.

الديـنالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوترثقــافـة
آثــارتغذ يـةعلـــومالأدبكتــــب

إبـن خلـدون
( 1332- 1406 )

   كان غاية في النباهــة واللباقة والحزم والعزم، ولعل ذلك ما يفسّر لنــا كتابته لسيرته الذاتية بنفسه، وهو فن مستحدث سبق فيه العرب الغرب قرونا عديدة، وقد يتساءل أحد عن سرّ اهتمامنا بسيرة الرجل وحياته، وهي مدونة مرحلة بمرحلة، وحدثا بحدث، دون إغفال أو مواربة فيما بعد القسم الرابع من مجلده السابع والذي خصّصه للتعريف به وبرحلته شرقا وغربا، وجواب ذلك يكمن فيما لحق الرجل عقب وفاته من إهمال ونسيان بلغ قرونا عدّة، وهي أربعة طويلة وشاقة على أمّته وبنيها العرب المسلمين، فكيف كانت حياته وماهي أهم التقاطعات التي أثّرت عليه ؟
 

هـو أبـو زيــد ولي الديـن عبد الرحمن ، بن أب بكر محمد ، بن أبـي  عبد الله محمد ، بن محمد ، بن الحسن ، بن محمد ، بن جابـر ، بن محمد ، بن إبراهيم ، بن عبد الرحمن ، بن خلدون ، اليمني ، الاشبيلي ، التونسي ، المالكي ، الأشعري ، ولد في غرّة رمضان 732 هـ الموافق لـ: 27 ماي 1332 م ، وتوفي في 27 رمضان 806 هـ  ، الموافق لـ: 19 مارس 1406 م ، " لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة ، ويغلب على الظن أنّهم أكثر ، وأنّه سقط مثلهم عددا ؛ لأنّ خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس ، فإن كان أول الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة ، فيكونون زهاء العشرين ، ثلاثة لكل مائة ، كما تقدم في أول الكتاب الأول . 

ونسبنـا حضرموت، من عرب اليمن ، إلى وائــل بن حجر ، من أقيال العرب ، معروف وله صحبة . قال أبو محمد بن حزم في " كتاب الجمهرة " : وهو وائل بن حجر بن سعيد بن مسروق بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف بن سعيد بن عوف بن عدي بن مالك ابن شرحبيل بن الحارث بن مالك بن مرّة  بن حميري بن زيد ابن الحضرمي بن عمرو بن عبد الله بن هاني ، بن عوف بن جرشم ابن عبد شمس بن زيد بن لأي بن شبت بن قدامة بن أعجب بن مالك بن لأي بن قحطان . وابنه علقمة بن وائل وعبد الجبّار بن وائل.        

وذكـره أبو عمر بن عبد البرّ في حرف الواو من " الاستيعاب " ، وأنــه وفــد على النبي صلى الله عليه وسلم ، فبسط له رداءه ، وأجلسه عليه ، وقال : << اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة >> .(1)        

دخلــت عائلة آل خلدون تونس معززة ، بعد أن سقطت مدينة اشبيلية عام 1248 م بيد الملك المسيحي فرديناند الثالث بن ألفونس التاسع ، ولعائلته مع اشبيلية قصص وذكريات ، " ولم يزل بيت بني خلدون باشبيلية ـ كما ذكره ابن حيان وابن حزم وغيرهما سائر أيام بني أمية إلى أزمان الطوائف ـ وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة .

ولما علا كعب ابن عباد باشبيلية واستبـدّ على أهلها، استـوزر من بنــي خلدون هؤلاء، واستعملهم في رتب دولته، وحضروا معه وقعة الزلاقة ، كانت لابن عباد وليوسف بن تاشفين على ملك الجلالقة ، فاستشهد فيها طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ، ثبتوا في الجولة مع ابن عبّاد فاستلحموا في ذلك الموقف . ثم كان الظهور للمسلمين، ونصرهم الله على عدوهم. ثم تغلب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس، واضمحلت دولة العرب وفنيت قبائلهم.»(2).  

