السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
النمسـا اليـوممفكـــــرةخدمات & طوارئ النمسـا الوطـنإخترنـا لكإعلانــــــاتحـوار صـريحمجتمــــــعهيئة التحـريرمواقع إلكترونيةتواصـــل
 
 

د. محمد بسام قباني
فيينا

 

Der Islam ist aktuell DAS Thema, das sich im Fokus der öffentlichen, politischen und sozialen Aufmerksamkeit befindet. Die Tauglichkeit der islamischen Lebensweise für eine westlich geprägte Gesellschaft und damit auch seine Zugehörigkeit nach Österreich wird gerade viel diskutiert.
Das Buch

 "Pragmatismus im islamischen Recht"

greift gerade

jene Inhalte des islamischen Rechts auf, die besonders Muslime und ihre Koexistenz in einer mehrheitlich nicht-muslimischen Gesellschaft, wie zB Österreich betreffen.

Zu diesem Anlass lädt der Jugendrat der islamischen Glaubensgemeinschaft in Österreich herzlich zu einem Leseabend zur Vorstellung und Diskussion des Werks "Pragmatismus im islamischen Recht" von

 Dr.  Mohamed Basssam Kabbani

ein.

Der Einlass beginnt um 18:30.

Zum Abschluss des Abends werden gemeinsam köstliche Speisen und Getränke genossen.

Der Eintritt ist frei!

Das JIGGÖ-Team

كلمات في اللجوء

يكثر الكلام في الشبكة العنكبوتية عن اللجوء وطرقه وأهدافه ونتائجه، أريد اليوم وبدون مقدمات توضيح بعض النقاط التي قد تقلل من سقف التوقعات ومن حدة الصدمة بعد وصول اللاجئ الذي خاطر في حياته عبر رحلة أضحت تعرف برحلة الموت، نقاط تتعلق بالدرجة الأولى بالمسألة المادية وبالمساعدات النقدية التي يحصل عليها اللاجئ، خصوصاً بعد انتشار الشائعات على مستوى بعيد بأن الدول الأوروبية تمنح اللاجئ السكن والمرتبات إلى آخر القائمة التي تصل بالمرء إلى جنة الله على الأرض:

النقطة الأولى: اللجوء حق من حقوق الإنسان المعترف عليها دولياً، وقد يكون لأسباب عدة منها السياسي أوالإقتصادي أوالإنساني أو الديني إلخ، وفي زمن الحروب يبحث الناس عن الأمان، واللجوء يشكل فرصة للحصول على هذا الأمان من القتل والتدمير والنجاة بأغلى ما في الوجود ألا وهو الحياة.

النقطة الثانية: مهمة البلد مانح اللجوء هي تأمين الأمان للاجئ بالدرجة الأولى، ثم السعي لمنحه فرصة العيش الإنساني الكريم، وقد طورت الدول الأوروبية لهذا الشأن منظومة من المكتسبات التي تؤمن مثل هذا العيش الكريم، فيبدأ الأمر بتأمين السكن الجماعي في مآوٍ للاجئين للنوم ويحصلون فيها على الغذاء والدواء، ثم يوزعون في عملية فرز على مراكز إيواء لاجتياز فترة معالجة طلب اللجوء من قبل السلطات المختصة، وقد يتلقون خلالها مبلغا معينا لشراء المواد الغذائية التي يحتاجونها ليتولوا هم أمر الطبخ إذا لم يتأمن لهم الطعام في مراكز الإيواء، ويكونون مؤَمَّنين أثناءها تأمينا صحيا مجانيا، طبعا هذه المبلغ ليس كبيرا ولا يمكن تسميته مرتبا، ناهيك عن أن يكون مجالا للإدخار رغبة في مساعدة من خلفهم اللاجئ وراء ظهره في بلده الأصلي أو في الشتات لحين إجراءات لم الشمل.

النقطة الثالثة: بعد موافقة السلطات منح اللجوء يتلقى اللاجئ مساعدات اجتماعية شهرية للعيش بكرامة أثناء فترة تعلم اللغة وتمهيدا للدخول إلى سوق العمل، ليصبح اللاجئ بعدها مثل أي دافع ضرائب من المواطنين أو المقيمين، هذا الذي يطلق عليه البعض إسم «مرتب» يحصل عليه أي دافع ضرائب عندما تتقطع به السبل كي يتمكن من تجاوز الأزمة التي يمر بها منعا لمد اليد.

النقطة الرابعة: تكثر المقارنة بين الدول مانحة اللجوء بأن هذه الدولة تمنح أكثر من تلك، وهذه تساعد أكثر من تلك، وهذه الكلام صحيح من أوجه، إذ إن بين الولايات في البلد الواحد توجد مثل هذه التباينات، إلا أن الأمر المشترك والناظم الأساسي هو عيش الإنساء فوق خط الفقر وبما يمنع مد اليد عن التسول، ومرجع هذه التباينات هو مستويات المعيشة المختلفة وخطوط الفقر المتباينة تبعا لذلك.

النقطة الخامسة: مرحلة تلقي المساعدات الإجتماعية ليست بدون نهاية زمنية، وهي مرتبطة بتقدم المتلقي على مستوى تعلم اللغة والإندماج في سوق العمل، مع مراعاة الحالات المستثناة طبعا، تترافق هذه المرحلة بمتابعة من مكتب العمل  متبعة بعقوبات لمن يتلاعب أو يستغل هذه المساعدات، بداية بالتراخي بمسألة تعلم اللغة ونهاية بتكرر التأبي عن قبول وظائف معينة، يمكن بعدها للاجئ الترقي في المجتمع والتقدم على المستويات التي تتيحها هذه البلاد دونما تمييز بين وافد ومقيم ومواطن، وباب التنافس في ذلك مفتوح على مصراعيه إلى أن تصبح اليد العليا خير من اليد السفلى.

الإنتكاسة العربية، إلى أين؟

أتذكر من الجيل الذي يكبرنا بقليل المرارات التي عانوا منها بسبب نكسة حرب حزيران التي مضت بضعة أسابيع وحسب على ذكراها السابعة والأربعين المشؤومة، كما أتذكر من مناهجنا الدراسية التي أرخت سياسيا وأدبيا لهذه الفترة العصيبة ولهذا الحدث الجلل من تاريخ أمتنا، الذي فقدت فيه أجزاء عزيزة من أراضيها مازالت ترزح حتى يومنا تحت نير الإغتصاب الصهيوني، ربما سيوافقني الكثيرون في أن الفترة التي تمر بها أمتنا اليوم أشد خطورة بكثير من تلك الحقبة، كما أظن أن الكثير من المؤشرات تدل على أننا ننتكس إنتكاسة أقبح من سابقتها، إذ على الرغم من مرارة هزيمة حزيران التي نكلنا بها على أيدي الصهاينة وإحتلال أجزاء كبيرة من دول الطوق، إلا أننا كنا نتحرك على أننا أمة واحدة - على الرغم من الكثير من الشعاراتية التي تمت ممارستها على هذا الصعيد - ولنا عدو واحد مشترك، كما أنه كانت لنا أهداف مشتركة، أما اليوم فنظرة سريعة على جغرافية الوطن العربي ستظهر لكل صاحب قلب ووعي أن العداوات والتناحرات الداخلية قد طغت على الساحة وأنها أقل من أن تتوجه - ولو بالوجدان والعواطف - إلى العدو المغتصب الواحد، بل إن صيحات البعض المطالبة بسحق المقاومة في فلسطين تعد تجاوزا لكل خيال كان يمكن أن يحلم بمثل ذلك، إذ أصبح مألوفاً أن تُسمع أصوات عربية اللسان تنادي بملء ما أوتيت حناجرها من إمكانيات بالضرب بيد من حديد على يد هذه المقاومة، فمالذي يحصل؟ بالطبع تنطلق هذه الأبواق من أخطاء يدعى أن حركة المقاومة الإسلامية بحكم كونها فصيلا إخوانيا قد إرتكبتها، بالطبع ليس المطلوب الآن أن ينبري المرء ويقف محاميَ دفاع عن هذه الحركة أو تلك، ولكننا ولو سلمنا بتجاوزات المقاومة - ومن منا معصوم عن الزلل؟ - هذه إلا أنه لا يمكن للمرء أن يصاب بهذا العمى وعدم القدرة على التمييز بين معارك داخلية - أيديولوجية وحزبية بالدرجة الأولى - وأخرى خارجية مصيرية وجودية، كثرة هذه الأصوات ووجود منابر إعلامية متعددة تتبنى هذا التوجه هي المؤشر الأخطر، إذ إن الأمر يكاد يأخذ اتجاها رسميا ويتوطد في القاموس اليومي لبعض وسائل الإعلام العربية أو المستعربة، بالطبع قد يستدعي البعض تلك الأصوات التي نادت في عدوان 2006 على الجنوب اللبناني بسحق المقاومة آنذاك، ليستدل على أن لهذا الأمر سوابقَ في تاريخنا، بل في الأمس القريب جدا، نعم ولكن الفرق اليوم أن الإصطفاف والإستقطاب فيما بين الأطراف العربية أخذ أشكالا جديدة غير مسبوقة، طبعا من نافلة القول أن يستنتج الأبله من هو المستفيد الرئيسي من هذا الوضع، إذ إن الأيام الأولى للربيع العربي أوحت للكثيرين بأن سنوات الإغتصاب بات يمكن عدها تنازليا، لتظهر لنا الثورات المضادة بوجوهها القبيحة المتعددة، وتنزع البقية الباقية من أقنعة الأنظمة العربية التي ظهر بأن الموت دون مهمتها في حراسة أمن وحدود الكيان الغاصب، وأنها إنما وجدت لهذه المهمة، وإن كان من تهديد ما لوجودها فالثمن هو تدمير بلدانها والقضاء على بناها التحتية وجيوشها، الفرق اليوم هو هذا الوضوح في الخيانة والعمل تحت ضوء النهار المبهر لصالح أعداء الأمة، إذ كان الأمر في الماضي يجري من تحت الطاولة وربما بوسطاء أو في عواصم غربية بعيدا عن الإعلام العربي، اليوم تختار الكثير من أنظمة السقوط العربي القضاء على أي صوت يأبى الإستكانة لقوى البغي والإحتلال كونها سئمت من يُذَكِّر الناس بقيم الحق والبطولة والإباء، فالسوق رائجة لمن ينبطح ويعلن تنازله عن حقوقه، والثمن البقاء في كراسي الحكم لمتابعة مهامهم التي قاموا بها على أكمل وجه: توطيد الإحتلال، تخريب الوطن وإفساد المواطن، هل من إنتكاسة بعد هذه؟ المؤشرات تؤكد مقولة المتنبي:

