ارتكبت خطأً جسيماً، وأنا اقسم وأحلف بأن لي أوقاتاً لا أقبل فيها أي أحد مطلقاً..

لقد أخطأت كثيراً.. لا تكرر هذا مرة ثانية، ولا تأتي مبكراً وقبل الأذان.

قلت له:

 استميحك العفو يا سيدي، وأرجو منك المعذرة،لم استطع ان أعرف الوقت الحقيقي، لقد خدعني ضوء القمر. لن آتي إليك بعد الآن قبل الأذان.([280])

وقد تعرض الأستاذ "النورسي" إلى محاولات عدة لتسميمه من قبل الجهات الأمنية للسلطة آنذاك، إذ كانت تدس له السم في الطعام. أو ترسل أحد عيونها ورجالها، فيقدم للأستاذ فاكهة مسمومة، ففي إحدى المرات ذهب الأستاذ "النورسي" كعادته إلى أحد الجبال القريبة ممتطياً فرساً أعاره له أحد معارفه ليوفر عليه مشقة السير الطويل، وهناك فوق الجبل اقترب منه أحدهم وكان الأستاذ يعرفه سابقاً - ولكنه لا يدري انه عين من عيون الحكومة - وقدم  إليه بعض الطعام المسموم.

بعد مدة شعر الأستاذ بالألم، وأراد الرجوع ولكنه سقط من فوق الجواد، متلوياً من الألم، أما الجواد فقد رجع وحده إلى المدينة، وعندما رأى أحد طلابه الجواد راجعاً من دون الأستاذ أسرع إلى الجبل، وهناك رأى الأستاذ في منتصف الطريق وهو في حالة سيئة، فأعانه على الرجوع إلى بيته ومدده على الفراش، ودام مرضه عدة أيام، ولكن الله شفاه اخيراً ".([281])

كانت مضايقات الحكومة مستمرة، فهناك مداهمات مستمرة لبيت الأستاذ "النورسي" ولبيوت طلاب النور.

يقول السيد أمين:

" كنا نخبئ "رسائل النور" والرسائل الاعتيادية في مخزن الخشب تحت الوقود، وفي إحدى المرات استطاعوا الاستيلاء على جميع الرسائل الواردة إلى الأستاذ، داهموا البيت وفتشونا تفتيشاً دقيقاً، حتى انهم فتحوا غطاء الساعة".([282]) ونظروا داخلها، ثم أخذوني وأخي بحري ومحمد فوزي إلى مخفر الشرطة وضيقوا علينا الخناق هناك قائلين لنا:

 لقد قمتم بتشكيل جمعية سرية، قولوا لنا. مع من تتصلون؟ ثم حبسونا... كُلاًّ في غرفة منفصلة.

قال "محمد فوزي" لمدير المخفر:

 يا سيادة المدير.... ان غاية "رسائل النور" هي إيضاح حقائق الآخرة، ولا نهتم بأمور الدنيا، وإذا رغبت فسأقرأ لكم بعض الفقرات منها.

ثم بدأ يقرأ من "رسائل النور" عن حقائق الإيمان وعن حقائق القرآن.. استمع المدير  إليه برهة من الوقت ثم أسكته بحدة قائلاً له:

 ستسممون أفكاري أنا ايضاً.. اسكت.

وفي أثناء التفتيش في بيوتنا عثر على بعض النقود في صندوق في بيتي، وقد اهتموا بمسألة هذه النقود اهتماماً كبيراً وضايقونا كثيراً من اجلها ولاسيما الوالي "عوني دوغان" الذي كان يسألنا.

 من أين لكم هذه النقود؟ إن هذه النقود هي نقود الجمعية السرية دون شك.

قلت له:

 عندما جئت إلى هنا من بلدي، كانت لي هذه الكمية من النقود، فأنا مسؤول عن إعالة ما يقارب "٥١" فرداً، ولا شك أن مثل هذا العدد من الأفراد يحتاج إلى ألفى ليرة.. ثم إنكم تستطيعون الاستفسار عن وضعي المالي من قائمقام بلدي "أخلات".

وعندما رأوا انهم لا يملكون أي دليل ضدنا، وأننا لم نرتكب أية جريمة أو أي إثم، فانهم استمروا في حصر اهتمامهم في مسألة هذه النقود البالغة الألفين من الليرات.([283])

 وكمثال على كيفية انتشار (رسائل النور) وبالتالي زيادة عدد طلاب النور، نورد هنا ذكريات السيد (صلاح الدين جلبي) الذي تعرف على الأستاذ في هذه الفترة وهو من بلدة (إنبولي ):

"ذهب والدي إلى (قسطموني) ثم رجع ومعه رسالة (حسبنا الله ونعم الوكيل) وهي (الشعاع الرابع)، وقام باستنساخها ثم أعطاها لي وأرسلني إلى (قسطموني) بعد أن شرح لي عنون الأستاذ وكيفية الوصول إليه.

عندما وصلت إلى (قسطموني) بدأت بالبحث عن السيد (أمين جاير) وهو من أفراد عشيرة (عُرَسِن) في شرقي البلاد – ويقوم بإدارة مقهى بالقرب من جامع (نصر الله) وعن السيد (أحمد قوزو ابن الحاج طاهري)، وذلك لأنني سألتقي بالأستاذ عن طريقهما.

توجهت مع (صلاح الدين) ابن السيد أحمد قوزو إلى بيت الأستاذ.. لم يكن موجوداً  في البيت.. كان قد ذهب إلى جبل (قره داغ). عرض عليّ (صلاح الدين) أن يصحبني إلى هناك، ولكونه صبياً صغيراً فقد رفضت ذلك وطلبت منه أن يصف لي الطريق.

بدأت أتسلق الجبل الذي كان على مسافة ساعة من المدينة، وهناك فوق ربوة في الجبل وتحت شجرة باسقة كان شخص يصلي وعليه ملابس بيضاء ناصعة.. قلت في نفسي: لابد أنه هو.. اقتربت منه وسلمت عليه.. أومأ برأسه أن اجلس، جلست.. كان يتضرع إلى الله بصوت حزين ويدعو من أجل سلامة البشرية، ولأمن وسعادة العالم الإسلامي في الدنيا وفي الآخرة.. وبعد انتهاء دعائه قلت: آمين. ثم قمت بتسليم الكتاب الذي جلبته معي...

قال لي: أهلاً وسهلاً بك يا أخي.. أرجو أن تنتظر ريثما أقوم بتصحيح هذه الرسالة.

استغرقت عملية التصحيح نصف ساعة تقريباً... تفحصته ملياً لأول مرة.. كان منكباً بكل اهتمام على الرسالة يصححها، إذ يصحح أي نقص في الحروف في الكلمة، أو أي نقص في النقاط. ثم التفت إلى متسائلاً: ما شاء الله.. ما أجمل كتابتك! ان أعطيتك رسالة فهل تستنسخها؟.. وعندما قلت له بأنني سأفعل ذلك بكل سرور أعطاني رسالة (الكلمات الصغيرة) من (الكلمة الأولى) حتى (الكلمة التاسعة). كما أرسل الى والدي (الكلمة الحادية عشرة) و (الكلمة الثانية عشرة) للاستنساخ، قائلاً:

- إن استطاع كتابتها فليفعل ثم ليرسلها إلىّ للتصحيح، والمهم أن تكون الكتابة مطابقة تماماً للأصل 

هكذا دخلت (رسائل النور) إلى (إنَبولي)، فبعد هذا التاريخ بدأت مئات الأقلام في هذه البلدة بكتابة (رسائل النور).

من بين كُتّاب (رسائل النور) اذكر السادة: نافذ، إبراهيم، عزت، ضياء، عثمان، صالح، عمر... وغيرهم وغيرهم.. فأقلام هؤلاء عملت طوال خمس سنوات بدون كلل وكأنها مطبعة، كما ظهر سعادة بريد النور بين (إنبولي) وبين (قسطموني)، وبين (انبولي) والمدن الأخرى في الأناضول. وكان (رجب ديلك) و (أحمد كور أوغلو) و (داكيرمانجي أوغلو) من بين أبرز سعادة بريد النور.

وبينما كان النشاط مستمراً بهذه الصورة دون انقطاع، رأيت في أحد مكاتب العمل في استانبول جهاز (رونيو)... كان باستطاعة هذا الجهاز استنساخ مئة صفحة في دقيقة واحدة، ولم أتردد لحظة، إذ اشتريته ورجعت به إلى بلدي (إنبولي)، وهناك قمنا باستنساخ (الآية الكبرى) وهي (الشعاع السابع) عدة نسخ، وعندما أرسلت النسخة الأولى منها إلى الأستاذ فرح بها كثيراً، وسجل الدعاء التالي في الصفحة الأخيرة منها: (يا رب! احشر السيد نظيف الذين كتبوا خمسمئة نسخة دفعة واحدة في جنة الفردوس  )([284]).

                                           *          *            *

في سنة 1943 زادت مضايقات السلطة للأستاذ (النورسي) ولطلابه وزواره، لذا أوعز الأستاذ إلا طلابه وزواره بعدم زيارته، أو التقليل منها إلى الحد الأدنى لئلا يصيبهم الأذى.

يقول السيد (عبد الله يكن):

"في ربيع سنة 1943 كانت العطلة الربيعية قد اقتربت.. ذهبنا إلى زيارته، ألقى علينا دروساً إيمانية قيّمة، ثم وجّه إلينا كلاماً لن أنساه أبداً، قال:

-            يا اخوتي، لقد مضت مدة طويلة دون أن أبقى في أي مكان مدة تزيد على ثماني سنوات، والآن مضت مدة ثماني سنوات على مجيئي غلى هنا، لذا فإنني إما أن أتوفى في هذه السنة أو انتقل إلى مكان آخر، لذا فقد لا يتيسر لنا اللقاء مرة أخرى، وسيأتي زمان ينتشر طلاب النور في كل مكان، فلا يفارق بعضكم بعضاً، ولا تفارقوا (رسائل النور). 

أحسست بحزن عميق من كلامه هاذ.. وعندما رأى حزني الشديد قال لي:

بعد ثلاثة أشهر انتهت العطلة، لذا رجعت من (آراج) (33) إلى المدرسة في (قسطموني) ... رغبت في زيارته، فعلمت أنه نبّه أحد طلابه وهو السيد (أمين جايجي) قائلاً له:

- إنهم يترصدونني! لذا أرى أن لا يزورني أحد.

لذا فلم نستطع زيارته...

في أحد الأيام، وفي أثناء فترة الاستراحة بين الدروس في ثانوية (قسطموني) علمت انهم قبضوا عليه ووضعوه في عربة تجرها الخيول. كانت هناك سلة من الخوص بجانبه وإبريق ماء وأدوات بسيطة لصنع الشاي... وقفت العربة ونزل منها.. كان بجانبه رئيس عرفاء شرطة مع عدد من أفراد الشرطة وسرعان ما تجمع الجمهور حواليه، كانت على رأسه قلنسوة سوداء وعليه جبه سوداء طويلة، وفي تلك الفترة كان من المستحيل على أي فرد أن يتجول بهذه القيافة وبخاصة في صحبة الشرطة.

وعندما رأى التلاميذ اهتمامي ومتابعتي منظر الأستاذ تمازحوا معي قائلين:

- ها هو مريد (بديع الزمان).. 

وهنا دق جرس الدرس فانصرفنا إلى صفوفنا".

 

٭     ٭    ٭

 

وفي 31 أغسطس من سنة 1943 داهمت الشرطة منـزل الأستاذ وفتشوا جميع أنحاء المنـزل فلم يعثروا الاّ على بعض "رسائل النور" التي تبحث في مسائل الإيمان والأخلاق، وعلى بعض الرسائل الواردة  إليه من طلابه ومن معارفه.

ثم كانت المداهمة الثانية في 18 أيلول من السنة نفسها في العشر الأخير من شهر رمضان المبارك، ومع أن التفتيش الطويل والدقيق لم يسفر الاّ عن العثور على "رسائل النور" السابقة إلا انهم أصدروا أمراً بالقبض عليه بعد يومين، أي في 20 أيلول 1943 حيث أرسلوه إلى "أنقرة" بوساطة سيارة نقل أهلية ولكن بخفارة الشرطة.([285])

بالنسبة للتهم التي وجهت  إليه هذه المرة فقد كانت كسابقتها.. أي التهم نفسها، وهي تهمة القيام بتأليف جمعية سرية، وتحريض الجماهير ضد الحكومة العلمانية والسعي لقلب نظام الحكم وإطلاق صفة "الدجال" على  "مصطفى كمال".

يسرد السيد "ضياء ديلك" ذكرياته عن حادثة نقل الأستاذ، لكونه أحد شهود العيان، فيقول:

"ركبت سيارة "الباص" للالتحاق بوظيفتي في مدينة  "إلكاز" وفي موقف "ألوك باش" أوقفت السيارة من قبل الشرطة والجندرمة حيث حجزوا ثلاثة أماكن في المقاعد الخلفية للسيارة خصصت للأستاذ "النورسي". وعندما تحركت السيارة تدهورت حالته الصحية، إذ كان آنذاك شيخاً في السبعين من عمره. وعندما قال الأستاذ . "ما داموا يعدونني متهماً سياسياً، فقد كان لزاماً عليهم أن يخصصوا لنقلي سيارة تاكسي".. قام الجندي الجالس بجواري من مكانه قائلاً للأستاذ. "تفضل يا أستاذي واجلس في مكاني".. وهكذا تم تبادل الأماكن بين الجندي وبين الأستاذ.. كنت خائفاً، لذا فإنني لم أكن أستطيع الاهتمام بالأستاذ "النورسي" أو مد يد العون إليه.

عندما جلس بجانبي سألني عن اسمي، وعندما قلت له بأن اسمي هو "ضياء ديلَكْ"، قال. "أأنت صديقنا ضياء؟ وهل أتيت لتودعني باسم أهالي "قسمطوني"؟.. ثم التفت إلى الجندي "صفوت" المكلف بحراسته والجالس خلفه قائلاً له. "يا صفوت.. عندما داهمتم البيت، أية آية كنت أقرأ من القرآن الكريم؟".. ثم طلب ورقة وأملى عليّ تلك الآية، ثم قدم الورقة إلى "صفوت" واراه تلك الآية التي كانت.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ).(سورة الطور: الآية 45  -46 ) ثم التفت اليّ قائلاً. "يا ضياء.. بشر أصدقاءك. وقل لهم ألا يقلقوا، وسوف لن يصدر القرار بالإدانة ضدنا، فأما هدنة أو مصالحة".

وكان يبعث بوساطتي تحياته وبعض الأخبار إلى الأصدقاء الذين تم توقيفهم وسجنهم، هذا علماً بأنني لم اُكن قد أوقفت ولا سجنت بعد.

ثم قال:

"أرجو أن تطلبوا من السيد السائق - ان كان يقبل - إيقاف محرك السيارة، إذ لديّ بعض النصائح للاخوة الموجودين، إذ لا إكراه في الدين".

أوقف السائق محرك السيارة والتفت الأستاذ إلى الجالسين في السيارة قائلاً:

"هذه الليلة في أغلب الاحتمال هي ليلة القدر، إن ثواب قراءة القرآن في الأيام الاعتيادية هو عشر حسنات لكل حرف، ويكون الثواب ألف حسنة في أيام شهر رمضان، أما في ليلة القدر فان الثواب يكون ثلاثين ألف حسنة.. لو  قلت لكم بأنكم ستحصلون على خمس ليرات ذهبية إن قمتم بالعمل الفلاني، فهل كنتم ترغبون في كسب هذه الليرات؟" أجابه المسافرون. أجل.. نرغب في ذلك.

فقال لهم:

"انتم لا تترددون في صرف كل طاقاتكم وكل قوتكم للحصول على خمس ليرات ذهبية في هذه الدنيا الفانية، أفلا ترغبون أن تتزودوا ببعض الزاد لحياتكم الأبدية والخالدة؟". وعندما أجاب المسافرون. "أجل، نرغب في ذلك". قال لهم.

"إذن، فان قرأ كل مسلم هنا سورة "الإخلاص" ثلاث مرات وسورة "الفاتحة" و "آية الكرسي"، فانه يكون قد تزود ببعض الزاد لحياته الأبدية".

فقال السائق - واسمه لطفي رِزَلي – والمسافرون:

- ليرضَ الله عنك أيها الأستاذ..

بعد قليل حان وقت الإفطار، فوقفت السيارة أمام نبع ماء في أحراش "إلكاز" المشهورة بجمالها لتناول الإفطار. وهناك قمنا بتبادل الطعام الذي أرسلته البلدية إلى الأستاذ بالطعام الذي كان  معي.. أفطرنا ثم بقينا حتى العشاء وصلينا العشاء معاً، وهناك فارقت الأستاذ، وتوجهت إلى عملي، ولكن بعد مدة قبضوا عليّ أيضاً وساقوني إلى "دنـزلي"، وعندما وصلت "دنـزلي" لم يكن الأستاذ قد جُلب إليها بعد، وفي سجن "دنـزلي" سألني الأصدقاء بلهفة. هل شاهدت الأستاذ؟. عند ذلك تذكرت الآية التي أملاها عليّ الأستاذ في السيارة في الطريق إلى "الكاز" وأخرجتها من جيبي وقرأتها لهم ثم حدثتهم بما جرى في الطريق. وقد استبشر الأصدقاء وسعدوا كثيراً بما سمعوا وارتاحت نفوسهم.([286])

وصل الأستاذ إلى "أنقرة" فأنزلوه في فندق حيث كان من المقرر مواصلة السفر بعد مقابلة والي أنقرة.

يسرد أحد طلاب النور وهو "صلاح الدين چلبي" ذكرياته حول هذه الفترة وكان من الذين شملهم الاعتقال في "أنقرة" فيقول:

".. في هذه الأثناء أقبل رئيس العرفاء ناجي وقال بانفعال وكأنه يلقي بمفاجأة كبيرة.

لقد جلبوا الشيخ "بديع الزمان" من "قسطموني"، وقد قضى الليلة في فندق في منطقة "چانقري قابي" واستبدلوا خدم الفندق بأفراد من الشرطة، كما وضعوا شرطياً متنكراً في زي جرسون في خدمته.

بعد قليل دعوني إلى غرفة مدير الشعبة الأولى. دخلت إلى الغرفة.. كان الأستاذ جالساً، انحنيت على يده وقبلتها.. كانت يده ساخنة، احتفظت بيده في يدي وقد كان مريضاً جداً ومرهقاً ومع ذلك خاطب المدير قائلاً:

- إن هؤلاء هم الأبناء المؤمنون والمضحون لهذا الوطن. ويستحيل عليهم ان يخلوا بالأمن، على العكس فانهم يحافظون على الأمن.

ثم التفت اليّ قائلاً: لا تخف.([287])

 

 في "أنقرة"

ما ان سمع والي "أنقرة" آنذاك "نوزاد طان دوغان" بوصول "بديع الزمان سعيد النورسي" حتى أرسل في طلبه.. كان قد سمع عنه الكثير الكثير.. فمن هو هذا الشخص القابع في بيته وحوله العيون والارصاد، ومع ذلك أصبح تأثيره يمتد إلى كل أنحاء تركيا؟ ثم كيف تسنى له ان يتحدى الحكومة بلباسه المخالف لقانون الأزياء؟ لابد ان يوضع حد لهذا الوضع ولابد ان يُرغم "النورسي" على تبديل قيافته.

أحضر الأستاذ "النورسي" مخفوراً إلى مقر الوالي وأدخل إلى غرفة الوالي في الحال.

دعونا نستمع إلى شهادة أحدهم وكان موجوداً آنذاك أمام غرفة الوالي وهو السيد "صلاح الدين چلبي".

"كان يوماً حاراً من الأيام الأخيرة لشهر رمضان المبارك، وكنت صائماً وواقفاً أمام باب غرفة الوالي السيد "نوزاد". أحضر الأستاذ "بديع الزمان"، وأدخلوه إلى غرفة الوالي وأغلق الباب. كانت أصوات عالية ومحتدة تنبعث من الغرفة ثم ارتفع صوت جرس فدخل البواب إلى الغرفة ثم خرج. في هذه الأثناء كان "بديع الزمان" يخاطب الوالي بحدة قائلاً.

- إنني أمثل أجدادكم، وأنا أعيش بشكل منـزوٍ، لذا فان قانون "القيافة" لا يسري على المنـزوين، وأنا لا اخرج إلى الخارج و لكنكم انتم الذين تجبرونني على الخروج... ليصيبك الله في رأسك.([288])

ثم خرج يحيط به أفراد الشرطة، وحسب رواية السيد "زبير كوندوز آلب.([289]) " فان "بديع الزمان" خاطب الوالي "نوازد طان دوغان" قائلاً.

- إن هذه العمامة لا تنـزع إلاّ بانتزاع رأسي."

 


الفصل الثامن

 

الإيمان الشجاع

 

لو كان لي ألف روح وروح فإنني مستعد للتضحية بها جميعاً في سبيل الإيمان والآخرة. افعلوا ما شئتم.. واحكموا بما تريدون.. كلمتي الأخيرة هي. حسبنا الله ونعم الوكيل.

 

سعيد النورسي


 

 سجن "دنـزلي"

خرج أفراد الشرطة ومعهم الأستاذ "النورسي" من عند والي أنقرة ويمموا شطر محطة قطار أنقرة، حيث سافروا إلى "اسپارطة" اولاً ومنها إلى مدينة "دنـزلي" حيث أودعوا الأستاذ في سجنها.

لم يكن "بديع الزمان النورسي" هو الوحيد الذي تم سجنه، بل سرت موجة من الاعتقالات لطلاب النور، فمن مدينة "اسپارطة" و "قسطموني" خاصة ومن المدن الأخرى كذلك اُعتقل "126" طالباً من طلاب النور وأودعوا السجن.([290])

كان سجن "دنـزلي" عبارة عن بناية رطبة خارج المدينة، مبنية من الكونكريت المسلح، ذات نوافذ صغيرة، وقاعات فاسدة الهواء، وخصصت غرف من قاعة الجرائم الكبرى لطلاب النور حيث حشروا فيها حشراً، ولكن كان هناك شيئان يخففان عن طلاب النور ساعات الضيق الطويلة في ذلك السجن أولهما؛ علمهم بأن الأستاذ "النورسي" قريب منهم، والثاني هو ان السجن كان السبب في تعارف كثير من طلاب النور بعضهم ببعض، ونشوء صداقات بل اخوة كأصفى وأنقي ما تكون الاخوة.([291]) وما لبث ان جاءتهم تحية من أستاذهم "النورسي":

"أهلاً بقدومكم"

كم سعدوا بهذه التحية.. فكأنها نـزلت برداً وسلاماً على قلوبهم.

كانت إدارة السجن وعلى رأسها مدير السجن "شوقي" ومعاون المدعي العام "جميل سويلماز" قد نبهوا السجناء وحذروهم من التحدث مع سجين خطير منحرف العقيدة سيؤتى به إلى السجن، ولكن لم تمض مدة طويلة حتى لاحظ مسؤولو السجن ظاهرة غريبة في السجن، فان عتاة المجرمين الذين كان حراس السجن يخشون من الاقتراب منهم تابوا إلى اللّه، وبدأوا بالصلاة مع طلاب النور، وكان من أشهر هؤلاء السجناء السجين "سليمان خونكار" الذي كان "فتوة" السجن ويخشاه الجميع ومحكوماً عليه بمدة "24 سنة" لارتكابه جريمة قتل. وبدأ طلاب النور يخصصون لهؤلاء السجناء حلقات دراسة وحلقات لتحفيظ القرآن الكريم، فقد اجتاز مثلاً السجين "محمد" - الذي كان قد ارتكب أربع جرائم قتل - امتحان حفظ بعض سور القرآن الكريم - إذ حفظ السور اعتباراً من سورة "الضحى" - وأصبح يؤم المصلين في غرفته.

وبعد انتهاء المحاكمات وصدور قرار التبرئة لهؤلاء الطلاب، فان منظر فراق طلاب النور عن هؤلاء المسجونين - الذين كانت مدد محكومياتهم تبلغ سنوات عديدة، وقسم منهم مدى الحياة - كان منظراً مؤثراً، فقد كانت الدموع تترقرق من عيون هؤلاء المسجونين الذين ما كانت الرحمة تعرف في السابق طريقاً إلى قلوبهم القاسية.. أما الآن فقد لانت هذه القلوب ورقت حتى أصبحت وكأنها قلوب أطفال أبرياء.. قالوا لهم وهم يبكون.

- لم نكن نعرف الله ولا رسوله.. لقد أرشدتمونا إلى الطريق الصحيح، فمهما فعلنا فلن نستطيع أن نوفي الأستاذ "النورسي" ولا أن نوفيكم حقكم من الشكر..

خرج طلاب النور عدا واحداً منهم وهو "الحافظ علي أكون" الذي لم يتحمل بدنه الضعيف رطوبة السجن، إذ مرض وتوفي في السجن.

إذن فقد رحل طلاب النور عنهم، وستخيم الوحشة عليهم طوال سنين وسنين لا يعلمها الاّ الله.. ولكن الأستاذ "النورسي" أرسل لهم البشارة التالية.

"لا تقلقوا ولا تحزنوا.. ستأتي حكومة جديدة إلى الحكم، وستعلن العفو العام، وستخرجون آنذاك إن شاء الله".

وقد صدق حدس الأستاذ "النورسي"، إذ ما أن فاز الحزب الديمقراطي في انتخابات عام 1950 حتى أعلن العفو العام عن السجناء..

لنرجع إلى بداية أيام السجن... فقد خصص للأستاذ النورسي مكان أمام مراحيض السجن حيث بقي ونام هناك يومين، ثم سجن انفرادياً في غرفة صغيرة لا تسع فراشاً واحداً الاّ بصعوبة.. غرفة رطبة صغيرة فاسدة الهواء تشبه - حسب شهادة أحد تلاميذه - مغارة صغيرة. وفي أيام جلسات المحاكم كانت يد الأستاذ "النورسي" توثق بالحديد مع أحد طلاب النور، ويكون في مقدمة قافلة يبلغ عدد أفرادها السبعين، وتحيط بهم ثلة من الجنود المدججين بالسلاح.. كانت القافلة تسير من السجن خارج المدينة وتمر في طريقها قرب مقبرة قديمة.. كان الأستاذ يقف ويرفع يديه المكبلتين بالحديد0 ويدعو لساكني تلك المقبرة، وتقف القافلة وراءه وترتفع الأيدي بالدعاء ثم تصل هذه القافلة إلى المدينة وتسير في الشارع المؤدي إلى المحكمة.. ويقف الناس رجالاً ونساءً واطفالاً على جانبي الطريق وهم يشاهدون هذا المنظر المؤلم، فلا يملكون سوى التلويح بأيديهم تحية لهذا العالم الشيخ، ولهؤلاء الشباب المساقين إلى المحكمة لأنهم تجاسروا على الإيمان بمبدأ تحاربه السلطة الحاكمة، ولأنهم لم ينضموا إلى القطيع السائر وراء المنافقين من أذناب الحكومة.

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)

في هذه الأثناء قامت الحكومة بتأليف لجنة من بعض الموظفين البسطاء باعتبارهم "خبراء" للقيام بتدقيق محتويات "رسائل النور" وإبداء الرأي فيما إذا كانت تبحث عن مواضيع سياسية أم لا، وقدمت لهذه اللجنة "رسائل النور" الموجودة آنذاك بأجمعها.

احتد الأستاذ "النورسي" عند سماعه الخبر، فأعضاء هذه اللجنة جاهلون، ولا يملكون ما يؤهلهم للحكم في هذه المسألة، لذا احتج قائلاً:

"إن هؤلاء الخبراء المختصين المزعومين الذين لا يملكون في الحقيقة أي اختصاص لا يمكن أن يقوموا بتدقيق "رسائل النور". لذا فإنني اطلب تشكيل لجنة علمية عليا من الاختصاصيين في "أنقرة" بل ليدعوا الفلاسفة من أوروپا، فان عثروا في "رسائل النور" على أية مخالفة قانونية أو جرم، فإنني أرضى بأشد العقوبة.([292])

استجابت الحكومة لهذا الطلب، وألفت لجنة عليا في العاصمة "أنقرة" شارك فيها علماء وأساتذة واختصاصيون كبار انكبوا على دراسة "رسائل النور" وتدقيقها، وكذلك تدقيق وتمحيص الرسائل التي كان يرسلها الأستاذ "النورسي" إلى طلابه، ثم قدموا التقرير المطلوب إلى الحكومة حيث جاء فيه.

"لا توجد أية فعاليات أو نشاطات سياسية لبديع الزمان النورسي، وهو لا يدعو لتشكيل أية جمعية سياسية أو طريقة صوفية، ومؤلفاته بأجمعها إيمانية وعلمية وهي تفسير للقرآن الكريم".([293])

قدم هذا التقرير إلى هيئة المحكمة التي استمعت أيضاً إلى دفاع الأستاذ "النورسي" - الذي سنقدم بعض المقاطع منه - فاقتنعت ببراءته وببراءة تلاميذه من التهم المنسوبة إليهم وأصدرت بالإجماع قرارها بالبراءة في 1944/6/16 تحت رقم 199/136. ثم صادقت محكمة التمييز أيضاً على هذا القرار وبالإجماع أيضاً بتاريخ 1944/12/30 وأعيدت "رسائل النور" إلى أصحابها.([294])

قضى الأستاذ "النورسي"- وبعض من طلابه - تسعة شهور في سجن "دنـزلي" تعرض فيها أيضاً إلى محاولة تسميم دبرتها له بعض الأيدي الخفية، ولكن الله تعالى نجاه منها، وفي هذه الفترة ألف رسالة "الثمرة.([295]) " التي تُعدّ تلخيصاً مركزاً لكثير من المعاني الواردة في "رسائل النور". ولكونها تدافع عن الإيمان قدمت إلى المحكمة كوثيقة دفاع عن قضيتهم وهي قضية الإيمان.

في أثناء جلسات المحاكمة التي لم يكن هناك أي محام يقوم بالدفاع عن الأستاذ "النورسي" فانه قام بوظيفة هذا الدفاع. نورد هنا فقرات منه.

قال هو يرد تهمة بتأليف جمعية سرية:

"اجل نحن جمعية. تلك الجمعية التي لها ثلاثمائة وخمسون مليوناً من الأعضاء في كل عصر. وهم يؤكدون كمال احترامهم وصادق ارتباطهم وتعلقهم بمبادئ تلك الجمعية المقدسة بإقامة الصلاة خمس مرات يومياً، ويتسابقون في مدّ يد العون والمساعدة بعضهم إلى بعض، سواء بدعواتهم الشخصية على ظهر الغيب أو بمكاسبهم الروحية الوفيرة. بدستور قوله تعالى:

(إنّما المُؤمِنُونَ إخَوةٌ)

وهكذا فنحن أعضاء في تلك الجمعية المقدسة العظمى إذن.

أما وظيفتنا ضمن نطاق هذه الجمعية فهي:

أولاً: تبليغ الحقائق الإيمانية التي يتضمنها القرآن الكريم إلى طلاب الحق والإيمان على أصح وأنـزه وجه.

ثانياً: إنقاذ أنفسنا من الإعدام الأبدي، وبرزخ السجن الانفرادي السرمدي.

أما الجمعيات الدنيوية المؤسسة على الدسائس والأحابيل السياسية فلا علاقة لنا بها من قريب أو بعيد.. كما لا علاقة لنا بما هو مدار اتهامنا من الانتماء إلى التجمعات السرية. هذه فِرْية مختلقة ليس لها أي أصل أو سند، ولا تمتّ إلى الواقع بصلة إطلاقاً. خصوصاً وان نفوسنا الأبية لتأبى كل الإباء عن الانتماء إلى ذلك النوع من التجمعات، وتنفر النفور كله عن جميع أشكال تلك الانتماءات".([296])

ثم يردّ اتهامه بمعاداة "الجمهورية" فيقول:

"إن تاريخ حياتي الذي بين يديكم، لخير دليل على أنني كنت جمهورياً متديناً قبل أن تلدوا - اللّهم الاّ رئيس المحكمة المسنّ .

والمسألة في إيجاز هي أنني كنت - كما هو حالي الآن - رجلاً منـزوياً أقيم تحت سقف قبو خالٍ إلاّ مني.. وكان الطعام المقدم اليّ عبارة عن الحساء والخبز. فكنت أوزع حبوب الحساء على النمل، وآكل خبزي بحسائها. وقد استفسر بعض ممن سمع الأمر عن الحكمة في ذلك. فأجبتهم. إن هذه الأقوام من النمل  جمهوريون.. وما توزيعي الحبوب على النمل إلا لحبها النظام.. فكانوا يعترضون عليّ بالقول: إنك بهذا إنما تخالف السلف الصالح.. فيكون جوابي: لعمر الحق إن كل خليفة من الخلفاء الراشدين - رضوان الله تعالى عليهم - كان خليفة ورئيس جمهورية في وقت واحد. خذ مثلاً؛ الصديق الأكبر - رضى الله عنه - ألم يكن بمثابة رئيس الجمهورية بالنسبة للعشرة المبشرة وسائر الصحابة الكرام؟ وهكذا بقية الخلفاء الراشدين.. بيد أن تلك الجمهورية لم تكن مجرد اسم بدون مسمى، أو شكلاً بلا مضمون.. بل على العكس تماماً، فقد كانوا رؤساء جمهورية متدينة ذات معنى، تحمل في طياتها معاني الحق والعدل والحرية الشرعية عن جدارة.

وهكذا، أيها المدعي العام.. ويا أعضاء المحكمة الكرام..

فقد جئتم تتهمونني بعكس الفكرة التي أتبناها منذ خمسين عاماً. أما إذا كان سؤالكم عن الجمهورية بشكلها "العلماني" القائم، فالذي أفهمه هو أن العلمانية تعني وتقتضي عدم التحيز.. أي بما أنها لا تتعرض للملاحدة والسفهاء من الناس بمقتضى دستور حرية الفكر والوجدان، فمن الأحق والألزم أن لا تتعرض للمتدينين والأتقياء كذلك.

ومعلوم إنني بعيد عن مسرح الحياة الاجتماعية منذ خمسة وعشرين عاماً، ولست أدري ما الذي آل  إليه وضع النظام الجمهوري القائم. فإذا كان في وضع يصدر معه القوانين التي تحدّ من حرية أولئك الذين يعملون لدينهم وآخرتهم، وتضعهم تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة، مفسحاً بذلك المجال لاستشراء الإلحاد واستفحاله وانتشاره - لا سمح الله - فإنني أعلن على مرأى ومسمع منكم جميعاً وبدون أدنى مبالاة.

انه لو كان لي ألف روح فإنني مستعد للتضحية بها جميعاً في سبيل الإيمان والآخرة.. افعلوا ما شئتم.. واحكموا بما تريدون.. إن كلمتي الأخيرة هي:

حسبنا الله ونعم الوكيل..

أما ردي على حكمكم عليَّ سواء بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة ظلماً وجوراً، فهو أنني لن اعدم... وذلك بكشف "رسائل النور" الصريح والقاطع... لكني ارخّص واذهب إلى عالم النور والسعادة.

أما أنتم يا أعداءنا المتسترين، ويا أيها الأشقياء الذي يبذلون كل ما في وسعهم من جهد لتحطيمنا لمصلحة الضلال والانحراف، فلكوني أعلم علم اليقين، وأرى رؤية عيان ذلك الإعدام الأبدي المقرر في حقكم، والسجن الانفرادي السرمدي الذي ينتظركم، لا يداخلني أدنى شك في أنني أنتقم منكم أشد الانتقام وأشنعه. فإذا كانت الحقيقة على هذا النحو فلا يهمني بعد ذلك ما تفعلون.. وها أنا مستعد تمام الاستعداد لتسليم الروح برباطة جأش.

ثم يردّ على تهمة استعمال القوة للوصول إلى الحكم.

"إن مبادئ الشفقة والحق والخير التي تلتزم بها "رسائل النور" وتحترمها لتمنعنا من التدخل في الشؤون السياسية. لأننا نأخذ نصب أعيننا ما قد يتعرض له بعض الأبرياء من الويلات والمصائب، وبذا نكون قد ظلمناهم. لقد طلب مني بعض السادة مزيداً من الإيضاح حول هذه النقطة، فأجبتهم بما يأتي.

إن عصراً عاصفاً كعصرنا هذا، الذي تسود فيه الأنانية، والتعصب العنصري، والاستبداد العسكري المترتب على الحرب العالمية الثانية، وكذلك تحجر القلوب والقسوة اللتان تمخضتا عن الضلالة والانحراف عن جادة الصواب... كل هذه العوامل قد أفسحت المجال لأنماط وأشكال جديدة من أساليب الجور والظلم والاستبداد، بحيث إذا حاول بعض من أصحاب الحق الدفاع عن حقوقهم المشروعة بالقوة المادية، فان ذلك سوف يجلب أضراراً جسيمة للعديد من الأبرياء بحجة التحيز والتعاطف. وبذا يصبح أهل الحق هؤلاء أظلم، ويظلّ هم المغلوبين على أمرهم أيضاً وهذا؛ لأن أناساً شأنهم على نحو ما ذكر، قد يتخذون من خطأ شخص أو شخصين ذريعةً لضرب عشرين أو ثلاثين بريئاً ويسومونهم أسوأ أنواع التنكيل والعقاب. أما إذا كان الأمر بالعكس بأن حاول أصحاب الحق المشروع ضرب تلك القوى لحساب العدالة والحق، فقد يخرج واحد منهم ظافراً في مقابل التضحية بثلاثين من زملائه. وتكون النتيجة في كلتا الحالتين أنهم يخرجون من المعركة مغلوبين لا غالبين، خاسرين لارابحين.

أما إذا حاول أصحاب الحق تطبيق قاعدة المثل بالمثل الجائرة؛ فيتذرعون مثلاً بخطأ شخص أو شخصين لتحطيم عشرين أو ثلاثين من المساكين الأبرياء، فيكونون قد ارتكبوا ظلماً شنيعاً حينئذ باسم الحق والعدالة.