تعلّـم علاّمتنا ما تعلّم على يد أبيه الذي هجر الحياة السياسية طوعا لا كرها ، وأقام يعلّم إبنه ويهذبه مبادئ العربية مع حفظ القرآن الكريم وتلك عادة أهل إفريقية تميّزوا بها على غرار أهل الأندلس عن أهل المغرب ، " ... وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ المكتّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برّال الأنصاري، أصله من جالية الأندلس من أعمال بلنسية ، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها ، وكان إماما في القراءات ، لا يلحق ثأوه ، وكان من أشهر شيوخـه في القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد البطرني ، ومشيختــه فيهـا ، وأسانيـده معروفة . وبعـد أن استظهرت القرآن الكريم من حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبـع المشهورة إفرادا وجمعا في إحدى وعشرين ختمة ، ثم جمعتها فـي ختمة واحدة أخرى ، ثم قرأت برواية يعقوب ختمة واحدة جمعا بين الروايتين عنه ؛ وعرضت عليه رحمه الله قصيدتي الشاطبي ، اللاّمية في القراءات ، والرّائية في الرسم ، وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي العباس البطرني وغيره من شيوخه ، وعرضت عليه كتاب " التقصّي لأحاديث الموطّأ " لابن عبد البرّ ، حـذا به حذو كتابه " التمهيد " على الموطأ ، مقتصرا على الأحاديث فقط . 

ودارست عليه كتبــا جمّة ، مثل كتاب " التسهيل " لابن مـالك ، و مختصر ابن الحاجب ، في الفقه ، ولم أكملهما بالحفظ ، وفــي خلال ذلك ، تعلّمت صناعة العربية على والدي ، وعلى أستاذي تونس : منهم " الشيخ أبو عبد الله بن العربي الحصايري" ، وكان إماما في النحو وله شـرح مستوفى على كتاب التسهيـل . ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش الزرزالي . ومنهم أبو العباس أحمد بن القصّار ، كان ممتعـا في صناعة النحـو ، ولـه شرح على قصيـدة البـردة ، المشهورة في مدح الجناب النبــوي >>(3) .                                                         

وهلك الوالـد فـي جملة من هلك عقب وباء الطاعون الجارف الــذي ضـرب جزءا كبيرا من العالم القديم تاركا أثرا بليغا في نفسية ابن خلدون ، والحقيقة أننا لا نجد كبيـر إشارة إلى ما كانت عليـه الأوضاع عقب هـذا الداء ، ولكن معظم المصادر تشير إلى أنّ حاضرة الإسلام في المغرب فقدت جراء هذا الوباء المعدي ثلث أو نصف سكانها ، مثلها مثل أوربا ومناطق واسعة من آسيا ، ولهول ما رأى ووجع ما تلقى أشار ابن خلدون إلى ذلك مرارا ، وقد كتب في المقدمة : << ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي يحيّف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلّص من ظلالها وفلّ من حدّها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبـدّل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل بع مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة . >>(4) 

والواقع أنّ ابن خلدون لم يتوقف يوما عن الحلّ والترحال ورافق ذلك كلّه مصائب ونكبات كانت له كصهوة جواد تخطّى بها كل ما وقف في وجهه ، وثمّـة محطتان مهمّتـان بالإضافـة إلى كل ما سبق كانـا لهما دورا بارزا في إذكاء شعلة ابن خلدون وتقوية لهيبها ، وهاتان المحطتان هما ما كان له بفــاس بعد نكبة بجــاية ، ثم ما كان له في القاهــرة حين زارها . فأما ما كان له بفـاس فقد ذكره في التعريف قائلا: << وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس ، وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه ، وجرى ذكري عنده ، وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس ؛ فأخبره الذين لقيتهـم بتونس عنّي ، ووصفوني له ؛ فكتـب إلى الحاجب يستقدمني ، فقدمت عليه ، سنة خمس وخمسين ، ونظمني في أهل مجلسه العلمي ، وألزمني شهود الصلوات معه ، ثم استعملني في كتاباته ، والتوقيع بين يديه ، على كره مني ، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي . وعكفت على النظر، والقراءة ، ولقاء المشيخة ، من أهل المغرب ، ومن أهـل الأندلس ، الوافدين في غرض السفارة ، وحصلت من الإفادة منهم على البغية . >>(5)    

