.

آثــارتغذ يـةتراجــمعلـــومالأدبكتــــبالطــبالقانونالتعلـيمالتربيـةكومبيوترثقــافـة

 1  الإسلام و الغرب

أول من بدأ بطرح مقولة «الإسلام والغرب» في التاريخ المعاصر هم الغربيون أنفسهم. ودعاة هذا الطرح في الغرب لا يستطيعون القول: دين مقابل دين، لأنهم بأكثريتهم ينتمون لمجتمعات علمانية لا تقيم للدين دوراً في حركة المجتمع أو في تطوره، وبالتالي تختار ـ أي هذه المجتمعات ـ كلمة «الغرب» لتعبّر عن جملة خصائص..

فهي تعبّر أولاً عن مضمون من الناحية الاقتصادية (نظام الاقتصاد الحر)، وهي تعبّر عن مضمون من ناحية النظام السياسي (النظام الديمقراطي العلماني)، كما تعبّر عن مضمون من ناحية الموقع الجغرافي الذي كان لفترة طويلة رمزاً لحالة المواجهة في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي،

وتعبّر أيضاً عن كتلة لها مضمونها الأمني بما يُعرف بحلف الناتو أو حلف الأطلسي، وهي أيضاً ـ وهذا الأهم ـ تعبّر عن كتلة أصبح لها مجموعة من المفاهيم الحضارية الخاصة بها تريد تعميمها على باقي دول العالم، وهي ضمناً، تعبّر عن تراثٍ ديني هو مزيج من المسيحية واليهودية معا. كلمة «الغرب» لا يجب أن تستبدل بالمسيحية،

لأنّ هذا الاستبدال من شأنه أن يوقع الجميع في محظور لا يجب أن يقعوا فيه. فمشكلة العالم الإسلامي ليست مع المسيحيين في الغرب، لأن العالم المسيحي نفسه عانى من صراعات دموية حصيلة الصراع على المصالح بين حكام الدول، وقد شهدت أوروبا الغربية في القرن العشرين حروباً لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل، جرت بين دول أوروبية مسيحية، يجمع بينها الموقع الجغرافي الواحد كما يجمعها الدين الواحد والحضارة الواحدة.

ان الذين يسوّقون الآن لفكرة وجود صراع بين الإسلام والغرب يريدون فعلا بهذه الدعوة جعل الغرب كلّه بحالة جبهة واحدة ضدّ الإسلام كفكر، والإسلام كموقع جغرافي، وقلب هذا الموقع الجغرافي هو الوطن العربي. في المقابل، العرب لا ينبغي أن يقعوا في هذا الفخ أو الكمين حيث يتلقّف البعض كل كلمة تُقال في الغرب ويجعل لها مدلولات بالمعنى السلبي أو الإيجابي.

فإذا لم يُوضّح بداية ما المقصود من حوار الإسلام والغرب - أو صراع الإسلام والغرب - فإنّنا سندخل في متاهة التفاصيل قبل أن نعرف فعلا ما الهدف من هذا الحوار أو من المستهدف في هذا الصراع.. على الجانب الآخر، ما هو المقصود بتعبير الإسلام في هذه المقولة: هل المسلمون أنفسهم؟ هل نتحدّث عن الموقع الجغرافي أم الجانب التاريخي..؟

هل نتحدث عن القيم التي حملها الإسلام؟ تماماً كما ينبغي في الوقت نفسه تحديد ما المقصود بتعبير الغرب. هل نتحدّث عن كتلة واحدة؟ هل نتحدّث حتى عن موقف سياسي واحد؟ الجواب لا طبعاً، بدلالة كل ما يجري من صراعات على مواقف سياسية كثيرة بين دول في أوروبا وبين الولايات المتحدة الأميركية.

من يمثّل الغرب الآن؟ أوروبا أم أميركا؟ هناك في داخل الغرب قوى تريد التقارب مع العرب والمسلمين، وهناك في داخل الغرب قوى تريد العداء معهم. هناك في داخل الغرب قوى تتصارع مع بعضها البعض، وهناك في داخل العالم الإسلامي حروب داخلية على أكثر من مستوى. ليس هناك جبهتان: غربية وإسلامية، بل هناك كتل متنوعة وقوى متصارعة في كل من الموقعين.ان لهذه التسميات المفتعلة أهدافاً سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية. هذه الأهداف مرتبطة بقوة كبرى تقود العالم هي الولايات المتحدة الأميركية، وهي تريد كما قال الرئيس السابق بيل كلينتون في خطاب تنصيبه في شهر يناير عام 1997«أن يكون القرن المقبل قرناً أميركياً كما كان القرن العشرون قرناً أميركياً».