فهذا هو السبب والحكمة الحقيقية إذا وراء نفورنا من السياسة وتهربنا من التدخل في الشؤون الإدارية.. وآلا فان فينا من قوة الحق وصدق العزيمة، ما نستطيع أن  ندافع بها عن حقوقنا على أتم وأكمل وجه.

وانه مادام كل شئ فانياً ومؤقتاً، وان الموت لا يموت، وباب القبر مفتوح لا يغلق، والزحمة قد تنقلب إلى رحمة، فالأولى والأجدر بنا أن نسكت؛ متوكلين على الله سبحانه؛ متحلّين بالصبر في الضرّاء، والشكر في السّراء. وما من شك في أن محاولة إفساد صمتنا، وقطع حبال  سكوتنا عن طريق القسر وإلحاق الضرر بنا، لتعتبر مخالفة مقيتة للمروءة والشهامة والعدل، وتنكراً شديداً للقيم الوطنية والحمية الملية.

وبالجملة، ليس هناك من داع لانشغال أولي الأمر وأرباب السياسة  ورجال الإدارة والانضباط والعدل بنا اطلاقاً. وهناك احتمال كبير جداً أن يلجأ فريق من الزنادقة المستورين بحيلهم الشيطانية إلى إثارة بعض الرسميين ضدنا؛ بعد تضليلهم وخلق الأوهام في رؤوسهم. وذلك إما بسبب الكفر المطلق الذي لا يستطيع أن يبرره أي حكم ولا تستسيغه أي فطرة سليمة، أو بسبب التعصب للزندقة التي ما هي إلا طاعون بشري، ووليدة شوهاء للمادية البحتة. وموقفنا إزاء وضع كهذا واضح وصريح جداً وهو انهم لو جندوا الدنيا بأسرها  بله أن يجندوا بعض الموهوبين ضدنا  فلن ننهزم بعون الله تعالى وقوة القرآن، ولن نسلم القياد لأولئك الملاحدة والزنادقة والمرتدين بأي حال من الأحوال."

ثم بدأ يدافع عن "رسائل النور" ويبين أهميتها وبراءة طلابها فقال.

"لا يحق لأحد أن يهاجم "رسائل النور" أو يطعن فيها بسبب أخطائي الشخصية أو أخطاء بعض إخواني، لأن "رسائل النور" تستند إلى القرآن ومرتبطة به أوثق ارتباط، والقرآن بدوره مربوط بالعرش الأعظم رأساً، فمن ذا الذي يستطيع أن يجاوز حده فيمد يده إلى هناك، ليحل تلك الحبال المتينة؟

إن"رسائل النور" التي تحققت على يديها البركة المادية والمعنوية لهذا الوطن، وقدمت له خدمات فائقة لا يمكن تقديرها بأي قسطاس مادي.. هذه الرسائل لا ينبغي أن تكون مسؤولة عن أخطائنا الشخصية وزلاتنا البشرية، أما إذا أبيتم إلا أن تحملوها تلك الأخطاء، وأصررتم على إلقاء التبعة على عاتقها، ألا فلتعلموا جيداً بأن ذلك سيعود بأضرار مادية ومعنوية على هذا البلد؛ ليس من السهل تلافيها أو الحيلولة دون  تفاقمها وتفشيها. أما المؤامرات الغادرة التي تحاك خيوطها في الخفاء، ويتم تدبيرها وتسييرها بوساطة ثلة موتورة من أعدائنا الخفيين، وبشيطنة فريق من المتزندقين الحاقدين، فإنها مقضي عليها  بالفشل إن شاء الله. إن طلبة رسائل النور لا يقاسون بغيرهم اطلاقاً.. إذ ليس من السهل تفريقهم، أو محاولة حملهم على التخلي عن دعواهم ... انهم لن يغلبوا.. ولن يهزموا بعون الله وحفظه.

ولولا أن القرآن قد منعنا عن الدفاع المادي لما كان كافياً أن تختلط أسماء أولئك الطلبة - الذين هم من الشعب بمثابة الشرايين، وحازوا رضا الخاصة والعامة، ويوجدون في كل مكان - بحوادث جزئية غير مثمرة، كحادثة الشيخ سعيد، وحادثة "منمن " مثلاً.. بل إذا تعرضوا لظلم شنيع، أو نـزلت بهم محنة شديدة - لا سمح الله - واضطروا معها اضطراراً لا مفر منه إلى الدفاع عن النفس، فان الزنادقة المستورين وأعوانهم من المنافقين وغيرهم سيندمون ألف مرة دون شك.

وجملة القول. إننا ما دمنا لا نتدخل في شؤون أهل الدنيا، فمن الأولى والأحق أن لا يتدخلوا بدورهم في شؤوننا الأخروية وخدماتنا الإيمانية."

"وتقولون: لماذا لا تلبس قبعتنا منذ عشرين عاماً مرة واحدة ولِمَ لم تكشف عن رأسك لمحكمتنا مرة واحدة مع أن سبعة عشر مليوناً انسجموا مع هذا اللباس؟

وإنني أقول: ليسوا سبعة عشر مليوناً، ولا سبعة ملايين بل لا يوجد اقل من القليل لبسوها بمحض إرادتهم واختيارهم. اللّهمَّ الاّ حفنة من الحمقى الذين يلهثون وراء رذيلة وانحطاط اوروبا.

إن مثلي ممن ترك الحياة الاجتماعية منذ خمس وعشرين سنة لا يقال عنه أنه مخالف أو معاند، وافرضوا انه عناد، فما دام "مصطفى كمال" نفسه لم يقدر أن يكسر عنادي، وان محكمتين وحكومة ثلاث ولايات لم تستطع التأثير فيّ، فما أنتم وخطبكم حتى تضيعوا الوقت في هذا العبث؟

ثم يقول في جزء آخر من دفاعه:

هذه هي الحقيقة  ونحن نقول بكل قوة:

أيا من بعتم دينكم بدنياكم! أيها التعساء، أنفقوا ما شئتم. ستكون الدنيا وبالاً عليكم، لقد فديت هذه الدعوة المقدسة بملايين الأبطال، ونحن مستعدون لأن نفديها بأرواحنا، إننا نفضل البقاء في السجن ألف مرة على أن نرى الحرمات تنتهك، في ظل هذا الاستبداد لا يمكن أن يقال أن هناك . حرية، حرية العلم، أو حرية الضمير، أو حرية التعبير، أو حرية الدين، وبقي على طلاب الحرية أن يموتوا أو يبقوا في السجون محتمين باللّه تعالى قائلين "حسبنا الله ونعم الوكيل".

إن الدعوى المقامة على "رسائل النور" ليست مسألة شخصية أو شيئاً بسيطاً حتى يقلل من شأنها، إنها مسألة تهم الأمة والوطن والدولة، وتهم الأمة الإسلامية، والعالم الإسلامي بأسره سيتابع هذه المسألة باهتمام بالغ.

نعلن بأننا منتسبون إلى الجماعة الإسلامية التي ينتسب إليها اكثر من ثلاثمائة مليون مسلم، فنحن حزب الله ونحن اخوة متضامنون.. خدم القرآن.. وجند الله وحزبه.

أيها السادة .. يا رئيس المحكمة..

إنكم إذ تصدرون هذه الأحكام على "رسائل النور" وطلابها، وتدعون الكفر والإلحاد، وتحاولون حجب الحقائق القرآنية والإيمانية عن عيون البشر، وتريدون بذلك سد الطريق الذي سار عليه ملايين بل مئات الملايين من المسلمين ووصلوا إلى السعادة الأبدية الحقيقية، فلن تجنوا سوى حقدهم وازدراءهم.

إن الزنادقة والمنافقين غرروا بكم وصفعوا العدل والحق، وانحرفوا بالدولة عن وظيفتها الأساس إلى مشاغل لا فائدة منها، واتخذوا من الاستبداد جمهورية ومن الردّة نظاماً ومن الجهل والسفه مدنية، ومن الظلم قانوناً، وبذلك خانوا وطنهم وضربوه ضربة ما كان الأجنبي يضر ب مثلها".([297])

قلنا بأن المحكمة أصدرت قرارها بتبرئة الأستاذ " النورسي" وجميع طلابه من جميع التهم الموجهة إليهم، وكذلك صادقت محكمة التمييز وبالإجماع على قرار التبرئة هذه، إلا انه على الرغم من كل هذا، فان السلطات الحاكمة لم تطلق سراحه بل أوعزت إلى المسؤولين بنقله إلى أحد الفنادق واحتجازه هناك، وانتظار التعليمات الجديدة من العاصمة "أنقرة" بشأنه.

أما "طلاب النور" فقد خرجوا من السجن وذهب كل منهم إلى بلده. وهذا يشير بأن المحاكم كانت تملك - حتى في تلك السنوات الحالكة - قسطاً كبيراً من حرية إبداء الأحكام حسب قناعتها، إذ لم تكن ذيلاً ذليلاً للسلطات الحاكمة، ولا عجب في ذلك فان قضاة  وحكام تلك المحاكم نشأوا وتربوا ودرسوا في فترة "السلطان عبد الحميد" الذي أرسى قاعدة عدم تدخل السلطة  في قرارات الحكام بل حتى عدم تدخل السلطان في تعيين هؤلاء الحكام، إذ كان يترك ذلك لوزير العدل.

بعد مضي شهرين على احتجاز الأستاذ "النورسي" في فندق "شهر" في "دنيزلي"، أتت التعليمات من "انقرة" بنفيه إلى بلدة "أميرداغ " وهي قضاء من اقضية ولاية "أفيون" وبدأت صفحة جديدة من تاريخ هذا المجاهد الذي كان عمره قد تجاوز السبعين عاماً آنذاك.

 

٭٭٭

 النورسي في "أميرداغ" "1944"

تخيلوا شخصاً تقدمه السلطات الحاكمة إلى المحكمة، وتسخّر جميع إمكانياتها في اصطناع التهم ضده، وعلى الرغم من ذلك  تصدر المحكمة قرارها بتبرئة ساحته بالإجماع، وكذلك تفعل محكمة التمييز، أي لم يبق هناك أي سبب ولا أي مسوغ لاحتجازه أو وضع أي قيد على حريته.

ولكن السلطات الحاكمة آنذاك والتي كانت تدعي السير في ركب الحضارة والمدنية، وتفتخر بذلك وتعده أكبر إنجاز لها.. هذه السلطات الحاكمة داست بأقدامها على كل الأعراف القانونية، وعلى كل قواعد العدل والإنصاف فأمرت بحجز الأستاذ "النورسي" حتى بعد براءته، ولم تطلق سراحه، ثم قامت بنفيه إلى بلدة "أميرداغ".

أي إن المعادلة الموضوعة بحق الأستاذ "النورسي" كانت معادلة ظالمة ومضحكة في آن واحد، "وشر البلية ما يضحك".

يقدم الأستاذ إلى المحكمة، فان صدر القرار بالسجن تم سجنه..

أما إذا أصدرت المحكمة قرارها بالبراءة.. فانه يحجز.... .. أي لا خلاص له في كلتا الحالتين، فهو إما مسجون في سجن حكومي أو هو محجوز في بيت  تستأجره الحكومة وتضعه تحت الرقابة الدائمة .... واقرأ على الحق وعلى العدالة وعلى الإنصاف السلام.

هكذا قضى الأستاذ " النورسي" حياته..

ولكن الشيء الذي كان يطيّر صواب السلطة الحاكمة ويغيظها هو أنها مع كل هذه التدابير غير القانونية وغير الإنسانية في تعاملها مع الأستاذ "النورسي" وتناسيها لكل مقاييس  الحق والعدل كانت ترى نفسها - مع كل سلطانها وأجهزتها وقوتها وبطشها -ـ  عاجزة تجاه شخص أعزل.. تجاه شخص واحد فقط لا يملك حتى حرية الحركة والكلام والاتصال مع الناس.. شئ يغيظ حقاً..

مثال فريد قلما يتكرر في التاريخ.

 

٭٭٭

في عصر أحد الأيام الأخيرة من شهر أغسطس لعام 1944 وصل الأستاذ "النورسي" مخفوراً إلى بلدة "أميرداغ" بوساطة سيارة نقل حيث تم تسليمه إلى  مخفر الشرطة فيها.

كان لا بد من البحث عن بيت مناسب له.. والبيت المناسب هو البيت الذي يمكن مراقبته على الدوام.. إذن يجب أن يكون البيت أمام مخفر الشرطة، فهذا يوفر جهد المراقبة من جهة، كما يؤمن الرقابة الدائمة.

قام مسؤول  المخفر باستدعاء أحد أفراد الشرطة واسمه "إبراهيم منكوورلي". وكلفه بالبحث عن بيت بهذه المواصفات، أي عن بيت أمام المخفر.

لندع السيد "إبراهيم منكوورلي" يروي ذكرياته.

"كنت أحد أفراد الجندرمة، وكانوا ينقلونني هنا وهناك على الدوام، وفي إحدى المرات نقلوني إلى "اميرداغ" فذهبت إليها، وبعد أسبوع أو أسبوعين استدعاني آمر الفصيل، فذهبت إليه، كان هناك شخص بقيافة عثمانية، بجبة وعمامة يقف منتصباً بجانب الآمر.

قال لي الآمر. تعال .. تعال.. .. أين أنت؟

قلت . أنا هنا...  خيراً إن شاء اللّه... هل هناك شئ؟

أشار الآمر إلى الشخص الموجود بجانبه.

- أتعرف من هذا؟

عندما رأيت الشخص ذا القيافة العثمانية بجبته وعمامته تبادر إلى ذهني اسم العالم المشهور ولكني لم أذكر ذلك.

قلت . ترى من هو؟

قال. هو "بديع الزمان".

صرخت: ماذا؟ .. ثم انحنيت على يدي "بديع الزمان" أقبّلهما.. لقد كان العالم المشهور أمامي إذن...

كان الجميع ينظرون الي.

قال الآمر : يجب استئجار بيت للأستاذ "سعيد النورسي"، وستقوم بهذه المهمة لأن معارفك كثيرون..

وأضاف: ولكن يجب أن يكون البيت أمام المخفر.

كان هناك بناء أمام المخفر، أسفله دكان، والطابق العلوي منه بيت لشخص اسمه "حسن باقرچي"، وكان  البيت معروضاً للإيجار. كان "حسن" يشرب الخمر ليلاً ونهاراً، وكنت اشرب معه احياناً، كان مدمناً على الخمر ولا يستطيع الاستغناء عنه ابداً، وهو في الأصل من أهالي "طرابزون".

ذهبت إلى السوق ويممت شطر دكان "حسن" قلت له : يا اسطة "حسن".. اجّر الطابق العلوي ليسكن فيه شيخنا.

قال: يا أخي.. إنني رجل سكير، أما هو فعالم دين فكيف أستطيع الانسجام معه.([298]) ؟

كان محقاً في كلامه، إذ كيف يستطيع عالم دين العيش بجوار سكير؟ ودار بخاطري أن الأستاذ سوف يزجرني، قائلاً .:"لماذا سألت ذلك السكير أن يؤجر بيته لي"؟

ذهبت بعد قليل إلى الأستاذ ورويت له الحكاية وقلت له . "إن البيت موجود، ولكن صاحبه سكير مدمن على الخمر." ولم اخبره بطبيعة  الحال أنني اسكر ايضاً وانني رفيقه في الكأس.

عندما قلت له:"إن صاحب البيت سكير". توقعت الغضب منه، ولكنه لم يغضب أبداً، فكأنه لا يملك شعور الغضب.

قال لي: لا بأس يا أخي.. ليكن سكيراً.

نقلت الخبر تواً لـ "حسن" وقلت له: لقد أجرنا البيت..

في مساء ذلك اليوم تم النقل إلى البيت.. وعندما أقول أننا انتقلنا  إليه فان ما نقلناه كان عبارة عن أشياء بسيطة جداً مثل "سلة الخبز" و "إبريق وضوء" إذ لم يكن يملك أثاثاً مثل الباقين من أهل الدنيا.

كان "حسن" هناك بانتظارنا.. خاطبه الأستاذ قائلاً.

- تعال هنا يا اسطه حسن.

جاء "حسن"  إليه وهو في غاية الخجل: "نعم يا شيخي".

- أتشرب الخمر؟

- نعم يا سيدي.. اشربه صباح مساء.

رفع الأستاذ يده ووضعها على ظهره ومسحه ثلاث مرات.

- هيا يا ولدي.. ستتخلص من هذا بإذن اللّه.

هذا الشخص الذي ما كان يترك معاقرة الخمر صباح مساء، صلّى صلاة الفجر مع الأستاذ في ذلك اليوم، ولم يذق الخمر مطلقاً بعد ذلك،بل استمر على الصلاة مع الأستاذ.. فيا للحيرة.. هذا الـ "حسن" الذي ما كان يعرف أي شيء عن الدين أو عن الصلاة كيف تبدل هكذا؟.... لم يخطر ذلك في  خيالي أبداً، لذا فقد أكبرت الأستاذ كثيراً".([299])

هكذا بدأت مرحلة حياة "أميرداغ"..

بيته أمام المخفر.. وأفراد الشرطة مكلفون بمراقبته ومراقبة زواره وطلابه.. وتضيق حلقه المراقبة، وتأخذ أبعاداً مزعجة حتى انه ليحس أن يوماً واحداً تحت ظل هذه الرقابة الصارمة يعادل شهراً كاملاً من سجنه السابق "سجن دنيزلي". وكان عندما يخرج في فصل الصيف أو الربيع إلى البساتين القريبة أو إلى السهول الخضراء القريبة من المدينة يتعقبه أحد أفراد الشرطة، وفي إحدى المرات تعرض إلى معاملة خشنة ووقحة من أحد هؤلاء إذ تجاسر عليه ونـزع عمامته من رأسه، وساقه إلى مخفر الشرطة بحجة مخالفته لقانون الأزياء.

ثم جرت محاولة تسميم الأستاذ "النورسي" وذلك باعتراف الطبيب الحكومي في "أميرداغ" وهو الدكتور "طاهر بارچن" إذ استطاعت الأيدي الخفية أن تدس السمّ في طعامه، وقضى الشيخ العالم الذي تجاوز السبعين من عمره اسبوعاً كاملاً في الفراش يتلوى من الآلام، ولكن الله نجاه وشفاه.

وحظر آخر تم فرضه على الأستاذ، فقد حظر عليه الذهاب إلى الجامع للصلاة.

وعندما زادت هذه المعاملات غير القانونية وغير الإنسانية ضده كتب رسالة إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي في ولاية "أفيون" التي ترتبط بها بلدة "أميرداغ"قال فيها:

"لا أدري لماذا لا تعير بالاً إلى المعاملة غير القانونية وغير المنصفة التي أتعرض لها، والتي لم ير لها شبيه حتى الآن؟ فمثلاً عندما أرغب في الذهاب إلى الجامع وفي الأوقات التي يكون فيها  خالياً تقريباً لكي أفوز بثواب صلاة الجماعة مع أفراد قليلين، فان الأوامر الصادرة تحظر عليّ وبشكل قاطع الذهاب إلى الجامع، فأي قانون يوجب هذه المعاملة على شخص يعاني من الغربة والمرض والشيخوخة وضيق اليد؟.. وأية مصلحة فيها؟.. ثم أي بأس هناك في قبول صداقة بعض الأفراد الذين يقومون بمساعدتي في بعض شؤوني الضرورية، وأنا أعيش وكأنني في سجن انفرادي في غرفة باردة وفي جو من الغربة والمرض والفقر والشيخوخة؟ وأي قانون يمنع هذا؟ أي قانون يمنع اتصالي مع شخص أو شخصين يرغبان في تأدية بعض الخدمات الضرورية لي، والتي لا أستطيع القيام بها؟".([300])

ثم أراد أن يوصل صوته إلى المسؤولين في العاصمة "انقرة" فكتب إليهم يقول:

"إذا كان الحاكم والمدعي واحداً، فإلى مَن نرفع الشكوى؟ لقد حرت طويلاً في هذه المشكلة.. أجل إن حالتي اليوم، وأنا طليق مراقب أشد عليّ بكثير من الأيام التي كنت مسجوناً فيها، إن يوماً واحداً من هذه الحياة يضايقني اكثر من شهر كامل في سجني المنفرد ذاك. لقد منعت رغم ضعفي وتقدمي في السن في هذا الشتاء القارس من كل شيء، على أنني منذ عشرين سنة أعاني مأساة سجن منفرد. إنني أقول. إن أهم وظيفة إنسانية لهذه الحكومة هي حفظ حقوقي التي لا يستطيع أحد إنكارها ذلك لأنها بعد تدقيق دام تسعة أشهر لما كتبته في ظرف عشرين سنة، اضطرت أن تعترف ببراءته، ولكن هناك أيدٍ خفية - تخدم النفوذ الأجنبي - لا تبالي أن تجعل من الحبة قبة في سبيل تجريمي وإسكاتي. وهناك أيضاً غاية واحدة لهم. هي أن ينفد ما لديّ من صبر ثم أقول: حسبي هذا القدر.. نعم.. إن تجريدي من حقوقي الإنسانية كلها إنما هو حطة، بل هو أشد أنواع الظلم.

لقد سمعت أن المسؤولين عهدوا إلى حكومة هذه المنطقة بتدبير أموري المعاشية، إنني اشكر هؤلاء الناس، ولكنني أعلن لهم أن حريتي في أداء واجبي أهم من كل شيء، فهي أول ركن من دستور حياتي.

إن إقصائي عن حريتي بحبائل الأوهام الكاذبة يجعلني املّ حياتي مللاً شديداً مهما اكتنفتها من مغريات العيش. لا أقول الحبس أو السجن، بل إنني لافضل ذلك القبر المظلم على هذه الحالة. إن على هؤلاء الذين يقولون انهم لا يريدون ظلمي، ويحكمون ببراءتي، أن يردّوا عليّ قبل كل شيء حريتي، وان لا يدنوا إليها بسوء. إنني أتمكن أن أعيش بدون طعام، ولكن لا يمكن أن أعيش دون حريتي..

نعم إن الذي عاش طوال تسع عشرة سنوات على مبلغ لم يزد على "200" ليرة تركية دون أن يعرض نفسه إلى ذل الصدقة والمسألة والزكوات والهدايا، لا ريب انه اليوم أحوج إلى الحرية منه  إلى العيش.

ولكني أقول. انه مما يعوضني عن عشرة من الناس يحال بيني وبينهم، أن مليوناً من المسلمين يعكفون على دراسة "رسائل النور" التي انتشرت فيما بينهم، انهم إن استطاعوا أن يسكتوني أمام الناس، فلن يستطيعوا إسكات "رسائل النور" التي تصل إلى شغاف القلوب.. إن كل نسخة منها تقوم مقامي في الكلام والبيان، ولن تسكتها أي قوة كانت على الأرض".([301])

ومع أن السلطات الحاكمة كانت تسيء معاملة الأستاذ "النورسي" الاّ أن قلوب الناس وأهالي بلدة "أميرداغ" كانت مع الأستاذ، ولكن الخوف من السلطات كان يمنع من إبداء مشاعر الحب أو إبداء مساعدة له، ولكن مع بعض الاستثناءات، فمثلاً نرى أن أحد أغنياء "أميرداغ" وكان تاجراً للسجاد وضع سيارة في خدمة الأستاذ "النورسي" لنقله إلى الحقول  والبساتين القريبة من المدينة والتي كان يقصدها ماشياً لعدة ساعات، وهو أمر شاق على شخص  جاوز السبعين من عمره.

وقد أغتاظت السلطات من تصرف هذا الشخص وقبضت عليه وقدمته للمحكمة وهناك سألوه.

- هل قدمت تلك السيارة له؟

- نعم، لقد قدمت له تلك السيارة.. وإذا نجحت أنت في الدخول إلى قلبي وأحببتك فإنني مستعد أن اشتري لك طائرة.. بل إنني على استعداد أن أضع ثروتي كلها في سبيلك.([302])  بل إن محبة الأستاذ سرت حتى إلى بعض أفراد الشرطة الذين كلفوا رسمياً بمراقبته، مما كان يعرضّهم إلى الإيذاء.

لنقرأ ما جرى للشرطي "إبراهيم" وهو الشرطي السابق الذكر الذي قام بإيجار البيت للأستاذ. يسرد "إبراهيم" ذكرياته هذه التي تعود إلى الفترة الأخيرة من إقامة الأستاذ "النورسي" في "أميرداغ" حيث قدم إلى محكمة "أفيون".

"كان من المنتظر تقديم الأستاذ إلى المحكمة، لذا فقد أقبلت جماهير غفيرة إلى "أفيون" من كل حدب وصوب.. كانت الشوارع والأزقة مكتظة بهم مثل يوم المحشر.. وكان الأستاذ يساق إلى المحكمة وكأنه قاتل سفاح قام بقتل العشرات.. كنت آنذاك لا أزال في الخدمة، وفجأة رأيت نفسي وجهاً لوجه مع الأستاذ "النورسي" فأديت له التحية العسكرية فوراً، كان معاون قوة الخيالة ماراً آنذاك، فما أن رآني اؤدي التحية حتى صرخ:

- أيها الجنود.. اقبضوا على هذا الشرطي..

قبضوا عليّ وساقوني إلى غرفة الآمر.. قام المعاون بشرح الحادثة قائلاً.

- لقد قام هذا الشرطي بأداء التحية لـ "بديع الزمان".

كان الآمر أسوأ بكثير من المعاون، إذ ما أن سمع ذلك حتى انتابته نوبة شديدة من الغضب وتحول إلى شبه مجنون، فقال لي وهو يكاد ينتف شعره:

- أصحيح انك أديت التحية لـ "بديع الزمان"؟

قلت: وهل أنا شخص كافر لا دين لي؟ إنني مسلم.. صرخ كالمجنون:

- مددوه للفلقة.

مددوني لضرب "الفلقة" وصرت أصيح كلما ضربوا رجلي بالعصا.

- ما دمت سلمت على الأستاذ وتكلمت معه فافعلوا ما بدا لكم.. كانت كلماتي هذه تثيرهم أكثر فيصرخون.

- لا يمكن لشخص عسكري أن يؤدي التحية للشيخ.

أجبتهم: بل يفعل.. ماذا تظنون الشخص العسكري؟ أليس مسلماً؟.

وبعد الضرب أودعوني السجن لمدة أسبوع."([303])

في أواخر سنة 1947 أرسلت الحكومة من محافظة "أفيون" ثلاثة من أفراد البوليس السري تحت ستار انهم عمال كهرباء فنيون وهم "عبد الرحمن آق كول" و"حسن قوشاقسس" و"صالح چاقر طاش" وذلك لغرض مراقبة الأستاذ "سعيد النورسي"، ولم يكن يعرف الهوية الحقيقية ولا الغاية الحقيقية لهم في "أميراداغ" سوى قائمقام "أميرداغ" وقائد الجندرمة هناك.

بدأ هؤلاء المخبرون بالتجول قرب دار الأستاذ ومراقبتها بحجة الكشف عن العوارض الكهربائية في تلك المنطقة، وبعد ساعات من هذا الترصد جلسوا في مقهى أمام الدار وتظاهروا بلعب الورق وشرب الشاي.

لم تمض على جلوسهم في المقهى الاّ فترة قصيرة حتى أقبل عليهم أحد طلاب النور وهو "السيد جيلان چالشقان".. سلم عليهم وابلغهم أن الأستاذ "بديع الزمان" يدعوهم إلى بيته.. فوجئ المخبرون السريون بهذه الدعوة وحملق بعضهم في وجوه بعض، ثم قال أحدهم للسيد جيلان: ومن هو "بديع الزمان"؟ فأجابه:"انه يسكن في البيت المقابل لهذا المقهى، وهو يدعوكم ويريد مقابلتكم".. فكر "عبد الرحمن آق كول" - وكان رئيسهم - ورأى من الأفضل قبول العرض، لذا أرسل المخبر السري "حسن قوشاقسس" وحده.

دخل "حسن" إلى غرفة الأستاذ الذي رحب به وسأله عن وظيفته، فقال بأنه فني في أعمال الكهرباء.

بدأ الأستاذ حديثاً لطيفاً معه عن المعاني الإيمانية والأخلاقية الموجودة في "رسائل النور"، وان هذه المعاني تربي في النفوس رقيباً معنوياً، لذا فان "رسائل النور" تؤدي دوراً كبيراً في تأسيس الأمن والطمأنينة في البلد.

فوجئ المخبر السري بهذا الكلام، فهل كان الأستاذ "النورسي" يعرف طبيعة عملهم؟ ومن أخبره؟ ولكنه لم يملك نفسه من التأثر بما سمعه. وعندما رجع إلى أصدقائه أخبرهم بما جرى.([304])

 

 سجن أفيون

مع أن السلطة الحاكمة كانت تضرب نطاقاً من حديد على الأستاذ "النورسي" وتضعه وزواره وطلابه تحت رقابتها المستمرة، إلا أنها كانت ترى إن مفعول "رسائل النور" يسري في جميع أنحاء تركيا، لاسيما بعد قرار التبرئة الصادر من محكمة "دنيزلي".. كان لابد من عمل شيء يوقف هذه الحركة التي كان انتشارها يعني هدم ما بنته وبناء ما هدمته... كانت هذه الحركة تسري وتنتشر وتتوسع وتمد جذورها وأغصانها في جميع القرى والأقضية والمدن، وبين جميع طبقات الشعب. من البقال إلى الفلاح.. إلى الجندي.. إلى الموظف.. إلى الطالب.. والى الطبقات المثقفة.

ولكن الذي كان يغيظ السلطة آنذاك أن هذه الحركة كانت تسجل هذا النجاح الباهر دون أن تتورط مطلقاً في أي شيء غير قانوني يمكن أن يتخذ ذريعة لضربها وتصفيتها، إذ لم تطلق رصاصة واحدة، ولم تقم بمظاهرة أو بمسيرة واحدة، ولم تحاول أن تؤلف حزباً سياسياً تطالب بتطبيق الشريعة على الفور.([305]) لكم كانت السلطة تتمنى لو تورطت هذه الحركة بشيء من ذلك.. ولكن الأستاذ "النورسي" بنظرته الثاقبة البعيدة المدى وبمعرفته الجيدة للظروف المحيطة به تصرف بحكمة بالغة وفوّت على السلطة هذه الفرصة، وتحمل هو طلابه جميع أنواع المضايقات دون أن يفقدوا أعصابهم ودون أن يعطوا الجهة المقابلة المسوغ الذي كانوا يبحثون عنه ويرغبون في الاستناد  إليه لتهيئة ضربة قاصمة لهم. إن التدرج قانون الهي عام، ولكل شيء مراحله وخطواته.

كان لابد للسلطة من عمل شيء.. بحثوا فلم يجدوا تهمة جديدة، إذن فلتكرر التهم السابقة نفسها، وهكذا كان.. ففي 23 شهر كانون الثاني سنة1948 القي القبض على الأستاذ "النورسي" مع خمسة عشر طالباً من طلاب النور في "أميرداغ" وعلى أربعة وخمسين منهم في محافظات "اسپارطة"، "دنيزلي"، "آيدن"، "قسطموني"، "إنبولي"، و"أفيون".. وأرسل الجميع تحت حراسة مشددة في ذلك الشتاء القارس إلى سجن "أفيون".

كانت التهمة أو التهم الموجهة هي التهم السابقة نفسها.

1- تأليف جمعية سياسية.

2- نشر أفكار معادية لأفكار النظام القائم.

3- الجري وراء غاية سياسية محددة.

4- إطلاق صفة الدجال السفياني على "مصطفى كمال.([306])

وضع الأستاذ النورسي منفرداً في ردهة كبيرة عارية دون تدفئة تَسَعُ ستين شخصاً، في ذلك الشتاء القارس الذي كانت الثلوج تغطي كل مكان، هذا في الوقت الذي كان الأستاذ يضطر - لتقدمه في العمر - إلى إبقاء مدفأته مشتعلة على الدوام في غرفته الصغيرة في "أميرداغ".

"لقد قاسى في يوم واحد في هذا السجن ما كان يقاسيه في شهر كامل في سجن "دنيزلي"، إذ ازدادت المعاملة معه بعداً عن القانون، فقد وضعوه طوال عشرين شهراً في ردهة منعزلة، وبشكل انفرادي، وفي أقسى أيام الشتاء برودة، حيث كانت نوافذ السجن مغطاة بطبقة من الثلج ينتظرون قضاء نحبه هناك، ثم دُس له السم، فعانى من الشيخوخة ومن آلام المرض شهوراً عدة، وعندما كان طريحاً في فراشه لا يستطيع من الألم حتى التقلب في فراشه لم يسمحوا لأي طالب من طلابه من القيام بالاعتناء به إذ كان المطلوب هو تركه في هذه الظروف القاسية ليقضى نحبه ويتخلصوا منه. واشتد عليه المرض إلى درجة انه لم يستطع تناول أي طعام لعدة أيام حتى أصابه وهن شديد من جراء نقص الغذاء. ومع كونه في ظل هذه الظروف وتحت رصد وتضييق شديدين، فانه لم يكف عن تأليف "رسائل النور" خفية كعهده في كل السجون السابقة. وكان المسجونون يستنسخون من هذه الرسائل عدة نسخ ويقومون بتهريبها خارج السجن ويساعدون بذلك على نشرها في الخارج، أي أن "رسائل النور" لم تتوقف عن النشر حتى عندما كان الأستاذ "النورسي" بين جدران السجون".([307])

وبدأت صفحة جديدة في حياة السجن، أو "المدرسة اليوسفية" حسب تعبير الأستاذ "النورسي"..

يسرد أحد طلابه ذكرياته عن سجن "أفيون" فيقول.

"... كان أهم ما يشغلنا في السجن هو كتابة "رسائل النور"، وعندما كنا نقترب من الردهة التي يبقى فيها الأستاذ نسمع فيها دوياً كدوي النحل.. كان هذا صوت الأستاذ وهو يقرأ الأوراد والأذكار والأدعية والمناجاة. وفي أية ساعة من ساعات الليل كنا عندما نتطلع نحو غرفته نرى مصباحه مضاءً ويتناهى إلى سمعنا صوته وهو يذكر الله.

كان الأستاذ في فكرنا على الدوام، وكنا ننتهز أية فرصة لزيارته وتقبيل يده وتقبل دعواته، ولكن الحراس كانوا يمنعون مثل هذه الزيارات ويقومون بإهانتنا وصفعنا قائلين لنا.

- وانتم ايضاً تسيرون وراء هذا الشخص؟.

.... وفي هذا السجن تم تأليف الشعاع الخامس عشر "الحجة الزهراء"، وفي أثناء التأليف كنا نمر من تحت نافذة الاستاذ، وعندما يرانا الأستاذ كان يرمي لنا بعلبة  الكبريت التي وضع فيها قصاصات الورق الصغيرة المكتوبة من قبله، وكنا نأخذ هذه القصاصات ونستنسخها فوراً.

وبدأت أتعلم الكتابة بالحروف القرآنية "الحروف العربية" من صديقنا "جيلان چالشقان"، وعندما كان الحراس يروننا نكتب يحاولون إخافتنا وتهديدنا وإهانتنا، وعندما أقابل الأستاذ كان يقول لي.

- لا تخف ... لقد أرسلك الله بفضل  منه إلى هنا.. أنت محظوظ جداً، وعليك أن تحمد الله كثيراً.

كان كلامه هذا يخفف ويسرّى عنا كثيراً أما نحن فكنا منكبين على الكتابة ليلاً  ونهاراً. كان الأستاذ يصحح ما نكتبه ويدعو لنا.

... كنا ننتظر الفرص السانحة لزيارة الأستاذ بمختلف الحجج، وكنا عادة ما ننجح في زيارته بحجة الذهاب إلى الحلاق الذي كانت غرفته مقابل غرفة الأستاذ .([308])"

وتتناول رسالة "الحجة الزهراء" الدلائل القاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأدلة القاطعة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته، وهذه الرسالة حلقة أخرى من حلقات محاولته تحقيق هدفه في "إنقاذ الإيمان"وحياة الأستاذ وطلابه في هذا السجن تتشابه في خطوطها العامة مع حياته في السجون السابقة...

إيذاء وتضييق من قبل سلطات السجن..

انشغال الأستاذ بالعبادة وبالتأليف...

انشغال طلاب النور بكتابة "رسائل النور" ودراستها،  وبإرشاد المسجونين...

وفي هذا  السجن ايضاً تاب كثير من المجرمين كان بينهم بعض من حكم عليهم بالإعدام لارتكابهم جرائم القتل، مثل السجين طاهر الملقب بـ "القصاب" الذي كان يخشاه المسجونون، فقد كان ضخم الجثة قوي الجسم متهوراً، لذ كانت يداه ورجلاه مربوطة بالسلاسل الحديدية. ولخوف المسجونين منه فقد أصبحت كلمته نافذة في السجن لا يستطيع أحد أن يخالفه. والغريب أن هذا المجرم العتيد بعد زيارة واحدة للأستاذ في غرفته تبدل تماماً وبشكل أثار دهشة وذهول الجميع من مسجونين وحراس ومسؤولي السجن، فقد اصبح شخصاً وديعاً لا يؤذي احداً، يؤدي الصلاة في أوقاتها، قليل الكلام، محباً لطلاب النور. لذا فقد خصص لهم افضل الأماكن في السجن.