                                   من يهن يسهل الهوان عليه                ما لجرح بميت إيلام

صدقني، صار ينبغي أن ترحل!

ربما ستكون مطالبتي برحيل النظام السوري من جملة عدة آلاف بل والملايين من المطالبات من جميع أنحاء العالم والتي تنهال عليه منذ أكثر من سنة ونصف، فمالذي يمكن أن تضيفه هكذا مطالبة من مواطن سوري يعيش في الغربة منذ أكثر من عشرين عاما، ومالذي ستحمله من وسائل الإقناع الجديدة؟ أظن أنه يمكنني أن أسرد بعض الأسباب التي لم تخطر على بال الكثيرين والتي لاتدخل عادة في حسابات السياسة أو في موازنات السياسيين:

لن يمكن لأي متابع لأحداث الثورة السورية المجيدة ولطبيعة رد فعل النظام الإجرامي عليها إلا أن يكون قد تفاجأ بالكثير أوالقليل، فالمفاجأة الكبرى تتمثل في هذا الإصرار غير المسبوق من الشعب السوري البطل على إنجاح ثورته وإيصالها إلى أهدافها التي إرتأتها منذ البداية في التخلص من الدولة الإستبدادية ومن الحكم الأوليغارشي الذي خضعت له منذ أربعين سنة، أقل ما يقال عنها بأنها سنين عجاف أتت على كل مناحي الحياة السورية، هذا الشعب البطل - الذي ظن الكثيرون وأنا منهم للأسف أنه لن يبدي حراكا مهما فعل هذا النظام به - يصر على دفع الثمن الباهظ من حيوات خيرة أبنائه وبناته ومن بنى تحتية ومدخرات ويأبى التراجع وقد صدق أحد شعارات ثورته "الموت ولا المذلة"، لأجل هذا الشعار عليك أن ترحل إذ لن يهزم شعب إتخذ مثل هذا القرار ولن يعود شيء في سوريا إلى سابق عهده!

المفاجأة الأخرى تكمن في رد فعل النظام الحاكم الذي تعجز الكلمات والتعابير اللفظية عن وصفه، إذ ظن الكثيرون وأنا منهم أيضا أن ردة فعل النظام ستكون إجرامية عنفية وإنتقامية إلى أبعد الحدود، ولكني أعترف اليوم أن هذا النظام قد تجاوز تصوراتنا جميعا في الإجرام وفي القدرة على التدمير وأن الحدود التي ظنناها حدودا قد تم تجاوزها بأمداء بعيدة، ربما يعود ذلك إلى معلوماتنا المتواضعة - والحمد لله - عن أساليب التدمير والإجرام التي حكم القدر علينا بمعايشة بعضها، فمن العدوانات الإسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني البطل إلى الغزو الأمريكي الغربي للعراق الحبيب في 2003، إلى عدوان إسرائيل في تموز 2006 على جنوب لبنان، إلى غير ذلك من الحروب، وهكذا يرى العالم - وأغلبه إكتفى بدور المتفرج - جرائم النظام بحق السوريين وهو يرفع سقف جرائمه يوما بيوم بدنو مستواه الخلقي والإنساني طبعا، مترافقة بصيحات السوريين بأن إسرائيل لم تجرؤ على إرتكاب مثل هذه الجرائم بحق إخواننا الفلسطينيين أو اللبنانيين، ربما يجب التشديد هنا على أنه لا ينبغي لأحد أن يخفف من طبيعة العدوانات الإسرائيلية ولا أن يقلل من جرائمه المتكررة والتي يعتبر الإحتلال لوحده أحد كبرياتها، لقد هزتني صيحة أحد المعارضين المتحدثين على قناة فضائية بمطالبته بتدخل أجنبي أي كان لإنقاذ الشعب السوري وتابع قائلا أتركوا سوريا تحتل من أية قوة لأنها ستكون أرحم من هذا النظام، لذلك عليك أن ترحل!

المفاجأة الكبيرة والثالثة في الثورة السورية تكمن في هذا التواطؤ والإجماع العالمي - سواءا في ذلك إذا تعلق الأمر بأعداء سوريا أو حتى بمحبيها - على ترك هذا الشعب يواجه أعتى النظم الإجرامية بصدور عارية، إذ حتى تلك الأسلحة التي ينشق بها جنود الجيش الحر أو تلك التي يغتنمونها في معاركهم لا يمكن أن تقارن بما يستخدمه النظام وكأن المعركة تقع على جبهات حربية متعادية وليس بين جيش ومدنيين وسكان مدن غير مسلحين، يؤمن السويون بذلك أن ثورتهم يتيمة وأن إعتمادهم الوحيد سيكون على رب العباد، وقد عبروا عن ذلك بشعارهم "يالله، مالنا غيرك يالله"، والتاريخ والأديان تقول بأنه لن يُغلب شعب وكل أمره لله، لذلك ينبغي عليك أن ترحل!

صار ينبغي لك أن ترحل بعد أن صبغت حياة السوريين بالسواد وملأت أيامهم حزنا وأسى، بعد أن أصبحت الأشياء التي تدخل البهجة على قلوبهم محدودة جدا وعلى رأسها تدمير دبابة أو إصابة طائرة من أسلحة جيشك على يد ثوار الجيش الحر، هذه الأسلحة التي دفع المواطن السوري ثمنها جوعا وتخلفا وترهيبا وأملا في تحرير أراضينا المحتلة، دفعها جوعا باقتطاع النسب المختلفة من ميزانية الدولة التي كان ينبغي أن تذهب للفقراء من أجل تمويل جيشنا المغوار الذي يستعد للمعركة الحاسمة من أجل المعركة الكبرى، ودفعها تخلفا لأن الصرف على البنى التحتية كان محدودا بسبب المبالغ التي كانت تذهب لإعداد جيشنا ليوم التحرير، ودفعها ترهيبا لأن التركيز على المعركة القادمة كان مرتبطا بإسكات كل صوت ناقد على كل الأخطاء والتجاوزات بل وحتى الجرائم، كان علينا أن نسكت في سبيل الوصول إلى اليوم الموعود، وها قد ظهر لجميع السوريين أنه لم تكن ثمة معركة ولم توجد في يوم من الأيام إستعدادات للتحرير، بل كل ما هنالك تجهيز للشبيحة - الذين تعجز الكلمات والجمل عن إيجاد ما يصفهم أو ما يعبر عن واقعهم - ولفرق خاصة في جيشنا كي تصب على شعبنا حمم القتل صباً وتجرعه المذلة تجريعا، من أجل هذا صار رحيلك بداً لابد منه!

صار ينبغي أن ترحل لأنك أجبرت السوريين على التحول إلى لاجئين بترك منازلهم ومدنهم، وقد حولت سوريا ولأول مرة في التاريخ من بلد ينزح ويهرب ويلجؤ إليها الناس من جميع أنحاء العالم إلى بلد يهجره أهله فرارا من الجرائم التي يرتكبها جيشك وشبيحتك، كذلك عندما تضاف صفة "لاجئ" أو "نازح" إلى لفظ مواطن سوري فإنه عار لا يغسله سوى رحيلك السريع عنا، أما أن تُجْمَع التبرعات لمواطنين سوريين دفعتهم الحاجة لمد أيديهم بعد أن كانوا ذوي أيادٍ عليا فهذا مما لا يمكن غفرانه، لذلك عليك أيضا أن ترحل!