وحتى يتحقق ذلك، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الصراع على أساس شرق ـ غرب بالمفهوم الشيوعي ـ الرأسمالي، كان المطلوب بديلاً لهذا الطرح، فوُضع شعار «الخطر الإسلامي» كطرحٍ بديل ليُقبل داخل الغرب نفسه قبل أي مكان آخر. فقد كانت الهوية السائدة سابقاً هي «صراع الشرق والغرب» أو «الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي»، ولم يكن مطروحاً (أو حتى مقبولاً في قلب كلّ معسكر) الصراع على أساسٍ ديني أو قومي.

فالشيوعية والرأسمالية التقتا حول فلسفاتٍ ومناهج مادية لا تنطلق من خصوصياتٍ قومية أو دينية، ولا تعير اهتماماً للقيم الدينية أو للسمات الثقافية المميزة للشعوب. كذلك اشتركت الشيوعية والرأسمالية في التعامل مع المسألة الاقتصادية كأولوية تتجاوز حدود الدول والأمم وتتّسم بطابع العالمية لأفكارها وساحة عملها وبما يحقّق المصالح الخاصة لقطب كلّ معسكر.

 2  الإسلام و الغرب

بسقوط المنافس الشيوعي العالمي، بقيت «الرأسمالية» وحيدة في طرحها لنموذجٍ سياسي واقتصادي وثقافي متكامل لا يمكن أخذ بعضه دون البعض الآخر. فالصيغة السياسية للأنظمة الغربية هي الوعاء السياسي لمضمون «الاقتصاد الحر» والمنافسة التجارية الحرة.

كذلك فإنّ بناء أنظمة سياسية واقتصادية «حرة» يتطلّب «شرعية ثقافية» من المجتمع ومفاهيم وقِيَم تتماشى مع عناصر الفكر الرأسمالي، بحيث تتكامل العناصر الثلاثة: ثقافة ـ اقتصاد ـ سياسة، لتبني «المجتمع الرأسمالي الحر». لذلك، كانت أطروحة «العولمة» وكأنها نتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.

إنّ الأطروحة الغربية عن «العولمة» هي الآن تحت القيادة الأميركية التي كانت تقود معظم الأحداث الدولية في القرن العشرين، وكانت أميركا رأس حربة المجتمعات الغربية الرأسمالية في مواجهة المجتمعات الشرقية الشيوعية. لذلك، فإنّ الولايات المتحدة تجد نفسها في موقع المنتصر الأول بعد سقوط الكتلة الشيوعية، وهي ـ من وجهة نظر قياداتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية ـ معنيّة الآن بقيادة العالم كلّه وباستكمال نشر عناصر الدعوة الرأسمالية ومفاهيمها الثقافية والسياسية والاقتصادية.. ولصالح أميركا أولاً.

لكن هذا الدور الأميركي الهادف بقاع الأرض كلّها، لا يريد معه شريكاً منافساً حتى ولو كان من داخل المجتمعات الغربية الرأسمالية نفسها. لذا، ترافقت محاولات الهيمنة الثقافية الأميركية على الشعوب الأوروبية، مع فترة سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث كان ذلك ضرورياً من وجهة النظر الأميركية حتى لا تخرج أوروبا عن القيادة الأميركية، وتبني لنفسها (في ظلّ خطوات الاتحاد الأوروبي) عناصر قوة مستقلة (ومنافسة) للقوة الأميركية الرائدة الآن.

وقد امتزجت في مطلع عقد التسعينات نظريتان غربيتان مصدرهما الأساسي أميركا، الأولى كان رائدها صموئيل هنتينغتون، وعنوانها: صراع الحضارات (وتخللت نظريته مقولة الصراع الحضاري القادم بين الغرب والإسلام)، والثانية كان رائدها فوكوياما، وعنوانها: نهاية التاريخ (والتي وصلت إلى خلاصة مفادها أن الحضارة الغربية قد انتصرت على غيرها وهي الحضارة الوحيدة القائمة الآن). وحسب اجتهادي، فإن النظريتين تكملان بعضهما البعض وتستهدفان العالم كله وليس فقط الإسلام والمسلمين تحديداً.

فالحديث عن الإسلام والغرب هو بحد ذاته حديث عن شيئين مختلفين تماماً: فالإسلام هو دين وحضارة وكلاهما (أي الدين والحضارة) أشمل وأوسع من أي زمان ومكان. بينما الغرب هو موقع جغرافي يحمل مضامين دينية وثقافية وحضارية مختلفة، والإسلام فيها كما هي الأديان الأخرى.