وقد أشاعت سلطات السجن جواً من الإرهاب حول طلاب النور وحول الأستاذ "النورسي"، فمثلاً نراها تضرب أحد المساجين ضرباً مبرحاً لأنه ألقى تحية للأستاذ النورسي عبر نافذة غرفته .([309])

وعندما حاول أحد طلابه وهو "زبير گوندوزآلب" التسلل إلى غرفة أستاذه وقضاء بعض حوائجه، واقتادوه إلى غرفة التعذيب حيث مددوه على الأرض وبدأوا بضربه بـ "الفلقة"، أي الضرب بالعصا تحت قدميه، وكلما هوت العصا صرخ فيهم:

- اضرب.. .. اضرب.. لتعش جهنم للظالمين.. لتعش جهنم للظالمين.([310])

وفكر مدير سجن آفيون "محمد  كايهان" أن يدبر مقلباً أو فخاً للأستاذ  "النورسي" فأمر بنصب أحد الأعلام التركية - في مناسبة ذكرى عيد الاستقلال - في ردهة الاستاذ. وكان المدير يتوقع أن يقوم الأستاذ بالاحتجاج على  ذلك أو بتمزيق العلم أو التحريض على تمزيقه - لأنه شخص رجعي في نظر السلطات - فإذا تم ما يتوقع المدير وما يريده في الحقيقة فانه يستطيع أن يملأ الدنيا صراخاً وندباً على الإهانة التي لحقت بالأمة التركية من قبل الأستاذ "النورسي".

ولكن الأستاذ  "النورسي" فوت على المدير هذه الفرصة التي كان يتمناها فكتب  إليه يقول.

" سيادة المدير!

أشكرك لقيامك بنصب علم بمناسبة عيد الاستقلال. لقد أدركت حكومة "أنقرة" أن قيامي في استانبول "في أثناء الحركة الملية" بطبع ونشر كتابي "الخطوات الست" ضد الإنكليز وضد اليونان كان يعادل في تأثيره تأثير فرقة عسكرية كاملة، لذلك فقد أرسل "مصطفى كمال" رسالتين بالشفرة يطلب حضوري إلى  "أنقرة" لكي يكافئني، حتى انه قال . "نحن بحاجة إلى هذا العالم البطل".

إذن فان من حقي أن ينصب مثل هذا العلم في ردهتي" .([311])

وأسقط في يد مدير السجن، فقد تلقى لطمة في وجهه.

وفي إحدى جلسات محكمة "أفيون" طالت الجلسة حتى حان وقت صلاة المغرب، فقام الأستاذ من مكانه قائلاً : إنني سأصلي.

فقال الحاكم الذي كان يريد الاستمرار في الجلسة: تستطيع قضاءها.

فأجابه الاستاذ: لا يجوز القضاء .. ساؤدي الصلاة.

ثم توجه بالكلام إلى المحكمة قائلاً:

- لقد جئنا إلى هنا لأننا ندافع عن حقوق الصلاة، إذ لا ذنب لنا سواه.

ثم ترك المحكمة ومأمور السجن يرافقه، حيث أدى الصلاة في غرفة قلم المحكمة.

وفي الجلسة الأخيرة سئل عما إذا كانت لديه أقوال أخرى . فقال:

- إذا كان هناك أي ذنب فانه يرجع اليّ، فاصدقائي الآخرون  لا ذنب لهم. نحن خدام القرآن والحراس المعنويون للأمن والاستقرار .([312])

وعندما استمعت المحكمة إلى شهادة المخبرين الثلاثة الذين أرسلوا إلى "أميرداغ" لمراقبة الأستاذ "النورسي" دهش الحاكم، إذ كان واضحاً من كلامهم أن الأستاذ كان يعرف طبيعة عملهم، فكيف عرف ذلك.

لذا توجه بالسؤال إلى الأستاذ والاستفسار منه عن كيفية معرفته.

فأجاب الأستاذ . لقد رأيت ذلك في منامي ....([313])

نقدم للقراء الكرام مقاطع من دفاع الأستاذ "النورسي" في هذه المحكمة.

قال وهو يردّ تهمة قيامه بتأليف جمعية سرية لتقويض نظام الحكم.

"أجل .. نحن جماعة.. هدفنا ومنهاجنا اولاً، وقبل كل شئ هو إنقاذ أنفسنا ثم إنقاذ جماهير مواطنينا من الإعدام الأبدي.. ومن السجن البرزخي الانفرادي اللانهائي. وكذلك وقايتهم من الفوضى والتخبط، واقامة سور  فولاذي من حقائق "رسائل النور" حول  أنفسنا، في مواجهة حملات الزندقة وهجماتها الظالمة. تلك الزندقة التي تعد عاملاً من اخطر عوامل القضاء على حياتنا الدنيوية والأخروية. إنني لا أعير اقل اهتمام بما تعتزمون إنزاله بي من عقاب مهما بلغت درجته من الشدة والقسوة. لأنني على عتبة باب القبر، وفي سن الخامسة والسبعين من عمري. فهل هناك سعادة اعظم من تحويل سنة أو سنتين من حياة بريئة ومظلومة كهذه إلى مرتبة الشهادة؟ ثم إنني موقن كل اليقين ولا يخالجني  أدنى شك في أن الموت بالنسبة لنا ترخيص وتسريح، بل هو تذكرة مرور وتأشيرة دخول إلى عالم الطمأنينة والسعادة. ولنا آلاف البراهين من "رسائل النور" على  ذلك . والإعدام الظاهري الصوري سعادة بالنسبة لنا ايضاً. وهو مفتاح للرحمة وفرصة عظيمة للانتقال إلى عالم البقاء والخلود.

أما انتم  يا أعداءنا المستورين ويا أولئك  الذين يضللون العدالة لحساب الزندقة ويتسببون في خلق الأوهام الزائفة في رأس السلطات الحكومية لتنشغل بنا بدون أي داع أو سبب.. ألا فلتسمعوا جيداً، ولترتعد فرائصكم بأنكم تحكمون على أنفسكم بالإعدام الأبدي.. وان انتقامنا يؤخذ منكم اضعافاً مضاعفة.. فها نحن أولاء نرى ذلك ونشفق عليكم.

ولا شك أن حقيقة الموت التي ظلت تفرغ هذه المدينة مائة مرة إلى المقابر لا بد أن تكون لها غاية ومطلب فوق غاية العيش والحياة. وان محاولة الخلاص من براثن ذلك الإعدام الأبدي كما هي قضية في مقدمة القضايا الإنسانية فهي من أهم الضروريات البشرية واشدها إلحاحاً. فإذا كانت هذه هي الحقيقة، أفليس من دواعي العجب والغرابة أن يتهم نفر من الناس طلاب رسائل النور الذين اهتدوا إلى ذلك السرّ، وعثروا على تلك الحقيقة، ويلصقوا اتهامات باطلة بـ "رسائل النور" التي أثبتت نفس  تلك الحقيقة بآلاف الحجج والبراهين . فكل من له مسكة من عقل - بل حتى ولو كان مجنوناً - ليدرك تمام الإدراك بأن أولئك النفر باتهاماتهم تلك إنما يضعون أنفسهم في قفص  الاتهام أمام الحقيقة والعدالة.

هذا، وقد أثبت في عشرين موضعاً من "دفاعاتي" بالأدلة والبراهين انه لو اجتمعت الدنيا بأسرها، فإنها لن تستطيع أن تحملنا على جعل القرآن والدين ورسائل النور أداة لأي شئ. ولقد ظهرت ألوف الامارات على صدق هذه الدعوى خلال عشرين سنة".([314])

ثم يردّ على الاتهام الموجّه  إليه من انه يشبّه "مصطفى كمال" بالدجال، فيقول.

" إن المدعي العام يطبق مسألة أو مسألتين من "الشعاع الخامس.([315])" على زعيم قد مات وانتهى أمره؛ ليتخذ من ذلك ذريعة لمهاجمتنا واظهارنا في مظهر المذنب.

وجوابنا على ذلك:

أولاً- ليس لأي قانون أن يطبق نقداً ذا طابع كلّي، على شخص قد مات وانقطعت بذلك علاقته عن الحكم. فلا معنى إذا لافتعال أسباب واهية لعدّ ذلك النقد ذنباً يستدعي اللوم، أو جريرة تستحق العقاب.

ثانياً- إن الادعاء المفتون بمقامه، باستنباطه حظاً من الفهم من ذلك النقد العام ومحاولة تطبيقه على ذلك الزعيم، إنما يتصرف تصرفاً ساذجاً لا معنى له اطلاقاً فليس لأي قانون أن يعد من الذنب والجريمة وجود حقيقة لا يفهمها إلا واحد من المائة في رسالة مخفية.

ومن ناحية أخرى  فقد أوضحت تلك الرسالة بشكل قلما تجد له مثيلاً، تأويل بعض الأحاديث المتشابهة. ولقد مضى على ذلك التفسير الذي تضمنته الرسالة قرابة أربعين عاماً، ورفع أمره إلى محكمتكم والى ست جهات مختلفة في "أنقرة"، واجيب عنه في "مدافعاتي" بشكل صريح وقاطع. فأي ذنب بعد هذا كله، إذا كانت الحقائق التي وردت في تفسير ذلك الحديث منطبقة على شخص مخطئ أفنحاسب  بذلك أمام القانون؟

ويستطرد قائلاً في الدفاع:

" وبعد فلست أرى بعد هذا كله ما يمنعني من الإعلان بصراحة تامة بأننا لسنا مع زعيم اصدر حسب هواه أوامر في قوة القانون، بتحويل جامع ايا صوفيا إلى دار للأصنام، وجعل مقر المشيخة العامة ثانوية للبنات.. لسنا معه شكلاً  ولا موضوعاً؛ لا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية. ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر واقع كهذا اطلاقاً.

والواقع انه بالرغم من حياة الأسر والتشرد التي عشتها خلال السنوات العشرين الأخيرة، والتي ذقت فيها الواناً من العذاب، وتعرضت لأقسى وأشنع أساليب الظلم والاستبداد، ومع أن هناك مئات الألوف من إخواني النوريين الأوفياء، فإننا لم نتدخل في الأمور السياسية، ولم تسجّل حادثة واحدة تفيد تعرضنا للأمن أو إخلالنا بالنظام.

إن ما أتعرض له في أخريات أيامي هذه؛ من الإهانات المتكررة، والمعاملة السيئة التي أقابل بها، وحياة الاغتراب والتشرد التي أعيشها.. كل ذلك جعلني املّ الحياة.. إن أعصابي المرهقة لم تعد تتحمل كل هذا .. إنني سئمت الحرية المقيدة؛ تلك الحرية التي يحدها التحكم ويعقلها الجور والاستبداد.. لقد رفعت إليكم طلباً، لا لإطلاق سراحي وإبراء ساحتي كما هو المألوف، ولكن بإنزال العقاب عليّ.. نعم. العقاب، لا اخفّه واهونه وانما اشده وأقساه.. ذلك؛ لأنه لا سبيل للتخلص من مثل هذه المعاملة العجيبة المنكرة سوى أحد أمرين. السجن أو القبر.. إن الطريق إلى القبر سهل جداً، إذ يستطيع المرء أن ينتحر .. فينتهي كل شئ في لحظات. بيد أن الانتحار محظور شرعاً .. ثم إن الأجل سرّ خفيّ، لا يدرك الإنسان كنهه، بَلْهَ عن أن تطوله يده، لذا فقد رضيت بالسجن الذي أنا رهين اعتقاله وتجريده منذ حوالي ستة اشهر.([316])

ثم يردّ على تهمة الانتماء إلى الجمعيات فيقول.

"إن محاولة إلصاق تهمة الانتماء إلى الجمعيات، والتدخل في الشؤون السياسية إلى طلبة النور - الذين لا علاقة لهم بايّ وجه بالتجمع والتكتل والتيارات السياسية المختلفة – ما هي إلا من وحي مؤسسة الزندقة التي تعمل منذ أربعين عاماً، على هدم  الإسلام ومحو الإيمان؛ خادمة بذلك نوعاً من البلشفة. ولقد دأبت هذه المؤسسة على اتخاذ موقف مضاد تجاهنا، وتتسبب في تغذية وتربية روح التطرف والفوضى في هذا الوطن؛ سواء بعلم  أو بغير علم. ولقد اتفقت ثلاث محاكم مختلفة على تبرئة ساحة طلبة النور ورسائلهم من تهمة الانتماء إلى أي جمعية. وقد شذّت محكمة واحدة، هي محكمة "اسكي شهر" عن ذلك؛ حيث حكمت عليّ بالسجن لمدة عام واحد، وعلى "15" من إخواني من جملة "120" شخصاً لمدة ستة اشهر على كل واحد منهم.           

واذاً  فان اصطناع الأسباب الواهية والاتهامات الباطلة ضد طلبة رسائل النور الآن، إن هو الاّ بمثابة الحكم ضد تلك المحاكم الثلاث .([317]) ومحاولة لإلصاق التهمة بها، وتوصمها بوصمة الخيانة والعار.

ثم يقول في دفاع آخر.

"لا يمكن المبارزة مع "رسائل النور".. ولن تستطيعوا مبارزتها اطلاقاً. فقد اتفقت كلمة علماء  الإسلام الذين اطلعوا عليها على أنها تضم في ثناياها أنصع الحقائق واقوى البراهين المستلهمة من القرآن. وهذه الرسائل لكونها خادمة للقرآن وتفسيراً لدقائقه الفائقة، تنطوي على حقائق ناصعة وبراهين دامغة، وتعتبر معجزة معنوية من معجزات القرآن في هذا العصر، وسداً منيعاً أمام الأخطار والمهالك التي تتربص بهذا الوطن وبهذه الأمة من الشمال.

فالحق والواجب والمنطق يقتضي إذن أن تعمل محكمتكم على الترغيب في هذه الرسائل بدلاً من تخويف طلبتها وترغيبهم عنها. هذا ما نعلمه، وننتظر بل نطلب منكم أن تفعلوه.

ومن المعلوم أن عدم التعرض لكتب ومجلات وجرائد الملاحدة، وبعض الساسة المتزندقة - مع ضررها الواضح البيّن للشعب والوطن والأمن - تحت ستار الحرية العلمية لابد أن يدفعنا إلى القول والتساؤل: ما هو الجانب المحظور من التحاق شاب بريء؛ يحتاج إلى العون والمساعدة، إلى صفوف طلبة النور، كي ينقذ إيمانه، وينجو من التردي في هاوية الأخلاق الذميمة؟ أفليس من الحكمة والعدل والواجب أن تحتضن وزارة المعارف هذا العمل وتشجعه وتقدره حق قدره، بدلاً من أن تعمل على مكافحته، وعلى ملاحقتنا بدون سبب؟".([318])

ويقول في موضع آخر.

"أما إذا خلتم الإلحاد ضرورة السياسة؛ وداعياً من دواعيها. وزعمتم كما يزعم البعض. انك برسائلك هذه تفسد علينا مدنيتنا، وتحول دون تمتّعنا بمباهج الحياة وملذاتها، فمن واجبي أن أشير إلى حقيقة هامة جداً، وهي أنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش بدون دين.. هذا دستور عام، معترف به في الدنيا كلها. وكما أثبتّ في "مرشد الشباب" من كليات رسائل النور - وهي مطبوعة الآن - بأدلة وبراهين لا تقبل الجدل والمناقشة، فان الكفر المطلق يسبب لصاحبه عذاباً أشد ايلاماً من عذاب جهنم في الدنيا نفسها.

هذا من حيث النتيجة والمصير. أما من حيث التمتع بملذات الحياة التي قد يتصورها. فلا يكون حظه من ذلك سوى الهبوط إلى مرتبة هي أدنى مائة مرة من مرتبة العجماوات التي لا معنى للماضي والمستقبل لديها. وذلك؛ لأن آلاماً مستمرة ومتعاقبة بسبب ضلاله. أما إذا جاء الإيمان ودخل القلب، وتمكن منه، فان أولئك الأصدقاء الذين لا يحصيهم العدّ والحساب، سيحيون فجأة ويقولون بلسان حالهم. نحن لم نمت.. نحن لم نمت.. نحن لم نفن.... وحينئذ تنقلب تلك الحالة الجهنمية إلى جنة فيحاء وروضة غناء.

فإذ كانت هذه هي الحقيقة، فإنني أنصحكم بما يلي:

لا تبارزوا "رسائل النور".. فلن تستطيعوا مبارزتها.. لأنها تستند إلى القرآن، ومنه تستمد العون والتأييد. وهذا هو سر قوتها. ومن ههنا لا يمكن إلحاق الهزيمة بها. ولعمر الحق كم سيكون أمر هذا البلد مؤسفاً إذا ما حاول أحد طمس نورها، أو إطفاء شعلتها. إنها لن تنطفئ.. وسوف تذهب إلى مكان آخر لتضيئه.. أما إذا ركبتم رأسكم وأصررتم على العراك والمجابهة، ألا فلتعلموا جيداً بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من شعر، وفُصّل كل يوم واحد منه عن جسدي، فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية - أمام الزندقة والكفر المطلق.. ولَنْ أتخلى ابداً عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يمكنني أن أتخلى.

وما دامت مبادئ الجمهورية لا تتعرض للملاحدة وفقاً لمبدأ حرية الضمير والوجدان، فمن الأولى والأحق أن لا تتعرض لأولئك الذين لا علاقة لهم بالدنيا، ولا يجادلون مع أهلها، ويعملون لآخرتهم وإيمانهم ووطنهم بشكل نافع. كما لا يحق لأرباب السياسة أن يحملوا الشعب على التخلي عن الصلاح والتقوى اللذين هما بمثابة الغذاء والعلاج من الاحتياجات الضرورية لهذا الشعب منذ ألف عام. ثم إن لآسيا ميزة خاصة؛ إذ هي مهبط الوحي ومهد الأديان. وهي بذلك لا تقاس بالقارات الأخرى. لذلك فلا يحق لأحد أن يمنعهم من الصلاح والتقوى. ونعلم أنهم لن يفعلوه.

ولمنفعة الشعب والأمن، وكواجب من واجباتي الوطنية أودّ أن أذكركم بما يلي.

إن اعتقال أو محاولة الإساءة إلى أولئك الذين لهم أدنى علاقة بنا أو بـ "رسائل النور"، قد يدفع بالكثيرين - ممن لهم منافع إيجابية للوطن والنظام العام - إلى أناس معادين للإدارة. ويفسح المجال للفوضى والانقسام.

والحق الذي لا مراء فيه هو أن عدد أولئك الذين أنقذوا إيمانهم بفضل "رسائل النور"، واندفع بذلك خطرهم عن المجتمع، وأصبحوا بذلك أعضاء نافعين وإيجابيين في صفوف الوطن. يزيد كثيراً على مائة ألف شخص. ومن بين هؤلاء العديد ممن يشغلون مناصب حكومية رفيعة، ويمثلون مختلف طبقات الشعب تقريباً. وهم يعملون بتفانٍ وإخلاص كاملين، وعلى أتم وجه من الصدق والنفع والاستقامة. فالإنصاف يقتضي إذا العمل على حماية هؤلاء ومساندتهم، لا محاولة الإساءة إليهم واستخدام مختلف أساليب الضغط والتعسف ضدهم.

إن فريقاً من الموظفين الرسميين الذين ضربوا صفحاً عن الإنصات إلى  شكوانا، ولا يستجوبوننا، ويتذرعون بمختلف الحجج والادعاءات الزائفة في مضايقتنا ليحملوننا على الاعتقاد بشكل قوي بأنهم بتصرفهم هذا إنما يفسحون المجال للفوضى ضد الوطن. لذا نذكرهم بما يلي:

ما دامت الحكومة لا تتعرض للملاحدة والسفهاء بموجب دستور حرية الوجدان، فمن الأولى والألزم أن لا تتعرض للمتدينين والأتقياء كذلك. وبما أنه قد ثبت ثبوتاً قاطعاً بأنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش بدون دين؛ وثبت أيضاً أن "آسيا" من الوجهة الدينية لا تشبه "أوروپا"؛ وان  الإسلام لا يشبه المسيحية لا من حيث الحياة الدنيوية ونظرتها إلى الجمعية والفرد. ولا من حيث الحياة الآخرة؛ وان الملحد المسلم لا يشبه سائر الملاحدة؛ وانه لا يمكن لأي رقيّ أو حضارة أن يملآ فراغ التدين الذي أصبح حاجة فطرية لشعب هذا الوطن الذي ظلّ يضيء جنبات الأرض بقبسات النور والهدى، ويصد هجمات الدنيا ببسالته وصلابته الدينية، ولا أن يعوّضاه عن دينه وصلابته وتعلّمه الحقائق الإيمانية بوجه خاص. كما لا يمكنهما حمله على تناسي تلك الحاجة الملحة. فمن الواجب إذن أن لا تتعرض السلطات التي تتولى مقاليد أمور هذا الشعب لـ "رسائل النور" لا من حيث النواحي العدلية والقانونية، ولا من حيث النواحي الإدارية والأمنية. ولا ينبغي لها أن تتعرض..".

ثم بدأ يردّ تهمة انه يفاخر بنفسه أو يلفت الأنظار إليه.

"إنني خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من حياتي، والتي أطلقت فيها على نفسي اسم "سعيد الجديد" أستطيع أن أدّعي بدون مبالغة، بأنني قد بذلت ما وسعني الجهد لكبح جماح نفسي الأمارة بالسوء، وصونها من التملق والتفاخر. وهذا بشهادة نصوص "رسائل النور" المتعلقة منها بشخصي، وبشهادة جميع المنصفين الذين كانوا يختلفون إلي بصفة منتظمة، وبشهادة أصدقائي جميعاً كذلك. ولقد جرحت أكثر من مرة مشاعر الكثيرين من طلبة النور، لإضمارهم حسن ظن مبالغ فيهم نحوي. والواقع أنني لست بذي ثروة أو مال.. وكل ما لديّ من ثروة وحرفة ورأس مال، عبارة عن كوني دلالاً بسيطاً أمام حانوت مجوهرات القرآن، كما أنني بتصديقٍ من إخواني المقربين وبما شاهدوا من  الأمارات العديدة، لم أعمل في أي وقت من الأوقات من أجل كسب المناصب الدنيوية أو الشهرة أو السعي وراء الأمجاد الزائفة. بل العكس هو الصحيح، إذ لو فرضنا أن أسند اليّ مقامات معنوية كبرى، فإنني سوف أرفضها رفضاً باتاً لا لشيء الاّ لأنه قد يختلط حظ من حظوظ النفس بإخلاصي في الخدمة.. لذا فإنني أفضل خدمتي على أي منصب من المناصب، ومستعد للتضحية بها.. وقد حدث هذا فعلاً. ومع ذلك فقد جعلت محكمتكم الموقرة من مشاعر الاحترام التي أبداها نحوي بعض إخواني نظير انتفاعهم بـ "رسائل النور" - مع رفضي وعدم قبولي لها - من قبيل احترامٍ زائد عن احترام المرء لأبيه.. فجعلتم من ذلك مدار استجوابنا، وحملتم فريقاً منهم على التنكر لذلك. فيا عجباً أيّ ذنب، وأي جريرة في امتداح جاء على لسان الغير ولم يرضَ به هذا العاجز ولا يرى نفسه لائقاً لذلك؟".

"إنني أنذركم بما يلي:

لا داعي اطلاقاً للقضاء على شخصي الفاني الشارف على باب القبر، ولا داعي كذلك إلى إعطاء مثل هذه الأهمية لوجودي. بيد أنه مما يجب أن تعلموه جيداً هو أن المبارزة مع "رسائل النور" محاولة يائسة وصفقة خاسرة. إنكم لن تستطيعوا مبارزتها.. ولا تبارزوها.. إنكم لن تتغلبوا عليها.. ولئن ركبتم رأسكم وحاولتم مناضلتها، فلسوف تعودون بأضرار جسيمة على الشعب والبلاد معاً.. إنكم لن تستطيعوا تشتيت شمل طلبتها أو تفكيك وحدتهم مهما حاولتم.. إذ ليس من السهل حمل أحفاد وأبناء أجدادنا البواسل الذي ضحوا بأكثر من خمسين مليوناً من الشهداء في سبيل الحفاظ على القرآن وحقائقه القيمة على التنكر والنسيان لماضيهم المجيد، ولا الحيلولة دون بطولاتهم الدينية الرائعة.. تلك البطولات التي تعتبر غرة في جبين التاريخ. وهذا بشهادته وإقراره.. وكانت دوماً محط أنظار العالم الإسلامي وموضع إعجابه .. وحتى إذا حدث وانسحب أولئك التلاميذ الأوفياء في الظاهر، فانهم لن يتركوا "رسائل النور" التي هي مرآة لتلك الحقيقة القرآنية، حتى يضرّوا بذلك الترك الوطن والشعب والنظام والأمن.

وأخيراً أقول:

(فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الاّ هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم)([319])  

ويسمو بروحه في قاعة المحكمة فيصفح حتى عن أولئك الذين يحكمون عليه بالإعدام إن حفظوا إيمانهم، فيقول:

"وإذا كان موظفو العدالة الذين يدققون "رسائل النور" - بهدف النقد والتقييم - سوف ينقذون أنفسهم ويقوون بهذه الوسيلة إيمانهم فلا بأس إذا حكموا عليّ بالإعدام بعد ذلك. واشهدوا بأنني قد تنازلت لهم عن جميع حقوقي. إن المهمة الأساسية لـ "رسائل النور" هي. تقوية الإيمان وإنقاذه. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فإننا نجد أنفسنا ملزمين بالخدمات الإيمانية؛ دونما تفرقة بين عدوّ أو صديق، ومن غير تحيز لأيّ جهة من الجهات.

وهكذا.. أيها السادة أعضاء المحكمة.. فبالاستناد إلى هذه الحقيقة. وعلى ضوء هذا المفهوم. ليس من المنطق والإنصاف في شيء القدح في "رسائل النور" أو إثارة الشبهات حولها، أو محاولة النَيل منها. ولا شك أنها قد استطاعت بحقائقها الناصعة وبراهينها الساطعة، أن تستميل قلوب الكثيرين من أعضاء المحكمة نحوها، وحملتهم على التعاطف معها. وإذا كان الأمر كذلك، فليس يهمني بَعدُ ما تريدون فعله، وما تقررون في حقي.. افعلوا ما شئتم فإني مسامحكم.. ولن أثور أو أغضب عليكم إطلاقاً. ولعل هذا هو السبب في أنني مع تحملي لأشد  أنواع الأذى والجور والاستبداد، والتعرض للإهانات المتكررة التي أثارت أعصابي أكثر من مرة، ولم  أقابل بمثلها طوال حياتي كلها. إنني لم أدعُ على أحد بالشر أو السوء. وان مجموعات "رسائل النور" التي بين يديكم، لهي دفاعي غير القابل للجرح أو الطعن، وهي خير دليل على زيف جميع الادعاءات المثارة ضدنا.([320])

 

٭٭٭

استمرت المحكمة بعقد جلساتها مدة طويلة وأصدرت أخيراً قرارها في 6 كانون الأول سنة 1948 على الأستاذ "النورسي" بالحبس لمدة "20" شهراً وعلى عالم لمدة "18" شهراً، وعلى عشرين من طلبة النور بالحبس لمدة ستة أشهر وعلى تبرئة الباقين.

كان هذا القرار ظالماً إذ أن محكمة "دنيزلي" السابقة كانت قد أصدرت قرارها بتبرئته من التهم نفسها وبعد تدقيق وتمحيص كتابات ورسائل الأستاذ من قبل لجنة مختصة كما سبق ذكره، لذا فقد اعترض الأستاذ "النورسي" على قرار المحكمة هذه في محكمة التمييز التي سرعان ما أصدرت قرارها بتبرئة الأستاذ "النورسي" استناداً إلى قرار محكمة "دنيزلي". ولكن هذا القرار لم ينفذ بسرعة، إذ انعقدت محكمة "آفيون" مرة أخرى للنظر فيما إذا كان عليها أن تتبع قرار محكمة التمييز أم لا؟

وبعد جلسات عديدة وتأجيلات عديدة وطويلة لجلساتها، قررت الانصياع إلى قرار محكمة التمييز، ولكن الروتين البطيء للمحكمة وقيامها بتكملة بعض النواقض - وقد يكون ذلك متعمداً - أخذ وقتاً طويلاً.

وأخيراً وفي 20 أيلول 1949 تم إخلاء سبيل الأستاذ "النورسي"، ولكن سلطات السجن لم تطلق سراحه في الوقت الاعتيادي وهو الساعة العاشرة صباحاً لأنها خشيت احتشاد الجماهير أمام السجن وقيامها بمظاهرة حب للأستاذ "النورسي"، لذا فقد أطلق سراحه في وقت الفجر مع عدد من طلابه وبصحبة شرطيين حيث غادر السجن إلى بيت أعدّ له.([321])

٭   ٭   ٭

وحول حياته في "أميرداغ" وفي "أفيون" يسرد الأستاذ "النورسي" بقلمه بعض ذكرياته في كتابه "الشيوخ"؛ فيقول:

"ثم إنني في الوقت الذي كنت في أمسّ الحاجة إلى الإخلاد إلى الراحة وعدم الاهتمام بهموم الدنيا والابتعاد نهائياً عن البرد، فان قيام هؤلاء بنفيي  - في هذه الفترة من البرد بالذات - وتهجيري من مدينة لأخرى بما يفوق تحملي، ومن ثم توقيفي والتضييق عليّ  بأكثر من طاقتي وبما يشعر انه حقدٌ دفين وأمر متعمد مقصود، كل ذلك ولّد عندي غيظاً وامتعاضاً غير اعتيادي تجاه هؤلاء. ولكن العناية الإلهية أغاثتني فنبهت القلب إلى هذا المعنى.

إن للقدر الإلهي - الذي هو عدل محض - حصةً عظيمةً جداً فيما يسلطه عليك هؤلاء البشر من الظلم البيّن، وان رزقك في السجن هو الذي دعاك إلى السجن، فينبغي إذا أن تقابل هذه الحصة بالرضى والتسليم.

وان للحكمة الربانية ورحمتها حظاً وافراً أيضاً كفتح طريق النور والهداية إلى قلوب المساجين وبث السلوان والأمل فيهم، ومن ثم إحراز الثواب لكم.. لذا ينبغي تقديم آلاف الحمد والشكر للّه - من خلال الصبر - تجاه هذا الحظ العظيم..

وكذا فان لنفسك أنت أيضاً حصتها حيث إن لها ما لا تعرف من التقصيرات.. فينبغي مقابلة هذه الحصة أيضاً بالاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله وتأنيب النفس بأنها مستحقة لهذه الصفعة.

وكذا فان بعض الموظفين السذج والجبناء المنخدعين بدسائس الأعداء المتسترين الذين يسوقونهم إلى ذلك الظلم حصتهم ايضاً ونصيبهم، فـ "رسائل النور" قد ثأرت لك ثأراً كاملاً من هؤلاء المنافقين بما أنزلت بهم من صفعاتها المعنوية  المدهشة. فتكفيهم تلك الضربات.

أما الحصة الأخيرة فهي لأولئك الموظفين الذين هم وسائل حقيقية ووسائط فعلية. ولكن لكونهم منتفعين حتماً من جهة الإيمان - سواء أرادوا أم لم يريدوا - عند نظرهم إلى "رسائل النور" وقراءتهم لها ولو بنيّة النقد أو الجرح، فان العفو والتجاوز عنهم وفق دستور : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، إنما هو شهامة ونجابة.

فقررت بدوري - بعد أن تلقيت هذا التنبيه والتحذير الذي كلّه حق وحقيقة - قررت أن أظل صابراً وشاكراً جذلاً في هذه المدرسة  اليوسفية الجديدة. بل قررت أن أساعد وأعاون حتى أولئك الذين يسيئون اليّ ويخاصمونني مؤدباً نفسي بتقصير لا ضرر منه.

ثم ان من كان مثلي في الخامسة والسبعين من عمره، وقد انقطعت علاقاته مع الدنيا ولم يبق من احبابه في الدنيا الاّ خمس من كل سبعين شخص، وتقوم سبعون ألف نسخة من "رسائل النور" بمهمته النورية بكل حرية، وله من الاخوان ومن الورثة من يؤدون وظيفة الإيمان بالاف الالسنة بدلاً من لسان واحد. فالقبر - لمثلي - إذا خير وافضل مائة مرّة من هذا السجن. فضلاً عن ان هذا السجن هو اكثر نفعاً واكثر راحة بمئة مرّة من الحرية المقيّدة  في الخارج، ومن الحياة تحت تحكّم الآخرين وسيطرتهم؛ لأن المرء يستطيع ان يتحمل - مع مئات المساجين - تحكماً من بعض المسؤولين؛ امثال المدير ورئيس الحراس بحكم وظيفتهم، فيجد سلواناً واكراماً اخوياً من اصدقاء كثيرين ممن حوله، بينما يتحمل وحده - في الخارج - سيطرة مئات الموظفين والمسؤولين.

وكذلك فان الرأفة الإسلامية والفطرة البشرية اللتين تسعيان بالرحمة للشيوخ ولا سيما من هم في هذه الحالة، فتبدلان مشقة السجن وعذابه إلى رحمة ايضاً.. لاجل كل ذلك فقد رضيت بالسجن..

وحينما قدمت إلى هذه المحكمة الثالثة جلست على كرسي خارج باب المحكمة لما كنت احسّ من النصب والضيق في الوقوف لشدة ضعفي وشيخوختي ومرضي. وفجاة اتى الحاكم وقال مغاضباً مع اهانة وتحقير: لِمَ لا ينتظر هذا واقفاً؟..

ففار الغضب في اعماقي على انعدام الرحمة للشيب، والتفتُ واذا بجمع غفير من المسلمين قد احتشدوا حولنا ينظرون الينا بعيون ملؤها الرأفة، وقلوب ملؤها الرحمة والاخوة حتى لم يستطع أحد من صرفهم عن هذا التجمع، وهنا وردت إلى القلب هاتان الحقيقتان:

 الحقيقة الأولى  

ان اعدائي، اعداء النور المتسترين قد انساقوا إلى مثل هذه المعاملات المهينة كي يحطموا شخصيتي امام انظار الناس،  ويصرفوا - ما لا ارغبه ابداً - من توجه الناس واقبالهم اليَّ، ظناً منهم انهم يتمكنون بذلك من اقامة سدّ منيع امام  سيل فتوحات النور. فاقنعوا بعض الموظفين الغافلين للقيام بمثل تلك الاعمال. فتجاه تلك الاهانة الصادرة من رجل واحد فقد صرفت العناية الإلهية نظري إلى هؤلاء "المئة" اكراماً منها للخدمة الايمانية التي تقدمها "رسائل النور" وطلابها قائلة. "انظر إلى هؤلاء، فقد أتوا للترحيب بكم لخدمتكم تلك، بقلوب ملأى بالرأفة والحزن والتقدير والارتباط الوثيق".

بل حتى في اليوم الثاني عندما كنت اجيب عن اسئلة حاكم التحقيق؛ احتشد الف من الناس في الساحة المقابلة لنوافذ المقر. كانت حالهم تعبّر عنها ملامح وجوههم ووضعهم وتقول. "لا تضايقوا هؤلاء"- ولشدة ارتباطهم معنا لم تتمكن الشرطة من ان تفرقهم. وعند ذلك ورد إلى القلب.

"ان هؤلاء الناس - في هذا الوقت العصيب - ينشدون سلواناً كاملاً، ونوراً لا ينطفئ، وايماناً راسخاً، وبشارة صادقة بالسعادة الابدية، بل يبحثون عنها بفطرتهم، وقد طرق سمعهم ان ما يبحثون عنه موجود فعلاً في "رسائل النور"، لذا يبدون هذا الاحترام والتقدير لشخصي - الذي لا اهمية له - بما يفوق طاقتي وحدّي من موقع كوني خادماً للايمان،  وعسى ان اكون قد قمت بشئ من الخدمة له."

 الحقيقة الثانية  

لقد ورد إلى القلب. انه حيال اهانتنا والاستخفاف بنا - بحجة اخلالنا بالامن العام للبلد - وازاء صرف اقبال الناس عنا بالمعاملات الدنيئة التي يقوم بها اشخاص معدودون من المغرر بهم.. فان هناك الترحيب الحار والتقدير اللائق لكم من قبل اهل الحقيقة وابناء الجيل القادم. نعم، في الوقت الذي تنشط الفوضى والارهاب المتستر بستار الشيوعية للاخلال بالامن العام، فان طلاب "رسائل النور" - في جميع ارجاء البلاد - يوقفون ذلك الافساد المرعب، ويكسرون شوكته بقوة الإيمان التحقيقي، ويسعون حثيثاً لاحلال الأمن والنظام مكان الخوف والفوضى. فلم تظهر في العشرين السنة السابقة اية حادثة كانت حول اخلالهم بالامن، رغم كثرة "طلاب النور" وانتشارهم في جميع انحاء البلاد، فلم يجد - ولم يسجل - أحد من الضباط المسؤولين اي حدث كان ضدهم، في عشر ولايات - ذات العلاقة - عبر حوالي اربع محاكم، بل لقد قال ضباط منصفون لثلاث ولايات. "ان طلاب النور ضباط أمن معنويون في البلاد، انهم يساعدوننا في الحفاظ على الامن والنظام لما يجعلون كل شخص - يقرأ "رسائل النور" بالايمان التحقيقي - من فكره حارساً ورقيباً عليه فيسعون بذلك إلى الحفاظ على الامن العام".

وسجن "دنيزلي" مثال واضح وانموذج جيد لهذا الكلام، فما ان دخل "طلاب النور" ورسالة "الثمرة" إلى هناك حتى تاب اكثر من مائتين من المسجونين، واصبحوا في طاعة وصلاح وعلى دين، وذلك في غضون ثلاثة اشهر أو تزيد. حتى ان قاتلاً لاكثر من ثلاثة اشخاص كان يتحاشى ان يقتل "بقة الفراش"، فلم يعد عضواً لا ضرر منه فقط، بل اصبح نافعاً رحيماً للبلاد.

فكان الموظفون المسؤولون ينظرون إلى هذا الوضع بحيرة واعجاب، حتى صرّح بعض الشباب قبل ان يستلموا  قرار المحكمة. "اذا لبث طلاب النور في السجن فسنحكم على  انفسنا وندينها  لنظل معهم ونصلح انفسنا بارشاداتهم  ونتتلمذ عليهم لنكون امثالهم". فالذين يتهمون طلاب النور - الذين لهم هذه الخصائص والخصال - بالاخلال بالامن لا محالة قد انخدعوا بشكل مفجع أو خدعوا، أو انهم يغفلون اركان الحكومة على حساب الفوضى والارهاب - من حيث يعلمون أو لا يعلمون - لذا يسعون لابادتنا واقحامنا في العذاب والمشقة.

