الفصل الثاني
البيمارستانات وأمراض
النفس
الأندلس
وإسبانيا
أما
في الأندلس،
فإن
أول مشفى تولى علاج مرضى
النفس
هناك كان في
قرطبة في القرن الحادي
عشر، مع العلم أنه وجد في الأندلس في تلك
الأثناء 50 بيمارستانا.
وجاء عن قرطبةً، أنه وجدت فيها في القرنين
الثامن والتاسع عشر مشافٍ تعالج مرضى
النفس.
أما
في غرناطة
فقد
شيد
فيها
فيما بين 1366 وحتى 1375
أول بيمارستان
خصص لمرضى
النفس فقط، شيده السلطان محمد استمر العمل
فيه حتى سقوط غرناطة عام
1492.
وأفسح
المجال في معاهد الأندلس لتلقي العلم لكل
من أراد ذلك، أي من الأندلس ومن
خارجها،
وكان
لقنسطنطين
الإفريقي الذي
تعود
جذوره لشمال أفريقيا وعاش
مابين 1020 و 1087 حظ من ذلك،
فقد ذاع صيته في العصور
الوسطى ووضع
فيما بعد بحثاً
في المالنخوليا،
ويعتبر
بأنه
مؤسس
مدرسة ساليرنو
في
جنوب ايطاليا
بالقرب
من نابولي.
كان قنسطنطين
قد تجول قبل ذلك في دول البحر المتوسط
الأسلامية كتاجر مسلم للعطور والأعشاب
والعقاقير إلى أن
أوكل
اليه "ألفانُس"،
أسقف
ساليرنو، الذي حكم ما بين 1058 و 1085،
بنقل
طرق العلاج العملية من الطب العربي
إلى
اللاتينية،
كما انه أحضر معه كتاب
كامل الصناعة في الطب المسمى بـ "الملكي"
لعلي إبن العباس الملقب "بابن المجوسي"،
نقله جزئياً إلى اللاتينية عام 1087. وعن
تقدم معرفة الأطباء العرب بالأعشاب وطرق
العلاج بها يجيب
Staehelin
على من شكك بصحة الروايات التي تحدثت عن
أسبقية أساليب معالجة مرضى النفس في تلك
البيمارستانت، بأنه تكفي للرد عليها معرفة
مدى تقدم أطباء العرب بعلم العقاقير
(الأدوية) والأعشاب والروائح والعطور التي
كانوا يستعملونها، إضافة لاستعمال
الموسيقى والحمامات وغير ذلك، لإدراك مدى
تقدمهم عن غيرهم.
وعن
قنسطنطين الأفريقي، الذي أعتبر بأنه أهم
من نقل العلوم العربية والإغريقية إلى
اللاتينية، يروي "ماثيوس ف.
Matheus F.
عن سيرة قنسطنطين الأولى، يقول أنه كان
تاجراً مسلماً من شمال أفريقيا، أدرك إثر
زيارته لمجلس اللومبارد (Lombard
court)
في ساليرنو بأن تلك البلاد لاتوجد بها أية
كتابات طبية باللغة اللاتينية، فعاد إثر
ذلك إلى شمال افريقيا ليدرس الطب في سنوات
ثلاث ليعود بعدها إلى ساليرنو عام 1065
مصطحباً معه مؤلفات طبية باللغة العربية.
ويروى عنه أنه تحول بعد ذلك إلى المسيحية
وللرهبنة البندكتية ليمضى ما تبقى من عمره
بنقل كتابات الطب من العربية إلى
اللاتينية تحت رعاية الأب فكتور الثالث (Victor
III).
وفي بحث قيم نشره الأستاذ الدكتور عبد
الفتاح عاشور عن "الطب الإسلامي في
الجامعات الأوروبية في فجر عصر النهضة"
بين فيه كيف استفاد الغرب في علوم الطب من
الشرق العربي والإسلامي، ذلك في فترة كان
قد خيم فيها الجهل والتخلف على الغرب
وسيطرت فيها الكنيسة ورجالها على عقول
الناس ومشاعرهم فوجهت حياتهم وجهة قصيرة
المدى. فقد اعتَبَرت المرض نوعاً من أنواع
العقاب الإلهي، لذا فلا يصح للإنسان أن
يتداوى منه لأن ذلك يعتبر تحدياً للإرادة
الإلهية. فالمريض مرِضَ لأن الله أراد أن
يعاقبه بالمرض، لذا فإن تطبيبه ومداواته
لا يعنيان سوى مساعدته على الهروب من
تنفيذ الحكم الإلهي عليه.