ويصف ابن خلــدون المنصب الـذي تولاه بالذي لا يليـق بمقام سلفه ومع ذلك فقد قبلـه لأنه أتـاح له لقاء المشيخة والعلماء ، ويفهم من ذلك أنّ ابن خلدون قد حــنّ إلى الدرس ثانية وأيقن أنّ عهد البحث عن النجاح السياسي قد ولّى ، وأنّ عليه أن يبحث عن مجد آخــر ، هو مجده الحقيقي ومجد عائلته وأبيه . إنّه مجد الدرس والتحصيل . أما المحطة الثانية والتي نراها هامة فهي ليست محطة الأندلس ، وإنّما هي محطة القاهـرة ، القاهـرة التي قال فيها : << إنّ الذي يتخيّله الإنسان ، فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها ، لاتساع الخيال عن كل محسوس ، إلاّ القاهرة ، فإنها أوسع من كل ما يتخيّل فيها . >>(6)    

والحقيقة التي لا مراء فيها ، أنّ القاهرة يوم وصلها ابن خلدون كانت ملاذ التفكير والنظر من المشرق والمغرب على حدّ سواء لما أسداه سلاطينها المماليك من عطف ورعاية للعلم والفن والأدب عبر عديد المؤسسات التي سهروا على إنشائها ، ولمّا دخلتها ، أقمت أياما ، وانثال عليّ طلبة العلم بها ، يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة ، ولم يوسعوني عذرا ؛ فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها >>(7) .     

وكان أن صادف مقدم ابن خلدون إلى القاهرة أنّ وليّ الظاهر برقوق أمر مصر عشرة أيام فقط قبل دخول ابن خلدون إلى عاصمة السلطنة ، وشجّع ذلك كثيرا الوافد  من بعيـد على الاتصال بالوافد الجديد على القصر ، " ثم كان الاتصال بالسلطان ، فأبـرّ اللقاء ، وأنّس الغربة ، ووفّر الجراية من صدقاته ، شأنه مع أهل العلم ، وانتظرت لحاق أهلي وولـدي من تونس ، وقد صدّهم السلطان هنالك عن السفر ، اغتباطا بعودي إليه ، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعـة إليه في تخلية سبيلهم ، فخاطبه في ذلك .. "(8) .

لكن هناك صورة أخرى ارتبطت بابن خلدون وهي خارجة عن نطاق الحيز الذي كان يتحرك فيه ، ويتعلّق الأمر بما كان يجري لدى الآخر من نشاط يوحي ببداية بروز مؤشرات على تقلب واسع في الحياة آنذاك ، والواقع أنّ المغرب الإسلامي قد عاش طيلة عقود القرن الثامن للهجرة خلافات حادة بين إماراته ، وباتت مقاطعات المسلمين الشمالية في شبه جزيرة ايبيريا تسقط الواحدة تلو الأخرى ممّـا عـدّ في نظر العلماء والساسة مؤشرا كافيا على غزو مسيحي شامل للمغرب الاسلامي كله ، " يمكن القول بأنّ العصر الذي عاش فيه ابن خلدون كان يمثل نهاية العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة في أوربا ( ق 14 الميلادي الثامن الهجري ) ، فبينما كانت مظاهر النهضة تلوح في أفق أوربا بعد الظلام الدامس الذي اكتنفها طوال العصور الوسطى ، كانت الحضارة الإسلامية في الدول العربية والاسلامية تسير في خط منحدر نحو الأفول وتعاني من التدهور والانحطاط ، فقد سقطت الدولة العباسية في بغداد على أيدي المغول بقيادة " تيمورلنك " ، أمـا بالنسبة لبلاد الأندلس فقد كان الملوك الكاثوليك يتحفزون للقضاء على ما تبقى منها في أيدي المسلمين ، إذ كانت أهم مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس قد سقطت في أيديهم ، ونعني طليطلة ، وقرطبة ، واشبيلية .. ، ولـم يبـق لديهـم إلاّ قطعة صغيرة في الجنوب تكـاد تنحصر في " غرناطــة وجبل الفتح ، وكان " بنو الأحمر " هم الذيـن يملكون تلك المنطقة إلاّ أنهـم كثيرا ما كانوا يتنافسون فيمـا بينهم على الحكـم ، وقد اتصل بهم ابن خلدون ـ كما مرّ بنا ـ وشاهد أوضاعهم المتردية ولعله قد أدرك أنّ ظل العرب على وشك الزوال من الأندلس عما قريب . "(9)     

إنّ ما سهّل مهمة المسيحيين هو بنية المجتمع في دول المغرب الاسلامي ، ذلك أنّ الوحدة الأساسية في الدولة ليست هي المؤسسات بما تضفيه عليها الدولة من الشرعية وإنّما هي مجموع القبائل المتناثرة والمتنافرة غالبا ، ذلك أنّ ودّها نادرا ما يصفو ليعود فينكدر مرّة ثانية ، والمد والجزر هذا إنّمــا يخضع أساسا لميزان القوة ، فحيث ما مـال فثمة انهـزام وانكسار يوهم بفوز وانتصار ، وكـل ذلك كان يعمل لصالح الشمال المسيحي .