فنحن نقول لهؤلاء :

"ما دام الموت لا يقتل والقبر لا يغلق بابه، وقوافل البشرية في دار ضيافة الدنيا تغيب وتتوارى تحت التراب بسرعة مذهلة.. فلا مناص إذن من اننا سنفترق في اقرب وقت، وسترون جزاء  ظلمكم بشكل رهيب، وفي الاقل ستذوقون الموت الذي هو رخصة من الحياة عند اهل الإيمان  المظلومين.. ستذوقونه اعداماً ابدياً لكم، فالاذواق الفانية التي تكسبونها بتوهمكم الخلود في الدنيا ستنقلب إلى آلام باقية مؤلمة دائمة.

ان حقيقة  الإسلام التي ظفرت بها هذه الامة المتدينة وحافظت عليها بدماء وسيوف مئة مليون من شهدائها وابطالها المجاهدين الذين هم بمرتبة الاولياء يلصق عليهم اليوم - مع الاسف - اعداؤنا المنافقون المتسترون احياناً اسمَ " الطريقة الصوفية" ليموّهوا على بعض الموظفين السطحيين، وما الطريقة الصوفية الاّ شعاع واحد من اشعة تلك الشمس المنيرة وليست الشمس نفسها.

ويطلقون على "طلاب النور" الذين يسعون بجد ونشاط لابراز حقيقة القرآن والحقائق الايمانية اسم "اهل الطريقة الصوفية" أو "جمعية سياسية" ولا يبغون من ورائها الاّ التشويه والتحريض علينا. فنحن نقول لهؤلاء ولكل من يصغي إليهم قولتنا التي قلناها أمام محكمة "دنيزلي" العادلة.

"إن الحقيقة المقدسة - التي افتدتها مئات الملايين من الرؤوس - فداءٌ لها رأسنا، فلو  أشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً لن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدت الحقيقة القرآنية ولن تسلم القياد للزندقة ولن تتخلى ان شاء الله عن مهمتها المقدسة"([322]) .


الفصل التاسع

 سعيد الثالث

 

اليوم هو عيد "رسائل النور" لقد انتهت وظيفتي.. كنت انتظر مثل هذا اليوم، إذن فسأرحل قريباً

سعيد النورسي

 

      مع خروج الأستاذ "النورسي" من سجن "آفيون" بدأت مرحلة جديدة في حياته، وهي المرحلة التي يطلق عليه فيها اسم "سعيد الثالث"، لأن حياة الأستاذ "النورسي" تقسم إلى مراحل ثلاثة متميزة هي مرحلة "سعيد القديم" ومرحلة "سعيد الجديد" ومرحلة "سعيد الثالث"..

فما هي هذه المراحل، وماذا تعني كل مرحلة منها.. لنعط بعض التفاصيل عنها.

 

 مرحلة "سعيد القديم"

تبدأ هذه المرحلة من ولادته،او بالأصح من السنوات المبكرة لشبابه حتى قدومه منفياً إلى مدينة "بارلا" سنة 1962.

في هذه المرحلة من سنوات عمره المليئة بالأحداث العاصفة، نرى  الأستاذ "النورسي" وهو يجاهد في  سبيل  الإسلام عن طريق الاشتراك الفعلي في غمار السياسة، لذا نراه خطيباً في الساحات وفي الجوامع، ونراه وهو يدبج المقالات السياسية النارية  في الصحف، ويؤلف الرسائل ضد الاستعمار الانكليزي كرسالة "الخطوات الست"، ونراه على صهوة جواده وبيده بندقية وهو يقود المجاهدين من طلابه ضد الغزو الروسي لبلاده، ونراه وهو في معتقل الأسرى في شمالي روسيا أو وهو يقطع المسافات الطويلة بين الثلوج ويعبر الأنهار المتجمدة في النهار  وسائراً في الليل هارباً من الأسر، أي نراه في هذه الفترة وهو يحاول خدمة  الإسلام وإصلاح حال الأمة الإسلامية من قمة الهرم، فهذا هو الطريق الأسرع والأقرب والأكثر فاعلية..

كان هذا هو رأيه واجتهاده في هذه المرحلة من حياته.

ولكن نرى انه في نهاية هذه المرحلة تولد عنده نفور قوي من هذا الطراز من النشاط والكفاح، ولكن هذا الانتقال من هذه المرحلة إلى المرحلة الثانية لم يحدث فجأة بل مر الأستاذ من مرحلة انتقالية تقارب تسع سنوات وذلك اعتباراً من السنة الأخيرة من أسره في روسيا "سنة 1917" وحتى نفيه إلى مدينة "بارلا" سنة 1926، وان تخللت هذه الفترة بعض الفترات التي عاد للاشتغال فيها في السياسة، لاسيما في مواجهة الإنكليز عندما احتلوا "استانبول" وفي "أنقرة" عندما وقف ليصد تيار الانحراف عن الإسلام.

ولكنه تأكد في الفترة الأخيرة التي قضاها في" أنقرة" استحالة إنجاز أي شئ يعتد به عن طريق العمل السياسي في تلك الظروف القاتمة والعواصف الهوجاء التي زلزلت كيان الأمة زلزالاً عنيفاً، فذهب إلى مدينة "وان" حيث تفرغ للتدريس وللعبادة وللتأمل.

 

 المرحلة الثانية .."سعيد الجديد"

ويطلق الأستاذ على نفسه في هذه المرحلة اسم "سعيد الجديد". وتبدأ هذه المرحلة من وصوله منفياً إلى مدينة "بارلا" سنة 1926 وحتى خروجه من سجن "آفيون" سنة 1949.

في هذه الفترة اخذ الأستاذ "النورسي" على عاتقه اشق واجب واهم وظيفة.. واجب "إنقاذ الإيمان" في تلك الظروف الحالكة، وطلق الحياة السياسية تحت شعاره المعروف. "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة"، فقد رأى انه لا مجال هناك ابداً لخدمة  الإسلام  بالعمل السياسي ولا فائدة منه، وعليه أن يبدأ العمل من الأساس .. من القاعدة وليس من القمة.. فعليه أن يرسي الأساس الصحيح الثابت القوي، لذا ركز جهوده لبناء العقيدة والإيمان. فكل بناء إسلامي لم يتوفر له أساس صلب وقوي وصحيح من العقيدة؛ فهو بناء هش وضعيف معرض للسقوط أو للانحراف .

ثم إن اتباعه هذا الأسلوب من العمل - إضافة على انه لم يكن أمامه خيار آخر وهو في المنفى - يسّر له أمرين مهمين:

الأول: إن هذا الأسلوب من العمل أسلوب صامت وهادئ لا يثير جلبة وضوضاء،مما يُبعد عنه أنظار السلطة الحاكمة التي لم تنتبه فعلاً إلى ما يقوم به هذا الشخص الوحيد المنفي إلى بلدة صغيرة الاّ بعد أن انتشرت دعوته ورسائله انتشاراً استحال عليها الوقوف أمامها أو حصرها وخنقها.

والأمر الثاني؛ انه فوت على السلطة الحاكمة وسحب من يدها أية حجة قانونية لمحاربة نشاطه، فمع انه قدم هو وطلابه إلى المحاكم مرات عديدة إلا أن النتيجة كانت دائماً؛ إما التبرئة، أو الحكم بمدد قصيرة، لأن اقتصار "رسائل النور" على تناول مباحث الإيمان بالله وباليوم الآخر وشرح معاني القران الكريم وخلوها من أية معارضة سياسة أو تحريض سياسي  أو محاولة لإنشاء حزب سياسي.. هذا الوضوح في اقتصار "رسائل النور" على المباحث الإيمانية، كان يسحب من أيدي  السلطة الحاكمة أي مسوغ قانوني للقسوة على طلاب رسائل النور وقلع هذه الحركة من جذورها بوسائل البطش والإرهاب.

وفي إحدى رسائله في "المكتوبات" نرى الأستاذ  "النورسي" يشرح السبب في تركه ميدان السياسة بعد أن كان من انشط العاملين فيها فيقول.

"لقد خاض "سعيد القديم" غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته أدراج الرياح، إذ رأى أن تلك الطريق ذات مشاكل ومشكوك فيها، وان التدخل فيها فضول - بالنسبة اليّ - فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب، وهي ذات خطورة وان اغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال أن يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون ان يشعر، وكذلك فان الذي يخوض غمار السياسة إما أن يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فان كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة لي فضول ولا يعنيني بشيء، حيث إنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى - عندئذٍ - لممارستي الأمور السياسية، وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة فلا بد أن أتدخل - في حينه - إما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة، فان كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة اليّ ايضاً، لأن الأمور واضحة جداً فالجميع يعرفون المسائل مثلي فلا داعي للثرثرة، وان كان التدخل بالقوة، أي بأن اظهر المعارضة لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه بإحداث المشاكل، فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار حيث يبتلى الكثيرون بجريرة شخص واحد، فلا يرضى وجداني  الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناءً على احتمال أو احتمالين من بين عشرة احتمالات، لاجل هذا فان "سعيداً القديم" قد ترك السياسة ومجالسها الدنيوية كما ترك السيجارة وقراءة الجرائد".([323])

 

 المرحلة الثالثة .. "سعيد الثالث"

تبدأ هذه المرحلة من خروج الأستاذ "النورسي" من سجن "آفيون سنة 1949وحتى وفاته عام 1960.

تتميز هذه المرحلة بانها كانت استجابة للتطورات السياسية في "تركيا"، إذ تم فيها السماح بتكوين الاحزاب السياسية واصدار الجرائد التي تدافع عن افكارها ومناهجها بعد أن كان حكم الحزب  الواحد، وهو "حزب الشعب الجمهوري" - الذي ألفه "مصطفى كمال" وخلفه فيه "عصمت اينونو" - هو الحكم السائد طوال ربع قرن تقريباً حورب فيه  الإسلام محاربة شديدة. إذن فقد تغير الوضع، واصبح بمقدور الشعب ان يتنفس وان يؤلف احزاباً أخرى وان يتململ من القيود السابقة، وكان "الحزب الديمقراطي"- الذي ألفه "جلال بايار" و "عدنان مندرس" مع آخرين - أقوى حزب معارض، وفعلاً فاز في الانتخابات التي جرت عام 1950 فوزاً ساحقاً، وأصبح "جلال بايار" رئيساً للجمهورية و "عدنان مندرس" رئيساً للوزارة.

نرى ان  "سعيداً الثالث" في هذه الفترة يرسل الرسائل إلى السياسيين والى رجال الحكم ينصحهم فيها باتباع الشرع والاسترشاد بالاسلام الذي هو الحل الصحيح لكل مشاكل الأمة والطريق الوحيد السليم، أي انه لم يدخل دائرة العمل السياسي وساحة الصراعات السياسية بل بقى خارجها يرقبها ويدلي بنصائحه لرجال الحكم.

وشيء آخر جديد في هذه الفترة وهو قيامه بالتدريس الجماعي لـ "رسائل النور" التي بدأت تطبع بأعداد كبيرة اعتماداً على قرارات المحاكم بتبرئة ساحتها من أي جرم، ولكن العمل الرئيسي والنشاط الأساس للأستاذ بقي كالسابق منصباً على الإرشاد وعلى محاولة إنقاذ الإيمان والدفاع عنه وتوضيحه وردّ الشبهات المثارة حوله والإجابة عن الأسئلة المحيرة التي تراود النفوس، وتذكير الناس بالآخرة، وكان أهم نصيحة يقدمها لطلابه هو الاهتمام بـ "العمل الإيجابي البناء" وعدم الانشغال بالأمور السلبية، أي الاهتمام بالبناء أولاً وليس بالهدم، وعدم صرف جهودهم إلى أمور جانبية وهامشية غير مثمرة، كي يظفر المرء في عمله بالإخلاص، وقد لخص ذلك لهم في رسالة "الإخلاص" كما يأتي.

"1- العمل الإيجابي البناء، وهو عمل المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب من دون أن يرد إلى تفكيره - أو يتدخل في علمه - عداء الآخرين أو التهوين من شأنهم، أي لا ينشغل بهم أصلاً.

2- بل عليه أن يتحرى الروابط الكثيرة التي تربط المشارب المعروضة في ساحة  الإسلام - مهما كان نوعها - والتي ستكون منابع محبة ووسائل وفاق واتفاق فيما بينها.

3- اتخاذ دستور الإنصاف دليلاً ومرشداً، وهو: إن صاحب كل مسلك حق يستطيع القول:"إن مسلكي حق وهو أفضل ما أراه واجمل" من دون أن يتدخل في أمر مسالك الآخرين، ولكن لا يجوز له أن يقول:

"الحق هو مسلكي فحسب" أو "إن الحسن والجمال في مسلكي وحده" الذي يقضي على بطلان المسالك الأخرى وفسادها.

4- العلم بأن الاتفاق مع أهل الحق هو  أحد وسائل التوفيق الإلهي واحد منابع العزة الإسلامية.

5- الحفاظ على الحق والعدل بإيجاد شخص معنوي، وذلك بالاتفاق مع أهل الحق للوقوف تجاه أهل الضلالة والباطل الذين أخذوا يغيرون بدهاء شخص معنوي قوي على أهل الحق - بما يتمتعون به من تساند واتفاق - ثم الادراك بأن أية مقاومة فردية - مهما كانت قوية - مغلوبة على امرها تجاه ذلك الشخص المعنوي للضلالة.

6- ولأجل إنقاذ الحق من صولة الباطل.

7- ترك غرور النفس وحظوظها.

8- وترك ما يتصور خطأ انه من العزة والكرامة.

9- وترك دواعي الحسد والمنافسة والأحاسيس النفسانية التافهة.([324])

ولكن ماذا كان رأيه في المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة حكم إسلامي؟.

كان الأستاذ "النورسي" يؤمن بقاعدة التدرج لأنه قانون الهي في الكون وفي المجتمع، والذين يتعجلون قطف الثمار قبل نضوجها يصابون بخيبة أمل ويهدرون جهوداً ثمينة ويضيعون فرصاً قيمة.

ومما قاله في التدرج.

"مثلما يترتب وجود الخبز على أعمال تتم في المزرعة والبيدر والطاحونة والفرن، فان ترتب الأشياء كذلك يقترن بحكمة التأني والتدرج، ولكن الحريص - بسبب حرصه -  لا يتأنى في حركاته ولا يراعي الدرجات والمراتب المعنوية الموجودة في ترتب الأشياء، فإما أنه يقفز ويطفر فيسقط، أو يدع إحدى المراتب ناقصاً فلا يرقى إلى غايته المقصودة".([325])

فهو يطالب بحكم إسلامي في المرحلة الأخيرة وعندما تكون هناك قاعدة إسلامية تمثل أغلبية الشعب تطالب بهذا الحكم عن إيمان ونتيجة فهم تام وهو يحدد هذه النسبة فيقول يجب ألاّ تقل عن "60٪ - 70٪". وهو لا يرى العلاج في الوصول إلى إقامة  حكم  إسلامي نتيجة انقلاب أو باستعمال أي نوع من الإكراه والقوة، فهو يقول.

"إن اعظم خطر على المسلمين في هذا الزمان هو فساد القلوب وتزعزع الإيمان بضلال قادم من الفلسفة والعلوم. وان العلاج الوحيد لإصلاح القلب وإنقاذ الإيمان إنما هو النور وإراءة هذا النور، فلو عمل بهراوة السياسة وصولجانها، وأحرز النصر تدنى أولئك الكفار إلى درك المنافقين. والمنافق  - كما هو معلوم - اشد خطراًً من أولئك  الكفار  وافسد منه. فصولجان السياسة إذن لا يصلح القلوب في مثل هذا الوقت، حيث ينـزل الكفر إلى أعماق القلب ويتستر هناك وينقلب نفاقاً.

ثم إن شخصاً عاجراً مثلي لا يمكنه أن يستعمل النور والهراوة معاً في هذا الوقت، لذا فأنا مضطر إلى الاعتصام بالنور بما املك من قوة، فيلزم  عدم الالتفات إلى هراوة السياسة. اما ما يقتضيه الجهاد المادي فتلك الوظيفة ليست مناطة بنا حالياً.

نعم .. إن الهراوة ضرورية - حسب أهله - لوقف تجاوز الكافر أو المرتد عند حدّه، ولكن لا نملك سوى يدين، بل لو كانت لنا مئة من الأيدي فما كانت تكفي إلاّ للنور، فلا يد لنا  تمسك  بهراوة السياسة.([326]) إذن فهو يرى عدم إقامة الحكم الإسلامي باستعمال الهراوة أي باستعمال القوة، بل يجب أن يتم  ذلك بعد إرشاد الناس وتكوين قاعدة سليمة وصلبة تكّون أكثرية الشعب تطالب بهذا  الحكم، وكان يرى أن الوضع السياسي في وقته لم يكن مساعداً لمثل هذه المطالبة.

فهو عندما يحلل الأحزاب السياسية في وقته وهي : حزب الشعب، والحزب الديمقراطي، والحزب المليّ. ثم يذكر الشعب المسلم الذي يطلق عليه اسم "حزب الاتحاد الإسلامي"، فيقول عنه.

"أن حز ب الاتحاد الإسلامي يستطيع أن يأتي ويأخذ بناصية الحكم بشرط ان يكون "60٪  70٪"  منه تام التدين بحيث لا يسعى إلى استغلال الدين من اجل السياسة، بل ربما يسخّر السياسة من اجل الدين، ولكن نظراًِ لأن التربية الإسلامية أصابها الوهن  والضعف والخلل منذ زمن بعيد فانه يضطر إلى استغلال  الدين في أمور السياسة لمجابهة جرائم وشرور السياسة الحالية، لذا يجب ألاّ يأتي هذا الحزب إلى الحكم حالياً.([327])

ويذكر في  موضع آخر ترجيحه سلوك طريق الإرشاد وعدم التورط في استعمال القوة أو حسب تعبيره عدم استعمال المطرقة؛ لنستمع  إليه وهو يقول:

"إن الحياة البشرية ما هي إلاّ كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان، ان طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم إلى  مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها، فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في أوحال ملوثة منتنة.

ولكن  قسماً منها يمضون في طريق آمنة.

وقسم آخر قد وجدوا بعض الوسائل  لتنجيهم - قدر المستطاع - من الوحل والمستنقع.

وقسم آخر - وهم الأغلبية - يمضون وسط ذلك المستنقع المتوحل  المتسخ..

فالعشرون من المئة من هؤلاء يلطخون وجوههم واعينهم بذلك الوحل القذر ظناً منهم انه المسك والعنبر، بسبب سُكرهم. فتارة يقومون واخرى يقعون وهكذا يمضون حتى يغرقون.

أما الثمانون من المئة، فهم يعلمون حقيقة المستنقع ويتحسسون عفونته وقذارته، إلاّ انهم حائرون.. إذ  يعجزون عن رؤية الطريق الآمنة.

وهكذا فهناك علاجان اثنان إزاء هؤلاء.

أولهما : إيقاظ العشرين منهم المخمورين بالمطرقة.

وثانيهما: اراءة طريق الأمان والخلاص للحائرين بإظهار نور لهم "أي بالإرشاد".

والذي أراه؛ أن هناك ثمانين رجلاً يمسكون بالمطرقة بأيديهم تجاه العشرين، بينما يظل أولئك الثمانون الحائرون البائسون دون أن يبصروا النور الحق..

وحتى لو ابصروا فان هؤلاء لكونهم يحملون في أيديهم عصا ونوراً معاً فلا يوثق بهم..

 فيحاور الحائر نفسه في قلق واضطراب. تُرى أيريد هذا  ان يستدرجني بالنور ليضربني بالمطرقة؟.

ثم حينما تتحطم المطرقة بالعوارض احياناً، يذهب ذلك النور ايضاً ادراج الرياح أو ينطفئ.

وهكذا، فذلك المستنقع هو الحياة الاجتماعية البشرية العابثة الملوثة بالغفلة الملطخة بالضلالة،.

وأولئك المخمورون هم المتمردون الذين يتلذذون بالضلالة.

وأولئك الحائرون هم الذين يشمئزون من الضلالة ولكنهم لا يستطيعون الخروج  منها، فهم يريدون الخلاص ولكنهم لا يهتدون سبيلاً.. فهم حائرون. أما تلك المطارق فهي التيارات السياسية. واما تلك الأنوار فهي حقائق القرآن..

فالنور لا تُثار حياله الضجة ولا يقابل بالعداء قطعاً، ولا ينفر منه الاّ الشيطان الرجيم.

ولذلك قلت: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" لكي أحافظ على نور القرآن، فاعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقياً مطرقة السياسة جانباً.

ورأيت أن في جميع التيارات السياسية - سواءً الموافقة منها أو المخالفة - عشاقاً لذلك النور .

فالدرس القرآني الذي يلقى من موقع طاهر زكي مبرأ من تلقيات جميع التيارات السياسية والانحيازات المغرضة، ويرشد  إليه من مقام ارفع وأسمى منها جميعاً، ينبغي الاّ يحجم عنه أي طرف كان، ولا يكون موضع شبهة أي قسم كان. اللهم الاّ أولئك الذين يظنون الكفر والزندقة سياسة فينحازون إليها وهؤلاء هم شياطين في صورة أناس أو حيوانات في أجساد بشر.

وبسبب تجردي من التيارات السياسية لم  ابخس والحمد لله قيمة حقائق القرآن التي هي أثمن من الألماس ولم اجعلها بتفاهة قطع زجاجية بتهمة الدعاية السياسية. بل تزيد تلك الجواهر القرآنية قيمتها وتتألق اكثر أمام أنظار كل طائفة على مرّ الأيام.([328])

 

 سنواته الأخيرة 1950- 1960

بعد خروجه من سجن "آفيون" قضى الأستاذ "النورسي" شهرين في بيت في "آفيون"، وكالعادة فقد كانت الشرطة تراقب بيته ليلاً ونهاراً وتراقب طلابه وزواره. إذ أشاعوا حوله جواً من الإرهاب والخوف بحيث امتنع كثير من معارفه ومحبيه وقارئي "رسائل النور" أو الراغبين في رؤيته والسامعين بشهرته عن زيارته تجنباً للإزعاج الذي سيتعرض له من قبل السلطة.

وانتهز "طلاب النور" قرار المحكمة  بتبرئة  "رسائل النور" وأنها لا تتضمن أي مساس بالسياسة أو بنظام الحكم ولا على أي شئ ضد القانون، فبدأوا في أول الأمر بطبع هذه الرسائل على جهاز الرونيو بآلاف  النسخ، وشمروا عن سواعدهم لنشرها في جميع مدن تركيا واقضيتها ونواحيها وقراها، وبدأت "رسائل النور" تقرأ علانية ودون خوف أو وجل ودون الحاجة إلى إخفائها في المخابئ. ولما كانت السلطة الحاكمة آنذاك "وهي حكومة حزب الشعب الجمهوري" لا تشجع بل في أحيان كثيرة لا تسمح بطبع المؤلفات الإسلامية "خوفاً من انبعاث الرجعية بزعمهم" فان "رسائل النور" أصبحت وكأنها الماء السلسبيل لري عطش الناس الذين طال بهم الظمأ والشوق إلى قراءة مثل هذه الكتب، فأصبحت النسخة الواحدة من أية رسالة من "رسائل النور" تتداولها  الأيدي ويقرؤها العديدون، فتروي غليلهم وتقوي إيمانهم وتزيل شكوكهم، وتجيب عن الشبهات التي كان يثيرها المتشككون والملحدون الذين كانوا قد قبضوا  على دفة الصحافة والكتابة. كما أن المحاكم العديدة التي عقدت لمحاكمة "النورسي" وطلاب رسائل النور أثارت انتباه الناس إلى  هذه الحركة وجلبت عطفهم عليهم وإعجابهم بثباتهم وإخلاصهم، فاخذوا يتابعون هذه المحاكم ويحضرون جلساتها ويستمعون إلى مرافعات الأستاذ "النورسي" والى مرافعات طلابه فيزدادون اعجاباً بهم، ويزدادون معرفة بالوجه الحقيقي وبالسبب الحقيقي الكامن وراء هذه المحاكم وهو الصراع بين دعاة  الإسلام وبين أعدائه أي أن الموضوع هو الصراع بين الإيمان وبين الكفر، وان الأخبار الواردة في الصحف التي تساير الحكومة وتطبل لها حول وجود  مؤامرات ... الخ. ليست إلا أخبار كاذبة وملفقة. وكانت مرافعات الأستاذ تسجل وتطبع وتوزع سراً بين طلابه اولاً ثم منهم إلى أصدقائهم ومعارفهم .. هكذا كانت دوائر تأثير  المحاكم تتوسع وتنتشر، هذا زيادة على أن السجون وجلسات المحاكم كانت فرصة جيدة لتعارف طلاب النور "الآتين من مختلف المدن والقرى" فيما بينهم، فيزدادون تآلفاً ومحبة، وتنعقد بينهم صداقات عمر، وتتوزع بينهم الأعمال لنشر "رسائل النور".

شئ آخر تبدل في هذه الفترة من حياة الأستاذ "النورسي"  وهو انه كان في السابق يبيت وحيداً ويقفل باب بيته اعتباراً من ساعة العشاء وحتى صلاة الفجر لليوم التالي، ولكنه الآن اصبح متقدماً في العمر ويحتاج إلى رعاية والى خدمة. لذا اصبح بعض طلابه يبيتون في إحدى غرف البيت حيث يسهرون على راحته ويقضون حاجاته، ولكنهم لا يدخلون غرفته إلا إذا طلبهم واستدعاهم.

 الحزب الديمقراطي في الحكم "1950"

في 14 مايس سنة 1950 وصل "الحزب الديمقراطي " إلى الحكم بعد فوزه الكاسح في الانتخابات على "حزب الشعب" الذي قاسى منه الشعب مدة ربع قرن تقريباً .. وعندما وجد الفرصة السانحة لإبداء رأيه - بعد السماح بتعدد الأحزاب - سحب كرسي الحكم من تحته واتى بالحزب المعارض له إلى الحكم..

ومع أن الحزب الديمقراطي لم يكن حزباً يحمل المفاهيم الإسلامية ويسعى إلى تحقيقها،  إلا أن المسلمين آزروه وأيدوه لأنه وفّر لهم قبل كل شئ جواً من الحرية ومن الاطمئنان، ولم  يبد أي عداء للإسلام، كما انه ارجع الأذان الشرعي، وعندما دوى صوت الأذان باللغة العربية بعد سنين طويلة من المنع،  وبعد سنين طويلة من الشوق والحنين إليه.. خرج الناس إلى الشرفات وهم يبكون من الفرح ومن الشوق، فكأن حبيباً رجع إليهم من بعد طول غيبة..

كما قام هذا الحزب بفتح مدارس الأئمة والخطباء وادخل دروس الدين إلى المدارس كدرس اختياري، وكان تدريس الدين ممنوعاً من قبل .....

كان الأستاذ "النورسي" من بين الذين استبشروا بزوال الحزب المعادي للإسلام، ومجيء حزب آخر يحترم  الإسلام ولا يعاديه، لذا نراه يرسل برقية التهنئة الآتية إلى رئيس الجمهورية الجديد "جلال بايار".

جلال بايار

 رئيس الجمهورية

نهنئكم وندعو من الله تعالى أن يوفقكم لخدمة  الإسلام والوطن والامة.

عن طلاب النور    سعيد النورسي

   

بعد أن أملى الأستاذ "النورسي" هذه البرقية على طلابه التفت إلى طالبه "زبير كوندوزآلب" الذي كان من أقرب الطلاب إلى قلبه قائلاً له:

- أتدري لِمَ  اُرسل هذه البرقية؟

تطلع  إليه تلميذه بنظرات متسائلة دون ان يحير جواباً.

فقال "النورسي": إنني أرسل هذه البرقية لأنني اعلم بأن أعضاء "حزب الشعب" سيقولون لأنصار "الحزب الديمقراطي":

"صحيح أن سعيداً ليس معنا، ولكنه في الوقت نفسه ليس معكم كذلك، لأن له غاية أخرى وهدفاً آخر".. ويحرضونهم بهذا الكلام ويدفعونهم إلى استعمال سلطة الدولة وقوتها ضد المتدينين وضد طلاب النور، فعندما يستلم الديمقراطيون هذه البرقية سيقولون لهم:

"إن سعيداً صديقنا".. وبذلك لن يستعملوا سطوة الدولة بشكل خاطئ ضد المتدينين.

وأرسل رئيس الجمهورية هذه البرقية الجوابية.

بديع الزمان سعيد النورسي

أميرداغ

أشكركم على تهنئتكهم القلبية التي أسعدتنا كثيراً.

جلال بايار .([329])

 

 سنة 1951م

في هذه السنة قام "طلاب النور" بإرسال نسخ من "رسائل النور" إلى مختلف المراكز الثقافية والتوجيهية في العالم ومن ضمنها "الفاتيكان" ([330])وبعد فترة جاءت رسائل الشكر من هذه المراكز.

وندرج أدناه الرسالة الجوابية التي وردت من "الفاتيكان".

 الفاتيكان

رقم ٧٤٢٢٣٢

22 شباط 1951

سيدي..

تلقينا كتابكم المخطوط الجميل "ذو الفقار".([331]) بوساطة وكالة مقام الپاپوية في استانبول وتم تقديمه إلى حضرة الپاپا الذي رجانا أن نبلغكم بالغ سروره من هذه الالتفاتة الكريمة منكم، ودعواته من الله عز وجل أن يشملكم بلطفه وفضله. ونحن ننتهز هذه الفرصة لنبلغكم احتراماتنا.

رئاسة سكرتارية الفاتيكان.([332])

بعد أن قضى "النورسي" سنتين في "اميرداغ" توجه إلى مدينة"اسكي شهر" في شهر أيلول سنة 1951، حيث أقام فيها في فندق "يلدز" مدة شهر ونصف الشهر.

في هذه المدينة كتب رسالة إلى "طلاب النور" تناول فيها الحكمة والسر وراء ما لاقاه طوال هذه السنوات الطويلة من الأذى والظلم، وقد نشرت رسالته هذه في  مجلة "سبيل الرشاد" الإسلامية لأول مرة، وندرج ترجمة هذه المقالة القيمة التي كانت تحت عنوان. "الحقيقة هي التي تتكلم".

"لقد أثبتت "رسائل النور" انه قد تنبثق عدالة من بين طيات الظلم. أي قد يتعرض أحدهم إلى الظلم والى الحيف فتصيبه نكبة، وقد يحكم عليه بالحبس ويرمى به في غياهب السجون.. لاشك أن مثل هذا الحكم ظلم واضح، ولكنه قد يكون سبباً لتجلي وظهور العدالة، لأن القدر الإلهي قد يستخدم الظالم لتوجيه العقوبة إلى شخص استحقها بسبب آخر وهذا نوع من أنواع تجلي العدالة الإلهية.

وأنا الآن أفكر.. لِمَ اُساق من محكمة إلى محكمة، ومن ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى طوال "28" عاماً؟ وما التهمة الموجهة اليّ من قبل من ارتضوا لأنفسهم معاملتي بكل هذا التعذيب الظالم؟ أليست هي تهمة استغلال الدين في سبيل السياسة؟ ولكن لِمَ لا يستطيعون إثبات ذلك؟.. ذلك لأنه لا يوجد أي شيء من هذا القبيل في الحقيقة وفي الواقع، فهذه محكمة تقضي الشهور والسنوات في محاولة الحصول على أي دليل يدينني فلا تستطيع، واذا بمحكمة أخرى تسوقني للتحقيق وللمحاكمة تحت التهمة نفسها وتقضي بدورها مدة في هذه المحاولة وفي الضغط عليّ وتعرضني لأنواع شتى من التعذيب، وعندما لا تحصل على أية نتيجة تتركني، واذا بمحكمة ثالثة تمسك بخناقي هذه المرة.. وهكذا انتقل من مصيبة إلى مصيبة، ومن نكبة إلى اُخرى، لقد انقضى من عمري "28" سنة على هذا المنوال، واخيراً أيقنوا عدم وجود أي نصيب من الصحة للتهم المسندة اليَّ ؛ واني أتساءَل:

وسواء أكان ذلك قصداً أو وهماً فإنني أعلم علم اليقين عدم وجود أية علاقة لي بهذه التهمة، كما أن جميع أهل الإنصاف يعرفون بأنني لست بالرجل الذي استغل الدين لغاية سياسية، بل إن الذين وجهوا اليّ هذه التهمة يعرفون ذلك في قرارة نفوسهم.

إذن فما السبب في إصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيت معرضاً على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئاً ودون أي ذنب؟ ولماذا لم استطع التخلص من هذه المصائب؟ ألم تكن هذه الأحوال مخالفة للعدالة الإلهية؟

لقد بحثت عن أجوبة لهذه الاسئلة خلال ربع قرن من الزمن فلم اُوفق في ذلك. ولكني الآن عرفت السبب الحقيقي في قيامهم بظلمي وتعذيبي. وانا أقول وكلي أسف:

ان ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي والكمالات الروحية. والآن بدأتُ اُفهم هذا وأحسه تماماً، وأنا اشكر الله تعالى آلاف المرات لأنه طوال سنوات طويلة وضعت موانع معنوية وقوية جداً خارج إرادتي لكي لا اتخذ خدماتي الإيمانية وسيلة للترقيات المادية والمعنوية أو من أجل الخلاص من العذاب ومن جهنم أو حتى من أجل سعادتي الأبدية أو من أجل أية غاية أخرى.

لقد أذهلتني هذه الأحاسيس الداخلية العميقة والخواطر الإلهامية، فبينما نرى ان كل فرد له الحق في اكتساب المقامات التي يعشقها، وفي نيل السعادة الأخروية عن طريق الأعمال الصالحة، هذا زيادة على انه لا ينتج أي ضرر لأي أحد، ومع هذا فقد رأيت انني اُمنع - روحياً وقلبياً - من هذه الأحوال ومن سلوك هذا الطريق. وكان واضحاً أن عليّ ألاّ أهتم - بجانب الفوز بالرضى الإلهي - إلا بواجب خدمة الإيمان. لأن الزمن الحالي يحتاج إلى اعطاء نوع من الدرس القرآني الذي لا يكون في خدمة أي غرض آخر للذين لم يتوصلوا بفطرة العبودية الموجودة في أنفسهم إلى الحقائق الإيمانية التي هي فوق كل شيء، والى الذين هم بحاجة إلى فهم هذه الحقائق وذلك بأسلوب مؤثر، بحيث يستطيع إنقاذ الإيمان في مثل دنيا الاضطراب هذه التي اختلطت فيها الأمور، ويستطيع إقناع حتى المعاندين وبعث الطمأنينة في نفوسهم، وبذلك يستطيع قصم ظهر الكفر المطلق والضلال المتمرد والمعاند وبذلك يهب القناعة الكاملة للجميع.

ولا تحصل مثل هذه القناعة في الظروف الحالية الاّ عندما يكون الدين بعيداً عن كونه وسيلة لأية غاية شخصية أو دنيوية أو أخروية، مادية كانت أو معنوية. وإذا لم يتحقق هذا فان أي شخص يقف تجاه التيار الرهيب - المتولد من التخريب والجمعيات السرية - ضد الدين عاجزاً مهما بلغ من المراتب المعنوية لأنه لا يستطيع إزالة كل الشكوك والوساوس. ذلك لأن النفس الأمارة بالسوء للشخص المعاند الذي يرغب في الدخول إلى حلقة الإيمان ستقول له:"إن ذلك الشخص زين لنا هذا بدهائه وبمستواه الرفيع واستطاع بهذا إقناعنا".. يقول هذا ويبقى الشك في داخله.

لذا فَتحت تهمة القيام باستغلال الدين في السياسة قام القدر الإلهي - الذي هو العدل المحض - طوال ثماني وعشرين سنة بمنعي من جعل الدين - دون علمي ودون إرادة مني - آلة لأي غرض شخصي وذلك باستخدام الأيدي الظالمة للبشر في توجيه الصفعات لي وفي تذكيري وتنبيهي.. هذه الصفعات التي كانت عدلاً محضاً وتحذرني قائلة: إياك إياك..!! أن تجعل الحقائق الإيمانية آلة لشخصك، وذلك لكي يعلم الذين هم بحاجة إلى أن الحقائق وحدها هي التي تتكلم، ولكي لا تبقى هناك أوهام النفس ودسائس الشيطان، بل تخرس وتصمت.

هذا هو سر تأثير "رسائل النور" في إشعال الحماس في القلوب وفي الأرواح كالأمواج في البحار الواسعة. وهذا هو سر تأثيرها في القلوب وفي الأرواح وليس شيئاً غيره. ومع أن هناك آلاف من العلماء سجلوا الحقائق التي تتحدث عنها "رسائل النور" في مئات الآلاف من الكتب، والتي هي أكثر بلاغة من كتب النور، لم تستطع إيقاف الكفر البواح. فإذ كانت "رسائل النور" قد وفقت إلى حدّ ما في مقارعة الكفر البواح تحت هذه الظروف القاسية، فقد كان هذا هو سر هذا النجاح.. ففي هذا الموضوع لا وجود لـ "سعيد"، ولا وجود لقابلية "سعيد" وقدرته، فالحقيقة هي التي تتحدث عن نفسها.. الحقيقة الإيمانية هي التي تتحدث.

وما دامت "رسائل النور" تؤثر في القلوب العطشى إلى الإيمان والى نور الحقائق، إذن يُفدّى ليس "سعيد" واحد بل ألف "سعيد". وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً، أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يصموني بمختلف التهم والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنـزانات فقد غفرت لهم ذلك وتنازلت عن حقوقي تجاههم.