النظام أو لنتحدث من الآن فصاعدا عن "بقايا النظام" يرتكبون جرائم تفتقر أن تكون أهدافا عسكرية أو سياسية تكتيكية أو حتى إستراتيجية، إذ تحمل جميع جرائمه صفة النكاية والإنتقام من المواطن العادي وخاصة الفقير، في رسالة منه لمواطنيه بأن مجرد الثورة أو تأييدها أو حتى السكوت عنها وإتخاذ موقف الحياد جريمة يعاقب عليها بقوانينه بأشد العقوبات الجماعية التي لا تميز بين مذنب أو بريء، كل من يراقب الأعمال الحربية الأخيرة للنظام سيصل إلى نتيجة مفادها أنه يقوم بتدمير المتبقي من البنى التحتية وبقتل أكبر عدد ممكن من المواطنين والتسبب في أكبر قدر من تدمير المساكن وفي العاهات الجسدية والجراحات النفسية، هنا ينبغي لكل من مازال يؤيد النظام ولو بذرائع من قبيل الخوف من الفوضى أو من الإقتتال الطائفي أو من تقسيم سوريا، ينبغي لهؤلاء جميعا أن يعيدوا النظر في مواقفهم التي لم تعد لا مبررة ولا مسؤولة، إذ الخطب اليوم يكمن في إيقاف معتوه يخرج على الناس بسلاحه ويثير بين صفوفهم الرعب والقتل والفتك، لم يعد يمكن وصف فعائل النظام الأخيرة بأقل من هذه الأوصاف، لأجل هذا صار عليك أيضا أن ترحل!

عندما يهدد المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية السورية باللجوء إلى إستخدام الأسلحة الكيميائية إذا ما تعرضت سورية لتدخل خارجي فإنه عليك أن ترحل! إذ ضد من سيتم إستخدام هذه الأسلحة؟ ضد مواطنيك الذين لاحول لهم ولا قوة أم ضد الدول التي إن تدخلت فلن يكون لبقايا جيشنا أي حول أو قوة بالرد عليها؟ كذلك عندما يهدد إعلام النظام بشن الغارات المتتالية على المدنيين إن لم تنسحب قوات الجيش الحر من المناطق التي تقع تحت سيطرته، ومجازر إعزاز وفرن قاضي عسكر ومبنى السكري وغيرهما مصاديق لهذه التهديدات، هل بات المواطن السوري العادي رهنا لتخاذل ولجبن المتبقي من وحدات جيشنا؟ لأجل هذا صار ينبغي أن ترحل!

صار ينبغي أن ترحل قبل أن تصبح معالم الدمار والتقتيل صناعة محصورة عليك، فكل الصور التي تنقلها محطات الإعلام والتي تماثل تلك التي تتناقلها وسائل الإعلام عند وقوع الزلازل أو غيرها من الكوارث الطبيعية تطرح جملة ثابتة لم تكن تستخدم سوى عن التتار وجيوشهم، وعن جحافل الإسرائيليين وعن إعتداءاتهم، فجملة مثل "من هنا مرالتتار" أو "هذه ليست غزة" أضحت تستخدم عن جنودك المرتزقة الذي لا يتقنون سوى القتل والتدمير وباتت وثيقة الإرتباط بشبيحتك الذين عَمِلْتَ على إعدادهم بتجريدهم من كل ما هو إنساني فأصبح يقال: "من هنا مرت كتائب الأسد".

صار ينبغي أن ترحل لأن السوريين لا يصدقون ولايريدون أن يصدقوا أن من يفعل ببلادهم كل هذا الخراب يمكن أن يكون سوريا، فبدؤوا ينشرون شائعات من قبيل أن الطيارين الذين يرمون حمم قذائفهم على المدنيين قدموا من روسيا أو من إيران أو ربما من خارج كوكبنا، هم ينسون أن من يعطيهم الأوامر سوري على جميع الأحوال وأن من يريد منهم فعل ذلك سوري من دون شك، كما أنهم ينسون أن إفساد أربعين سنة والإتيان على كل ماهو أخلاقي وكل ما هو إنساني سيتمخض عن كائنات لا إنتماء لها ولا أخلاق لها ولا إنسانية لها، هل يمكنك أن ترحل حتى يمكننا البدء في بناء بشر أسوياء؟

صار ينبغي أن ترحل حتى تترك للسوريين بلدا لم تسوَّ جميع أنحائه بالأرض، فعلى الأقل أترك بعض النواحي التي يمكنهم الإعتماد عليها في عملية بناء النواحي الأخرى، دبابات ومدرعات جيشنا تنتشر في ربوع القطر وتسرق وقودا كان في العادة مخصصا للسيارات وللآليات الزراعية التي تمدنا بالقوت وتجعلنا في منأى عن الإستيراد ناهيك عن الحاجة للمساعدات الخارجية التي تمن بها بعض الدول الغنية على الدول الفقيرة وبالطبع مقابل أثمان سياسية، جميع موارد ومخزون سوريا الإستراتيجي سخرته لخوض حربك الخاسرة ضد شعبك، حتى صوامع الحبوب وخزانات المياه أصبحت أهدافا لقواتك بعد أن كانت مآذن المساجد هدفا لها، فهلا تركت بعض ما تبقى من سوريا كي يمكننا أن نبدأ من جديد؟

أخيرا ربما صار ينبغي أن ترحل قبل أن تتم تصفية جميع المتبقين من أقاربك ومن المقربين منك حتى لا يشمت بك القدر ويجعلك شاهدا على فنائهم عن آخرهم، لأن زيادة أي يوم وربما ساعات في مدة حكمك تمارس فيها القتل والتدمير في حق شعبك ستزيد من النقمة على من حولك وستؤجج نار الإنتقام والثأر منهم، ولن ينفع يومئذ التنادي للتعامل بالقيم الإسلامية والعربية النبيلة!

الشيعة تصفح عن يزيد !

أربعة عشر قرنا كان ينبغي على المسلمين سنة وشيعة الإنتظار المرير كي يُطوى ملف الخلاف السني الشيعي حول يزيد والحسين عليه السلام، يتم ذلك بموقف التضامن بل التماهي المهين الذي إتخذه أغلب الشيعة في العالم الإسلامي مع النظام السوري الإجرامي الذي يجول ويصول قتلا وتعذيبا وتدميرا وإغتصابا في ربوع سوريا، الوطن الجريح الذبيح، يمارس ذلك بقواته المتجردة من كل المعاني الإنسانية والدينية والأخلاقية، والمزودة إلى حد الثمالى بكل معاني الحقد والفجور والقتل والتدمير، وهو يجسد بذلك كل الشرور التي إعتدنا جَوَلانها في خواطرنا عندما كنا نسمع عن فعائل يزيد المنكرة في حق آل البيت عليهم السلام أجمعين، لم يترك الجيش النظامي السوري بائقة من البوائق إلا وقد أتاها، حتى إنه لو بعث يزيد من جديد لاستعاذ من شر هذا النظام ومن فعائله، مع علمنا بأن بائقته في حق آل بيت النبوة وبسيدها الحسين عليهم السلام أجمعين لا تدانيها بائقة ولا تقرن بها جريمة.

في سابقة تاريخية يأخذ النظام السوري على عاتقه مهمة تدمير سوريا الوطن، وإفناء سوريا الجيش، وإبادة سوريا الإنسان، كل هذا يتم بمباركة من سيد المقاومة الوطنية اللبنانية، بحجةٍ لم يعد بالإمكان وصفها بأقل من أنها بخسة وخسيسة، ألا وهي أن النظام السوري ممانع ويدعم المقاومة، الذي يفهمه أي إنسان بسيط هو أن هذا النظام أدرك حتمية سقوطه ويقوم إذ ذاك بتدمير سوريا إنتقاما من شعبها ومن ثورته، لست أدري بأي تبرير تصر شيعة العالم الإسلامي قاطبة تقريبا على الوقوف مع هذا النظام الآيل للرحيل وأظن أنه الجميع يعلم أن العدو الصهيوني والإمبريالية العالمية وأتباعها يجهزون الضربة القادمة للمقاومة ولإيران، ولكن هذه المرة بدون سورية قوية بعد أن دمرها النظام الإستبدادي؟

سيد المقاومة يرى بكل بصيرة فاقعة حقانية مطالب شعب البحرين الشقيق (ونحن نرى ذلك ونؤيد كل مطالباته في الحرية والتصرف في شؤونه حسب ما يرتئيه ووفق ما تقتضيه مصالحه) على بعد آلاف الكيلومترات بينما يصم أذنيه عن المطالب المحقة للسوريين وهم على مسافة عدة عشرات كيلومترات من مقره، ويرى في ذلك مؤامرة عالمية تحاك ضد النظام المقاوم، ألم يتمكن سيد المقاومة أن يرى وجوه المقارنة غير المحصورة بين أنظمة الشؤم التي حكمت وتحكم بلداننا العربية إنطلاقا من تونس الحبيبة ومرورا بكل الدول الشقيقة التي هبت عليها نسائم الربيع العربي الذي سيكون من أهم إنجازاته إعادة الحق إلى نصابه والقضاء المبرم على الفكر اليزيدي في شؤون الحكم؟ وإذا كان يطيب للبعض وعلى رأسهم لنظام القتل الحديث عن مؤامرة عالمية على سوريا، فنعم ثمة مؤامرة كبيرة على سوريا وعلى مقدراتها، ولكن بحق الله وبحق العقل الذي من الله به على بني آدم وميزهم به عن جميع مخلوقاته أليس النظام السوري هو من يقوم على تنفيذ هذه المؤامرة للبلوغ بها حدها الأقصى؟ أليس تدمير سوريا مهمة أخذت قوات الأسد على عاتقها تنفيذها؟ أليس تدمير البنى التحتية السورية من صنائع هذا الجيش؟ أليس تدمير التعايش والسلم الأهلي مما تدق طبوله أجهزة إعلام النظام؟ أليس القضاء على الجيش العقائدي جندا وعتادا وخبرة مما أنجزه هذا النظام بزجه في معركة لا ينبغي لأي جيش في العالم أن يخوض غمارها؟ إذ إن مهمات الجيوش الدفاع عن الوطن والمواطن وليس تدمير الوطن وقتل المواطن.