أيضاً، فإن تنافس أوروبا هو الآن مع الولايات المتحدة الأميركية (أي ضمن الغرب نفسه) وليس مع المسلمين والعالم الإسلامي. فأميركا هي القوة العظمى الوحيدة الآن التي تسعى لإبقاء السيطرة والهيمنة على أوروبا، ولمنع أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة عظمى منافسة لها. فمشكلة أوروبا الآن هي مع أميركا: سياسياً واقتصادياً وثقافياً حتى لو جمعتهما حضارة واحدة.

فوحدة الحضارة لم تمنع الصراع الفرنسي ـ البريطاني على العالم في القرون الأخيرة، ولم تمنع من وقوع أخطر حربين عالميتين على الأرض الأوروبية في القرن العشرين. إن فرنسا مثلاً شهدت في عقد التسعينات الماضي احتجاجات كثيرة على محاولات الهيمنة الثقافية الأميركية على حساب الثقافة الفرنسية الخاصة، بينما اتخذ الكونغرس الأميركي قرارات تحظر على الشركات الأميركية التعامل مع الشركات الأوروبية وغيرها التي تحاول التعامل مع دول عليها «حالة عزل» أو حصار أميركي..

إن أوروبا الغربية تسعى إلى علاقات خاصة مع الدول العربية والى سياسة «متوسطية» (نسبة للبحر الأبيض المتوسط الذي يشترك فيه الأوروبيون والعرب)، بينما تسعى أميركا إلى الانفراد بالمنطقة العربية وثرواتها ومستورداتها العسكرية والاقتصادية المختلفة، وتطرح «السوق الشرق أوسطية» التي بوابتها إسرائيل وُتجّارها الأساسيون من الأميركيين!..

إن أوروبا الغربية تمارس نوعاً من السياسة الخارجية المستقلة تجاه الصراع العربي/ الإسرائيلي وتحاول أن تكون أكثر توازناً في المواقف قياساً على الموقف الأميركي المنحاز لإسرائيل دائما.. لذلك، تسعى أميركا إلى التخفيف من حدة «الاستقلالية الأوروبية» التي تقودها فرنسا وألمانيا، واستباق تحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة منافسة خطرة على المصالح الأميركية في أهم بقعة جغرافية بالعالم: الأرض العربية من المحيط إلى الخليج.

وما في هذه البقعة من ثروات طبيعية، وموقع جغرافي استراتيجي، ورموز ومقدسات دينية للعالم بأسره. إذن، هو صراع في الدائرة الغربية نفسها، لكن على المصالح في المنطقة العربية تحديداً وفي العالم الإسلامي عموماً. وقد كان العرب ـ كما كل شعوب العالم الثالث ـ ضحية الصراعات بين قوى الغرب الكبرى، أكثر من مرة في التاريخ القديم والمعاصر.

إن أطروحة «صراع الحضارات» والحديث عن الصدام بين الإسلام والغرب، يخدم الاستراتيجية الأميركية الهادفة إلى تطويع الأوروبيين وضمان وجودهم تحت المظلة الأميركية من جهة، والى تبرير الإجراءات الأميركية في العالم الإسلامي من جهة أخرى.

هي أطروحة كالمنشار: تقطع في الاتجاهين، وتحاول أن تستند إلى توظيف سلبيات الماضي عند الطرفين الأوروبي والعربي: الحروب الصليبية وما سبقها من امتداد إسلامي إلى قلب أوروبا، والاحتلال الأوروبي الغاشم للعديد من دول المنطقة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

وعلى الرافضين لأطروحة «صدام الحضارات» ـ وهي أسلوب الترهيب ـ القبول بأطروحة أخرى تقول إن العالم اليوم تحكمه حضارة واحدة تحت شعارات «العولمة»، أي الترغيب بالانتماء إلى «الحضارة» الواحدة القائمة الآن: الغربية في ملامحها وسماتها، والأميركية في قيادتها وفي توظيفها.

ولا شك بأن أساليب الإرهاب والعنف المسلح بأسماء إسلامية، تخدم بشكل كبير هذه الاستراتيجية الأميركية وإن كانت شكلاً تتصارع معها في أكثر من ساحة! وفي ظل هذا العالم المتغير، فإن تصحيح الذات العربية والذات الإسلامية يجب أن تكون له الأولوية قبل الحديث عن حوار أو صراع للإسلام مع الغرب.

إن العرب يتحملون ـ بحكم المشيئة الإلهية ـ دوراً خاصاً في ريادة العالم الإسلامي، فأرضهم هي أرض الرسل والرسالات السماوية، ولغتهم هي لغة القرآن الكريم، وعليهم تقع مسؤولية إصلاح أنفسهم وريادة إصلاح الواقع الإسلامي عموماً.


بقلم :صبحي غندور
مدير «
مركز الحوار العربي» في واشنطن