أما من الناحية الحضارية العامة ، فإنّ قرن ابن خلدون ، هو قرن وقع فيه قسم كبير من التقاطع بين العالم الاسلامي والعالم المسيحي ، وسيكون مؤدى هذا التقاطع أن يسلم الأول للثاني حضارته قبل أن يحتضر ، وكانت الأندلس إحدى أهم بوابات التلاقي بين عالمين يدرك كل منهما قيمة الآخــر . أو هي إحـدى أهم قلاع الحضارة الإسلامية بلا منازع .

وفي ظل هاته الصورة الكلية تمكن الفقهاء من تثبيت دعائم سلطانهم وقد مـرّت أكثر من مائة سنة على وفاة ابن طفيل وابن رشـد ، وممّا زاد سلطانهم قوة تفردهم بحق الدعوة للجهاد ، علما أنّه وعلى عهد ابن خلدون لم يكن الجهاد قائما خارج دار الاسلام ، بل كانت هناك حروب أهلية مزّقـت كيان المغرب الاسلامي شـرّ ممزق وتركتـه في مهب ريـح عاتية لم يقو على مجابهتهــا ، وقد وصل الأمر بالبعض 

أنّ وصف انقلاب أبو عنـان المريني على أبيه بالجنون لما فيه من خرق لقواعد السياسة ومذهب الدين ولما يورثه فعل كهذا من حقد وغل في نفوس العامة ناهيك عن الحاشية والأعيان . بالإضافة إلى ذلك كانت أهم روافد القرن الرابع عشر الفكرية منحدرة من العقيدة والفلسفة ، والناظر إلى أهم الانجازات الفكرية يلاحظ إما أنّها عقائدية أو فلسفية ، دون اهتمام بانعكاس أحكامها القيمية من الجهة المنهجية ، وابن خلدون كأحد أهم أعلام القرن الرابع عشر لم يشذ عن هاته القاعدة .

      وينقل لنا " ساطع الحصري " صورة وافية لما لغته الحياة السياسية من اضطراب آنذاك ، وهي صورة حيّة لما لاقاه أمير بجاية وصديق ابن خلدون ، وأمين ســرّه فيقول :

1- أنّ الأمير الحفصي محمد بن عبد الله كان يتولى إمارة بجاية ، تابعا لسلطان افريقيا في تونس .

2- فقَدَ إمارته لمّـا أغار عليها ـ السلطان أبو الحسن المريني .               

3 - ولكنه عاد إلى مقـر إمارته ، وصار يحكمها كالسابق ، عندما ثــار السلطان أبو عنان على والده ، ورأى أن يعيد الأمراء الحفصيين إلى إمارتهم ، ليدافعوا عنها ، ويحولوا دون عودة والده إلى مملكته

4- فقد إمارته مرّة أخرى ، عندما عاد السلطان أبو عنان واستولى على بجاية بعد   موت والده ، وصار الأمير يعيش مرّة أخرى بعيدا عن بلاده .                       

 5  - عندما مرض السلطان أبو عنان ، فكّر الأمير محمد بالفرار من فاس لاستعادة إمارته ، إلاّ أنّ السلطان علم بالأمر ، وأفسد عليه خطّته .