ما فتئ سيد المقاومة يعتمد على تراث بائد لهذا النظام في الممانعة ورفض التطبيع مع العدو الصهيوني ويدافع عنه بكل ما أوتي من منطق، ألا تستطيع حكمة سيد المقاومة أن تريه الفرق بين نظام قاوم التطبيع وقدم الأيادي البيضاء لكل من المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية ضد الظلم والإستعمار وبين نظام يستبيح اليوم بلده ويسوم أهاليها على طول البلاد وعرضها عسفا وجورا وقتلا وتذبيحا، وهو يجعلها بذلك ضعيفة أمام أي عدوان من أي طرف كان؟  ألهذا الحد يستشعر سيد المقاومة الواجب برد الجميل إتجاه النظام؟ أين الحد الأدنى من هذا الشعور إتجاه المواطنين السوريين الذين كانوا هم بالدرجة الأولى من قدم الغالي والرخيص للنازحين واللاجئين اللبنانيين في محنتهم؟

ألم يقرأ سيد المقاومة قوله تعالى "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً"؟ ألم تنزل هذه الآية لتصف حال البعض ممن خلف أنبياءه عليهم الصلوات والتسليم ولكنهم لم يسيروا سيرتهم الحميدة؟ إذ المعيار الرباني هو العمل الذي يقوم به الإنسان وليس تراثه الذي يريد إستخدامه منحة للإفساد وللقتل وللتدمير، أليس في هذه الآية من منير لكل مستبصر بأن من كان مقاوما ويدعم المقاومة في يوم من الأيام لا يحق له إستخدام ذلك تكئة لإعلان الحرب على شعبه؟ هذا الشعب الذي أرجو أن يعلم سيد المقاومة وكل من يقف في صف نظام القتل أنه شعب مقاوم وشريف ويأبى الضيم والذل والعسف والهوان، ربما أضحت هذه المسلمة مما يُحتاج إلى التذكير به، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم!

عند أهل السنة في مروياتهم عن سيد الرسل والبشر أجمعين عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلوات والتسليمات أنه قال: "يحشر المرء من من أحب" فليختر سيد المقاومة عندما يدافع عن النظام وعن جرائمه وبوائقه وكأنه من أقرب المقربين له! إذ لقد كان مفهوما من سيد المقاومة - ومن كل من لم يكن يعرف إلى أين تسير الأمور في سوريا - الوقوفُ مع النظام في الأيام وفي الأشهر الأولى للثورة السورية، فقد كان الأمل معقودا على أن يستجيب النظام لمطالب شعبه المحقة ويقوم بالإصلاحات التي يستحقها الشعب السوري الأبي الذي صبر على المئات من المرارات وليس على الأمرين وحسب، غير أنه بعد ما فعل هذا النظام وبعد ما يفعل إلى يوم الناس هذا، والآن وبعد مضي كل هذه الفترة المتطاولة على الحراك الشعبي وبعد تجرئ النظام على الإتيان بكل قوائم الجرائم الأخلاقية والإنسانية وبعد فعله كل ما فعله فإنه لم يعد مقبولا ولا مفهوما مثلُ هذا الموقف، لم يعد الأمر غير واضح المعالم ناهيك عن ألا يكون واضح المآلات، ألا يكفي كل ما حدث وكل مايحدث ليغير وجهة نظر سيد المقاومة من الثورة السورية التي لا يمكن لأي مستنير إلا أن يرى معالمها الحسينية الشريفة و يرى بفجور صارخ فوز نظام الممانعة بلقب الوريث الوحيد و الأشر ليزيد وعصبته؟

إن سيد المقاومة بوقوفه إلى جانب النظام وإختياره معاداة الشعب السوري بكل طوائفه إذا ما إستثنينا منهم فئة القتلة والمنتفعين والسراق لا يبقي لهذا الشعب من خيار بعد نهاية النظام الحالي - وهومنتهٍ لا محالة بإذن القوي المتين - إتجاهه وإتجاه حزب الله إلا خيار الجفاء إن لم نقل العداء، لست أدري بأية حسابات منطقية أو إستراتيجية تختار المقاومة اللبنانية هذا الخيار الخاسر والمفلس؟ أرجو أن تكون كل الأخبار التي تشي باشتراك عناصر من حزب الله في الأعمال الإجرامية التي تعم سوريا أخبارا كاذبة، فعلى الأقل لا يحتاج نظام البعث بكل شبيحته الخاوين من كل المعاني الإنسانية وبجنوده الذين إختاروا خيانة أمتهم وواجبهم العسكري لمن يساعده في إنجاز جرائمه، فالخبرة التاريخية الطويلة لهذا النظام في فنون الإجرام والقتل تجعله في غنى عن أية مساعدة خارجية.

ألا يسأل سيد المقاومة نفسه عن هذا الحقد وعن جرائم القتل بالجملة؟ هل يستطيع أن يقف بين يدي المنتقم الجبار وأن يجيب بأنه كان يقف مع نظام الممانعة؟ ألم يسمع عن الطفل الصغير الذي لاذ مع عائلته بالفرار من حمص ليصل إلى الحدود الأردنية وليقتل عندها بأيدي زبانية نظام الممانعة الأبطال الشجعان؟ هل من مجير لهؤلاء؟ هل من أسس نظام الممانعة تتبع المدنيين وقتل الأطفال منهم؟ إنهم يقتلون لا لشيء سوى لأنهم أرادوا النجاة بأرواحهم من مجازر جيش الممانعة.

ألا يذكر سيد المقاومة وإخواننا اللبنانيون أن السوريين بجميع فئاتهم قد فتحوا بيوتهم لإستضافة إخوانهم اللبنانيين الذي فروا من العدوان الصهيوني في حرب تموز؟ ألا يذكر أن الأمة العربية والإسلامية بسنييها قبل شيعتها بايعته يومئذ قائدا للأمة في المعركة الشريفة التي كان يخوضها عن الأمة بكاملها؟ لماذا إختار سيد المقاومة أن يكون طائفيا ويبني حساباته ويتخذ موقفه على أساس من ذلك؟ لقد عرف المواطن - السني - البسيط أنها كانت يومئذ معركة أهل الحق ضد أهل الباطل، وعلى هذا الأساس كان موقفه، كذلك اليوم تعرف أغلب الأمة العربية والإسلامية أن المعركة - للأسف أنها أصبحت معركة - في سورية معركة حق ضد باطل، معركة مظلومين ضد ظلمة فاسدين مفسدين أذاقوا العباد جميع أنواع المذلة والهوان وهاهم يتمون ذلك بأنواع القتل والتعذيب والإغتصابات، ياسيد المقاومة في سوريا يتم إغتصاب الحرائر، أذكرك بالله هل فعل العدو الصهيوني ذلك أو قريبا منه بأخواتنا اللبنانيات في جميع إجتياحاته الإجرامية؟ أقول هذا ليس للتهوين من جرائم الإحتلال فاغتصاب الأرض والحقوق المشروعة جرائم لا يستهان بها أيضا، ولكن ألا يستشعر سيد المقاومة الخجل من وقوفه مع النظام السوري عندما يسمع بأعمال جيش نظام الممانعة وشبيحته؟

ألا يستطيع سيد المقاومة أن يميز بين سوريا التي يقود "نظام الممانعة" حرب تدمير شامل ضدها وبين النظام المستبد الذي لا يريد من سوريا سوى الإبقاء عليها مزرعة له ولبعض زبانيته؟ هل قدم سيد المقاومة خيار الطائفية على جميع العوامل الأخرى التي تربط بين السوريين واللبنانيين؟ ألا يستشعر سيد المقاومة أنها طائفية ممقوتة إستطاع السني العادي التخلص من جراثيمها بينما نرى اليوم أنها سكنت أغلب إخواننا الشيعة إلا من رحم ربي؟

لست أدري إذا كانت الأيام القادمة ستترك لسيد المقاومة شيئا من المحبة والود والإحترام في قلوب المظلومين في الأرض، إذ إن إستمراره في تأييد النظام المتجبر في رحلته الأخيرة نحو السقوط سيفقده بلا ريب أن يكون سيدا للمقاومة وللمقاومين، أرجو ألا يحدث ذلك والأمر مازال قابلا للإستدراك، كل ما يحتاجه الأمر تطبيق حديث المصطفى عليه السلام بأن ينصر المرء أخاه ظالمل أو مظلوما بالوقوف مع الحق والطلب من نظام القتل أن يكف عن الإستمرار في تخريب سوريا التي إن إستمر نظام الممانعة في تدميرها فلن تكون ذخرا للمقاومة ولا لمشروع المقاومة إذ إنها ستكون مشغولة في الآتي من السنين في تضميد جراحاتها وعلى الأخص تلك من ذوي القربى وفي إعادة بناء ذاتها، وستكون المقاومة عندئذ - لاسمح الله ولا قدر - لقمة سائغة لأي عدوان قادم وقد فقدت عمقها الإستراتيجي والإنساني في سوريا.