وأقول للقدر العادل: إنني كنت مستحقاً لصفعاتك العادلة لانني سلكت مثل الآخرين طريقاً - هي بذاتها مشروعة ولا ضرر منها - فكرت فيها بشخصي، ولو لم أضح بمشاعري في الفيوضات المادية والمعنوية، لفقدت هذه القوة المعنوية الكبيرة في أثناء تأدية خدماتي من أجل الحفاظ على الإيمان. لقد ضحيت بكل شيء وتحملت كل أذى، وبذلك انتشرت الحقائق الإيمانية في كل مكان، ونشأ مئات الآلاف - بل ربما الملايين - من طلاب مدرسة النور ونهلوا من معارفها. وهؤلاء هم الذين سيستمرون في هذه الطريق في خدمة الإيمان، ولن يحيدوا عن طريقتي في التضحية بكل شيء مادياً كان أو معنوياً، إذ سيكون سعيهم لله سبحانه وتعالى فقط دون غيره.

ان الذين آذونا وعذبونا، ساعدوا على نشر الحقائق الإيمانية دون أن يدركوا تجليات أسرار القدر الإلهي..

ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي التمني لهم بالهداية.. انني مريض جداً.. لا طاقة لي لا في الكتابة ولا في الحديث..

وقد يكون هذا آخر أقوالي.. فعلى طلاب رسائل النور لمدرسة الزهراء الاّ ينسوا وصيتي هذه".([333])

وفي أثناء إقامة الأستاذ "النورسي" في مدينة "اسكي شهر" بدأ الناس من كل الأصناف يزورونه أفواجاً أفواجاً فيلقي عليهم الدروس الإيمانية ويوصيهم بقراءة "رسائل النور".

وفي أحد الأيام زاره عدد من عمال معمل السكر في المدينة وعدد من رؤساء العمال والفنيين فقال لهم.

"بما أنكم تقومون بإنتاج منتوج مهم وضروري بالنسبة للأهالي فان جميع أعمالكم في المصنع ستعد عبادة بشرط أن تؤدوا ما عليكم من فريضة الصلاة".([334])

وقال لعدد من زواره من الطيارين والضباط والجنود:

"ستؤدي هذه الطائرات خدمة عظمى للإسلام، فإذا أديتم فريضة الصلاة، وقمتم بقضاء الصلاة عندما لا تستطيعون الصلاة في وقتها، فان ساعة واحدة تقضونها جنوداً تعادل عبادة عشر ساعات، اما جنود القوة الجوية فان الساعة الواحدة ستعادل ثلاثين ساعة من العبادة بشرط ان يوجد في قلوبكم نور الإيمان، وان يقترن هذا الإيمان بما يوجبه من أداء الصلاة".([335])

 

 اسپارطة

وفي شهر كانون الأول لسنة  1951 سافر "النورسي" إلى مدينة "اسپارطة" حيث بقي فيها شهرين تقريباً. في هذه الأثناء كان طلاب النور الجامعيون قد طبعوا رسالة "مرشد الشباب" بالحروف التركية الجديدة "اي بالحروف اللاتينية" فقامت قيامة الجهات المعادية للإسلام.. إذ كيف يجوز للنورسي دعوة الشباب للالتزام باركان الدين الإسلامي؟ ولماذا يدعو هذا الشباب المتفرنج الذين يُعّدون - حسب تعبيرهم - حماة الجمهورية؟.. كيف يدعوهم إلى  الإسلام الذي أهالوا عليه التراب  وظنوا انه انتهى ومات؟.. وما بال قسم من الشباب الجامعي يقبل على قراءة هذه الرسائل ويتأثر بها ويغير اسلوب حياته تبعاً لها؟..

لذا سرعان ما أقيمت دعوى ضد "النورسي" متهمة إياه بالإخلال بالمادة رقم "163" من الدستور التركي وهي المادة  التي تعاقب كل من يدعو إلى اقامة الدولة على أسس دينية.

لذا فلم يكن امام هذا الشيخ الذي اقترب عمره من الثمانين الاّ شدَّ الرحال إلى استانبول في الشتاء القارس لسنة 1952 "اذ سافر إليها في شهر كانون الثاني من ذلك العام".

 

 إلى استانبول  "1952"

على الرغم من طول الطريق وضعف الشيخوخة وبرد الشتاء وكونه مسافراً ليمثل متهماً أمام محكمة.. على الرغم من كل هذا فقد كان هناك في قلبه حنينٌ لا يُغالب للقدوم إلى "استانبول"... هذه المدينة الجميلة التي يحبها من أعماق قلبه.. كم له فيها من ذكريات .. ذكريات شبابه وهو يجالس ويناقش العلماء فيها .. ذكريات أصدقائه الذين رحل قسم منهم إلى الدار الآخرة.. ذكريات حرب البلقان .. ذكريات الحرب العالمية الأولى.. ذكريات أيام كفاحه ضد الإنكليز.. ذكريات حلوة وذكريات مرة.. وها هو اليوم يعود إليها بعد ثلاثين عاماً تقريباً..

عندما وصل إلى "استانبول" نـزل في فندق "آق شهر" في منطقة "سيركجي".. وبدأت قوافل  الزائرين بالوفود  إليه تترى..

أصدقاؤه القدامى وذكريات عمر كامل قضوه في طريق الجهاد..  جيل جديد من الشباب في نضرة الزهور وطهر ونقاء ماء المطر.. أتوا لكي يشاهدوا عن  قرب هذا الشخص الذي زرع في قلوبهم محبة الله ومحبة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.. عرفوه  وأحبوه من قراءة رسائله..  قرأوها سراً وخفية والان يقرأونها علناً، وها هو أستاذهم ومرشدهم يحاكم لأنه أنقذهم، ويتهم لأنه أرشدهم، ويساق إلى المحاكم بسببهم.

وكان هناك بين الزائرين عدا أصدقائه وطلابه جمع كبير حضروا لرؤيته يدفعهم الفضول لرؤية هذا الشخص الذي أثار كل هذه الضجة في الحياة السياسية والفكرية في تركيا، وكانت حياته سلسلة متصلة من المحاكم والسجون والإقامة تحت الحراسة الحكومية، فمن كان هذا الشخص العجيب الذي استطاع بمفرده هز تركيا من أقصاها إلى أقصاها؟ وما سر هذه القوة العجيبة التي يمتلكها؟.

وقد أصبحت هذه الزيارات من أغلى ذكريات هؤلاء الزائرين فيما بعد.

 

 الجلسة الأولى  ([336])

عقدت المحكمة جلستها الأولى في بناية العدالة .([337]) الواقعة في منطقة "سيركجي" في يوم الثلاثاء المصادف 22 كانون الثاني 1952.

كان هناك جمع  غفير غصّت بهم قاعة المحكمة جاءوا لحضور هذه المحكمة ولرؤية الأستاذ "النورسي"، الذي حضر مستنداً إلى اذرع طلاب النور المحيطين به والمحافظين عليه من تدافع الجمع الحاشد وعليه جبة سوداء وعلى رأسه عمامة خفيفة.

في هذه الجلسة تمت  قراءة الاتهام المقدم من قبل المدعي العام، وقراءة تقارير الخبراء، واستجواب الأستاذ "النورسي"، وكان محامو الأستاذ في هذه المحكمة هم السادة؛ "سني الدين باشاق" و"مهرى حلاو" و"عبد الرحمن شرف لاج".

بعد قراءة الادعاء العام والتقارير، بدأ الأستاذ "النورسي" بالإجابة عن الاتهام الموجه  إليه . فقال؛ بأن خمسا ً وثلاثين سنة من حياته شاهدة على انه لم تكن له علاقة لا بالسياسة ولا بأي غرض دنيوي، وان الهدف الوحيد والشغل الشاغل له ينحصر في خدمة القرآن والحقائق  الإيمانية، وانه حصر جهده وطاقته في موضوع إنقاذ الإيمان مشيراً إلى القرارات المتعددة للمحاكم التي قضت ببراءته من هذه التهمة.

واستمر في دفاعه البليغ قائلاً بأنه كان من الأجدر إظهار مشاعر الفرح والغبطة لقيام طلاب الجامعة بطبع رسالة "مرشد الشباب"، وانه من وجهة نظر سلامة الوطن والأمة فان من الضروري ليس فقط قراءة "مرشد الشباب" بل قراءة جميع "رسائل النور" التي تقف  تجاه التيارات الهدامة التي تهز كيان المجتمع وخاصة وباء الإلحاد.

بعد سماع المحكمة دفاع "النورسي" اجل النظر في القضية شهراً واحداً.

الجلسة الثانية.([338]) عقدت الجلسة الثانية للمحكمة في يوم الثلاثاء المصادف ليوم 19 شباط من السنة نفسها.. في هذه الجلسة كان الازدحام قد بلغ اشده، فان المئات بل الآلاف من الناس اشغلوا  قاعة المحكمة والممرات المؤدية إليها، و امتد الازدحام إلى الشارع الرئيسي كذلك، وعندما حضر الأستاذ "النورسي" يحيط به طلابه .. دوى تصفيق حاد من هذه الجماهير المحتشدة...

دخل الأستاذ "النورسي" بكل صعوبة إلى قاعة المحكمة، وجلس في قفص الاتهام،  ولكن الازدحام كان شديداً وخانقاً إلى درجة استحال معه البدء في المحاكمة، لذا توجه رئيس المحكمة برجاء إلى الحضور قائلاً لهم.

- إن كنتم تحبون الشيخ فافسحوا لنا المجال لكي نستطيع إجراء المحاكمة.

عند هذا الرجاء المربوط بحب الشيخ تراجع بعض الحضور طواعية وبذلك تيسر للمحكمة البدء بأعمالها، فتم استدعاء وسماع أقوال صاحب المطبعة التي طبعت الرسالة، وكذلك سماع أقوال بعض أفراد الشرطة. ثم قام الأستاذ "النورسي" وطعن في تقرير الخبراء.

كانت صلاة العصر قد أزفت، فطلب الأستاذ "النورسي" السماح له باداء الصلاة فوافق رئيس المحكمة وأعلن انتهاء الجلسة.

 

 الجلسة الثالثة والأخيرة  ([339])

عقدت الجلسة الثالثة والأخيرة في الخامس من شهر مارت من السنة نفسها، حيث شهدت أيضاً ازدحاماً شديداً.. مع أن الحكومة اتخذت هذه المرة احتياطات كبيرة، فسدت بعض الطرق، ووزعت أعداداً كبيرة من أفراد الشرطة في مدخل البناية والطرق المؤدية إليها، وفي ممرات بناية المحكمة.

بدأت المحكمة بسماع شهادة الطالب الجامعي الذي قام بطبع تلك الرسالة الذي قال.

- لقد قرأت كثيراً من مؤلفات الغرب والشرق، ثم حصلت على "رسائل النور" فإذا بي أرى فيها تأثيراً ايجابياً قوياً على العقل، وعلى الفكر، وعلى الروح، وعلى الإرادة والأخلاق. ولما شاهدت الأثر الحميد لرسالة "مرشد الشباب" على إيمان الشباب، وفي المحافظة على أخلاقهم، قمت بطبعها، وأنا اعدّ هذا العمل خدمة وطنية، ولا أرى فيه عملاً يستدعي أية مؤاخذة أو عنصر اتهام.

ثم قدم محامو الأستاذ "النورسي" مرافعاتهم فردّوا هذه التهمة التي سبق وان تكررت لسنوات وسنوات حتى أصبحت كاسطوانة مشروخة من كثرة الاستعمال.

بعد انتهاء هذه المرافعات توجه رئيس المحكمة بسؤال إلى الأستاذ "النورسي" عمّا إذا كانت لديه أية أقوال أخرى، فقام الأستاذ من مكانه قائلاً.

- أرجو منكم التفضل بالسماح لي بكلمة.

- تفضلوا

- أريد هنا أن أسجل بأنني لا أستحق كلمات الثناء التي أطلقها على شخصي وكلائي المحترمون، فانني لست الاّ شخصاً عاجزاً يعمل ما في وسعه في خدمة القرآن والإيمان.. وليست لديّ أقوال أخرى.

وانسحب الحكام للتشاور قبل إصدار الحكم النهائي، ثم أعلنوا هذا الحكم الذي قضى بالبراءة  بإجماع الآراء. ولما لم يقم مقام الادعاء العام بتمييز الحكم فقد اكتسب الدرجة القطعية.([340]) بعد ثماني سنوات، وبعد حدوث الانقلاب العسكري عام 1960 عاقب قادة الانقلاب العسكري رئيس المحكمة "وهو السيد نفعي دميرلي اوغلو" قائلين له.

- كيف استطعت إعطاء حكم البراءة لـ "سعيد النورسي"؟.

فقال لهم:

- نعم.. لقد أعطيت له حكم البراءة، لأنني حققت في الموضوع، واستمعت إلى الشهود، لذا فانني أعطيت الحكم الذي اطمأن له ضميري.([341])

 

 الضجة المفتعلة

بعد صدور حكم البراءة من المحكمة غادر الأستاذ "النورسي" استانبول إلى "أميرداغ". ومع انه بلغ الثمانين من عمره فانه لم يترك هوايته في الخروج إلى البساتين القريبة، فهو عاشق للخضرة وللجبال وللمناظر الطبيعية التي كان يرى في كل شجرة باسقة، أو زهرة نضرة، أو طير صادح؛ آية من آيات الله، ونعمة من نعمه، ويستغرق في تأملها وتشرب معاني الجمال فيها، وقد انعكست تأملاته هذه في "رسائل النور" جميعها تقريباً فهو دائم الإشارة إليها، ودائم التذكير بها، ففيها تتجلى أسماء الله الحسنى، كالمنعم، والقادر، والعليم، والخبير، الرحمن، والرحيم والرزاق، والمحيي، والمميت، والخالق، والواهب، والمقدِّر...

ففي أحد أيام ربيع سنة 1953 خرج الأستاذ "النورسي" إلى ضاحية البلدة.. كان الجو دافئاً ونضرة الربيع في كل أرجاء الطبيعة، ولكن قبل أن يملأ ناظريه من هذا الجمال حدث ما عكر عليه صفو ذلك اليوم، وقطع تأملاته، إذ سرعان ما ظهر بجانبه رئيس عرفاء شرطة مع ثلاثة من رجال الشرطة.. وتقدم هذا الرجل الفظ طالباً من الأستاذ نـزع عمامته ولبس القبعة، وحجته في ذلك وجوب تطبيق قانون الأزياء، وانه لا يمكن استثناء أي شخص من هذا القانون، ولم يفد مع هذا الرجل أي كلام من الأستاذ، بل مدّ يده ونـزع عمامته بالقوة ثم استقدمه إلى مركز الشرطة في المدينة. وما ان سمع بعض طلاب النور بالأمر حتى أسرعوا إلى المركز، وبعد ساعات من الجهد والمشقة والمعاناة أطلق سراح الأستاذ وهو مرهق غاية الإرهاق.

إثر هذه المعاملة غير الإنسانية التي تعرض لها الأستاذ كتب عريضة إلى وزارة العدل والى وزارة الداخلية، شرح فيها ما لاقاه ويلاقيه من عنت من بعض الأجهزة الحكومية، وأرسل صورة من هذه العريضة إلى أحد طلابه في "أنقرة" ليقوم بإبلاغ الجهات المختصة هناك. فقام بعض طلاب النور بإرسال صورة من هذه العريضة إلى جريدة "الجهاد الكبير" الصادرة في مدينة "صامسون". فقامت هذه الجريدة بنشر هذه العريضة في صدر صفحاتها.([342]) في هذه الأثناء وقعت حادثة إطلاق النار على الصحفي المعروف "أحمد أمين يلمان.([343])" من قبل شاب يدعى "حسين اُزماز" ومع أن الرصاصة لم تصب منه مقتلاً بل جرحته جرحاً طفيفاً، إلا أن الأوساط المعادية للإسلام التي كانت الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى في أيديها "ولا تزال" أقامت الدنيا وأقعدتها اثر هذه الحادثة، وبدأت تنشر في صدر صفحات جرائدها عناوين مثيرة:

الرجعية السوداء..

اقضوا على هذه الحركة..

أين الحكومة؟..

هل ستغمض الحكومة عينيها عن الرجعية؟..

الرجعية تشهر سلاحها... الخ.

ونجحت هذه الحملة المركزة بكل أكاذيبها وافتراءاتها ومبالغاتها وتهويلاتها في دفع الحكومة "التي كان الحزب الديمقراطي يقودها" إلى اتخاذ إجراءات مشددة ضد الصحف والمجلات والأوساط الإسلامية، فسدت مجلة "سبيل الرشاد" ومجلة "الفدائي" ومجلة "الشرق الكبير" واعتقلت رؤساء تحرير هذه المجلات، وكان من أشهرهم المفكر الإسلامي "نجيب فاضل.([344]) " رئيس تحرير مجلة "الشرق الكبير"والجنرال المتقاعد "جواد رفعت اتيلخان" المعروف بكتبه العديدة حول الماسونية واليهودية ومؤامراتهما عبر التاريخ، وكذلك بعض طلاب النور، مع أن أيّـاً من هؤلاء لم يكن لهم أي ضلع في تلك الحادثة لا من قريب ولا من بعيد.

ما يهمنا هنا هو ما يتعلق بالأستاذ "النورسي" وبطلاب النور، وما أصابهما من ذيول هذه الحادثة التي لم يكن لهم فيها أي دخل، فقد اعتقل رئيس تحرير جريدة "الجهاد الكبير" وطالب النور "مصطفى صونغور" وقدما إلى المحكمة في مدينة "صامسون" التي أصدرت قراراً بالإدانة، إلا أن محكمة التمييز نقضت هذا القرار وأصدرت قرار البراءة.([345])

ولكن الموضوع لم ينته بهذا، إذ ما لبث أن أقيمت دعوى أخرى ضد الأستاذ "النورسي" في مدينة "صامسون" نفسها إثر نشر مقالة تحت عنوان "أكبر برهان"، وطلب جلب الأستاذ إلى "صامسون" للمثول أمام المحكمة، ولكن الأستاذ كان متقدماً في العمر، وكان مريضاً أيضاً،، وأيد التقرير الطبي المأخوذ من قضاء "أميرداغ" ومن مدينة "أسكي شهر" مرض الأستاذ. ولكن المحكمة لم تقبل هذه التقارير الطبية وأصرت بعناد غريب على وجوب حضور الأستاذ والمثول أمامها. أمام هذا الإصرار أعلن الأستاذ "النورسي" انه سيتحامل على نفسه وسيسافر إلى "صامسون".

ولكن ما ان وصل الأستاذ إلى "استانبول" في طريقه إلى "صامسون" حتى اشتد عليه المرض، واستحال عليه الاستمرار في السفر، فاستحصل من الهيئة الصحية في "استانبول" تقريراً طبياً يؤيد مرضه وعدم قدرته على السفر لا براً ولا بحراً. ولكن المدعي العام لمحكمة "صامسون" الذي ضرب بكل المعاني الإنسانية عرض الحائط أصر بشدة وبمنطق غريب على عدم قبول كل هذه التقارير المرضية وعلى وجوب حضور هذا الشيخ المريض إلى المحكمة، ولكن المحكمة لم تأخذ برأيه، وقبلت التقرير الطبي وخولت محكمة "استانبول" إجراء المحاكمة نيابة عنها في "استانبول" حيث كان الأستاذ "النورسي" موجوداً فيها.

وفعلاً تمت محاكمة الأستاذ "النورسي" في محكمة "استانبول" التي أصدرت قرارها بالتبرئة.([346])

 

 مع بطريرك الروم

قضى الأستاذ "النورسي" ثلاثة اشهر في "استانبول" التي كانت تتهيأ للاحتفال آنذلك "1953" بمرور خمسمائة سنة على فتحها، وقد جرى فعلاً احتفال كبير، وأقيمت معالم الزينة في المدينة، واشترك آلاف من طلاب المدارس والجنود اللابسين الملابس العثمانية القديمة تتقدمهم الطبول التي تدق موسيقى الحرب، وموسيقى الفتح المبين في منطقة "طوب قابي" حيث دخل "محمد الفاتح" منها المدينة.

دُعي الأستاذ "النورسي" إلى هذا الاحتفال الذي حضره فعلاً. ومن هناك ذهب مع تلميذه "ضياء آرون" لزيارة بطريرك الروم "أثنوكوراس" في منطقة "فنر".

وفي أثناء هذه الزيارة قال الأستاذ "النورسي" للبطريرك:

- من الممكن أن تكونوا من أهل النجاة أن كنت مؤمناً بالنصرانية الحقة بشرط الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم كتاباً من عند الله تعالى.

فأجابه البطريريك:

-ـ إنني أقبل واعترف بذلك.

فسأله الأستاذ "النورسي".

- حسناً جداً.. ولكن أتعلنون هذا أمام العلماء النصارى في الدول الأخرى.

فأجابه.

- لقد قلت لهم ذلك ولكنهم لا يقبلون.([347])

 إلى مدينة الذكريات.. إلى "بارلا"

غادر الأستاذ "النورسي" استانبول متوجهاً إلى "أميرداغ" ومنها إلى "أسكي شهر" التي ارتاح فيها عدة أيام ثم توجه منها إلى "اسپارطة".

ومن اسپارطة توجّه مع رهط من تلاميذه إلى مدينة الذكريات "بارلا".. المدينة التي شهدت أول انبثاق لحركة النور ولرسائل النور.. المدينة التي سيق إليها منفياً، فبارك الله له في أيام النفي، وجعل تلك الأيام من أعز الأيام على قلبه، وجعل ذكريات هذه البلدة من أحب الذكريات إلى نفسه.

وها هو اليوم يعود إليها، ولكن بعد عشرين عاماً حافلاً بالأحداث والمواقف والابتلاءات.

يعود إليها طليقاً يحف به بعض ثمار دعوته.. طلاب يتلألأ النور في جباههم المضيئة، وتطفح قلوبهم بحب الله ورسوله. ويسمع أهل البلدة بقدوم الأستاذ، فيخرجون رجالاً ونساءً، وأطفالاً وشباباً لرؤيته. ويتقافز الأطفال الصغار وهم يرددون.

- جاء الشيخ.. جاء الشيخ..

انهم لم يروا هذا الشيخ الوقور، ولكنهم سمعوا عنه من آبائهم وأمهاتهم.

وبينما كان الأستاذ يتقدم نحو البيت الذي بقي فيه ثماني سنوات، إلى البيت الذي كان أول مدرسة نورية، مرّ من أمام بيت تلميذه القديم "مصطفى جاويش"، وهو النجار الذي عمل له الغرفة غير المسقّفة بين أغصان الشجرة التي كان يقضي فيها ساعات العبادة والتأمل.

مرّ أمام دار تلميذه ورأى القفل الكبير على باب الدار. كان تلميذه القديم الوفي قد توفي في سنة 1937، بينما كان الأستاذ يعيش في منفاه في "قسطموني". مات هذا الرجل، ولذلك لم يتيسر له اللقاء معه بعد خروجه من "بارلا". ولم يشعر الا والدموع تتساقط من عينيه وتبلل خده.

وأخيراً وصل إلى بيته السابق، إلى مدرسته الأولى حيث كانت شجرته الحبيبة تنتصب أمامه وكأنها - هي الأخرى - ترحب به.. جاشت في نفسه العواطف وطلب من طلابه ومن الأهالي ان يتركوه وحده.

ثم ذهب إلى تلك الشجرة التي قضى معها أكثر من ثماني سنوات...  احتضنها وأجهش ببكاء طويل.

كانت هذه الشجرة قطعة من حياته، ومن ذكرياته... كم من ليالٍ قضاها بين أغصانها يتهجد ويذكر الله... كم من ساعات قضاها يؤلف "رسائل النور" ويسمع حفيف أغصانها وأوراقها وتغريد الطيور عليها... كم من ليلة من ليلي الشتاء الطويلة الحالكة أرق في غرفته، فلم يكن له أنيس في وحدته غير صوت هذه الشجرة تعصف بها الرياح، أو يسمع صوت قطرات الأمطار على أوراقها. لقد كانت له أنساً في وحدته، وسلوة في وحشته، وصديقاً في غربته.

وها هو الآن يرجع إليها بعد عشرين عاماً يتحسسها، ويريد ان يضمها إلى صدره ولا يتمالك نفسه من البكاء عند لقائها.

وبعد ذلك صعد إلى غرفته، واختلى بنفسه هناك مدة ساعتين تقريباً. كان يبكي وهو يستعيد ذكريات أيامه الطويلة التي قضاها هنا، وكان الناس والطلاب المحيطون بالبيت يسمعون نشيج الشيخ فتدمع أعينهم كذلك".([348])

 

 قرار محكمة "آفيون"

في عهد حكم "عصمت اينونو" سنة 1948 ألفت محكمة آفيون لجنة من الخبراء لفحص وتدقيق محتويات "رسائل النور" واعطاء رأيها فيما إذا كانت تحتوي على أية مخالفات يعاقب عليها القانون التركي.

واستمرت أعمال هذه المحكمة مدة طويلة وسنوات عديدة، ولم تصدر قرارها إلا في 25/5/1956 أي بعد ثماني سنوات، وكان القرار بتبرئة "رسائل النور"إذ لم يجد الخبراء فيها أي شيء يخالف القانون التركي.. وهنا تكمن براعة أسلوب الأستاذ "النورسي" وحكمته، حيث استطاع في تلك الظروف الحالكة، وفي ظل تلك الشروط القاسية أن يقول كل شيء، وان يقوم بمهمة الدعوة وبمهمة الإرشاد دون أن يصطدم بشكل مباشر مع السلطة.. ولعل هذا درس بليغ لكثير من الحركات الإسلامية التي لا تهتم بناحية "الحكمة" في أسلوب الدعوة...

وجاءت البشرى إلى الأستاذ النورسي والى طلابه، ففرحوا كثيراً وحمدوا الله تعالى على فضله، إذ كان معنى هذا القرار انهم يستطيعون طبع "رسائل النور" بكل حرية وفي وضح النهار، وبكل أمان، لذا لم يضيعوا أي وقت، إذ سرعان ما اتفقوا مع عديد من المطابع في "استانبول" وفي "أنقرة" وفي "صامسون" وفي "انطاليا"، وبدأت هذه المطابع بطبع هذه الرسائل بالآلاف وبالحروف الجديدة، حيث إن الجيل الجديد من الشباب أصبح لا يستطيع قراءة الكتب بالحروف العربية مع الأسف.

ملأ البشر والغبطة قلب الأستاذ "النورسي" فكان يقول لطلابه.

"اليوم هو عيد رسائل النور.. لقد انتهت وظيفتي.. كنت أنتظر مثل هذا اليوم.. إذن فسأرحل قريباً".

وعندما يخرج إلى أي مكان سرعان ما يرجع إلى البيت قائلاً لمرافقيه من طلبته.

"لنرجع إلى الدار.. لابد أن المَلازم.([349]) وصلت.. لا يجوز لنا أن ندعها تنتظر كثيراً".

وعندما تصل  إليه المَلازم من المطبعة يبدأ فوراً بتصحيحها بكل دقة وبكل عناية بمعاونة تلاميذه.([350])

 انتخابات  1957

جرت الانتخابات العامة في تركيا سنة 1957، وكان المتنافسان الرئيسان فيها هما "الحزب الديمقراطي" تحت قيادة "عدنان مندرس" و "جلال بايار"، و"حزب الشعب" الذي كان على رأسه "عصمت اينونو".

ومع أن المسلمين لم يكونوا ينظرون إلى "الحزب الديمقراطي" كحزب إسلامي -رغم وجود جناح إسلامي فيه- إلا أن توليه الحكم منذ سنة 1950وما أشاعه من جو الحرية في البلد، وإرجاع الأذان الشرعي، والقيام بتدريس الدين الإسلامي في المدارس -وكان قبل ذلك ممنوعاً في عهد حزب الشعب- وفتح أعداد لا بأس بها من مدارس الأئمة والخطباء، والاهم من ذلك إنهاء العداوة الوحشية للإسلام التي تميز بها الحكم السابق.. كل هذه العوامل كانت سبباً كافياً لتأييد الشعب المسلم وكذلك الحركات الإسلامية في تركيا للحزب الديمقراطي. ومع أن الأستاذ "النورسي" لم يدخل ساحة السياسة الا انه قرر الاشتراك في هذه الانتخابات واعطاء صوته للحزب الديمقراطي تنفيذاً للقاعدة الفقهية "درء المفسدة أولى من جلب المنفعة" ذلك لأن إبعاد "حزب الشعب" عن الحكم كان يعدّ دفع اكبر مفسدة عن تركيا آنذاك.

وفي يوم الانتخابات ذهب برفقة تلميذه "زبير گوندوز آلب" - وكان آنذاك يسكن في اسپارطة - إلى اقرب صندوق اقتراع وكان في باحة "جامع بك" واعطى صوته لصالح "الحزب الديمقراطي.([351])  

 

 الأشهر الأخيرة

في هذه المدينة.. أي في مدينة "اسپارطة" قضى الأستاذ "النورسي" شهوره الأخيرة، وكان بعض طلبته المخلصين يقومون بخدمته، ونظراً لتقدمه في العمر فقد كان طريح الفراش في اكثر الأحيان، لذا لم يكن باستطاعته لقاء المئات من الزوار والمحبين والطلاب المتشوقين لرؤيته وملء أعينهم من رؤيته قبل ان يرحل عن هذه الدنيا الفانية.

كان يقول لطلابه الذين في خدمته:

- قولوا لهم -أي للزوار- إن قراءة "رسائل النور" أفضل من الحديث معي مئة مرة.. ليقرأوا "رسائل النور".

ولكن عندما يحس في جسمه قوة وعافية يذهب لزيارة مدينته الحبيبة "بارلا" أو "أميرداغ" زيارات خاطفة.

ومع تقدمه في العمر ومرضه الناتج عن الشيخوخة، فانه لم ينقطع عن تتبع ما يجري في العالم فكان طلابه يقرأون له الأخبار من الجرائد ويتتبع أخبار طبع "رسائل النور" وأخبار محاكمات طلاب النور.

ومع أن طلاب النور لم يكونوا يتدخلون في السياسة ولا يخوضون غمارها، مكثفين جهودهم في بناء النفوس وتوسيع القاعدة الإسلامية، فهم يعلمون انهم إن بنوا الحق فان الباطل سيزول. ولكن الجهات المعادية للإسلام كانت تتحرق شوقاً للعثور على أية حجة أو عذر للتهجم عليهم وتحريض الحكومة ضدهم.

ولكن إن لم تكن هناك أية حجة أو عذر، فليخترعوا هم ذلك.

وقد تم هذا فعلاً في شهر نيسان سنة 1958، إذ انتهزت هذه الأوساط اجتماع نفر من طلاب النور في مدينة "نازلّي" لقراءة "رسائل النور"، فشنت هجوماً اعلامياً عنيفاً على طلاب النور وعلى أستاذهم "سعيد النورسي"، فأرسل بعض طلاب النور جواباً على هذه الحملة، ولكن ما ان نشر هذا الجواب في إحدى الصحف، حتى تم اعتقال عشرة من طلاب النور من "أنقرة" و "استانبول" و "اسپارطة" في 26 نيسان سنة 1958 وأرسلوا إلى سجن "أنقرة".

وبوساطة أحد طلاب النور تقدم المحامي المسلم "بكر برق" للدفاع عن هؤلاء أمام محكمة "أنقرة".. ولكن قبل أن يقوم بمهمة الدفاع اجتمع مع هؤلاء الطلبة قائلاً لهم:

- إنني أود أن استفسر منكم عن رأيكم في مسألة خاصة بكم.. أترغبون أن أحصر جهودي في موضوع إطلاق سراحكم من هذا السجن بأقصر وقت؟ أم أقوم في المحكمة بشرح دعوتكم والدفاع عنها دون أن آخذ بنظر الاعتبار موضوع إطلاق سراحكم؟..

أجاب الطلاب كلهم:

- نحن نرضى بالبقاء هنا سنوات عديدة.. المهم ان تقوموا بالدفاع عن دعوتنا.

وقد تأثر هذا المحامي بهذه الإجابة التي أثبتت له، انه أمام دعاة صادقين، وأمام أصحاب مبادئ مستعدين للتضحية بكل شيء في سبيل دعوتهم..

واعتباراً من هذه المحاكمة ارتبط هذا المحامي بهذه الدعوة، وأصبح المحامي المدافع عن طلاب النور في جميع القضايا الأخرى، وأمام جميع المحاكم التي انعقدت في جميع المدن التركية تقريباً لمحاكمة طلاب النور، كما ذهب لزيارة الأستاذ "النورسي" الذي ضمه إلى صدره وأعطاه الوكالة عن نفسه.([352])

وندرج هنا انموذجاً من دفاع أحد طلاب النور في هذه المحكمة وهو السيد "محمد أمين برنجي"..

 ومن قراءة هذا الدفاع يستطيع القارئ ان يلم بالأجواء التي كانت سائدة في "تركيا" لسنوات عديدة، وبانواع  المحن التي تعرض لها الشعب المسلم، ودعاة  الإسلام هناك.

"أيها الحكام المحترمون!

لقد تم اتهامنا لقيامنا بنشر مقالة عنوانها. "جواب على ما نشرته بعض الجرائد من أمور لا صحة لها حول طلبة النور".. هذه المقالة بعيدة جداً عن أي شيء يمكن ان يشكل تهمة قانونية في النظام الديمقراطي الذي يحترم حرية الدين وحرية الضمير..

ولأسجل أولاً لمحكمتكم المحترمة بأنه ان تم تدقيق هذه المقالة - التي هي أساس الدعوى - من جوانبها المختلفة بشكل حيادي فسيتبين أمام المحكمة الموقرة مدى بعدنا عن التهمة الموجهة لنا..

وأود ثانياً أن اسأل المدعي العام أمام المحكمة الموقرة اين هي الجمل في هذه المقالة "التي تم تصويرها وكأنها بيان سياسي" التي يمكن تأويلها وكأنها دعاية لزيادة مبيعات كتب "اللمعات" و "المكتوبات"؟ وكيف يمكن لأي قارئ لهذه المقالة أن يدعي أنها كتبت للدعاية لهذه الكتب؟ ولكن الظاهر ان السيد المدعي العام المحترم ذو بصيرة حادة، إذ عثر في هذه المقالة على كلمة "الرسائل"، ودون ان يتمهل أو يدقق أحس بأنه عثر على عنصر اتهام، وهنا قام بزيادة كلمة "اللمعات" أيضاً من عنده.. وهكذا عمل من الحبة "قبة" كما يقال. وعلى مثال قصة الحمل والذئب فقد حسب انه عثر على عنصر اتهام".

وبعد أن يقوم بالرد تفصيلاً على المدعي العام، وعلى الالتباس الكبير الذي وقع فيه، يسرد للمحكمة ظروف المرحلة التي مرت بها تركيا، فيقول:

"أيها الحكام المحترمون!

انتم تعلمون دون شك الاعتداءات الشنيعة التي تمت ضد دين هذه الأمة التركية وضد إيمانها وقرآنها ونبيها، والإهانات التي وجهت إليه. واذا كان هناك احتمال ضعيف جداً في أن المدعي العام لا يعرف هذا فإننا نسرد هنا بعضاً منها.

من هم الذين قاموا طوال ربع قرن بمنع دروس الدين من المدارس؟ وأغلقوا جميع المؤسسات الدينية؟

من هم الذين منعوا الأذان المحمدي ورموا إلى السجون كل من يتجاسر على قول. "الله اكبر" في الجوامع أو من فوق المنابر؟

اية أيادٍ قامت بمنع دخول الكتب الدينية إلى بيوت الشعب، وبسجن علماء الدين، وباهانة المتدينين ومحاربتهم حتى اشرفوا على حافة التسول؟

أي رئيس وزارة خطب من فوق منصة مجلس الأمة قائلاً:

"ان الدين سم زعاف"، وانه يحتاج إلى ثلاثين سنة أخرى لكي ينتزع الدين من رؤوس الشعب؟..

وأي رئيس وزارة وصف أصوات التكبير في الأذان بانها كأصوات الأشباح التي بعثت من القبور؟..

من هم الذين قاموا بفتح المحافل الماسونية، وبرفع كلمة التوحيد من الرايات العسكرية؟..

من هم الذين شتتوا أئمة ومفتي الوحدات العسكرية؟..

ألم يقم هؤلاء بازالة الآيات القرآنية من المعابد؟..

ألم يحولوا الجوامع إلى مخازن للجلود أو إلى متاحف أو إلى اسطبلات؟ الم يعطوا بعضاً منها إلى الأرمن؟..

ألم يبعث هؤلاء مندوباً عن تركيا لحضور المؤتمر الذي عقده المبشرون في بلغاريا لحفظ الآثار المسيحية؟ ألم يوقع هذا المندوب على قرارات ذلك المؤتمر ويعد بتنفيذها والالتزام بها؟..

ثم ألم تنـزل اللوحات الكبيرة المخطوطة عليها اسماء الله واسم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم واسماء الصحابة الكرام من على جدران "ايا صوفيا" ليظهروا بديلاً منها تماثيل العهد البيزنطي لكي يقلبوا "ايا صوفيا" إلى متحف كنسي؟ ألم يرغبوا في تمزيق هذه اللوحات وفي هدم منائر "ايا صوفيا"؟ ألم يمنعوا الأطفال من سماع تلاوة القرآن الكريم من الشيوخ؟ ألم يجمعوا صور الكعبة المشرفة واتلفوها؟ الم يمنعوا المسلمين من الحج؟ وعندما منعوا استعمال الحروف العربية ألم يحتفلوا بذلك على موائد الشراب؟ وفي الذكرى العاشرة لهذا المنع ألم يتظاهروا في الشوارع حاملين معهم شعارات تقول. "لقد منعنا تلاوات الرهبان" مشيرين بذلك للقرآن الكريم؟.. ألم يؤسسوا التنظيمات الشيوعية ويصفقوا للذين حاولوا ادخال الشيوعية الروسية إلى البلد مطلقين عليهم صفات الوطنية؟ ألم يقوموا بالايعاز إلى معلمي المدارس بتحقير الدين واهانته؟ ألم يملئوا المعاهد القروية([353]) بالمعلمين الشيوعيين؟ ألم يعرض هؤلاء الشباب الوطنيين إلى ابشع أنواع التعذيب التي تذكرنا بتعذيب محاكم التفتيش؟ ألم يوضعوا في توابيت التعذيب وتحت الأضواء القوية المسلطة عليهم؟ ألم يكن هؤلاء يطبقون على من يتحدث عن الأحكام الدينية العقوبات المفروضة على القتلة وعلى الجناة؟ ألم يكونوا على وشك ان يمنعوا استعمال لغة القرآن في الصلاة؟.([354])

يا هيئة المحكمة الموقرة...