واعتباراً من القرن العاشر وجدت حركة
انفتاح واسعة على الحضارة العربية
والإسلامية كان من روادها في الغرب ريموند
اسقف طليطلة
Raymond of Toledo or
Raymond de Sauvetât 1125-1152))
في القرن الثاني عشر إذ كان منفتحاً
فأقام مكتباً للترجمة من العربية إلى
اللاتينية في أسقفيته أسهم من خلالها
إسهاماً كبيراً في ترجمة كثير من المؤلفات
العربية في شتى ضروب المعرفة.(Bunnet,
C.: Arabic-Latin Translation Programm in
Toledo. pp. 249-51
).
أما اولى الجامعات التي ظهرت في الغرب
الأوروبي فكانت في بولونيا (ايطاليا)
Bologna
التي اشتهرت بالقانون في القرن الثاني عشر
وأخرى في باريس اشتهرت بالمنطق. أما
ساليرنو في جنوب إيطاليا فاشتهرت بالطب
وذاع صيتها في الغرب. ثم يبين الدكتور
عاشور أن اتصال الشرق بالغرب تم عن طريق
صقلية قبل ظهور قنسطنطين الأفريقي بقرنين،
أي اعتباراً من القرن التاسع للميلاد وإثر
فتح المسلمين لجزيرة صقلية أيام زيادة
الله بن ابراهيم بن الأغلب سنة 212 هـ
(827) فقد شهد عهده نهضة في علم الطب كان
من أعلامها اسحق بن عمران الطبيب المشهور
الذي استوطن القيروان وعُرِف بتأليف
الأدوية المفردة (أي الغير مركبة،
والأخيرة تسمى اقراباذين). وفي القرن
الرابع الهجري والعاشر ميلادي بعد
عصرالأغالبة وعلى أيام الفاطميين
اشتهرالطبيب اسحق بن سليمان الذي سكن
أيضا القيروان وتوفي سنة 320 هـ (933)،
وفي تلك الفترة كان إقليم افريقية (تونس)
يُكوّن وِحدَة سياسية وحضارية مع صقلية
وملحقاتها على سواحل جنوب إيطاليا. .إذاً
فلا بد أن تكون العلوم ومن جملتها الطب
انتقلت أيضاً من أفريقيا والقيروان إلى
صقلية وساليرنو. ثم إن حكام صقلية من
النورمان الذين استولوا على صقلية لاحقاً،
بهرهم بريق الحضارة الإسلامية وأعجبوا
بها، وإن كان ذلك إثر انحسار نفوذ
المسلمين السياسي هناك. ومما يدل على ذلك
ما فعله الملك روجر الثاني
Roger II،
الذي نقش على العملة التي صكها عبارة "لا
إله إلا الله محمد رسول الله" مقرونة
بالتاريخ الهجري. (انظر ابن جبير أيضاً)
وهناك عرف أيضاً فرج بن سالم اليهودي
الذي سمي بالأجنبية
Faragut
أو
Ferarius
وتوفي في أواخر 1285، وهو من أصل صقلي
إلا إنه مارس حياته العلمية في ساليرنو
وترجم الكثير من مؤلفات المسلمين من
العربية إلى اللاتينية منها كتاب الحاوي
للرازي. أي أن كل ذلك يشير إلى النشاط
الحضاري المتميز للثقافة العربية
والإسلامية هناك، مع العلم أنه وجدت هناك
روابط متعددة بين صقلية وجنوب إيطاليا من
ناحية وأفريقية الإسلامية من ناحية أخرى.
د.
محمد إبراهيم الاتاسي
اختصاص في الأمراض العصبية
والنفسية والصرع
atassimohneuro@yahoo.com
[7]
Freely, John: Light from The
East. Pp. 133.
|