لكلٍ منطقه و مبرراته

تزخر المكتبات و المراجع العلمية التي تُعْنى بالإنسان بتعاريف تكاد تستعصي على إمكانات الإحصاء و الحصر، و يعود إختلاف هذه التعاريف إلى زاوية النظر التي يتم إعتمادها أو إلى الصفات التي يتم التركيز عليها أو إلى الأعراض التي يُرْغب تسليط و تركيز الضوء عليها، و لكن ربما يحظى ذلك التعريف بالمقبولية الأكبر و الذي يرى في الإنسان المخلوقَ الوحيدَ الذي يتمتع بالمقدرة على التفكير المنطقي و إجراء الموازنات العقلية و التحليلات الفكرية و الإستنتاجات الغائية أي تعريف الإنسان بأنه "الحيوان الناطق"، ثم يتبعه التعريف الآخر - بالعَرَض الخاص - الذي يرى أن الإنسان "حيوان ضاحك" لتمتعه بالقدرة على التعبير عن مشاعره  بالفرح أو الحزن، و عَلَيَّ أن أعترف بأن التعريف المحبب إلى قلبي هو - ربما يمكن تسميته بالتعريف السلوكي - ذلك الذي ينظر إلى المقدرة التفسيرية الفائقة للإنسان لأنه يحلل دوافعه و يكشف عن المواهب الذرائعية لديه، ينص هذا التعريف على أن الإنسان هو المخلوق الذي له مقدرة لا نهائية على تبرير أفعاله مهما كانت، الأمر الذي يذكرنا بقول الشاعر :

و مطعمة الأيتام من كد فرجها            ألا لا تزني ولا تتصدقي

حيث وجدت هذه البَغِيّ في إمتهانها أحط المهن إنسانية مبررا للوصول إلى أعمال البر و التقوى، يمكن التنويه هنا بأن لهذه المقدرة التفسيرية التبريرية مقدرة كبيرة في الحفاظ على تماسك الإنسان النفسي و إنسجامه العاطفي.

فبحسب المنظور الذي يتم النظر من خلاله إلى الإنسان و إلى نشاطاته و أفعاله سيحظى هذا التعريف أو ذاك بحظ أوفى من المقبولية، و قد تجتمع هذه التعاريف و غيرها لتوصيف و تحليل فعل إنساني معين إذا تم النظر لفعل إنساني معين من أكثر من زاوية.

كان لابد من هذه المقدمة البسيطة لأني أردتها مدخلا سأعتمده في تحليل بعض المقولات التي تزدحم بها وسائل الإعلام عن الثورات العربية و عن ربيع الأمة العربية الذي سبقه شتاءٌ متطاول و شديد البرودة و قليل الخيرات و مظلم الليالي و قاتم الأيام معا، حتى أن الكثيرين منا ظن أنه سرمدي و أنْ لا إنقضاءَ له أو لا إنجلاء لظلماته، و السبب هو إمتزاج النظرة لهذه المقولات من حيث منطقيتها أو عدم ذلك، و من حيث كونها تثير المشاعر المتناقضة بين طرفين متقابلين هما الإضحاك و الإبكاء و السبب الأخير هو كونها تأتي في سياقات تبريرية بالدرجة الأولى بحيث وصلنا إلى مرحلة لم يعد فيها لأفعال الخير و الإلتزام الأخلاقي بالقيم ما يبرره كما إمتدت التبريرات و التفسيرات إلى أفعال الشر من سرقة و رِشوة و فساد مالي و إداري بل و حتى إلى خيانات على أعلى مستويات قضايا الأمة الحالية و المستقبلية، فكيف السبيل للإنسان العادي الذي تنهال عليه مثل هذه التبريرات لأن يعرف الحق من الباطل و لكي يميز الصحيح من الخاطئ؟

فقبل بضعة أيام تفتق ذهن أحد زبانية دكتاتوري العرب - طبعا لم يكن الأول و لن يكون الأخير - عن مقولة مفادها أن  الثورات العربية تستمد وجودها من الغرب و ليست نابعة من واقع الأمة المزري، فكيف يمكننا التعامل مع هذه المقولة؟ أول ما ينبغي أن يتضمنه الرد على مثل هذا الإدعاء هو كيف يمكن للواجدمنا أن يتمتع بهذا الكم الهائل من البلادة و التغاضي عن الوقائع و عن الواقع الذي يضج بما يزيد على حد الكفاية و الإشباع و الثمالى للثوران على الأوضاع على إختلافها و للسعي للإطاحة بأنظمة الحكم، كذلك فإن في طبيعة هذه الأنظمة و طرقها في الإستبداد و كل ما ينتج عن ذلك من فساد أسبابا أكثر من أن تحصى للثوران عليها، كذلك خطر ببالي هو أن أنظمة الإستبداد هذه تريد على ما يبدو الإستفراد بخصوصية التعامل مع الغرب و بِرَهْنِ حاضر الأمة و مستقبلها له بعد أن إغتالت ماضيها بالطبع، أوليست هذه الأنظمة هي من إستمد مقوماتِ وجوده و لعقود طويلة من دعم الغرب لها؟ أوليست دول الغرب ذاتها هي التي كانت تعيق أي حركة تغيير في المنطقة بإمداد هذه الأنظمة بكل مقومات البطش و السيطرة لدعم و توطيد بقائها؟ ألا تشي مثل هذه الدعاوى بالكيفية التي تنظر بها أنظمة الحكم إلى شعوبها على أنها دون وعي و أنه من الممكن سوقها بهذا الإتجاه أو ذاك - تارة بالخيانة و أخرى بالجهالة - حتى يُتَحَكَّمَ بعقولها و بضمائرها و بوطنيتها؟ هل يجدر بهكذا أنظمة أن تحكم شعوبا لا تُكِنُّ لها أي إحترام و لا تتشرف بإنتمائها لها؟

كذلك ألن يبدو الأمر غاية في الإضحاك عندما يتهم نظام عربي حاكم غرق في دماء شعبه الثائرين عليه و المتظاهرين ضده باللجوء إلى السلاح - طبعا بغض النظر عما إذا كان هذا الإتهام صحيحا أم لا - و بأنه في حربه على شعبه إنما يتصدى لعصابات مسلحة تهدد أمن الوطن و سلامة المواطن؟ تخفي مثل هذه المقولات في طواياها و كأن إتفاقا ما  قد تم بين الحاكم و شعبه يتيح إستخدام السلاح من جهة النظام الحاكم ضد مواطنيه وحسب ليكون هو الوحيدَ المؤهَّلَ و المخوَّلَ بتهديد الأمن العام، فهل يتذكر أحد أن شعبا من شعوب العالم عقد مثل هذه الصفقة البخسة مع نظامه الحاكم؟ ألا تثير مثل هذه الدعوات مشاعر السخط على هذا المنطق التبريري الذي يقدِّم الذريعة لأي نظام حاكم بقتل مواطنيه بدم بارد و دون خوف العواقب من دفع الثمن في يوم من الأيام؟ ألا ينبغي طرح تساؤل مهم مفاده: أي إحترام تستحقه "دولة" بهذا الضعف بحيث تسيطر "عصابات مسلحة" على الأمور على الرغم من القبضة الحديدية التي تحكم بها هذه الدولة الأمنية التي لم يعد بإمكانها السيطرة على الأمور فجأة و دفعة واحدة؟ هل يمكن لهكذا "دولة" بهذا الضعف أن تُسْتَأْمَن على حيوات و أعراض و أموال الناس و تستمر في حكمهم؟

عندما يخرج زعيم نظام حكم عربي ثوري آخر على الجماهير و يطالب المعارضين بأن يسلكوا سلوكا حضاريا و يأتوا إلى صناديق الإقتراع خضوعا لرغبة الجماهير لا يمكن للمرء إلا أن يفيض بالضحك و هو يستذكر السلوك الحضاري الذي وصل هو بواسطته و غيره من أنظمة الحكم العربية الثورية إلى السلطة، كما لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا النسب المئوية العالية - و العالية التزوير بآن - التي فاز بها في الإنتخابات المتكررة، تضاف إلى ذلك إدعاءاته المتكررة بأنه لا يرغب في الإستمرار في السلطة لأنها مسؤولية جسيمة و أنه إنما يريد تسليمها لمن يمكنه الوثوق به و للجدير بالقيام بالأمر، لست أدري ما هي الصفات التي يراها سيادته ضرورية لنيل هذه الثقة و على أي قدر كان يتمتع هو منها، و كم بقي له منها بعد أن قرر خوض الحرب ضد شعبه الأعزل المسالم؟

كذلك عندما يخرج ممثلو نظام حكم علماني يدَّعي الفصل الكامل بين الدين و السياسة و إذا بهم يستخدمون لغة دينية متشددة لتبرير مواقفهم السياسية على مرتكزات عقائدية سيكون الأمر أكثر من طبيعي أن نحتار بين الضحك و البكاء و لن يكون إستغراب المواطن من و إستهجانه اللغة التبريرية التي يخاطب بها بالأمر الغريب.