كانت هناك فئة ضالة أخرى تحاول قطع جميع الروابط المعنوية للأمة التركية المسلمة منذ ألف سنة وتقول.

"اننا لم نعد نعتبر الله غاية الحياة.. لقد خلقنا غاية أخرى، وهذه الغاية ليست الله بل البشرية".

وكان منهم من يقول.

"ليس هناك شيء اسمه الدين في عصر تقدمت فيه المدنية، ان الدين عبارة عن نظام اجتماعي، وهو نظام اجتماعي يناسب القرون الوسطى".. الخ.. الخ.

يا هيئة المحكمة الموقرة...

لقد كانت هذه الادعاءات والافكار تتكرر في الجرائد والمجلات التي تخاطب كتلاً كبيرة من الشعب، ومن الممكن مشاهدة نماذج عديدة منها فيها.

أمام هذا الوضع، وفي مثل هذا الزمن الفاسد  وفي هذا العهد الذي أريد فيه قلب الماضي المجيد للشباب التركي إلى مستقبل مظلم..

في هذا العهد المخيف الذي بذلت المحاولات المحمومة لصرفنا عن ماضينا وعن تراثنا، ولنشر الاعجاب بالغرب والتبعية له في أرجاء هذا الوطن المقدس الذي هو أمانة مقدسة من أجدادنا في اعناقنا.. في مثل هذا العهد المخيف حاول الأستاذ "بديع الزمان" - بعون من الله تعالى وفضل منه - برسائله التي بلغت مئة وثلاثين رسالة، ان ينقذ ايمان ومقدسات الشباب التركي النجيب وعزته وشرفه ووقاره وكرامته، وذلك باظهار قدسية  الإسلام وعلوه.. غايته وهدفه.. اخلاقه وفضيلته ليشكل بذلك سَدّاً قرآنياً وايمانياً تجاه الأعداء الخفيين للدين الذين ينهشون جسد هذه الأمة، فكان بذلك مدداً ربانياً ومنقذاً لهذا الوطن المبارك ولأهله.

لقد وقف "بديع الزمان" بالقوة التي استمدها من القرآن الكريم تجاه اشرار فترة الطغيان والاستبداد والجبروت التي استمرت ثلاثين سنة .([355]) ، ووقف بقوة نادرة تجاه هؤلاء الطغاة يدافع عن  الإسلام ضد كل خططهم الظالمة، وضد كل الحركات الهدامة الموجهة ضد الاسلام.. ضد الذين كانوا يصفون  الإسلام بانه؛ "شريعة الصحراء".

ان "رسائل النور" التي اسرعت لنجدة الشباب الذين انغمروا في مستنقع الفلسفة المادية، فجفت أرواحهم، وجهلوا الفضيلة والخلق الاسلامي، فمسخت أرواحهم وتردت نفوسهم؛ أصبحت بمثابة نبع الحياة في حياة هذه الأمة الطيبة، فالذين ظمأوا إلى الايمان، والذين ضلوا طريقهم في هذه الحياة والذين غرقوا في الضلالة وجدوا نور قلوبهم في هذه الرسائل وانقذوا أنفسهم بهذا النور، لأن "رسائل النور" تفسير نوراني لآيات القرآن الكريم، لا تحتوي دفتاها الا على حقائق الإيمان وحقائق التوحيد.. مجهزة بالعلوم الكونية الحديثة.. ألفت بحيث تخاطب كل طبقات الشعب.. من أدنى طبقة من العوام حتى أخص الخواص، فتسكت كل شبهة، وكل وسوسة، وتجبر أكثر الفلاسفة عناداً على التسليم..

هذه هي "رسائل النور" التي تبلغ ما بين رسائل صغيرة واخرى كبيرة مائة وثلاثين رسالة، تجيب عن مشاكل وحاجات هذا العصر وتشبع العقل والقلب، فهي بمثابة التفسير المعنوي - وليس اللفظي - للقرآن الكريم في القرن العشرين.

وهي تتناول جميع الاستفهامات التي يمكن ان يخطر على البال.. من الذرة حتى الشمس، وتتناول مراتب الإيمان ووحدانية الله وحقائق النبوة تتناول الارض والسماء.. الملائكة والروح.. تبحث عن حقيقة الزمان وعن الحشر وعن الآخرة .. عن وجود الجنة وجنهم.. عن ماهية الموت.. عن منبع السعادة الابدية أو الشقاوة الأبدية.. أي تتناول بالاثبات كل ما يخطر - أو حتى ما لا يخطر - على بال العقل من المسائل الإيمانية بأدلة قطعية ومنطقية وعلمية، فتريح العقل والقلب وتزيل عنهما الحيرة والتساؤل.

أجل ان هذه الرسائل الرائعة التي ردت على المفتريات الشنيعة لزمرة سافلة، والتي دفعت هذا الجيل الجديد إلى هاوية الانكار وعدم الايمان، والتي رفعت شعار. "لا وجود للدين، ولا وجود لله، ولا وجود ليوم الحساب"، فرفعت الرسائل بذلك الروح المعنوية للأمة، وساهمت في ازالة الأزمة الناتجة عن عدم الايمان، ورسخت في القلوب خشية الله، واثبتت ان الإنسان لم يخلق عبثاً، ولم يترك حبله على غاربه، وان بذرة السعادة تكمن في الإيمان بالله وبالآخرة، وان بذرة الشقاء تكمن في عدم الإيمان وفي الانكار، فاشارت بذلك إلى طريق السعادة والى سبيل الخلاص من الشقاء، ومن الهلاك الأبدي.

أجل.... أزمة الإيمان، وأزمة الأخلاق، وعدم الخشية من الله.. هذه هي العوامل التي نهشت قلب هذه الأمة ومسخت مشاعرها العلوية إلى شهوات سفلية، فأضافت بذلك صحيفة سوداء إلى الصحائف الذهبية لتاريخنا المجيد.

واليكم ما يقوله أحد الأبناء الغيارى لهذا الوطن الذي آلمته هذه الأزمة العامة للأخلاق السائدة الآن.

"لا يمكن أن يوجد في أي بلد في العالم مثل هذه النسبة في هدم الأخلاق ما شاهدناه في الربع الأخير من هذا العصر في تركيا. إن ما نراه يومياً بأعيننا، وما نسمعه بآذاننا من وقائع وحوادث، وما تثيره هذه الحوادث في ضمير الأمة من قلق مرير بل من اضطراب شديد. فتحت كل خطوة نخطوها نضع في حسابنا احتمال وجود فخ أو حيلة أو كذب، لقد أصبحنا محوطين بالخداع والحيلة يوماً بعد يوم منذ ثلاثين سنة. إن تناقص الخشية من الله وتضاؤل التربية الدينية، والمعرفة الدينية عند الكثير من المواطنين فتح الطريق امام جميع أنواع الرذائل والشرور، وحرم المجتمع من أهم وازع ورقيب.

لقد أصبح التهجم على الله، وعلى كتابه، وعلى المقدسات، وعلى جميع القيم المعنوية علامة مميزة من علامات ادعاء  الثورية، ففي ركن الأدب في الصحف وفي المجلات ترى المقالات التي تتعرض للمعابد بالإهانة، وترى رئيس جمعية للشباب يصرخ في خطبة له أمام جمع حاشد قائلاً.

- أيها الأصدقاء.. إن الرجعية بدأت تقوى، واكبر ظاهرة على ذلك ازدياد عدد المصلين".

ان اللغط الذي اثاروه حول الرجعية وعدّهم التربية الدينية مشجعة لها لايزال يرن في آذاننا.

إن من العبث أن ننتظر من الذين لا يخشون الله أن يخشوا من الحكومة أو من القانون أو من النظام، إذ ذكاءهم الشيطاني يستطيع أن يخلصهم من عقاب أي جريمة أخلاقية مهما كان وضوحها مستفيداً من ثغرات القانون، وقد قال رئيس وزرائنا المحترم".([356]) "لقد حررنا ديننا من الضغط الذي كان تحته حتى الآن، وقد أعدنا الأذان المحمدي إلى أصله دون الالتفات إلى صرخات دراويش الانقلاب، كما قبلنا تدريس الدين في المدارس وأقرأنا القرآن من المذياع، فدولة تركيا مسلمة وستبقى مسلمة، وستطبق جميع شروط الدين الإسلامي".

بل وصل الأمر إلى أن البلدان الخارجية بدأت تكتب عن الضغط المسلط على الدين في تركيا. فمثلاً نرى الجريدة السويسرية " Neve Zuricher Zeitung"  تقول.

"إن حكومة الحزب الديمقراطي أبدت اهتماماً كبيراً برغبات ومتطلبات الشعب الدينية، ولم يبق هناك أدنى شك عند أي أحد بأن الهزيمة الكبيرة التي لحقت بأنصار العهد السابق.([357])  كانت بسبب السياسة العدائية التي اتبعوها ضد الدين طوال سبع وعشرين سنة الأخيرة.."

وهناك آلاف الأمثلة الأخرى.

وهكذا يتبين - أيها الحكام المحترمون.. - وجود ضغط على الدين في هذا البلد، ووجود أزمة في الأخلاق وأزمة عامة في جميع النواحي المعنوية والتاريخ شاهد على ذلك وتحاول الدولة والشعب التخلص من هذا الضغط.

في هذا الوضع المرعب وقف "بديع الزمان سعيد النورسي" منذ ثلاثين سنة بـ "رسائل النور" التي ألفها تجاه التيار العدائي للدين للمحافظة على وجود هذه الأمة وفكرها ومقدساتها، فثبت في القلوب الإيمان بالله، دون ان يثنيه ما وجه  إليه من مختلف صنوف الظلم والتعذيب والاضطهاد، سار في طريقه لينقذ "الأناضول" البطل من الخطر الأحمر، ولم يستطع أي شيء أن يحول دون جهاده هذا، وبرسائل النور البالغة "130" رسالة استطاع أن يصل إلى سعادة التوفيق في سد حاجة الشباب التركي، وبالتالي العالم الإسلامي، إلى الإيمان.

وعندما قام "بديع الزمان" بالجهاد المعنوي ضد الملحدين بكتابة هذه الرسائل فانه لم يختر طريق التنظيم الحزبي، بل قام بتأليف هذه الرسائل في البساتين وفي الجبال، وفي الوديان، وفي السهول. واختار طريق الانـزواء، وكانت غايته من ذلك - تجاه محاولات أعداء الدين - إصلاح نفسه، وتقديم العون إلى الراغبين في ذلك.

هيئة المحكمة الموقرة..

إننا بدل أن نبارك باسم الدولة والشعب والإنسانية جهود هذا البطل الكريم، وجهاده ضد الكفر، وضد الفتنة، وضد التيارات المعادية التي تشيب من هولها الولدان والتي تبنتها ونفخت في نارها الجهات التي تروم هدم الجانب الروحي والمعنوي لهذه الأمة، فاستطاع أن يغلب هؤلاء الأعداء بـ "رسائل النور" التي هي التفسير الحقيقي للقرآن، فأضاف لحياتنا روحاً جديدةً.. اجل إننا بدل إن نبارك الجهاد المعنوي المقدس لهذا البطل عملنا العكس تماماً، فلم يَرَ منّا سوى الظلم والأذى، ولكن هذا لم يثبط من همته ومن عزمه الذي لايلين، بل استمر في طريقه في إنقاذ إيمان الأمة التركية غير ملتفت أو مكترث لأي عائق، ونجح في سعيه هذا...

وإذا كان أعداء الدين يعتقدون أو يتصورن بأنهم بأكاذيبهم وبافتراءاتهم وبتزويرهم الحقائق، وبإلحاقهم الأذى بنا يستطيعون منعنا من نشاطنا ومن عملنا في سبيل القرآن وفي سبيل الإيمان أو يستطيعون إلقاء الخوف والرعب في نفوسنا فانهم واهمون ومخدوعون، وليعلم هؤلاء بأنهم لم يستطيعوا هز ذرة واحدة من إيماننا أو من عقيدتنا، أو من مبدئنا، كل ما استطاعوا عمله هو انهم استطاعوا أن يحلقوا رؤوسنا، ولكن من المعلوم لدى الجميع ان شعر الحليق سينبت بشكل أقوى واغزر.

وأخيراً، وفي ختام مرافعتي فانني انتظر وبقلب مطمئن ومستريح تجلي وظهور الحق والعدالة.([358])

الفصل العاشر

 رحلة الوداع

يا أبنائي....

إنني مريض ومنهك جداً.. ولكن لا تبتئسوا أبداً.. أن "رسائل النور" تقوم بإيفاء وظيفتها أفضل مني عشر مرات.. لذا فلم تبق هناك حاجة لوجودي.

بديع الزمان

سعيد النورسي

رحلة الوداع

في الأشهر الأخيرة من حياته بدأ الأستاذ "النورسي" بسلسلة من الرحلات إلى مختلف المدن، فكأنه أحس بدنو أجله، لذا كان يرغب في رؤية طلابه وفي توديع معارفه ومحبيه.

ففي 2/12/1958سافر إلى "أنقرة" مع تلميذه "زبير"، وبعد ان قضى فيها ليلة واحدة سافر إلى أميرداغ. وفي 19/2/1959 توجه إلى مدينة "قونية" لرؤية أخيه "عبد المجيد"، حيث استقبله الأهالي بمظاهر الحب والتوقير، إذ اصطفت الآلاف على جانبي الشارع الذي مرّ فيه...

ثم غادرها إلى "أنقرة" ووصل إليها في 31/12/1959، وبعد ان التقى طلابه وزواره، غادرها في اليوم التالي إلى استانبول، حيث قضى فيها يومين، رجع بعده إلى "أنقرة" مرة أخرى، ثم غادرها بعد ثلاثة ايام إلى "قونية"، وفي اليوم التالي إلى "اسپارطة".

هذه الجولات والزيارات المتلاحقة، ومن شخص في مثل عمره، وفي أيام الشتاء القارس تلك، أثارت إشفاق تلاميذه، إذ ان صحته ما كانت تتحمل تعب هذه السفرات المتلاحقة، وأثارت في الوقت نفسه مخاوف الأطراف المعادية للإسلام، ذلك لأنها كانت تحسب ألف حساب لأية حركة من الأستاذ فما بالك بهذه السفرات واللقاءات والزيارات التي كانت تتم في كل مدينة يحل فيها والتي كانت تتسم بروح الود والحب له. لذا فقد بدأت الصحف اليسارية وصحف حزب الشعب بشن حملة عنيفة على الأستاذ واصفة هذه السفرات بأنها حركة استقطاب رجعية تؤثر على أمن البلاد. لذا فانه ما ان رجع من "اسپارطة" إلى "أنقرة" مرة أخرى في 11/01/1960 حتى تم إبلاغه بواسطة نداء من إذاعة "أنقرة"؛ بأن الحكومة ترى أن من الأنسب له البقاء والإقامة في "أميرداغ.([359])

ومع أن من حقه - كأي مواطن آخر - السفر إلى أية مدينة يرغب في زيارتها، وفي الوقت الذي يريد مادام لا يخرق قانون البلد، الاّ انه فضل عدم الدخول في أي نـزاع لا معنى له مع الحكومة، لذا فقد امتثل لرجاء الحكومة، ورجع إلى "أميرداغ" ولكنه ابلغ الحكومة بأنه يفضل أن تسمح له بالإقامة شهراً في "اميرداغ" وشهراً آخر في مدينة "اسپارطة".

وفي 20/01/1960 سافر الأستاذ "النورسي" إلى "اسپارطة" حيث قضى فيها مدة التقى فيها طلابه وأصدقاءه، ثم سافر إلى مدينة "آفيون" وبعد أن بقى فيها يوماً واحداً فقط، رجع الي "أميرداغ".

مرضه الأخير

في يوم الجمعة الموافق للثامن عشر من مارت "18/3/1960" اشتد المرض على الأستاذ "النورسي" في مدينة "أميرداغ".

طبيبه المخلص الدكتور "تحسين بارچن" يحاول ما وسعه تخفيف الألم عليه، ومحاربة المرض الذي شخصه بأنه التهاب ذات الرئة الشديدة فزرقه بالإبرة وأعطاه مغذياً..

غفا الأستاذ "النورسي"، وقبيل صلاة الفجر قام من فراشه وارتدى ملابسه وتوضأ ثم صلى صلاة الفجر، وكأنه عوفي تماماً من مرضه، ثم استدعى طلابه الموجودين في المنـزل وبدأ يودعهم ويحضنهم واحداً واحداً قائلاً لهم وعيناه تفيضان بالدمع.

- استودعكم الله.. إنني راحل قريباً.

ثم بدأ بتوديع أصدقائه وطلابه الآخرين قبل ان يتوجه إلى مدينة "اسپارطة".

وهناك في "اسپارطة" كانت صحته اعتيادية حتى منتصف شهر رمضان 1379هـ، إذ كان يؤم طلابه في صلاة العشاء، اما في صلاة التراويح فان تلميذه "طاهري موطلو" هو الذي كان يؤم الجماعة.

ثم تدهورت صحته مرة أخرى، وبدأ طلابه المخلصون بالتناوب علي رعايته ليلاً ونهاراً.. كان الأستاذ "النورسي" يحس انه سيفارق الدنيا قريباً، وسيفارق هؤلاء الطلبة الأحباء إلى قلبه.. إذن فقد دنت لحظة الفراق.. لم يكن له أبناء.. كان هؤلاء أبناؤه.. لم يقض أيام حياته بين أهله وأقربائه.. بل قضاها بينهم متنقلاً من مدينة إلى أخرى، ومن سجن إلى سجن.. ومن محكمة إلى محكمة.. تقاسموا معه كل آلام الدعوة ومتاعبها وسجونها وعذابها.. لم يتخلوا عنه في أحلك الفترات.. ترك الكثير منهم آباءهم وأمهاتهم ناذرين أنفسهم لخدمته ولخدمة دعوته، وتركوا مهنهم وسبل عيشهم، راضين بالقرب منه بشظف العيش.. كانت الرابطة القلبية والروحية بينه وبينهم أقوى من رابطة الأب بأبنائه.. لو طلب منهم لافتدوه بأرواحهم دون أدنى تردد.. كانت وشائج هذه العلاقة فريدة من نوعها..

كانوا ضلالاً فهداهم الله على يديه.. وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها بفضل من الله .. كانت قلوبهم خاوية.. صدئة معتمة.. فملأها بحب الله وبحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.. كانت كل أمانيهم واحلامهم ومطامعهم وطموحهم منحصرة في هذه الدنيا الفانية، ففتح أمام أعينهم سعة الحياة الآخرة وخلودها وجمالها وجلالها..

كان هذا هو سر هذا الحب المتوهج المتبادل بين الأستاذ وطلابه.. حب لا يستطيع البشر ان ينشئه أو يقيمه.. (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) لذا فقد أحب أن يوصيهم وصيته الأخيرة فجمعهم وقال لهم بصوته الضعيف الذي أنهكه المرض والشيخوخة.

"يا أبنائي....

انني مريض ومنهك جداً.. ولكن لا تبتئسوا ابداً.. ان "رسائل النور" تقوم بايفاء وظيفتها أفضل مني عشر مرات .. لذا فلم تبق هناك حاجة لوجودي"..

معلناً بذلك لهم عن قرب وفاته ورحيله.

وفي إحدى الليالي والساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل، فتح الأستاذ "النورسي" عينيه، وبصوت خافت لا يكاد يبين قال لطالبه "زبير گوندوز آلب" الذي كان مع "بيرام يوكسال" يقوم برعاية الأستاذ في تلك الليلة.. قال له:

- سنذهب....

- اين سنذهب يا أستاذنا...

- سنذهب إلى "أورفة".. تهيأوا.

... الذهاب إلى "اورفة"؟.... وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل؟...

لابد أن الأستاذ ليس في وعيه، وانه يتحدث بهذا نتيجة الحمى الشديدة، وحرارته المرتفعة.. هذا ما حدّث به "زبير" نفسه.

وعندما انتهت دوره وخفارته وقت السحور، بدأت خفارة صديقيه "طاهري موطلو" و "حسني بيرام".

في أثناء تبادل الخفارة قال "بيرام" لـ "حسني".

- يا أخي.... الأستاذ يقول انه سيذهب.

فردّ عليه صديقه:

- ان السيارة عاطلة وتحتاج إلى تصليح.

وعندما أبلغوه بعطل السيارة قال لهم:

- ليأتوا بسيارة أخرى.... ألا نستطيع دفع مائتي ليرة؟.. إذا لزم الأمر فأنا مستعد لبيع جبتي.

أمام هذا القرار القاطع والحاسم أسرع الطلاب لتهيئة السيارة. والتفت الأستاذ إلى "طاهري موطلو" الواقف بجانبه للاعتناء به لا يطرف له جفن قائلاً له.

هيا التحق بهم.. ساعدهم.. لتتهيأ السيارة بسرعة، إذ لا أتحمل انتظاراً أكثر.

وأخيراً أصبحت السيارة جاهزة في الساعة التاسعة صباحاً.. وعندما حمل الأستاذ من قبل طلابه وأدخل السيارة سأله "زبير".

- أذاهبون نحن إلى "اورفة" يا أستاذنا؟

فأجابه بالإيجاب بإيماءة من رأسه، إذ لم يكن يستطيع الكلام.

ومع انطلاق السيارة في رحلة الوداع هذه بدأ المطر ينهمر بكل شدة.

الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً.

والتقويم يشير الى يوم الأحد.. العشرين من شهر مارت "آذار" لسنة 1960.

والسيارة منطلقة بسرعة إلى مدينة "اورفة".. الأستاذ في المقعد الخلفي محاط بالبطانية، وثلاثة من طلابه معه.. هم. "حسني" سائقاً للسيارة، و "بيرام" مع "زبير گوندوز آلب" للاعتناء بالأستاذ "النورسي".

بقي "طاهري موطلو" لحراسة الدار.. ولكن سرعان ما انتبهت أعين الجهات الأمنية المترصدة إلى غياب السيارة من أمام البيت.

تقدم مأمور الأمن ودق على الباب، فخرج "طاهري موطلو"..

- إلى أين ذهب؟

- لا أدري.. يحتمل انه توجه ناحية "أگريدر".

- تعال إلى مركز مديرية الأمن.

وهناك أمطروه بوابل من الاسئلة. أين ذهب؟ ولماذا ذهب؟ قل لنا.. تكلم.

ولكنهم لم يأخذوا منه سوى الجواب الذي سمعوه منه أول مرة أمام الدار.

تضاعف قلق موظفي الأمن، فاستعملوا الهاتف واللاسلكي يسألون الجهات الأمنية في كل المدن التي يحتمل انه توجه إليها.. يسألون "اگريدر" و "بارلا" و"اميرداغ".. ولكن لم يتلقوا أي جواب شافٍ، مما زاد من قلقهم وكأن مجرماً دولياً خطيراً أفلت من أيديهم.

المطر ينهمر بشدة والسيارة منطلقة بأقصى سرعتها باتجاه "اورفة" ولكنها يجب ان تمر من "اگريدر".. ولكي تتعذر قراءة رقم السيارة  فقد لطخوا أرقامها من الأمام ومن الخلف بالطين، وكأن الأوحال المتطايرة من السيارات ومن الطريق هي المسؤولة عن ذلك. وبذلك وصلوا إلى "اگريدر" وغادروها دون ان يلحظهم أحد.

عندما وصلوا إلى "شارقي قره آغاج" استراحوا قليلاً، وأدوا صلاة  الظهر فيها، ثم انطلقوا منها إلى "قونية" وعندما وصلوا إليها كان الأستاذ "النورسي" قد ختم أدعيته وأوراده التي بدأها من أول الرحلة..

عندما وصلوا إلى "قره پنار" خاطب الأستاذ "النورسي" طلابه بصوت ضعيف قائلاً لهم.

"يا أبنائي....

ان "رسائل النور" قد قصمت أظهر اللادينيين والشيوعيين والماسونيين فلا تقلقوا أبداً.. إن "رسائل النور" ستغلب دائماً.. ان هؤلاء - يقصد السياسيين - لم يفهموني.. فقد حاولوا دفعي إلى السياسة".

وعندما حان وقت الإفطار وهم في "اولو قشلة" لم يستطع الأستاذ "النورسي" تناول أي طعام، ثم ارتاحوا مدة تقارب الساعة في "جيحان"، ادوا صلاة التراويح فيها.

وعندما ارتفعت أصوات أذان الفجر من مساجد القرى كانوا قد وصلوا قمة جبل "نورداغ" أي "جبل النور". وهناك أدوا صلاة الفجر، واداها الأستاذ داخل السيارة أيضاً.

في الساعات الأولى من صباح الاثنين 21مارت 1960دخلت السيارة إلى مدينة "غازي عنتاب".. كانت عاصفة ترابية حمراء تهب على مدن "الأناضول"، وباختلاطها مع المطر المنهمر كانت الدنيا وكأنها تمطر طيناً.. تمطر وحلاً أحمر.

وعندما كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحاً دخلوا مدينة "اورفة".. وهناك بدلالة أحد طلاب النور قصدوا فندق "إيپك پالاص" حيث شغلوا الغرفة رقم "27" في الطابق الثالث منه.

سرعان ما انتشر خبر وصول الأستاذ "النورسي" بين أهالي "أورفة" فبدأوا يتوافدون على الفندق زرافات ووحداناً لرؤية الأستاذ.

في صباح اليوم التالي جاء إلى الفندق اثنان من رجال الأمن بملابس مدنية وبوجه عابس وجبين مقطب سألوا عن السائق.

- اين السائق؟

- لماذا تسألون عن السائق؟

- لا تتكلم..... سترجعون حالاً.. تهيأوا لذلك.

ولم يلبث ان قام أفراد من الشرطة يبلغ عددهم العشرة تقريباً بتطويق الفندق. وصعد قسم منهم إلى غرفة الأستاذ ليبلغوه القرار الحكومي الرسمي حول ذلك.

- لقد أمر وزير الداخلية السيد "نامق گدك" بوجوب عودتكم إلى "اسپارطة".. تهيأوا للمغادرة حالاً.

قال لهم الأستاذ "النورسي" المستلقي على فراش الموت وهو يعيش ساعاته الأخيرة بصوته الواهن.

- عجباً.... أنا لم أحضر إلى هنا لكي أغادره.. من المحتمل أن أموت.. الا ترون حالي.. عليكم بالدفاع عني أمام مسؤوليكم.

غادروا الغرفة ولكنهم ساقوا معهم "زبير" و "حسني" إلى مديرية الأمن في المدينة.. وبدأت الأسئلة المنهمرة كالمطر:

- لماذا جئتم إلى هنا؟ ممن أخذتم الإذن بذلك؟.

وكأن قيام أي مواطن بالسفر في بلده أمر يحتاج إلى مراجعة السلطات الرسمية وأخذ الإذن منها.

أجابهم "زبير".

- نحن تابعون لأستاذنا... نحن كالحجر الجامد يدفعنا الأستاذ فنتدحرج إلى حيث يشاء... نذهب إلى المكان الذي يرغبه.

- ياله من أستاذ!! قولوا له بأن هناك أوامر قاطعة من الجهات العليا بوجوب خروجكم فوراً من "اورفة" لتعودوا من حيث أتيتم، وإذا لم تستطيعوا الذهاب بسيارتكم فسنعطيكم سيارة إسعاف.

- ان مرضه شديد يا سيدي.. ومن المحال عليه تحمل متاعب رحلة أخرى تستغرق "24" ساعة.. ونحن لا نستطيع أبداً التدخل في شؤونه، وهو في غاية المرض والوهن.

- عليه أن يغادر المدينة مثلما جاءها.. إن القرار الصادر من السيد الوزير نفسه قرار قاطع.. عليكم بالخروج حالاً من "اورفة".

- لا نستطيع نحن التدخل بأي شكل من الأشكال.. اذهبوا  إليه واعرضوا الأمر عليه، فان قال لنا "سنذهب" فإننا سنذهب، فنحن لا نستطيع أن نقول له شيئاً، كما لا نستطيع القيام بتبليغه بأوامركم.

أمام هذه الأجوبة القاطعة التي تنضح حباً وارتباطاً لا ينفصم أبداً تكهرب الجو في مديرية  الأمن، إذ احتد أفراد الأمن وعلى رأسهم مدير الأمن الذي بدأ يصرخ.

- ماذا تعنون؟ وما معنى هذا ؟ ألا تستطيعون أن تقولوا له حتى مثل هذه الأمور الصغيرة؟...

- نعم سيدي.. .. لا نستطيع أن نقول له.. نحن نطبق حرفياً ما يقوله أستاذنا.

- وأنا مرتبط ايضاً برؤسائي.. يجب عليكم ان تتركوا "اورفة" في ظرف ساعتين والعودة إلى " اسپارطة".

في هذه الأثناء حضر طبيب إلى الفندق لفحص الأستاذ، ولكنه قبل القيام بهذه المهمة ترك الفندق..

الظاهر انه تلقى امراً بذلك من رجال الأمن فقد خشوا ان يؤيد تقرير الطبيب ضرورة بقاء الأستاذ.

ما لبث أن انتشر  هذا الخبر  بين أهالي "اورفة" فأثار سخطهم.. كيف يحدث هذا؟ ما الذي تخشاه الحكومة؟ وما سبب هذه المعاملة التي تتعارض مع أبسط المبادئ الإنسانية؟.. ومع من.. مع عالم جليل قضى عمره المديد في خدمة القرآن،  وخدمة الإيمان، وحمل البندقية وجاهد الغزاة الروس في الخنادق الأمامية..

كان ذلك وضعاً غريباً تأباه كل نفس سوية، لذا  بدأ الأهالي بمراجعة جميع المراجع التي يمكن أن تمد يد المساعدة وتنهى مثل هذا الموقف النشاز والمستهجن، وكان مركز الحزب الحاكم "الحزب الديمقراطي" في المدينة أحد هذه المراجع، وما أن سمع السيد "محمد خطيب اوغلو" رئيس فرع الحزب الديمقراطي في "اورفة" بالخبر حتى هبّ مسرعاً الى مديرية الأمن، وخاطب المدير هناك بحدة قائلاً.

- ما هذا الذي يحصل؟ .. إذا قمتم بإخراج "بديع الزمان" من هنا فستجدونني أمامكم.. لا يمكنكم مس شعرة واحدة منه، ولا إجباره على خطو  خطوة واحدة من هنا، انه ضيفنا.

-  ولكن هنا أوامر من الجهات العليا يا سيدي.. عليه أن يرجع حالاً إلى مكانه الذي جاء منه.

- كيف يرجع يا هذا؟.. انه مريض جداً، وليس باستطاعته القيام بأية حركة.. وهو شخص فاضل جداً..

لقد جاء الينا ضيفاً.. انه ضيف الله، فلا داعي هناك لمثل هذا الضغط.

- يا سيدي إن الأوامر الآتية من "أنقرة" صارمة جداً وقطعية جداً.. عليه ان يرجع حالاً.

ومن شدة غضبه اخرج السيد "محمد خطيب اوغلو" مسدسه ووضعه على المنضدة مهدداً.

في هذه الأثناء تجمع ما يقارب خمسة آلاف من الأهالي امام الفندق وهم يعلنون سخطهم  وغضبهم على هذه المعاملة الشاذة والغريبة.

واسرع بعض طلبة النور إلى المستشفى وقدموا طلباً إلى مدير المستشتفى للقيام بفحص الأستاذ للتأكد من عدم قدرته على السفر.

وجاء السيد "محمد خطيب اوغلو" إلى المستشفى حيث صحب الطبيب الحكومي إلى الفندق.

قام الطبيب بفحص الأستاذ ثم التفت إلى طلابه قائلاً لهم باستنكار.

- كيف تجاسرتم على القدوم إلى هنا؟.. إن حرارته تبلغ أربعين درجة.. تعالوا غداً في الساعة التاسعة لكي نعطي له تقريراً موقعاً من قبل لجنة طبية.. لا يمكنه بحاله هذه الانتقال إلى أي مكان.([360])

 الدقائق الأخيرة

بدأ طلاب النور بالتناوب في حراسة الأستاذ والعناية به في تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي "أي في يوم الثلاثاء 22 مارت  1960" حضر أفراد من الشرطة إلى الفندق واخذوا مفتاح السيارة العائدة  لطلبة الأستاذ " النورسي"، ثم ما لبث أن جاء مدير الأمن نفسه إلى الفندق لمقابلة الأستاذ.. اخبروا الأستاذ بذلك فقال: ليأت.

دخل مدير الأمن وكرر اقواله السابقة حول ضرورة رجوعه، وان هذه الأوامر قطعية وصادرة من وزير الداخلية.([361]) ، قال له الأستاذ "النورسي".

"إنني أعيش الدقائق الأخيرة من عمري.. فأنا راحل.. وقد أتوفى هنا.. إن واجبكم ان تقوموا بتهيئة الماء  الساخن لغسلي ميتاً.. بلغ رؤساءك بذلك".

أمام هذا المنظر.. منظر العالم الشيخ المسجى على فراش الموت وأمام كلماته هذه التي تلين أقسى القلوب، نكس مدير الأمن رأسه، وقفل راجعاً هو وأفراد الشرطة الآخرون متأثراً بذلك الموقف تأثراً عميقاً.

في ذلك اليوم قام الأهالي والجمعيات في "اورفة" بامطار العاصمة "أنقرة" بمئات من برقيات الاستنكار.

- بأي حق تقومون بإخراج "بديع الزمان النورسي" من "اورفة"؟.

في هذا اليوم حدث شيء غريب.. إذ أن الأستاذ "النورسي" في أيام مرضه في السابق كان لا يستطيع استقبال زواره، وكان طلابه يعرفون هذا، وكذلك أصدقاؤه ومحبوه، لذا لم يكونوا يدخلون عليه، بل يسألون طلابه عن صحته ثم يغادرون المنـزل.. أما اليوم وهو في مثل هذه الحالة من المرض الشديد والوهن الشديد، والحرارة المرتفعة فلم يرفض استقبال الزوار.. المئات والمئات من الزوار الذين وفدوا عليه يقبلون يديه "على عادة الأتراك في توقير الكبير سناً أو علماً"، ويرجون دعاءه.. كان يضم كل واحد إلى صدره ويدعو له.. كأن الله تعالى أعطاه قوة في ذلك اليوم ليودع الناس الوداع الأخير..

واخيراً أقبل المساء وساد الصمت أرجاء الفندق.. قام الطلاب بقفل الباب من الداخل تحسباً لأي إزعاج من قبل رجال الأمن.

ارتفعت حرارة الأستاذ "النورسي" في ذلك المساء، واخذ يزيح اللحاف لشدة حرارة جسده، فيأخذ طالبه الوفي "بيرام يوكسال" - الذي كانت الخفارة عليه في ذلك المساء - بتغطيته بلطف مرة أخرى، لا يطرف له جفن..  حواسه مركزة عليه .. يشاهد وجه أستاذه النوراني وقد احمّر من شدة الحمى وشفتاه تتحركان بأدعية ومناجاة لا يسمعها.. يمشي على أطراف أصابعه لكي لا يحدث أي صوت، يحنو عليه اكثر من حنو الأم على طفلها.

تقترب الساعة من الساعة الثالثة بعد منتصف الليل..يقترب منه ويضع يده بلطف على صدر الأستاذ ثم يحدث نفسه.

-  الحمد لله .. الظاهر انه تحسن قليلاً..  واستغرق في النوم.. ثم قام ومشى بكل هدوء وأشعل المدفأة.. لم يكن يعرف أن أستاذه قد رحل.. وعلى جدار الفندق كان  التقويم يشير إلى يوم  الأربعاء 23/مارت 1960 - 24/ رمضان/1379

ومضت الدقائق .. دقيقة إثر دقيقة..

حان وقت السحور، فجاء الطلاب  الآخرون.. "زبير كوندوز آلب" و"حسني بيرام" و"عبدالله يگن" ([362])

ثم حان وقت صلاة الفجر، وارتفع الأذان في جوامع " اورفة".

الله اكبر ... الله اكبر...

اشهد أن لا اله إلا الله....

......

... انتظر الطلاب من أستاذهم السؤال الذي طالما سمعوه منه في مثل هذه الأوقات:

- هل حان وقت صلاة الفجر؟

ولكن الأستاذ لم يسأل.. ولم يتحرك.. وكأنما خشوا أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال.. أو أرادوا أن يهربوا من هذا السؤال.. لم يجسروا على ذلك.. أسرعوا في استدعاء الواعظ "عمر أفندي" - أحد طلاب النور في اورفة - .. وعندما أتى وفحص نبض الأستاذ قال بصوت مرتعش وعيون  دامعة:

- إنا لله وإنا  إليه راجعون..

بعد قليل جاء صاحب الفندق السيد "محمد أفندي" الذي ما أن ألقى نظرة واحدة على الغرفة حتى علم حقيقة الأمر فصرخ بصوت مكتوم وأخذ يضرب على ركبتيه، ثم ارتد راجعاً وهو يتأوه، وعند السلم تقابل مع مدير الأمن الذي كان صاعداً في طريقه إلى غرفة الأستاذ..