6- ورغم هذا استطاع الأمير أن يغادر فــاس ، وبعد موت السلطان المشار إليه ، وأن يتوجه نحو مقر إقامته إلاّ أنّه وجد أنّ عمّه " أبو إسحاق " الحفصي سبقه إلى الاستيلاء على بجاية ، فاضطر إلى محاصرتها ، وبذل جهودا جبارة لتخليصها من حكم ذلك العــم

7- ولكنه بعدما استولى على بجاية ، وأخذ يوطّد حكمه فيها تعرّض إلى خصومة جديدة ، وهجوم ابن عمه صاحب قسنطينة الذي أراد توسيع حدود إمارته ، وزحف على بجاية .  والأميـر محمد لقــي حتفه خـلال الاصطدام الذي وقع بين جيشه وبين جيوش ابن عمّه .(10)

وبالإضافة إلى ما نقله ساطع الحصري عن عصر ابن خلدون وحياته ، فإنّ الواقع الذي عايشه هو في حقيقته نتاج لما سبق من تصدعات في بنية دول لم تقم على مثل ما قامت عليه دول دام نفوذها لفترات أطول منها ، وكان انهيار الدولة الموحدية مؤشرا على قرب نهاية حضارة قبل أن تحوّل وجهتها . " فقبل دخول المرينيين إلى فـاس سنة 1269م ، وقضائهم على الدولة الموحدية التي تقلّص نفوذها بعد 1212م ودخلت بسرعة مرحلة طويلة من الاحتضار ، فقد المغرب العربي وحدته السياسية التي عرفها في عهد الامبراطورية الموحدية ، وهكذا أصبحت ثلاث دول تقتسم أطراف المغرب العربي ، الحفصيون بتونس وبنو عبد الواد بتلمسان والمرينيون بفاس ، هذا فضلا عن دولة بني الأحمر بغرناطة ... واكتسى العداء بين هذه الدول شكلين رئيسيين :

  • الحروب واكتساح أراضي الدولة الأخرى ، وهكذا كانت الحرب سجالا بين المرينيين وأبناء عمومتهم من بني عبد الواد ... ونجد نفس العداء بين هذه الدولة والدولة الحفصية .
  • التآمر على الدولة المجاورة والتدخل في سياستها الداخلية قصد خلق مشاكل تشغلها عن إعلان الحرب عليها ..."(11) .

        إنّ تاريـخ آل خلدون عامة وعبد الرحمن خاصة من جهة وما أحاط بالحياة العامة من أحداث من جهة أخرى ، يصلح لأن يكون نموذجا دقيقا لمؤرخ جاد أو مفكر قلق للبحث عن الحقيقة التاريخية والوضوح العقلي من حضرموت إلى الأندلس ، ومن التهافت إلى تهافت التهافت ، بالإضافة إلى ما أحاط الطاعون الجارف من تفسير غيبي مخل بكل معقول يمكن أن يرجع إليــه .

            تلك أهـم المحطات في حياة ابن خلدون ، منها المعقول ومنها ما اتّسم بلا معقولية ، فكان جارفا عازفا عن كل معقول ، وتبقى آثــار ذلك فيما تولّد عنها فيما بعد من تآليف وأحداث .
 


المراجع:

(1) : عبد الرحمن ابن خلدون ، التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا ، بيروت ، دار الكتاب اللبناني . القاهرة ، دار الكتاب المصري ، 1979 م ، ص ، ص : 3 / 4 .

(2) : المصدر نفسه ، ص ، ص : 9 / 10 .

(3) : المصـدر نفســه ، ص ، ص : 17 ، 18 ، 19 .

(4) : ابن خلدون ، المقـدمــة ، بيروت ، دار الرائـد العربي ، الطبعة الخامسة ، 1402 هـ ، 1982 م ، ص ، ص : 32 / 33

(5) : ابن خلدون ، التعـريف ، ص ، ص : 60 / 61 .

(6) : المصـدر نفسه ، ص : 266 .

(7) : المصـدر نفسه ، الصفحة نفسها .

(8) : المصـدر نفسه ، ص ، ص : 266 / 267 .

(9) : محمد فريد حشيش ، ابن خلدون بين العلم والسياسة ، أعمال الملتقى الدولي الثاني عن ابن خلدون ، الجزائر ، 1986 م ، ص : 123 .

(10) : ساطع الحصري ، دراسات عن مقدمة ابن خلدون ، القاهرة ، بيروت ، مكتبة الخانجي ودار الكتاب العربي ، الطبعة الثالثة موسعة ، 1387 هـ ، 1967 م ، ص : 62 .

(11) : أحمد بوشرب ، أزمات القرن 14 ودورها في تغيير ميزان القوى لصالح الدول المسيحية المشرفة على الحوض الغربي للأبيض المتوسط ، أعمال الملتقى الدولي الثاني عن ابن خلدون ، الجزائر ، المركز الوطني للدراسات التاريخية ، 1986 م ، ص ص : 224 / 225 .