و عندما يخرج رجل الدين أو المفتي في هذا البلد أو ذاك على الجماهير و يبدأ الرطانة بلغة السياسي المحنك و التحدث بالعلاقات الدولية لن يكون باستطاعة المواطن العادي أن يميز فيما إذا كان الأمر يدور حول فتوى دينية أو بيان حزبي أو خطة عمل حكومية.

كذلك عندما يستخدم رجل السياسة الذي إعتاد الإعتماد على اللغة البراغماتية و على أساليب الدبلوماسية و بدون مقدمات خطابا بمفردات أخلاقية و يلجأ إلى أسلوب الإستضعاف و الإستكانة فإن ذلك مما سيحدث بلبلة لدى الكثيرين و سيجعلهم في حيرة من أمرهم و يطرحون أسئلة من قبيل : "ماذا قال آنفا؟"

المشكلة الأهم في عدم القدرة التلقائية على كشف هذه التناقضات أن منطق كل نظام تفكير مغلق يكون عادة غاية في الإنسجام و "المنطقية" و لا تنكشف تناقضاته إلا عند عرضه على و مواجهته مع منطق نظم أخرى مغلقة مثله، الطريقة الوحيدة للوصول إلى منطق خالٍ قدر الإمكان من التناقضات هي في إجتراح منطق منفتح غير إقصائي و في الإنطلاق من منظومة قيم تتسع الجميع، فإذا كان جوهرالكوميديا يكمن في كشف التناقضات فإنه يمكننا وضع كل ما تم ذكره أعلاه بأنه كوميديا سوداء من العيار الثقيل القاتل الذي يتلاعب بمصائر شعوب و قضايا أمم، و المطلوب من الجمهور التفرج على ما يحدث و تبليد مشاعرهم و فوق كل ذلك قبول جميع ما يلقى إليه من التبريرات المُسَخِّفَة للعقول و المستهينة بالضمائر.

الثورات، يصنعها الشجعان، يخذلها الجبناء، يقطف ثمارها الإنتهازيون !

ربما سيكون محتوى هذه المقالة محزنا لكثيرين ممن إعتادوا التفكير المثالي و الأخلاقي و لمن لا يستطيع النظر إلى الحياة و ما فيها خارج منظور قيمي ، و لكن على المرء في كثير من الأحيان مجابهة الحقائقِ المُرَّةِ عارية دونما عمليات تجميلية و دون ممارسة المرء - عن قصد و عن غير قصد - مخادعة النفس و تأميلها بالمستحيل ، فمنذ مدة تجول في خاطري هذه المقولة المشهورة عن الثورات و عن سيرورتها ، كلام أقل ما يقال عنه أنه محزن و لكن وقائع تاريخية كثيرة تثبت صحة مضمونه ، فالتاريخ مليء و طافح بما لا يدع مجالا للشك في كون هذا الأمر قاعدة و إن كان لكل قاعدة شذوذات لا تخرجها عن كونها قاعدة سارية المفعول ، ربما سيكون من المناسب ربط هذا التسلسل بمقولة المفكر الإسلامي العربي الفذ مالك بن نبي عن أن الحضارات عادة ما تمر بثلاث مراحل : مرحلة النشوء القائمة على أساس قيمي و على الولاء للمعاني ، مرحلة الإستقرار و الركود التي تتخذ من الأشخاص نماذجَ تقتدى و تتمحور حولها ، و أخيرا مرحلة الإنحطاط حيث يغدو الولاء للأشياء و الغرق في الماديات هو السائد ، و يمكن التنويه هنا إلى أنه ليس بالضرورة أن تكون هذه المراحل متتابعة زمنيا و حسب بل ربما قد تحدث بالتوازي ، فقد يصادف المرء في نفس المجتمع أناساً غاية في المثالية و التعلق بالقيم و يرى على التوازي و بالقرب منهم أناسا آخرين غارقين في المادية و التشييئية على الرغم من إنتمائهم إلى نفس الفترة التاريخية و عيشهم في نفس البيئة الإجتماعية و الحضارية ، و غالبا ما تكون العلاقة بين الطرفين المتعاصرين مطبوعة بالإستغراب و الإغتراب بحيث لا يستطيع أحدهما فهم الآخر أو تخيل عالمه لبعد الشقة بينهما و بين تصوراتهما و أهدافهما و أولوياتهما و بالطبع طريقتهما في التعامل مع الواقع .

الثورات يصنعها الشجعان : أولئك خير ما أنجبت البشرية و أشرف مِنَنِ الله على الإنسانية لأنهم بشجاعتهم التي قد يراها البعض تهورا يجسدون التجرد في أرقى صوره و الإخلاص في أصدق معانيه لأنهم آمنوا بالقيم العليا التي يرون صلاح المجتمع فيها و تجاوزوا إتباع الأشخاص و تقديسهم و إستغْنَوْا عن عبادة الأشياء بحيث لم تعد تشكل مطمعا أو إغراءا لهم ، هذه المقولة يثبتها التاريخ الماضي و الوسيط و القريب و الواقع المعاش و تشهد لها أحداث الربيع العربي التي تمر بها أمتنا العربية في الوقت الحالي ، فأصحاب الصدور العارية و المفتوحة تَكِلُّ كلماتٌ من مثيل "أبطال" أو "شجعان" عن وصف بعض حالهم أو توفيتهم جزءا من أقدارهم ، و هم غالبا ما يقعون ضحية العنف السلطوي - بجميع صوره سياسية كانت أم إجتماعية أم ثقافية أم دينية أم إقتصادية - الذي يحاول الإستعصاء على التغيير أو تأخيره في أحسن الأحوال ، و هم بوجودهم في الصفوف الأولى و بتصدرهم الحراك الشعبي و العمل الثوري على إختلاف مستوياته إتخذوا قرارهم بالتضحية من أجل مستقبلٍ أفضلَ لبني وطنهم أو عقيدتهم أو عشيرتهم إلى غير ذلك من الإنتماءات ، فيكونون بذلك أول الناس عرضةً للإعتقالات و للتعذيب و في كثير من الأحيان للقتل و التصفيات الجسدية ، بالطبع يكمن وراء مثل هذه السلوكيات تجردٌ لا يقوى عليه سوى النَدَرَة ممن قاربت أخلاقياتهم المثالَ و دنا تواضعهم من الذهول عن الأنا و وصل بهم عطاؤهم حدَّ الفداء و بلغ تعاليهم عن المطامع الشخصية حدود نكران الذات ، لتنتهي بذلك أدوارهم الثورية قبل و دون أن تكتحل عيونهم بشهود مرحلة التغيير النهائية أو قطف ثمارها ، و إذا حصل و كانت الثورات - بعد غلبتها - وفية لهم و لتضحياتهم فقد يُكَرَّمون عن طريق الإعتراف بشجاعاتهم و بتضحياتهم و بتخليد ذكراهم و بتعويض ذويهم ماديا و معنويا .

الثورات يخذلها الجبناء : واقع عاشته و تعيشه الثورات في كل مكان و زمان ، هؤلاء يتمتعون بقدر غير نَذْرٍ من العطالة الفكرية و المادية و الضمائرية تجعل أي تغيير في أفكارهم أو مواقفهم عملية إن لم تكن مستحيلة فعلى الأقل مستعصية ، تُدَعِّم هذه الفئة عطالتها هذه بمقدرة غريبة على إدعاء الحكمة و بالتبصر العميق في أدبار الأمور و هي ترفق ذلك بالتبرير البارد المقيت لتأخرها عن الركب ، فبغض النظر عن أسباب خذلان هؤلاء الثوراتِ ستراهم يتذرعون بالحكمة تارة و بالتروي لعدم وضوح الرؤى تارة أخرى ، كما سترى منهم من ينتظر ترجيح كفة على أخرى و منهم من تحملهم حساباتهم الباردة على إتخاذ قراراتهم منذ البداية - عن سبق نية و تفكير و تدبير و تنفيذ و إصرار - بالتروي حتى إلتقاط اللحظة الحاسمة فلا يكون إنتقالهم من معسكرٍ إلى آخرَ نابعا عن رؤى و قناعات و إنما هي الذرائعية الفجة و الحسابات النفعية لأجل الإلتحاق بالفريق الرابح في خطة مكشوفة المعالم لركوب الموجة و ربما لتسلم منصب معين و بعد ذلك للمَنِّ على الثورة و الثوار بأنهم كانوا من مولدي أفكارها و من حملة شعلتها بل من صانعيها الأبطال و مفجريها الأحرار ، و الويل كل الويل لمتقدمي الصفوف الأولى من هؤلاء الجبناء إذا ما تم القضاء على ثورتهم لأن أول من سيكيل لهم الإتهامات بالجملة و أقسى من سيبدي الشماتة بهم سيكون هؤلاء الإنخذاليون الذين سيستدعون و سيدَّعون الحكمة بأثر رجعي و سيلقون باللائمة على من أراد لهم الخير و السؤدد و لمجتمعهم الرقي و التقدم ، لا يمكن و لا ينبغي وصف هؤلاء بأنهم جبناء و حسب بل بأنهم لؤماء إعتادوا الأكل على كل الموائد و على المشي على الجثث و على الإستغلال المقيت لما يسمونه "الفرص السانحة" لينقولونا إلى المرحلة الثالثة من المقال و هي المرحلة الثالثة زمنيا في تاريخ الثورات .