سأله مدير الأمن وهو يراه يبكي:

- ماذا حدث؟

- لقد توفي

- أتوفي حقاً؟

- أجل..

أرسلوا الطبيب لفحصه والتأكد من وفاته.. بعد  الفحص قال الطبيب مندهشاً.

- يا للحيرة.. إن حرارته مرتفعة. لقد توفي ولكن حاله لا تشبه حال المتوفين.. لذا لا أحبذ نقله حالاً.. أفضل الانتظار لبعض الوقت لانني في حالة شك.

ثم كتب تقرير الوفاة.. وبعده جاء حاكم التركات وسجل موجودات المرحوم.

ساعة،

جبة،

عمامة،

وعشرون ليرة..

كان هذا هو كل ما لديه ... حيث أمر بتسليمها إلى أخيه.

انتشر الخبر اولاً في "اورفة" فجاء الآلاف من أهاليها وتجمعوا أمام الفندق. ثم تم إرسال البرقيات إلى جميع أنحاء تركيا، فبدأ الآلاف من كل أنحاء "تركيا" بالتوجه إلى "اورفة" لحضور جنازة المرحوم.

تم الغسل والتكفين في جامع "خليل الرحمن" ثم حمل النعش إلى الجامع الكبير "اولو جامع" حيث بقى هناك حتى صباح اليوم التالي، وتم قضاء الليل كله في قراءة القرآن والأدعية.

كانت النية معقودة على أن يتم الدفن يوم الجمعة، ولكن السلطات الامنية خشيت زيادة الازدحام وزيادة الوافدين فتم الدفن يوم الخميس 24 مارت 1960/25 رمضان 2379 في الفناء الخارجي لجامع "خليل الرحمن" بعد أن سار عشرات الآلاف من الناس في جنازته وفي الصلاة عليه.([363])

٭٭٭

هكذا كانت وفاته رحمه  الله..

هذا العالم المجاهد طوال عمره وحتى نفسه الأخير..

لم يكفوا عن مطاردته حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.. خاف منه أعداء الله وهو طليق..

وخافوا  منه وهو سجين..

وخافوا منه وهو وحيد ومحاصر في بيته..

وخافوا منه وهو على فراش الموت..

ولكن  الأدهى من ذلك والأنكى انهم خافوا منه وهو ميت ومتوسد في قبره..

أيعقل هذا؟

أيصدق هذا ؟

أيعقل أن يحدث في القرن العشرين، وفي بلد يدعي الانتساب إلى الحضارة الغربية ما لم يحدث في اكثر عهود التاريخ ظلماً وظلاماً؟....

ولكن هذا ما حدث فعلاً. ونعذر من لا يصدق.. فهو فعلاً خارج العقل وخارج التصديق..

واليكم التفاصيل:

 النورسي . المجاهد المطارد بعد وفاته

بعد شهرين تقريباً من وفاة الأستاذ "النورسي" وقع الانقلاب العسكري "في 27مايس 1960" ضد الحزب الحاكم وهو "الحزب الديمقراطي" وكان الانقلاب تحت قيادة الجنرال "جمال گورسل"، وكان هذا الانقلاب من سلسلة الانقلابات العسكرية التي ابتليت بها شعوب العالم الثالث. وقام قادة الانقلاب بإعدام رئيس الوزراء السابق "عدنان مندرس" واثنين من وزرائه دون أن يكون هناك أي سند قانوني أو دستوري يستوجب الإعدام.([364]) وحكموا بالسجن بمدد مختلفة للوزراء.

ولكن الذي يهمنا هنا هو موقف هذه الحركة الانقلابية العسكرية من الحركات الاسلامية، فقد أظهرت عداءً صريحاً لهذه الحركات  إذ عدّتها حركات رجعية تحاول هدم ما بناه "اتاتورك" الذي جعلوا منه صنما ً معبوداً لا يستطيع أحد ان يناقش افكاره أو "انجازاته الثورية.." بل لا يستطيع أحد حتى كتابة التاريخ الصحيح لحياته لأنه يحتوي على مباذل كثيرة جداً لا تتفق مع الهالة التي اضفوها عليه.

ولما كانت حركة النور من اكبر الحركات الإسلامية في "تركيا" فلم يكن هناك مناص أن ينالها الأذى من هذا الانقلاب، لذا تركز حقد هذا الانقلاب على الأستاذ "النورسي" حتى وهو راقد في قبره، ولعلهم أسفوا كثيراً لأنه لم يكن في وسعهم إعدامه.. لقد جاءوا إلى الحكم وهو ميت.. إذ ن فلا بد من عمل يستطيعون به تفريغ حقدهم عليه. فاقدموا على عمل لا يتوافق لا مع شرفهم العسكري فحسب بل مع ابسط قواعد الأخلاق والضمير الإنساني، فكان عملهم هذا دليلاً على مدى الانحطاط الأخلاقي الذي انحدروا  إليه وهم الذين تصدوا لقيادة شعب ودولة..  ولكن بهذه الأنفس المريضة.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول.

"اذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" ([365])

" .. ففي يوم 11 تموز سنة 1960 توجه والي مدينة "اورفة" مع  القائد العسكري للقطاع الشرقي بطائرة عسكرية إلى مدينة "قونية" حيث كان شقيق الأستاذ "سعيد النورسي"، الشيخ عبد المجيد واستدعي إلى قصر الوالي، وقيل له:

-  ستقوم بنقل رفات أخيك "الشيخ سعيد النورسي" من "اورفة" وسيتم هذا النقل على افتراض طلبك أنت، لذا وقّعْ على هذه الورقة.

- ولكني لم اطلب هذا .

- لا داعي للإطالة.. وقّع على هذه الورقة.

 وهكذا اجبر المسكين تحت التهديد والوعيد على تنفيذ طلبهم".

لنستمع إلى السيد "عبد المجيد"، وهو يروي ذكرياته حول هذا العمل الذي لا يجد الإنسان كلمة أو جملة مناسبة لوصفه.

" في بداية شهر تموز أي  بعد مرور ثلاثة اشهر على وفاة شقيقي جاءني ظهر أحد الأيام شخص، عرفت فيما بعد أن اسمه "إبراهيم يوكسل" وانه رئيس شعبة الأمن قائلاً لي، بأن الوالي يستدعيني.

فذهبت معه إلى بناية الولاية حيث شاهدت ثلاثة من جنرالات الجيش مع الوالي، كان أحدهم "جمال تورال"([366])  والآخر "رفيق طولغا". خاطبني "جمال تورال" قائلاً:

- إن زواراً عديدين من الولايات الشرقية والجنوبية يأتون لزيارة قبر شقيقكم، وكما تعلمون فإننا نعيش ظروفاً دقيقة، لذا فإننا نريد أن ننقل رفات شقيقكم - بمعاونتكم ايضاً - إلى أواسط "الأناضول"، فنرجو توقيع هذه الورقة.

ومدّ اليّ بعريضة مكتوبة على لساني، قرأتها ثم قلت:

- ولكني لم أطلب هذا .. أرجوكم... دعوه يرتاح على الاقل في قبره.

فأصروا على موقفهم، وقالوا بأنه لا مناص من التوقيع..

وبعد التوقيع، توجهنا إلى المطار، حيث أقلتنا طائرة عسكرية إلى "اورفة".

وهناك توجهنا إلى بناية عسكرية، عرضوا عليّ الطعام فرفضت، إذ كنت مرهقاً وفي حالة نفسية سيئة. وفي الثالثة ليلاً ذهبنا إلى المقبرة.

كان هناك تابوتان اثنان في صحن الجامع، وبعض الجنود.. اقترب مني طبيب عسكري وقال : لا تقلق ولا تحزن . سننقل الأستاذ إلى "الأناضول".

وعلى اثر كلام الدكتور جاشت نفسي فأجهشت بالبكاء..

استدعي الدكتور الجنود قائلاً لهم:

- سننقل الأستاذ من هذا التابوت إلى التابوت الثاني.

ولكن الجنود كانوا يترددون ويخافون:

- لا نستطيع ذلك... سيسخطنا الله. فقال لهم  الطبيب:

- يا إخواني نحن مأمورون، وليس أمامنا سوى التنفيذ..

قام الجنود بهدم القبر واخراج التابوت منه. وفتحوا التابوت. قلت في نفسي:

- لا بد ان عظام اخي الحبيب قد أصبحت رماداً  ولكن ما ان لمست الكفن حتى خيل  اليّ انه قد توفي بالأمس... كان الكفن سليماً ولكن مصفراً  بعض الشيء من جهة الرأس. وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطر ة ماء.

وعندما كشف الطبيب الكفن عن وجهه، نظرت  إليه .. كانت هناك شبه ابتسامة على وجهه..

احتضنا ذلك الأستاذ العظيم المظلوم، ووضعناه في التابوت الآخر الكبير الذي كان الجنود قد جلبوه، وملئنا الفراغ حوله بالأعشاب.

وعندما تم كل شئ، ذهبنا إلى المطار .. كانت الشوارع خالية من الأهالي ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح حيث أعلن منع التجول في المدينة.

لم تسع الطائرة الأولى التابوت الكبير فجلبوا طائرة ثانية، ووضعنا التابوت فيها. وجلست بجانبه..

كان الحزن والأسى يملأن قلبي، وكانت عيوني مليئة بالدموع " ([367])

توجهت الطائرة إلى مدينة "افيون" حيث نقل التابوت إلى سيارة إسعاف اخذت طريقها إلى مدينة اسبارطة حيث دفن هناك في مكان مجهول.

٭٭٭

هذا هو التاريخ الفريد لشخص فريد قلما يجود التاريخ بمثله.-

كان علماً من أعلام العلم..

وكان علماً من أعلام العمل..

وكان علماً من أعلام الجهاد..

انشأ جيلاً كاملا من الشباب المؤمن .. النقي.. الداعي إلى سبيل  الله..

احبه المسلمون.. وانس به المؤمنون .. وارتعب منه أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم.

ارتعبوا منه حتى في مماته.. فنقلوا رفاته ..

ولكن البذرة التي زرعها وشجرة الإيمان التي سقاها ستبقى باسقة وعملاقة.. وستعطي ثمارها بإذن الله ولو كره الكافرون..

"كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها".

 طلبة النور بعد وفاة الأستاذ النورسي

قد يشتاق القارئ إلى معرفة وضع حركة طلبة النور في تركيا. ماذا فعل طلبة النور بعد رحيل أستاذهم؟ هل اضمحل نشاطهم وطوتهم الأيام؟ ام بقوا؟ ام تشتتوا؟ أم لا يزالون في الميدان؟

لمعرفة الإجابة على هذه الأسئلة قد نحتاج إلى كتابة كتاب كامل نستعرض فيه نشاطهم وأحوالهم حسب الأدوار السياسية التي طرأت على تركيا والحكومات - المدنية منها والعسكرية - التي تتابعت عليها، والتي كان لكل منها موقف خاص من الحركة وكانت للحركة موقف خاص منها، ولكون الشرح المفصل لهذا الموضوع خارج نطاق هذا الكتاب وخارج مهمته  لذا فإننا هنا نكتفي بإعطاء شرح موجز ومركز.

وضع الأستاذ النورسي أسس وطريقة وأسلوب النشاط الإسلامي لطلبته، أو بتعبيره هو  الخدمة القرآنية والإيمانية، والتي نستطيع تلخيصها كما يلي:

١- الاهتمام بدراسة رسائل النور وهضمها جيداً.

٢- العمل على نشر رسائل النور بين الناس والمقاييس الإيمانية والنظرة القرآنية الشاملة للكون وللمجتمع وللفرد الإنساني التي تحتويها هذه الرسائل والمقتبسة من القرآن الكريم.

٣- تركيز العناية على العمل الإيجابي والابتعاد عن العمل السلبي أي الاهتمام بالبناء وليس بالهدم .

٤- يكون كل شئ في إمرة  الإسلام ومن اجله وفي خدمته، ولا يستخدم  الإسلام ولا يستغل لاجل أي غرض آخر، ويكون موقف طلبة النور من المسؤولين والحكام موقف المرشد والدال إلى الخير والصلاح وليس موقف النقد والخصام معهم.

٥- لم تكن طريقة الأستاذ النورسي فرض  الإسلام بالقوة على المجتمع، بل يكون تحقق  الإسلام في المجتمع بشكل تدريجي ونتيجة نشر  الإسلام الصحيح بين افراد المجتمع، وعندما تنجح الحركات الإسلامية في جذب 60-70٪  من المجتمع إلى  الإسلام الصحيح فكراً وعملاً يظهر  الإسلام بكل مؤسساته وبكل جوانبه المضيئة.

وبعد وفاة الأستاذ النورسي تسلم قيادة الجماعة وتوجيه نشاطها وادارة فعالياتها بعض طلاب النور من المقربين إلى الأستاذ النورسي والذين قضوا سنوات عديدة معه والذين تربوا على يديه، وكان أكثرهم آنذاك في مدينة "أنقرة" أو في مدينة "استانبول" يشرفون على  طبع رسائل النور وعلى توزيعها. غير ان طلبة النور لم يجدوا الجو  الهادئ والمناسب لتسيير دفة هذه الحركة إذ لم يمض سوى شهرين على وفاة الأستاذ النورسي حتى وقع الانقلاب العسكري في 27/مايس/1960 الذي اطاح بحكم الحزب الديقراطي.

وكما ذكرنا سابقاً فان حقد قادة هذا الانقلاب العسكري للحركات الإسلامية عامة ولحركة طلبة النور خاصة كان كبيراً إلى درجة قادهم إلى عمل شائن قل نظيره في التاريخ وهو القيام بنقل رفات الأستاذ النورسي إلى مكان مجهول في ولاية "اسبارطة" ثم تتابعت حركة الاعتقالات  والمحاكمات لقادة ولأفراد حركة النور.

في هذه السنوات نرى تميز بعض الأجنحة في صفوف طلبة النور وحدوث بعض الخلاف بينهم حول افضل الطرق في خدمة الدعوة، أي تميز كل جناح بنوع من النشاط وبنوع من الاجتهاد وخاصة حول نسبة الاقتراب من السياسة، إذ عندما نفذ قادة الانقلاب العسكري وعودهم بالانسحاب من الحكم وتسليمه إلى المدنيين قامت احزاب جديدة كان اهمها حزب العدالة "الذي سرعان ما تسلم "سليمان ديميرل" قيادته". محل الحزب الديمقراطي" السابق، كما ظهر لاول مرة حزب ذو اتجاه اسلامي هو " حزب النظام الوطني" تحت قيادة البروفسور "نجم الدين اربقان" ولظروف سياسية تبدل اسم هذا الحزب إلى حزب السلامة الوطني" اولاً ثم إلى "حزب الرفاه" وبقي " حزب الشعب الجمهوري" باسمه القديم وبزعامته القديمة " أي تحت قيادة عصمت اينونو".

علماً بأنه قُدّم اقتراح إلى طلبة النور للقيام بتشكيل حزب اسلامي من قبلهم وذلك قبل تشكل حزب النظام الوطني، ولكن هذا الاقتراح رفض من قبل طلبة النور بالاجماع تقريباً.

وقد فضل معظم اجنحة حركة النور اعطاء اصواتها إلى حزب العدالة "خليفة الحزب الديمقراطي الذي كان قريباً من قلب عامة المسلمين في تركيا" وذلك لاسباب عديدة كان من اهمها.

١" ان اعطاء الاصوات إلى " حزب النظام الوطني" وهو حزب ناشئ سيؤدي إلى تشتيت اصوات جبهة اليمين ولن يستفيد من ذلك سوى الحزب الشعب الجمهوري الذي له تاريخ طويل في عداء  الإسلام والمسلمين والتنكيل بهم، أي ان الغاية كانت الحيلولة دون وصول حزب الشعب إلى الحكم وذلك حسب القاعدة الشرعية " درء المفسدة اولى من جلب المنفعة" ولم يكن هناك أي احتمال لوصول الحزب النظام الوطني إلى الحكم آنذاك.

٢" كان طلبة النور يؤمنون بأن الظروف في تركيا "داخلية كانت ام خارجية" ليست مساعدة ولا ملائمة لوصول حزب اسلامي إلى الحكم، فقبل ذلك أو بعد ذلك سيقع انقلاب عسكري ويبدأ فصل جديد من الارهاب الدموي ضد المسلمين وضد الحركات الاسلامية.

٣" وجود استفهامات كبيرة حول مدى قدرة حزب النظام الوطني على التمثيل الجيد للإسلام أو قدرته على ادارة شوون الدولة بكادره الموجود وهوكادر ناشئ غير متمرس.

اذن فامام هذه الظروف السياسية التي مرت على تركيا ظهرت اجنحة متعددة في حركة النور، فقد فضل قسم منهم الابتعاد التام عن السياسة وكرسوا جهودهم في دراسة رسائل النور  وفي طبعها ونشرها، واقترب  قسم منهم من السياسة بحذر وخاض اخرون بحر السياسة "في السنوات الاخيرة خاصة" ولاسيما في تأييد الحزب الجديد ل-"سليمان ديميرال" وهو حزب "الطريق القويم" باعتباره امتداداً للحزب الديمقراطي الذي سبق للاستاذ النورسي بأن ايده في الانتخابات في مواجهته الحزب اليساري المعادي للاسلام وهو "حزب الشعب الجمهوري". وهذا الجناح يتكون حالياً من الشباب، لذا لا نجد في صفوفهم من تلاميذ الأستاذ النورسي القدماء، وقد ادى هذا إلى احتجاج الكثير من طلبة النور وقادتهم القدامى  الذين يذكرون ان مهمة الحركة هي نشر الوعي الإسلامي حسب المنهج الذي اختطه لهم الأستاذ النورسي وليس الانغمار في السياسة إلى درجة قد يوهم الآخرين بانهم اصبحوا يسيرون خلف حزب سياسي معين لا علاقة وثقى له بالاسلام "وان كان يضم جناحاً اسلامياً".

كما تختلف هذه الاجنحة في حركة طلبة النور في ناحية العمل الاسلامي، فقسم منها تهتم بالقاء المواعظ والخطب وتسجيلها ونشرها وبانشاء مدارس حفظ القرآن الكريم وتدريسه وانشاء المدارس والاقسام الداخلية لتربية النشء الجديد على الاسلام، وقسم منها تركز على انشاء المطابع لطبع الكتب والمجلات الاسلامية... الخ أي تم تقسيم الوظائف بينهم.

والناحية الايجابية في هذا الموضوع هو أن هذه الأجنحة لا تتخاصم فيما بينها في الغالب.

واذا رغبنا في القاء نظرة على النشاط الكلي لهذه الاجنحة فاننا نرى الشئ الكثير، بل الكثير جداً، حتى اننا نستطيع القول باننا لانعرف بلداً اسلامياً  اخر له كل هذا النشاط الإسلامي المتعددة الجوانب والمتعددة الانشطة.

 المطبوعات

ندرج ادناه نشاط هذه الاجنحة في مجال الطباعة والنشر.

١- صحف يومية.  مثل صحيفة "يني نسل" أي " الجيل الجديد" وصحيفة "الزمان"، وصحيفة "ينى آسيا" أي "آسيا الجديدة".

٢- مجلة اسبوعية ملونة للاطفال باسم " جان قارداش" أي " الشقيق الحبيب"

٣- مجلة شهرية ملونة للمرأة وللبيت المسلم تحت اسم "بيزم عائلة" أي "اسرتنا".

٤- مجلة شهرية علمية ملونة باسم "الظفر"

٥- مجلة شهرية اجتماعية وفكرية ملونة باسم " كوپرو" أي " الجسر"

٦- مجلة شهرية ادبية واجتماعية وفكرية ملونة باسم "سيزينتى" أي "الترشح".

٧- مجلة شهرية ادبية واجتماعية وفكرية باسم " سور" أي السور

٨- مجلة شهرية باربع لغات هي العربية والتركية والانجليزية والالمانية تحت اسم "النور". تصدر باستانبول. وتصدر بالانكليزية في امريكا.

 اما من ناحية اصدار الكتب فنستطيع درج نشاطهم كما يلي

١- طبع ونشر مئات الالاف من رسائل النور بمختلف الطبعات.

٢- طبع سلسلة علمية - ايمانية "اي تربط  العلم بالايمان" في ضوء الاسس والمقاييس التي ذكرها النورسي في ربط هذين الركنين أي ركن الإيمان والعلم تحت اسم  سلسلة "العلم والتقنية" وقد صدر منها حتى الان  29 كتاباً، قمنا باختيار وترجمة  الكتب التالية منها للعربية.

١- دارون ونظرية التطور

ب - الإنسان ومعجزة  الحياة

ج - الانفجار الكبير أو مولد الكون

د - اسرار الذرة

ه - مذكرات نحلة.

٣ - طبع سلسلة علمية بمستوى فهم وادراك الاطفال والصبيان بلغ عددها الان تسعة كتب.

٤ - طبع سلسلة من قصص البطولة في التاريخ الإسلامي للاطفال.

٥ - طبع قصص قصيرة وروايات اسلامية.

٦- القيام بترجمة بعض رسائل النور إلى اللغات الانجليزية والالمانية والفرنسية والاردية.

اما الترجمة العربية لهذه فقد تم من قبل الأستاذ احسان قاسم الصالحي، وطبعت منها في العراق ومصر والجزائر واستانبول.

٧ - اصدار موسوعات عديدة ومهمة.

ا - موسوعة التاريخ القريب لتركيا في "٥١" جزء صدر منها حتى الان "١١" جزءً.

ب - موسوعة سلاطين آل عثمان. في ثلاثة اجزاء.

ج - موسوعة " الطبيعة وخوارقها" في جزئين.

د - موسوعة علماء  الإسلام  في مجلد.

هـ  - موسوعة  الصحابة الكرام في جزئين

و - الموسوعة الجديدة. خاصة برسائل النور.

٨- اصدار كتب اسلامية تتناول مجالات عديدة في الفكر والتربية والاجتماع والقانون والادب والعقيدة والسياسة  والاقتصاد ..  الخ.

٩-  انشاء مراكز لتسويق الكتب هاتفياً "في المدن التركية الكبيرة خاصة كاستانبول وانقرة وازمير" فيستطيع أي شخص الاتصال هاتفياً بمركز هذه المراكز وطلب أي كتاب أو كتب من مطبوعاتهم حيث تصله هذه الكتب في الموعد المحدد إلى العنوان المطلوب.

 خدمات التربية والتعليم

ا - انشأ طلبة النور مدارس عديدة لتحفيظ القرآن الكريم وبنايات واقسام داخلية لمختلف مراحل الدراسة للطلبة، وفي هذه المدارس والاقسام الداخلية تتم فيها تربية الطلاب تربية اسلامية صحيحة اضافة إلى تقديم خدمات السكن والطعام والتدريس الخصوصي لهم.

ب - تعدّ الدروس والحلقات الجماعية التي يعقدها طلبة النور اسبوعياً العمود الفقري في التربية والتوجيه عندهم، ففي هذه الحلقات يتدارسون رسائل النور ويتلون القرآن الكريم ويتلون التوجيهات والارشادات ويتناقشون في امور الجماعة.

ج - انشاء المخيمات في اشهر الصيف، حيث يمتزج هناك الترفيه والرياضة مع التوجيه والتدريس.

 خدمات اخرى

ا - انتاج افلام فيديو، تتناول مسائل العقيدة والتربية الإسلامية أو الشعائر الاسامية "كالصلاة والحج" والتمثيليات التاريخية أو الاجتماعية المعاصرة. وقد انتجوا حتى الان عشرة افلام، كما ترجموا بعضها إلى اللغة الانجليزية والعربية.

ب - انتاج اشرطة تحتوي على دروس اسلامية أو مدائح نبوية.

ونتيجة لهذا النشاط وفي بلد مثل تركيا قطعت اواصرها مع  الإسلام نصف قرن من الزمان فقد توسعت هذه الحركة وكسبت انصاراً ومؤيدين كثيرين وتغلغلت في جميع الاوساط ومنها الوسط الجامعي الذي كان حكراً في السابق على اليساريين وعلى مقلدي الغرب.

 المصادر

باللغة بالعربية.

1 رسالة الحشر  بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة احسان قاسم الصالحي

2 رسالة الثمرة بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة احسان قاسم الصالحي

3 اصول في فهم الاحاديث بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم

4 الخطبة الشامية  بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

5 الشيوخ  بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

6 الخطوات الست بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

7 الطبيعة بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

8 حقائق الإيمان بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

9 كلمات  صغيرة بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

10 مرقاة السنة بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

11 الشكر بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

12 مرشد اهل القرآن بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

13 المثنوي العربي النوري بديع الزمان سعيد النورسي. تحقيق احسان قاسم

14 الآية الكبرى بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

15 أنوار الحقيقة بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

16 الاخلاص والاخوة بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

17 مرشد الشباب بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة. احسان قاسم الصالحي

18 بديع الزمان سعيد النورسي  نظرة عامة عن حياته وآثاره أورخان محمد علي و احسان قاسم

9 ذكريات عن سعيد النورسي أسيد احسان قاسم

20 النورسي الرائد الإسلامي الكبير د. محسن عبد الحميد

21 النورسي رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان اديب الدباغ

22 كشف الظنون  اسماعيل حاجي خليفة.

23 الاعلام  الزركلي.

24 الموسوعة العربية الميسرة.

25 السلطان عبد الحميد الثاني. حياته واحداث عهده. اورخان محمد علي

26 موقف الدين من العلم  باشگيل ترجمة اورخان محمد علي

27 سيرة ذاتية  الامير شكيب ارسلان.

28 الرجل الصنم  ضابط تركي  ترجمة . عبد الله عبدالرحمن

29 اثر الاقلية اليهودية في سياسة الدولة العثمانية د. احمد النعيمي.

30 موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية حسّان الحلاق.

31  محاضرات في نشوء القومية العربية  ساطع الحصري.

32 القومية والغزو الفكري  جلال كشك.

33 بين الكتب والناس  عباس العقاد

34 مجلة العربي الكويتية  رجب 1402 مايو " آيار" 1982

35 رسائل النور لا تنطفىء  بديع الزمان سعيد النورسي  ترجمة. عاصم الحسيني.


([1]) Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi 46-49

([2])  المصدر السابق153

([3])  Son Şahitler 3/129, 4/176

([4])  اللمعة الرابعة عشرة من اللمعات.

([5])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi. 47

([6])  راجع الحقيقة الحادية عشرة من رسالة الحشر ( الكلمات)، والمسألة الثامنة من الشعاع الحادي عشر ( الشعاعات).

([7])  Tarhçe-i Hayat 31-32

([8])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi 49 -50

([9])  رغم كون غالبية سكان هذه المنطقة من الأكراد، ورغم كون اللغة الرسمية للدولة هي اللغة التركية، فان التدريس في هذه المدارس الدينية كان يتم بلغة القرآن، وهكذا كان الإسلام هو العامل الوحيد في نشر اللغة العربية وحفظها حتى في اصغر قرية وفي اقصى نقطة من البلاد.

([10])  بيّن دواعي رفضه واسبابه الشرعية في المكتوب الثاني من "المكتوبات".

([11])  وقد بقي محافظاً على هذا العهد، فلم يسأل احداً سؤالاً.

([12])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi. 53

([13])  هو عبد الرحمن بن احمد بن محمد الجامي، نورالدين: مفسر فاضل، ولد في جام في بلاد ما وراء النهر 817 هـ  وتوفي في هراة 898هـ له مؤلفات تقارب المئة. والمقصود هنا كتابه في النحو  الذي صنفه شرحاً لكتاب الكافية لابن الحاجب لخص فيه ما في شروح الكافية على احسن الوجوه  وأكملها مع زيادات من عنده سماه الفوائد الضيائية وهو المتداول اليوم، وفي شأنه اعتناء عظيم كشف الظنون 2/1372 والأعلام 3:296.

([14])  Tarhçe-i Hayat.33

([15])  المقصود كتاب "تحفـة المحتـاج في شرح المنهاج" لابن حجر الهيثمي المكي، وهـو شرح منهاج الطالبين للإمام النووي الشافعي.

([16]) جمع الجوامع في أصول الفقه: لتاج الدين عبد الوهاب السبكي727  771 هـ وهو مختصر مشهور جمعه من زهاء مائة مصنف، له شروح كثيرة وحواشٍ كثيرة، وممن نظمه شعراً الطوخي والغزي والسيوطي وسماه "الكوكب الساطع".

كشف الظنون 595 والأعلام  4/18

([17])  المواقف في علم الكلام، للعلامة عضد الدين الايجي المتوفي 756 هـ وهو كتاب جليل القدر شرحه علماء اجلاء منهم الجرجاني والكرماني والابرى و غيرهم.

([18])    Tarhçe-i Hayat,34

([19])  الاشراقيون: جماعة من المتصوفة، جمعوا بين الفلسفة اليونانية وحكمة فارس القديم مع أذواق التصوف القلبي، بحثوا في مراتب الوجود وفي الأنوار الإلهية وأقسام البرازخ والمعاد والنبوءات. ويعد السهروردي المقتول 1153-1191م خير من يمثلهم، إذ كان مذهبه يدور حول محور واحد هو النور ومراتبه التي هي مراتب الوجود العلوية والسفلية.

([20])  حديث شريف رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([21])  احمد خاني: ولد في "خان" التابعة لولاية "حكاري" جنوب شرقي تركيا عام 1650م درس العلوم الإسلامية في القرى القريبة حتى تضلع فيها، له مؤلفات ودواوين منها: "نوربهار" و"مم وزين" ويعدّ الأخير من عيون الأدب الكردي. نظم الشعر في اللغات الكردية والفارسية والعربية والتركية. توفي في "بايزيد" ودفن فيها سنة 1706م.

([22])     Tarhçe-i Hayat, 35

([23])  المصدر السابق ص 35

([24])  الشمسية: رسالة في قواعد المنطق للقزويني المعروف بالكاتبي 600-675هـ، شرحها التفتازاني والتحتاني 766 شرحاً جيداً ولكونه متداولاً بين الطلبة، سماه تحرير القواعد المنطقية في شرح الشمسية.

انظر: كشف الظنون  2/1063 والأعلام 4/ 315

([25])   Çagimizda Bir Asr-i Saadet Muslumani/B. Said  N,35.

([26])  المقصود: البهجة المرضية في شرح الألفية. وهو شرح ألفية ابن مالك للسيوطي.

([27])    Tarhçe-i Hayat, 36

([28])   المصدر السابق  39

([29])  المصدر السابق ص39-40

([30])    Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,66

([31])   Tarhçe-i Hayat,45

([32])  المصدر السابق ص 48

([33])  المصدر السابق ص 46

([34])  وليم جلادستون 1809-1898م تقلد مناصب وزارية متعددة، تعمق في دراسة الدين فكان مؤلفه الأول الدولة وعلاقتها بالكنيسة. عيّن رئيساً للوزراء اربع مرات. الغى الكنيسة الايرلندية.باختصار عن: الموسوعة العربية الميسرة

([35])  المصدر السابق ص 47

([36])  شاعر الإسلام في تركيا. درس الطب البيطري، ولكن شغفه بالأدب ونبوغه في الشعر جعله يسلك طريق الأدب. رأس تحرير مجلة الصراط المستقيم ومجلة سبيل الرشاد. التحق بحركة الاستقلال. وانتخب نائباً في البرلمان في انقرة. أصبحت إحدى قصائده النشيد الوطني التركي. وعندما سنّ قانون القيافة وفرض بموجبه لبس القبعة سنة 1925، رفض لبسها وهاجر إلى مصر حيث عاش في حلوان، ودرّس اللغة التركية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، عاد إلى تركيا في أوائل 1936 عندما أحس باشتداد وطأة المرض عليه حيث استقبل استقبالاً حافلاً. توفي في أواخر سنة 1936. اشتهر بديوانه الشعري "صفحات".

([37])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman 82

([38])  وهذه الهيئة  تقابل وزارة الأوقاف في البلدان العربية.

([39])  المشروطية: وهي اعلان النظام البرلماني في الدولة العثمانية، وبموجبه أصبحت الوزارة مسؤولة امام البرلمان وليس أمام السلطان، كما أن صلاحية تشريع القوانين أصبحت من أختصاص البرلمان. وقد أعلن السلطان عبد الحميد المشروطية مرتين، مرة عند بداية حكمه وهي المشروطية الأولى في 19 مارت 1877 ونظراً لاستغلال نواب الأقليات غير المسلمة لهذا المجلس ودفع الدولة العثمانية إلى حرب مهلكة مع روسيا في العام نفسه وارتباط هؤلاء النواب بالجمعيات السرية المسلحة وبالدول الأجنبية فقد حل السلطان هذا المجلس دون ان يلغيه، وفي سنة 1908 أعاد المشروطية والدستور فيما سمي بـ "المشروطية الثانية".

([40])  الولاية الحميدية: هي تشكيلات مدنية مسلحة في شرقي الأناضول مكونة من أفراد العشائر الكردية، ورؤساء هذه العشائر على رأسها ووظيفتها حراسة الحدود الشرقية مع روسيا كما كانت تشارك في ادارة تلك المنطقة الجبلية بوساطة رؤسائها.

([41])   المصدر السابق ص 83

([42])  المصدر السابق ص 83

([43]) المصدر السابق ص 83: 84

([44])  المصدر السابق ص 84

([45]) وهو حسين قامي 1878 :1912 داغستاني الأصل، اشتهر بالهجاء والأدب الساخر، له ديوان مطبوع، سجن على أثره.

([46])  المصدر السابق ص 84 : 85

([47]) المصدر السابق ص 85: 87

([48])  عبد الرشيد إبراهيم 1850-1944م ولد في قضاء تارا التابعة لولاية طوبولسك في سيبريا، فهو من مسلمي روسيا، تلقى دراسة جيدة في صباه وشبابه، سافر سنة 1870 إلى استانبول ومنها إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث ظل فيهما سنوات عدة، تابع دراسته والتقى هناك بالمجاهد الكبير "الشيخ شامل" الذي كان يقود جهاداً ضد الحكم الروسي، تأثر به كثيراً. عاد إلى استانبول سنة 1881 واجتمع بكبار رجال العلم امثال جمال الدين الأفغاني ونامق كمال واحمد وفيق پاشا، ثم رجع إلى بلده روسيا، حيث عمل في سبيل إرشاد المسلمين، فأسس المدارس وخطب في الجوامع، حتى نفته الحكومة لنشاطه الواسع. فساح في الصين وكوريا والهند واليابان، وكتب كتاباً ضخماً عن حياة المسلمين في هذه البلدان سماه "عالم إسلام" أي "العالم الاسلامي" وهو نظير كتاب "حاضر العالم الاسلامي" تأليف لوثروب ستودارد. ترجمة: عجاج نويهض وتعليق الأمير شكيب ارسلان.

([49])  موسى جار الله:1878-1949م شيخ اسلام روسيا قبل الثورة البلشفية وفي ابانها. ولد في روستوف دون في روسيا. وتفقه بالعربية و تبحر في علوم الاسلام، وكان يحسن اللفات العربية والفارسية والتترية والتركية والروسية. نـزح عن وطنه فراراً من البلاشفة سنة 1930. ساح في البلاد الإسلامية: الهند وجزيرة العرب ومصر وتركيا وايران والعراق. استقر في مصر في أعوامه الأخيرة وتوفي بالقاهرة سنة 1949. ومن تأليفه بالعربية تاريخ القرآن والمصاحف و شرح بلوغ المرام في الحديث. عن الأعلام 7/320

([50]) .Çagimizda Bir Asr-i Saadet Muslumani/B. Said  N 234.

([51])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi   88

([52])  وهي جمعية سرية شكلها طالب ألباني في المدرسة الطبية العسكرية السلطانية يدعى "إبراهيم تيمو" مع قسم من أصدقائه من الطلبة سنة 1889، وكانت تهدف إلى خلع السلطان عبد الحميد الثاني، ورفعت شعار "حرية، مساواة عدالة ساعدتها المحافل الماسونية، وانتسب كثير من أعضائها اليها، كما أن دولاً أوروپية عديدة مدت لها يد المساعدة. استفحل أمرها عندما تغلغلت في صفوف الجيش الثالث العثماني في مدنية "سلانيك" التي كانت مقراً ليهود "الدونمة" وفيها محفل الماسونية، وبدأت حركة تمرد في هذا الجيش وارسل زعماء الحركة هذه برقيات تطالب السلطان بإعلان الدستور واعادة مجلس المبعوثان النواب، وقد اضطر السلطان حقناً للدماء إلى إعلان المشروطية الثانية سنة 1908 وبعد سنة من إعلانه الدستور تم خلعه ونفيه إلى "سلانيك" ونصب أخوه محمد رشاد مكانه، ولم يحقق الاتحاد والترقي بعد أن قبض على الحكم بيد من حديد شعاره الذي رفعه من قبل، بل أقام دكتاتورية ظالمة، وورط الدولة في الحرب العالمية الاولى، وبعد أن مزق زعماء هذه الجمعية الدولة العثمانية وبعثروا اشلاءها هربوا إلى خارج البلاد.

([53])  انظر كتابنا السلطان عبد الحميد الثاني: حياته وأحداث عهده ص 167

([54])  المصدر السابق ص 138 انظر كذلك إلى ص64  من كتاب   31Mart Faciasi, Cevat Rifa't Atilhan     

([55])  أي قبل محاولة بديع الزمان مقابلة السلطان

([56])   يلدز: هو مقر السلطان عبد الحميد وقصره.

([57])  المقصود رئيس مترجمي قصر السلطنة.

([58])  434 Ulu Hakan Abdulhamid Han وانظر كتابنا السلطان عبد الحميد الثاني ص 318

([59])  أي تقارير رجال الأمن.

([60])  سيرة ذاتية للأمير شكيب ارسلان ص 57.

([61])   Son Şahitler 1/226

([62])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi 89

([63])  المصدر السابق ص 95.