الثورات يقطف ثمارها الإنتهازيون : واقع مرير خبرته أغلب الثورات في التاريخ و تجابهه للأسف جميع الثورات العربية اليوم بلا إستثناء ، فعندما تنجح تضحيات الأبطال الشجعان في إرساء روح التضحية و الصمود و عندما يلتحق بعض ذوي الحسابات الباردة بالركب و تلوح في الأفق تغيرات في موازين القوى تؤدي في النهاية إلى الإطاحة بالنظام القائم - ليس بالضرورة أن يكون الحديث عن نظام سياسي - تبدأ بذلك المرحلة ما بعد الثورية في بناء نظام جديد إِنْ في الأفكار أو في الأديان أو في السياسة أو في الإقتصاد أو في عالم الإجتماع ، في هذه اللحظات الزمنية عالية الحساسية يكون الميدان قد خلا من الشجعان إن لم يكن لأنهم ضَحَّوْا بحيواتهم فلربما بسبب إنسحابهم إلى الصفوف الخلفية لأنهم لم يكونوا يريدون من الثورة أكثر من تغييرالأوضاع السائدة و الإنقلاب عليها رغبة في مستقبل أفضل ، و بتحقق ذلك تكون الثورة من منظورهم قد وصلت غايتها و حققت مبتغاها ، هنا يقفز الإنتهازيون و يرون الساحة فارغة تنتظر إنقضاضتهم على الغنيمة و نهش ما يستطعون نهشه بدعوى الحرص على المصلحة العامة ، هنا ينطبق قول القائل بأن الثورة تأكل أبناءها مع فارق أو إيضاح غاية في الأهمية و غاية في البساطة ألا و هو أن هؤلاء لم يكونوا في يوم من الأيام أبناءاً شرعيين للثورة بل ملحتقون بالإنتساب الزور إليها لما يحقق لهم مثل هذا الإنتساب من مكاسب شخصية مادية و معنوية على السواء .

ربما كان سيحبذ البعض لو أُشْفِعَت هذه المقالة بأسماء بعض الأشخاص أو الفئات أو الحركات أو الأحزاب من التاريخ و من الحاضر و ربما بتصنيفها إلى هذه الفئة أو تلك ، لكني فضلت أن أكف الذكر عن فعل ذلك لإختلاف الكثيرين في تقدير الأمر و في تصنيف هذه الفئة أو تلك ، فما هو عند هذه الفئة شجاع ثوري قد يصنف عند الفئة الأخرى على أنه جبان متخاذل أو ربما إنتهازي أو بالعكس ، لكن الأمور التي أخال أننا سنكون مجمعين على الإتفاق بشأنها من حيث المبدأ هي وجود هذا الفئات و هذا التصنيف وهذا الإختلاف ، الأمر الذي لا يجوز لنا أن نكون مختلفين بشأنه هو الدعوة إلى عيون مفتوحة ترقب ما يحدث و إلى فكر نقدي متوثب و بناء يقدر عقول الشعوب و يحترم خياراتها و لا يخون قضاياها في اللحظات التاريخية الحاسمة من أجل أهداف هذه الفئة أو تلك مهما إختلفت الدعاوى أو المبررات ، فإذا كان التاريخ لا يرحم فعلى الشعوب أن تتحلى بهذه القسوة و ألا ترحم من يستغل قضاياها و يلعب بمصائرها قبل أن تترك هذه المهمة للمؤرخين و لكتب التاريخ لأن الوقت حينئذ سيكون متأخرا في جميع الأحوال .

الحكم بين فقه سلطاني مُغيّب و واقع ثوري ناقد

كل من يتابع سيرورة الهجمات التشنيعية الفجة التي يحاول من يقف وراءها بين الفينة و الأخرى النيل من شيخنا الفاضل العلامة عدنان إبراهيم سيتحقق بشيء من الروية بأن وتيرة التنقيدات و الإفتراءات و الحروب الإعلامية عليه تتناسب طردا و بشكل فاقع مع بوادر إنتشار علم الشيخ في ربوع جديدة من العالم العربي و الإسلامي و مع بلوغ صيته العلمي و تحقيقاته العلمية الفذة أصداءَ و آفاقاً جديدة ، فالبداية كانت من فيينا قبل ما يصل إلى العقدين و مع إنتقال الشيخ الفاضل من ديار البوسنة إلى فيينا كمحاولة إبتدائية و إستباقية لما يمكنه تغييره في مياه راكدة في الساحة الإسلامية في النمسا ، ثم تبعتها بعد ذلك ببضع سنوات حملة أخرى عندما تم بذل الجهد للإبقاء على علمه في دائرةٍ ضيقةٍ لا تتجاوز مدينة فيينا و ربما المسجد الذي كان يؤم فيه و يلقي المحاضرات القيمة على رواده ، و قاومت تلك المحاولات حينئذ بشتى الوسائل إمكانية إنتشاره في أرجاء النمسا ، بعد عدة سنوات تجدد النفخ في نار الفتنة التي كادت تخبو للحؤول دون إنتشار علم الشيخ الفاضل في ربوع أوربا الغربية عندما كثرت الدعوات لزيارتها و للمشاركة بفعالياتها في بلدان مختلفة من القارة ، في هذه الأيام يعاود فتانو الأمس الكرة لما بلغهم من الآفاق الجديدة التي وصلها الشيخ الفاضل على مستوى عالمي ، و هم يحاولون بذلك قطع الطريق عليه و لكن بالتأكيد دون جدوى بإذن الله الذي تعهد بالدفاع عن أوليائه الذين يدافعون عن الحق و أهله ، لقد كان مبدأ الشيخ دائما بأن الحق أحق أن يتبع و أن العمل الصالح أهم من الإلتفات إلى من يتعرض له و لكن المشكلة أن الطريقة التي إستخدمها و يستخدمها هؤلاء طيلة هذه المدة بعيدة عن التنافس الشريف و أن الذريعة التي لجؤوا و يلجؤون إليها لا تمت بأية صلة للنقد العلمي أو حتى للمناظرات المؤدبة و الهادفة ، إنما هو التناوش عن بعد و نهش العرض في الغيبة و نشر و تعميم كذبات محدودة على لسان الشيخ جعلت من التعميمات العمياء مطية و حولتهم بذلك إلى قاطعي طريق بكل ما تحمله الكلمة من معنى .

الأمر الجلي الآخر الشديد الوضوح و الذي يمكن لكل متبصر الوصول إليه هو أن دوافع من يقومون بتسعير أوار هذه الحملات يمكن إختصارها بدوافع الحسد البحت و البغض الشخصي المُمَحَّض ، و لكن تمَكُّن الشياطين منهم و تلبيس إبليس عليهم أَوْهَمَهُم بأن يغلُّفوا حسدهم و بغضهم هذا تارة بالدفاع عن نقاء الدين و صفاء العقيدة و تارة أخرى بالتذرع لمنع النيل من الصحابة و مرة ثالثة بالرغبة للحؤول دون الخوض في تاريخنا الإسلامي المقدس ، الإتهام الجامع المانع (من وجهة نظر المفترين طبعا) الذي تم و يتم تكراره على مدى هذه السنوات هو بعض المحاضرات و الخطب الجمعية التي ألقاها الشيخ الفاضل على فترات متباعدة تتحدث بكل موضوعية علمية و واقعية تاريخية عن إختلاف السلف بخصوص ما يتعلق بشأن أمير المؤمنين علي عليه السلام و معاوية و ما دار بينهما من معارك إنتهت إلى ما يعرفه القاصي و الداني من مقتل أمير المؤمنين و وصول معاوية إلى كرسي الحكم و قضائه على الشورى و توليته ولده يزيد من بعده ، فبدون الدخول في تفاصيل ما تحدَّث به الشيخ و من غير تمحيص علمي لما نقله عن علماء و محدثي الأمة تراهم يلقون الإتهامات جزافا و ينتقلون بسرعة إلى البهتان المبين و هم يطيرون لبلوغ ذلك بجناحين أحدهما الكذب والإفتراء و ثانيهما الحسد و البغض .