([64])   Çagimizda Bir Asr-i Saadet.156

([65])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi96

([66])  Çagimizda Bir Asr-i Saadet Muslumani/B. Said  N.190

([67])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi100

([68])  هو الشيخ محمد بخيت بن حسين المطيعي الحنفي، مفتي الديار المصرية، ومن كبار فقهائها، ولد في بلدة المطيعة التابعة لمحافظة اسيوط من صعيد مصر، وتعلم في الأزهر واشتغل بالتدريس فيه، وانتقل إلى القضاء الشرعي سنة 1297 هـ واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، ثم عين مفتياً للديار المصرية سنة 1333 هـ إلى 1339 هـ، وله كتب قيمة. وتوفي سنة 1354هـ..

([69])  الملاحق386

([70])  انظر كتاب صراع النظرة الروحية والمادية في تركيا- الفصل الأول

([71]) بهاء توفيق: ولد في ازمير سنة 1881 وتوفي 1916. ألف وترجم عدة كتب فلسفية والحادية. ترجم عن بوخنر "المادة والقوة" في ثلاثة مجلدات وتاريخ الفلسفة عن "الفرد فولي".

([72])  عبد الله جودت 1869-1932م كان معروفاً بافكاره الإلحادية وبعداوته للإسلام ألف وترجم ما يقارب 60 كتاباً، اشهرها "التاريخ" الإسلامي" للدكتور دوزي المملوء بالتهجم على  الإسلام والتحريف للتاريخ الإسلامي، طبعه في مصر سنة 1908، اثار هذا الكتاب ضجة كبيرة وتصدى العديد من الكتاب للردّ عليه. عمل سنوات عدة في مجلة "الاجتهاد". رفض المسلمون اداء صلاة الجنازة عند موته.

([73])  جلال نوري 1877-1939م ولد في غاليبولو، انهى دراسة الحقوق في استانبول اتقن الانكليزية والفرنسية، أصبح نائباً في المجلس النيابي الاخير للدولة العثمانية ثم في مجلس الأمة التركي في عهد مصطفى كمال، نشر ما يقارب ثلاثة آلاف مقالة في الصحف المختلفة في استانبول، كما ألف العديد من الكتب منها بالانكليزية والفرنسية أهم كتبه: الانقلاب التركي، الاتحاد الإسلامي، الخطر الأسود، تاريخ الانحطاط العثماني.. ومع انه لا يعدّ من الكتّاب الملحدين الاّ أن أفكاره في الفلسفة المادية تجعله في صف الكتاب الذين دافعوا عن المادية.

([74])  قمنا بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية تحت عنوان "موقف الدين من العلم" وتم طبعه ونشره عام 1985.

([75])  الدكتور علي فؤاد باشگيل 1893-1969م درس الحقوق وحصل على شهاد الدكتوراه من فرنسا سنة 1923 ورقي سنة 1939 إلى درجة "اوردنياريوس بروفسور"، ويعتبر من مؤسسي كلية الحقوق في انقرة، شغل مناصب علمية منها عميد كلية الحقوق وعضو محكمة لاهاي الدولية، اشترك في المؤتمر الإسلامي في كراچي سنة 1960م. انتخب نائباً عن مدينة صامسون بعد خروجه من السجن سنة 1961م كان أقوى المرشحين لرئاسة الجمهورية، لمكانته العلمية المرموقة ورصيده الشعبي الكبير، وكان فوزه مؤكداً ولكن القادة العسكريين أجبروه على الانسحاب وهددوه بالتصفية الجسدية. توفي 1969. ومشى في جنازته عشرة آلاف من الطلبة الجامعين.

([76])  انظر: موقف الدين من العلم" ص 29 تأليف: د. علي فؤاد باشگيل. ترجمة: اورخان محمد علي

([77])  احمد حلمي شاهبندر زاده 1865-1914م ولد في "فيليـبا"، تلقى مبادىء العلوم الشرعية من مفتيها، ثم اكمل دراسته الثانوية في استانبول. سافر إلى بيروت والى مصر والى "فيزان" حيث انتسب إلى طريقة صوفية. رجع إلى استانبول سنة 1908 وأصدر مجلة اسبوعية باسم "الاتحاد الإسلامي" اغلقتها السلطة الحاكمة التي كانت بيد الاتحاديين. نشر مقالاته السياسية والفلسفية في مجلات وجرائد  أخرى، أمثال: "الاقدام" و "تصوير أفكار" وقد لاقت مقالاته شهرة وشعبية كبيرة لما فيها من اسلوب جميل ومنطق رصين. ثم أسس جريدة "الحكمة" واسس مطبعة "الحكمة الاسلامية" نشر فيها مقالات فكرية وصوفية بجانب المقالات السياسية التي هاجم فيها الاتحاد والترقي، مما أدى إلى اغلاق الجريدة والمطبعة. واصدر سنة 1912م مجلة فكاهية اسبوعية باسم "جوشقون قلندر". كان يحاضر في كلية "الفنون" ويدرس مادة الفلسفة، إلى جانب قيامه بتأليف العديد من الكتب نذكر أهمها:

1 التاريخ الإسلامي مجلدين. 2 أيمكن انكار الخالق؟ 3 ضلال الماديين في ضوء العقل والعلم.4السنوسية والمفكر الإسلامي الكبير محمد السنوسي 5 موت فدائي. 6 المنطق الجديد. 7 علم التوحيد. 8 أيها المسلمون استمعوا. 9 الماسونيون. 10 البكتاشيون. 11 لنفهم نبينا فخر الكائنات.

ولما كان في مقدمة الذين يهاجمون الصهيونية والماسونية فقد انتبهوا لخطره ودسّوا السمّ له فتوفي سنة 1914.

([78])  اسماعيل فنّي 1855 : 1946 ولد في مدنية "تورنوفا" في بلغاريا حالياً وتلقى فيها علومه الاولية، وفي سن العشرين اضطر إلى الهجرة إلى استانبول حيث اكمل دراسته، واتقن اللغات العربية والانكليزية والفرنسية والفارسية علاوة على ثقافته الواسعة التي اكتسبها من مطالعاته المكثفة، فضلاً عن انه كان شاعراً وموسيقياً وملحناً.

([79])  حسين جاهد يالچين 1875 : 1959 صحفي وروائي تركي. عمل موظفاً في دوائر الدولة ومعلماً للغة الانكليزية والفرنسية عدة سنوات. ثم بدأ بكتابة المقالات والقصص والروايات، دخل الحياة السياسية بعد انقلاب 1908 وانتخب نائباً عن مدينة استانبول. ثم أسس جريدة "طنين" دافع فيها عن جمعية الاتحاد والترقي. نفي إلى جزيرة "مالطة" عام 1918 مع اركان الاتحاديين بعد هزيمة الدولة العثمانية وسقوط الاتحاديين. وبقي فيها ثلاث سنوات  تعلم فيها الإيطالية واتقنها وترجم كتباً عديدة عن التاريخ وعن الاجتماع. قدم لمحكمة الثورة في عهد أتاتورك عدة مرات وبرئ منها. تفرغ للصحافة حتى وفاته. لعب دوراً تخريبياً في مقالاته.

([80])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nurs.109

([81]) Çagimizda Bir Asr-i Saadet Muslumani/B.S  N229-233.

([82])  الأمير محمد صباح الدين 1878-1948م والدته "سانحة سلطان" بنت السلطان عبد المجيد، اي أن السلطان عبد الحميد الثاني كان خاله. كان من المثقفين البارزين ومن علماء الاجتماع، ومعروفاً بخلقه الرفيع واخلاصه للوطن.

([83])  Çagimizda Bir Asr-i Saadet Muslumani/B.S.  N204-205.

([84])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi.110

([85])  الجزء الثاني، ص212  Tarih Suhbetleri

([86])  : Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi115-116

([87])  المصدر السابق ص 116

([88])  انظر الخطبة الشامية لبديع الزمان  ضمن صيقل الإسلام.

([89])  هذا حسب التقويم الرومي لسنة 1325، ويوافق 22 من ربيع الأول 1327هـ 13 نيسان 1909م.

([90])  هو الطابور الذي أرسل قبل مدة وجيزة من قبل الاتحاديين في سلانيك لكي يكون حامياً للمشروطية.

([91])  كان الضباط في الدولة العثمانية على نوعين: الضباط من خريجي الكلية الحربية، ويطلق عليهم "مكتبلي" أي خريجي المدارس، والضباط الذين تدرجوا في الرتب العسكرية بطول الممارسة من رتبة الجندي حتى رتبة الضابط "آلايلي". وقد بدأ الاتحاديون بإخراج هؤلاء من الجيش واحالتهم على التقاعد مما ولد تذمراً في الجيش لكثرة عدد هؤلاء الضباط، وكان أحد أسباب هذا التمرد.

 

([92])  السلطان عبد الحميد الثاني322-324

([93])  نشر الخطاب في الجريدة الدينية الصادرة في استانبول العدد 107. في 17 نيسان 1909م. ضمن صيقل الإسلام.

([94]) نشر الخطاب في الجريدة الدينية الصادرة في استانبول العدد 107. في 17 نيسان 1909م. ضمن صيقل الإسلام.

([95])  المحكمة العسكرية العرفية ضمن صيقل الإسلام

([96])  هذا القول نظير قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:

               ان كان رفضاً حب آل محمد          فليشهد الثقلان اني رافضي

([97])  المحكمة العسكرية العرفية ضمن صيقل الإسلام

([98])  يقصد السلطان عبد الحميد الثاني.

([99])  حسن فهمي كان صحفياً معروفاً آنذاك، وعدواً لجمعية الاتحاد الترقي، لذا كان تم اغتياله في وسط مدينة استانبول على جسر غلطة. من قبل هذه الجمعية، مما اثار الرأي العام.

([100])  المصدر السابق  ص 32.

([101])  المصدر السابق 39-40.

([102])  ترجمتها الكاملة ضمن صيقل الإسلام

([103])  محمد رشاد 1844-1918م هو السلطان الخامس والثلاثون في الدولة العثمانية. جاء إلى الحكم بعد أخيه السلطان عبد الحميد الثاني واصبح ألعوبة في يد جمعية الاتحاد والترقي.

([104]) روملي:  هي الديار التي كان يسكنها المسلمون في القارة الأوروبية تحت الحكم العثماني.

([105])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi.141

([106])   Tarihçe-i Hayat.95

([107])  حرب البلقان: بعد مجيء ضباط أغرار من الاتحاد والترقي الذين لا خبرة لهم في ادارة الدولة وسياستها الخارجية، اتفقت أربع دول بلقانية هي: بلغاريا، الصرب، اليونان، الجبل الاسود سرا،ً وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية التي كانت بالنسبة لها مفاجئة، حيث لم تكن مستعدة لها، وكانت النتيجة ان خسرت الحرب أمام هذه الدول الصغيرة.فضاعت منها أراض واسعة كثيرة.

([108])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi 146

([109])   المصدر السابق ص 148

([110])  Emirdag Lahikasi 2/90

([111]) للاطلاع على تفاصيل المشكلة الأرمنية يراجع كتابنا: السلطان عبد الحميد الثاني.

([112])  كتاب تفسير يبين الإعجاز النظمي للآيات الكريمة لسورة الفاتحة وقسم من سورة البقرة، آية فآية وجملة جملة وكلمة كلمة في الآية الواحدة مع بيان مسائل دقيقة في العقيدة والبلاغة. طبع مرات عدة، واخيراً حققه على اصوله المخطوطة والمطبوعة: الاستاذ احسان قاسم الصالحي، وقدّم له د. محسن عبد الحميد .

([113])  لأن الطلاب الذين كانوا يدرسون عليه كانوا مكلفين بحمل السلاح والجهاد ايضاً.

([114])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi 157-158

([115]) أنور باشا 1881-1922م كان على رأس الاتحاديين إذ كان نائباً للقائد العام للقوات المسلحة، بينما كان الخليفة هو القائد العام من الناحية الاسمية فقط.

([116]) المصدر السابق ص 158-159

([117]) وهو أوّل مجلس نيابي برلماني شكّله مصطفى كمال في آنقرة بعد أن شكّل حكومة منفصلة عن حكومة استانبول.

([118])   Emirdag Lahikasi 1/152

([119]) المصدر السابق الجزء الثاني ص 13،

([120])  Tarihçe-i Hayat 101

([121]) كان الرجال يبقون للدفاع عن المدينة بعد هجرة النساء والشيوخ في ذلك الشتاء القارس إذ لا يسمح سوى  بحمل طفلٍ او طفلين في هجرة قاسية مريرة وطويلة.

([122])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi 172

([123])  Son Şahitler1/81

و "دلك طاش" ممر جبلي صعب المرور.

([124])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi 174-175

([125]) نيازي المصري 1618-1694م شاعر تركي صوفي، ولد في قرية قريبة لولاية "ملاطية". أكمل دراسته في الأزهر الشريف فلقب بـ "المصري" له ديوان شعر ومؤلفات منها: رسالة الحسنين، موائد العرفان وعوائد الاحسان، هدية الاخوان.. تولى الارشاد في مدارس استانبول العلمية.

([126]) اللمعات- اللمعة السادسة والعشرون – الرجاء التاسع.

([127]) وهي هيئة علمية في مستوى عالٍ تابعة للمشيخة الاسلامية للدولة العثمانية.

([128])  Bediuzzaman Said Nursi ve Din Duşmanlari, 67

([129]) يروي المؤرخ التركي إسماعيل حقـي انه استفسّـر من أستاذه شيـخ  الإسلام مصطفى صبري عن سبب ضم بديع الزمان سعيد النورسي إلى عضوية دار الحكمة، أجابه: لأنه ضليع في علم الحديث النبوي. انظر إلى ص 303  Aydinlar Konusuyor

([130])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,184

([131]) الرجاء الثامن من اللمعة السادسة والعشرين – اللمعات.

([132]) المصدر السابق

([133]) المصدر السابق

([134]) ليمين: هي إحدى جزر اليونان حالياً.

([135])  Osmanli Padisahlar Ansiklopedisi 3/385

([136]) للاطلاع على تاريخ هذه الجمعية ونشوئها والقوى التي كانت وراءها، يراجع كتابنا السلطان عبد الحميد الثاني: حياته، وأحداث عهده ص 270  334.

([137]) بلغ مجموع خسائر الدولة العثمانية في هذه الحرب من الشهداء والجرحى والأسرى 3542580 فرداً أي ما يقارب أربعة ملايين، كان اكثرهم من أبناء الأناضول، فاذا عرفنا ان مجموع نفوس الدولة العثمانية باجمعها سنة 1915 دون مصر كان 29 مليوناً فقط أدركنا مدى جسامة المأساة، هذا عدا الخسائر التي لحقت بالمدنيين جراء الأوبئة والامراض والمجاعات سواءً في المدن او في أثناء الهجرات الجماعية. هذا عدا الشهداء والجرحى في حروب الاستقلال التي اعقبت الحرب العالمية الأولى والتي تم فيها طرد المحتلين الاجانب. انظر كتاب    Osmanli Tarihi Kronelojisi  ص 453 المجلد الرابع

 

([138]) Osmanli Padişahlari Ansiklopedisi 3/ 878 

([139]) معاهدة سيفر وهي المعاهدة التي عقدت بتاريخ 10 أغسطس 1920 بين الدولة العثمانية في عهد محمد السادس وبين الحلفاء عدا روسيا في مدينة سيڤر في فرنسا، وكانت معاهدة قاسية بالنسبة للدولة العثمانية إذ كانت أهم نصوصها

1 توضع مضايق الدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة والجزر المجاورة تحت اشراف لجنة دولية.

2 تقتصر حدود الدولة العثمانية على الأناضول في قارة آسيا وعلى استانبول وما حولها في أوروپا.

3 تقوم  في أرمينيا جمهورية مستقلة.

4 يوضع ميناء أزمير تحت اشراف دولي. اما مدينة أزمير وحواليها فتوضع تحت إشراف اليونان لحين إجراء استفتاء يحدد مصيرها بعد خمس سنوات.

5 تقوم اليونان بالاشراف على اقليم "تراقيا" حتى خط "چاتلجه" اما شرق هذا الخط فيوضع تحت إشراف دولي.

6 تمنح كردستان الحكم الذاتي لمدة عامين.

7 تنفصل الأقاليم العربية عن الحكم التركي.

كما أصبح اقتصاد الدولة العثمانية تحت الإشراف الفعلي للحلفاء نتيجة للقيود العديدة التي وضعتها هذه المعاهدة. كما تضمنت هذه المعاهدة بنوداً حددت عدد الجيش العثماني وبنوداً حول حماية الأقليات.

([140])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi, 214

([141]) يشير هذا  التاريخ إلى تاريخ سقوط الدولة العثمانية ودخول الأجانب البلاد.

([142]) المقصود أخذ محاسن المدنية التي أسدتها إلى البشرية، وليست سيئاتها وآثامها التي يلهث ورائها الحمقى ظناً منهم ان تلك السيئات حسنات حتى اوردونا الهلاك. ولقد تلقت البشرية صفعتين مريعتين وهما الحربان العالميتان من جراء ما طفحت به كفة سيئات المدنية على حسناتها وتغلبت آثامها على محاسنها، حتى أبادتا تلك المدنية الآثمة فقاءت دماً لطخت به وجه الكرة الأرضية كله. نسأل الله ان تغلب بقوة  الإسلام في المستقبل محاسنُ المدنية لتطهّر وجه الارض من لوثاتها وتضمن السلام العام للبشرية قاطبة.        

([143]) ص  Sunuhat41-46

([144]) عزازيل اسم للشيطان.

([145])  المقصود: الالمان الذين كانوا حلفاء الدولة العثمانية. المترجم.

([146])  المقصود: قواد حركة التحرير الذين بدأوا بجمع الشعب وتنظيمهم لأجل دفع المستعمرين عن البلاد.

([147])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman S. Nursi ,224-225

([148])  المصدر السابق 216

([149])  المصدر السابق 216

([150])  Risale-i Nur Hakkinda Ilmi Bir Tahlil, 71

([151]) للوقوف على تفاصيل اكثر حول هذا الموضوع يراجع كتاب الرجل الصنم.

([152])  Tarihçe-i Hayat, 124

([153])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,241

([154])   Tarihçe-i Hayat,127

([155])  Yakin Tarih, 45-46

وهذا خلاف ما ورد في كتابات بعض من كتب عن الاستاذ النورسي في العالم العربي من الذين لم يحققوا الموضوع تحقيقاً تاريخياً وموضوعياً ودون ان يذكروا اي مصدر موثوق. حتى ان النورسي يورد في كتابه Sualar صفحة 243 رداً وجواباً على الذين لاموه لأنه لم يقبل عروض مصطفى كمال بحجة انه كان يستطيع بمنصب الواعظ العام من ارشاد آلالاف من الناس.

كما اننا نعلم من قراءة حياته ان النورسي دأب طوال حياته على رفض الهدايا من دون مقابل حتى من اقرب الناس  إليه ومن اقرب تلاميذه. وشرح اسباب ذلك في رسائله شرحاً مفصلاً.

([156]) المثنوي العربي النوري 196-200

([157]) اللمعات- اللمعة الثالثة والعشرون - رسالة الطبيعة .

([158])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi ,250

([159]) ملا حميد طالب من طلاب الاستاذ النورسي لازمه في جبل أرك وفي جامع نورشين داخل مدينة وان، وخدمه باخلاص دون ان ينتظر شيئاً منه، شملته بركة مجالسة الصالحين وخدمة العلماء العاملين؛ إذ أصبح من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان في تلك المنطقة بعد أن كان لا يجيد القراءة والكتابة.

([160]) آق دامار وهي جزيرة في بحيرة "وان" تقع شرقي تركيا.

([161])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi , 251

([162]) عبد المجيد هو أصغر أخوة الأستاذ النورسي، ترجم كثيراً من رسائله إلى اللغة العربية الاّ انها نشرت في وقتها في نطاق ضيق، وترجم إلى التركية رسائله العربية إشارات الإعجاز والمثنوي العربي. كان مدرساً للغة العربية ثم مفتياً ثم مدرساً للعلوم الاسلامية في معهد الائمة والخطباء والمعهد الإسلامي العالي في قونيا. توفي سنة 1967 عن ثلاث وثمانين سنة من العمر. رحمه الله رحمة واسعة.

([163]) اللمعات- اللمعة السادسة والعشرون.

([164]) يفصل الأستاذ معنى هذه العبارة في الكلمة التاسعة من الكلمات.

([165]) ذكريات عن سعيد النورسي ص 10.

([166]) المقصود  الآية الكريمة) لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين)

([167]) هذا الدعاء موجود في أغلب كتب الأدعية، وقد أورده الأستاذ النورسي ضمن كتاب "حزب انوار الحقائق النورية" ويستهل الدعاء بـ الهي انت ربي وانا العبد، وانت الخالق وانا المخلوق.. الخ.. وأويس القَرَني؛ أحد النساك العباد المقدمين من سادات التابعين، أصله من اليمن، يسكن القفار والرمال. وادرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، فوفد على عمر بن الخطاب رضى الله عنه ثم سكن الكوفة.

([168]) ذكريات عن سعيد النورسي ص 11.

([169]) المقصود تجنبه عن نظرة الحرام، والكذب، وقبول شيءٍ من الناس.

([170]) المصدر السابق

([171])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi, 253-255

([172]) المصدر السابق 256-257

([173]) لمزيد من التفاصيل يراجع اللمعة الثلاثون من اللمعات.

([174]) اللمعات-  الاشارات الثلاث من اللمعة الثانية والعشرين.

([175]) صيقل الإسلام 472  

([176]) صيقل الإسلام 32

([177]) Sualar245

([178])  Emirdag Lahikasi2/214

([179]) النورسي الرائد الإسلامي الكبير ص 60-63

([180]) المصدر السابق ص 65  66

([181]) وقد تم القضاء على هذه الثورة في 15/4/1925 وقُدم الشيخ سعيد پيران إلى محكمة الثورة، حيث صدر الحكم عليه بالإعدام، وتم تنفيذ حكم الإعدام في 29/6/1925 مع 47 شخصاً من مقربيه في مدينة ديار بكر. وأبدى الشيخ ثباتاً ورباطة جأش في أثناء تنفيذ الإعدام.

([182])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,257

([183]) اي تحدثوا معه بلغة يجهلها الضابط والجنود، والمقصود هي الكردية.

([184])  Bilinmeyen Taraflariyle B. Said Nursi,258-259

([185])  Bilinmeyen Taraflariyle B. Said Nursi,258-259

([186]) لا ندرج هنا ذكرياته بتفصيل بل بصورة مجملة.

([187]) ذلك لأن الأستاذ النورسي لم يحمل معه أي شيء، لأنه كان منقطعاً للعبادة في اطلال.

([188]) Son Şahitler,1/99-102

([189]) أما المنفيون الآخرون فقد رجعوا إلى مدينتهم وان سنة 1928، اي بعد مضي ثلاث سنوات على نفييهم عدا الأستاذ النورسي وحسين باشا والشيخ معصوم.

([190]) المقصود هو المارشال فوزي چاقماق الذي كان رئيس أركان الجيش آنذاك.

([191]) اللمعة العاشرة – اللمعات.

([192]) المقصود سنة 1926.

([193]) رسالة الاقتصاد ضمن المكتوبات.

([194]) أي المسجد الأبيض.

([195])  Bilinmeyen Taraflariyle B. Said Nursi,263-264

([196]) وكمثال ندرج هنا نص وثيقة رسمية لبيان مدى معاداة السلطة الحاكمة آنذاك لكل ما يمت إلى الدين بصلة، فقد قامت مجلة "سبيل الرشاد" بنشر كتاب حول سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم سنة 1943 أي في أثناء حكم حزب الشعب تحت زعامة عصمت اينونو -خليفة مصطفى كمال- فقامت وزارة الداخلية بمصادرة الكتاب. وعندما قام الناشر بمراجعة وزارة الداخلية والاستفسار منها عن سبب المصادرة تلقى الجواب التالي.

الجمهورية التركية

وزارة الداخلية

مديرية المطبوعات العامة.

الموضوع. حول حياة النبي محمد

انقرة 17 مايس 1943

السيد المحترم

تلقيت رسالتكم. ونود أن نبين لكم بأننا لا نشجع بأي شكل من الأشكال النشريات والمطبوعات الدينية التي تودي إلى خلق جو ديني داخل البلد وتهيء ذهنية دينية. إننا نحترم علمكم وفضلكم الذي يسلم به الجميع، ولكننا نثق بأنكم لاشك تشاطروننا الرأي بأن الظروف الحالية لا تتحمل أمثال هذه الكتب.

المدير العام للمطبوعات

وداد نديم تور (انظر إلى "موقف الدين من العلم" ص23 تأليف. د. علي فؤاد باشگيل- ترجمة: اورخان محمد علي )

([197])  Hayat Ansiklopedisi, 132

([198]) المصدر السابق ص 36

([199]) انظر مجلة Köprü  الصادرة باستانبول العدد 116 سنة 1987 ص 58، 59،73

([200]) انظر إلى كتاب Bir Nesli Nasil Mahvettiler

([201]) انظر إلى كتاب Bir Nesli Nasil Mahvettiler

([202]) أي نؤمن بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.

([203]) المصدر السابق ص 20

([204]) المصدر السابق ص 26

([205]) المصدر السابق ص 41

([206]) انظر إلى الرجل الصنم.ص313

([207]) الدكتور رضا نور1879- 1943م طبيب ورجل ساسي ومؤرخ تركي. تخرج من الكلية الطبية العسكرية في استانبول ثم أصبح استاذاً فيها. شارك في معارك الاستقلال. رأس الوفد التركي إلى روسيا حيث عقد معاهدة الصداقة مع روسيا عام 1921 وكان نائب الوفد التركي المفاوض في مفاوضات "لوزان" التي انتهت بعقد معاهدة "لوزان" المشهورة. شغل منصب وزير الصحة ومنصب نائب وزير الخارجية في عهد أتاتورك. كتب مذكراته تحت عنوان "حياتي وذكرياتي" اودع نسخة منها في متحف فرنسا الوطني ونسخة أخرى في المتحف البريطاني وأوصى بعدم فتحها او عرضها قبل عام 1960. وبعد هذا التاريخ تم عرض هذه المذكرات التي أحدثت ضجة كبيرة لأنها أفشت اسرارً وفضائح كثيرة عن عهد أتاتورك طبعت ونشرت في تركيا عام 1968 ولكنها صودرت وسجن ناشرها ولكن تم بيع أعداد كبيرة منها قبل المصادرة. ولا تزال هذه المذكرات من الكتب المحرمة في تركيا. من أهم كتبه. "التاريخ التركي المفصل والمصور" في 14 جزءً.

([208]) وهو قانون سنّه مصطفى كمال يشبه قوانين الاحكام العرفية إذ يعطي للحكومة صلاحيات واسعة في ضرب المعارضين بوشر بتنفيذه في 4 مارت 1925.

([209]) قسطموني. مدينة تركية واقعة في منطقة البحر الاسود.

([210]) حياتي وذكرياتي ص  1313-1314

([211]) المصدر نفسه ص 13

([212]) الرجل الصنم ص 320

([213]) حياتي وذكرياتي ص 1317

([214])   Son Devrin Din Mazlumlari,111

([215]) بالنسبة لرئيس المحكمة الظالم "كَلْ علي" فقد عجل الله تعالى الانتقام منه في الدنيا بمرض رهيب عجز معه عن التبرز والتغوط، فكان البراز يخرج بوساطة انبوب مطاطي بالقرب من فمه، وكانت الغرفة التي ينام فيها آنقرة تفوح برائحة كريهة جداً لا يستطيع معها الاطباء والممرضون المكوث فيها طويلاً، ولم ينفع معه اي علاج حتى مماته.

([216]) الرجل الصنم ص 325

([217]) يقصد مصطفى كمال.

([218]) وزير العدل آنذاك.

([219]) حياتي وذكرياتي ص 1352-1353

([220]) الرجل الصنم ص 331

([221]) استمر هذا المنع حتى عام 1950 حيث قام عدنان مندريس -رئيس وزراء تركيا آنذاك- باعادة الآذان باللغة العربية.

([222]) المصدر السابق ص-340 341

([223]) المصدر السابق ص 343

([224]) من أراد التوسع في معرفة نشاط هذه الارساليات التبشرية وتأثيرها واسلوب عملها وغاياتها وكيف كانت مقدمة للاستعمار الغربي فعليه بقراءة كتاب "التبشير والاستعمار" لمؤلفيه مصطفى الخالدي وعمر فروخ. أو بقراءة كتاب "الاستشراق" للدكتور أدورد سعيد.

([225]) انظر إلى التقرير السياسي الشامل الذي رفعه سفير فرنسا في الاستانة إلى نابليون بونابرت والذي ترجمنا قسماً منه في كتابنا -السلطان عبد الحميد الثاني. حياته واحداث عهده-.

([226]) الجامعة العثمانية كانت تؤلف بين جميع القوميات الاسلامية وغير الاسلامية وتربط ولاءهم بالدولة. اما الجامعة الاسلامية فقد كانت تربط ولاء جميع المسلمين بالخليفة.

([227]) انظر في ذلك إلى الكتب التالية:

أ- السلطان عبد الحميد الثاني. حياته وأحداث عهده. أورخان محمد علي.

ب- أثر الاقلية اليهودية في سياسة الدولة العثمانية تجاه فلسطين. د. أحمد النعيمي.

ج- موقف الدولة العثمانية م الحركة الصهيونية 1897-1909م. حسان الحلاق.

([228]) انظر الى محاضرات في نشوء فكرة القومية ص 104

([229]) انظر الدارسة القيمة: "القومية والغزو الفكري" ص 297

([230]) المصدر السابق ص 263 264

([231]) قانون الكنائس: كانت الكنائس البلغارية وهي كنيسة اورثودوكسية مثل الكنائس اليونانية تقيم شعائرها الدينية باللغة اليونانية، كما كان التعليم في جميع مدارسها يتم باللغة اليونانية، ويعين كبار رجال الدين من اليونان. ولكن عندما سرى الشعور القومي عند البلغار قاموا بترجمة الكتاب المقدس إلى البلغارية، وأنشأت الكنائس البلغارية التي تقيم شعائرها وصلواتها باللغة البلغارية، -وسميت هذه الكنائس بـ "الاكسارخيه" وكان رجال الدين البلغار لا يستطيعون الصعود في سلم السلك الكهنوتي بل يبقون في المراب الدنيا، بينما كانت المراتب العليا في هذا السلك حكراً على رجال الدين اليونان الذين كانوا يرسلون إلى بلغاريا ويرتبطون بالكنيسة اليونانية في "فنار" في الاستانة، وقد اعتبرت الكنيسة اليونانية هذا العمل من قبل البلغار مروقاً عن الدين، بل قام بطريرك الروم في "فنار" باعتبار الكنائس البلغارية خارجة عن الدين المسيحي، وكان مصير أي رجل دين بلغاري يستعمل اللغة البلغارية في اقامة الشعائر الدينية الحبس والطرد من المسلك الكهنوتي.

دام هذا الصراع سنين عديدة، واخيراً لم يجد البلغار أمامهم طريقاً سوى الالتجاء إلى "الباب العالي" والرجاء منه اصدار فرمان بتشكيل كنيسة بلغارية مستقلة عن البطريركية اليونانية في -فنار-، وفعلاً صدر فرمان سلطاني سنة 1870 يخول البلغار حق انشاء كنيسة مستقلة بهم.

ولكن العداوة استمرت بين الكنيستين ولا سيما في القرى والمدن المختلطة التي كان يعيش فيها الفريقان، وكانت العداوة تأخذ أحياناً القتل والقاء القنابل على الكنيسة المعادية، كما كان الاختلاف نفسه موجوداً بين الكنيسة اليونانية والكنيسة الرومانية.

اختلاف الكنائس هذه كانت فرصة للدولة العثمانية لأنه كان يمنع اتحاد شعوب البلقان في عمل مشترك ضد الدولة العثمانية ويمنع الدول الاوروپية من اتخاذ خطوة مشتركة في هذه المنطقة ضد الدولة العثمانية مما كان يتيح لها فرصة لالتقاط انفاسها، لذا بذل السلطان عبد الحميد عناية خاصة في ابقاء هذا الخلاف، ولكن عندما جاء الاتحاد والترقي إلى الحكم عملوا شيئين رئيسين:

أ-  زرع الخلاف بين العناصر والقوميات الاسلامية داخل الدولة العثمانية.

ب- ازالة الخلاف بين العناصر غير المسلمة في منطقة البلقان. أجهل هذا أم خيانة؟.. نترك الحكم للقارىء.

وقد أزال رجال الاتحاد والترقي الخلاف المشار  إليه بين الكنائس بسن قانون الكنائس في 24 جمادي الآخر سنة 1329هـ/ 3 تموز سنة 1911م فاعطيت الكنائس والمدارس إلى الجهة التي تملك الاكثرية في المناطق المشتركة بين القوميات البلقانية، وقد تعجب السلطان عبد الحميد الثاني من حماقة الاتحاديين. وفعلاً لم تمض سوى سنة واحدة تقريب من علماء المسلمين لمناقشته، فرأى ان أصوب شيء هو اعلان اسلامه حيث تسمى باسم "محمد عزيز أفندي". واقنع السلطات العثمانية بالسماح له لدعوة اليهود إلى  الإسلام فتم له ما أراد، حيث انتهز ذلك لدعوة اليهود للتظاهر بالاسلام والبقاء على الدين اليهودي، لذلك ظهرت هناك جماعة مسلمة في الظاهر وتتسمى باسماء اسلامية، ولكنها جماعة يهودية في الحقيقة، ولا تزال هذه الجماعة موجودة في تركيا حتى الآن ويطلق عليها اسم "الدونمة" أي :الجماعة المرتدة.

([237]) انظر إلى -بين الكتب والناس- للاستاذ عباس محمود العقاد 65 -67

([238]) أي مع جماعة الاتحاد والترقي.

([239]) -القومية والغزو الفكري ص 265

([240]) المصدر السابق ص 265

([241]) المصدر السابق

([260])  Tarihçe-i Hayat, 195-194

([261]) المصدر السابق ص 199

([262]) ما يقارب "مئة" فلس

([263])  Tarihçe-i Hayat, 211

([264])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi, 303

([265]) إن تقبيل يد الكبار عرف لدى الأتراك، وتوارثوه من تقبيل يد العلماء والصالحين المشروع.

([266]) إن متابعة حوادث الكرامات لدى الأستاذ مردها انتشار الأخبار حول حوادث خارقة جرت له في سجن "اسكي شهر" سنة  1935 .

([267])  Son Şahitler,1/85

([268]) كان من اشراف العشائر في الولايات الشرقية، وكان من بين المنفيين إلى قسطموني. نصب له كشكاً صغيراً لعمل الشاي للناس، واتشهر بـ "امين چاجي" تعرف مع الاستاذ النورسي وخدم دعوة الايمان خدمات جليلة لازم الاستاذ النورسي في اغلب اوقاته في قسطموني، ثم سجن معه في سجن دنيزلي، توفي في "وان" سنة 1967.

([269]) المصدر السابق ص 104

([270]) من مقدمة الدكتور محسن عبد الحميد للرسالة.

([271])  الشعاعات- الشعاع الحادي عشر – المسألة السادسة

([272]) الشعاع الرابع: هو شرح لدقائق معاني الآية الكريمة "حسبنا الله ونعم الوكيل".

([273]) الشعاع الخامس: وهو حول موضوع الدجال وفتنته، وردّ لكثير من الاسئلة الحائرة حول هذا الموضوع.

([274]) الشعاع السادس: ويخص شرح "التحيات للّه".

([275])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,310

([276]) أي بدأ باعمال تصحيح ما يستنسخه الطلاب من رسائل النور.

([277]) المصدر السابق ص 312

([278]) المصدر السابق 313

([279]) يقصد الآذان باللغة التركية بعد تحريم الآذان الشرعي.

([280])  Son Şahitler,1/107

([281]) "ذكريات عن سعيد النورسي" ص 68-69

([282]) يقصد الساعة الكبيرة على الحائط.

([283])  Son Şahitler,1/110

([284])  المجلد الأول ص 131-133 Son Şahitler

([285]) المصدر  السابق ص 320

 

([286]) المصدر السابق 320 -322

([287])  Son Şahitler,1/140

([288]) لم يمت هذا الوالي القاسي القلب ميتة اعتيادية، بل مات منتحراً  في 9 تموز من سنة 1946.

([289])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,323

([290])  Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,324

([291]) اللمعات- اللمعة السادسة العشرون.

([292]) ص 324 Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi

([293]) ص 347 Tarihçe-i Hayat

([294]) المصدر السابق ص 347-348

([295]) وهي الشعاع الحادي عشر من الشعاعات.

([296]) 349 Tarihçe-i Hayat والترجمة للسيد عاصم الحسيني من كتاب "رسائل النور لا تنطفئ" ص 43-44.

([297]) "بديع الزمان سعيد النورسي" نظرة عامة  ص 90- 94. المطبوعة طبعة اولية تحتاج إلى تصحيح.

([350])   Bilinmeyen Taraflariyle B.S3-270

([359])   Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi,402

([360]) المصدر السابق ص 410-416

([361]) كانت عاقبة هذا الوزير عاقبة وخيمة، إذ مات منتحراً في اعقاب اعلان الانقلاب العسكري الذي تم في 27 مايس سنة 1960م، أي بعد شهرين تقريباً من معاملته القاسية هذه.

([362]) هذا الطالب من سكان مدينة "اورفة"، التحق بهم لخدمة الاستاذ في الفندق.

([363]) المصدر السابق ص 416-420

([364]) تم تبديل حكم الاعدام الصادر بحق رئيس الجمهورية "جلال بايار" إلى السجن المؤبد وذلك لتقدمه في العمر.

([365]) حديث صحيح، رواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم.

([366]) وهو احد اعضاء قادة الانقلاب، ورئيس اركان الجيش فيما بعد.

([367]) "بديع الزمان سعيد النورسي" ص 334-336