قرأت منذ مدة طويلة كتابا مفيدا و شيقا جمع فيه مؤلفه مقولات عن مسيحيين أسلموا بعنوان "ربحت محمدا و لم أخسر عيسى" و حاولت إسقاط فكرته التوفيقية على ما يتعلق بشأن سيدنا أبي الحسنين رضي الله عليهم أجمعين مع معاوية و لكني لم أنجح بذلك لأنني وجدت أن الفارق الجوهري الذي لا يمكن القفز عليه هو أن رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام و رسالة سيدنا عيسى عليه الصلاة و السلام من التطابق بمكان يجعل من إيمان المرء بأحدهما لازمة لليقين بصدق الآخر و حقانية رسالته ، أما محاولاتي بإسقاط الفكرة على موضوعة سيدنا علي كرم الله وجهه و معاوية فلم تترك لي مجالا للشك في أنها إنما تقتصر على محاولة تلفيقية عديمة الجدوى كونها تقوم على جمع نقيضين يأبى المنطق البدهي عليهما الإلتقاء ، لذلك فعلى الرغم من قناعتي التامة بأن حل هذا الأمر لا يتعلق لا من بعيد و لا من قريب بالبراهين العقلية أو بالقناعات العلمية و إنما هما الحسد و البغض إلا أنني و من باب عرض الحق لمن يبتغيه يمكنني قول ما يلي : لست أدري لماذا تأخذ هؤلاء الحمية على أي إنتقاد يوجه إلى أفعال معاوية في الحكم و المال و الإدارة و ينبرون للدفاع و التبرير بمنطق و بدون منطق ؟ كما أني لست أدري لماذا لا يلقون بالاً للطرف المقابل في المعادلة ألا و هو سيدنا علي (مع التجاوز الكبير بأن يوضع سيدنا علي عليه السلام و كرم الله وجهه و رضي عنه في كفة للمقارنة مع معاوية في كفة أخرى) ؟ ربما يفوت هؤلاء من حيث يحتسبون أو لا يحتسبون أن كل دعوى بالكمال و كل جهد بالتبرير لأفعال معاوية تعني بالضرورة إنتقاصا و إتهاما لأفعال سيدنا علي ، فإذا تم النظر للشخصين و لأفعالهما من وجهة نظر دينية فإن المقارنة لن تكون بحال من الأحوال لصالح معاوية ، فسيدنا علي الذي نما ربيبا في بيت الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة و السلام منذ نعومة أظفاره بسبب كثرة عيال أبيه أبي طالب ، ثم كان أول المسلمين - إن لم يكن بإطلاق فأولهم من حديثي السن على الأقل - ، ثم مشاركاته في جميع غزوات الرسول الأكرم عليه الصلاة و السلام خلا غزوة تبوك حيث طيَّب الرسول الأكرم عليه الصلاة و السلام خاطره عند تخليفه إياه على المدينة بقوله : "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "، و وصوله إلى الخلافة ببيعة أهل الحل و العقد ، و هو قبل ذلكم و بعده من العشرة المبشرين بالجنة ، أما معاوية فمشهور عداؤه و حرابته للإسلام و المسلمين حتى فتح مكة و إسلامه مع الطلقاء تحت ظل السيوف - مع يقيننا وإيماننا بأن الإسلام يجب ما قبله - ، ثم تذرعه بالثأر لدم الخليفة المقتول غدرا عثمان رضي الله عنه لقتال علي و الخروج (أليس معاوية من هذا المنظور أول الخارجين على الحكام ؟ أين الفقهاء الذين يحرمون الخروج على الحاكم من هذه الفعلة ؟ ألا يبوء أول خارج بإثم من عمل عمله دون أن ينقص ذلك من إثمهم شيئا ؟) على خليفة الزمان ، أما إذا تم النظر لأفعالهما من زاوية نظر سياسية فإن صيرورة الأمور و مآلاتها الحزينة و المخزية لا تترك مجالا لعاقل بأن منظومة الفساد الإداري و المالي و إدارة شؤون الحكم (الملك العضود) التي أسس لها معاوية (آخر الخلفاء و أول الملوك) قبل حوالي أربعة عشر قرنا تشكل المرجعية السياسية للديكتاتوريات (الملك الجبري) التي ترزح تحتها أغلب أقطار الأمة العربية و الإسلامية إلى يوم الناس هذا ، و إذا كان لعجب المرء أن ينقضي فإنه لا إنقضاء له من إستماتة هؤلاء بكل ما أوتوا من قوة و حجة و إفتراء و تسخيرهم ما يحل و ما يحرم في الدفاع عن تصرفات و تحكمات معاوية في شؤون الحكم ثم إنهم أو بعضهم على الأقل يجأرون بالشكوى من  حكام اليوم و يدعون للإنقلاب عليهم بحجة عدم إستنادهم إلى أية شرعية لا في وصولهم إلى سدة الحكم و لا في ممارساتهم الظالمة و الفاسدة ، بل الأنكى من ذلك فإنهم ينتقدون علماء السلطان الذين يبررون لطغاة العصر إنفرادهم بالحكم على الرغم من أن مرجعياتهم العلمية لا تتجاوز الفقه السلطوي الذي أسس له معاوية و من تلاه من بني أمية قيد أنملة ، فيا للعجب !

المشكلة في طريقة تفكير هؤلاء - إن وجدت أصلا - المحدودة أنهم يتمتعون بمقدرة فائقة على إختصار شخص بمقام شيخنا الفاضل ببضع خطب أو دروس و يغضون النظر عن إنجازٍ علمي ندَرَ نظيره في دنيا علماء اليوم على طول و عرض عالمنا الإسلامي (و شهادات العلماء في ذلكم أكثر من أن تحصى) ، فإنجازات عالمنا و تجديداته و ذَوْدُهُ الحثيث عن الدين الحنيف في مواجهاته الشجاعة و التجديدية لتحديات العصر و لمشاكل الجالية الإسلامية في أوربا مما لا يمكن للمرء أن ينتقص من قدرها أو أن يضع من قيمتها أو أن يتجاوزها و يعتبرها غير موجودة ، و لكن مالذي يمكن قوله لمن يصر على تغطية نور الشمس برأس أصبعه رغبة في نشر الظلمة ؟ فمن باب العدل مع النفس - أداء الشهادة - في المقام الأول و مع الشيخ الفاضل - أدب الخلاف و المخاصمة - في المقام الثاني و مع من يمكن له أن يستفيد من علم الشيخ - واجب التبليغ و نشر العلم - في المقام الثالث و أخيرا مع دين الله الحنيف - حب العلم و تقديم العلماء - كان ينبغي لهؤلاء و يلزم منهم و عليهم في الوقت عينه و إن كانوا لا يوافقون الشيخ على آرائه - وهذا حقهم بالطبع - بموضوعة سيدنا علي أمير المؤمنين و معاوية (و هي لا تتجاوز بضع خطب و عدة دروس بما لا يزيد على ثلاثين ساعة مسجلة أو مكتوبة) فلا أقل من أن يسلموا بفضله و علمه و إنجازاته في بقية المناحي العلمية و الفقهية و التاريخية و الدعوية (و هي تربوعلى عدة آلاف من الساعات المسجلة و المكتوبة) ، فإذا كان رد الخليفة الراشد السادس عمر بن عبد العزيز على مظالم معاوية و مَنْ خَلَفَهُ مِنْ بني أمية بحق سيدنا علي بإحلاله قوله تعالى :"إِنَّ اللَّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي يَعِظكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" في الخطب الجمعية مكان شتم و لعن سيدنا علي عليه السلام على المنابر - و يا لها من نقيبة - فلا أقل من أن يعمل من يدافع عن معاوية اليوم بعدل هذا الخليفة الراشد مع من إتخذ من عمله أسوة حسنة له في الدفاع عن الحق و عن أهله و يمارسوا الحد الأدنى من العدل معه ، فالإنصاف يقضي أولا بعدم الإفتراء و بحسن الإستماع و بالنقاش بالتي هي أحسن ، و عند بقاء كلٍّ على رأيه فلا أقل من عدم نهش الأعراض أو أكل لحوم المسلمين في غيبتهم و إكمال ذلك الإثم بقطع الطريق على عباد الله .

إذا كان الله قد قدَّر لنا و لَطَفَ بنا بأننا لم نعش هذه الأحداث فلنحمد الله على ذلك فمن يدري أين كانت ستدفعنا ولاءاتنا و أفهامنا و رؤانا و مالذي سيدفعنا إليه إيماننا ؟ (ألم يخبرنا الرسول الصادق المصدوق بأن حب عليا علامة الإيمان و بغضه علامة النفاق ؟) و من مقتضى متابعة الحمد أن نرى هذه الأحداث اليوم بِحِيَدَةٍ تمنحنا إياها مسافة زمنية قدرها أربعة عشر قرنا ، إضافة إلى برود الدماء و تحول الأمر إلى مسألة علمية بحتة تنبني المواقف منها بناءا على الترجيحات العلمية و العملية و قراءة التاريخ بأثر رجعي (بالمآلات) ، كما يفترض من كل ذي عقل إنتهاء المصالح و النفعيات ، أليس إصرار البعض على تَبَنٍّ أعمى لمواقف معاوية من الإمام علي رضي الله عنه يعني بشكل من الأشكال أن الذي يدافع عن هذه المواقف و يدير ظهره لمواقف الإمام علي إنما يقول بلسان حاله و ربما بلسان مقاله أنه لو كان في ظرف مماثل لمعاوية لاتخذ نفس مواقفه و قراراته و من جملتها الخروج على أمير الزمان و قتاله ؟ ألا يعني الدفاع المستميت و بلا هوادة عن يزيد في قتله الحسينَ عليه السلام أنه لو قُدِّرَ لهذا المدافع أن يكون مكان يزيد و لو وضعه القدر وجها لوجه أمام الحسين لكان سيتخذ بنفس المبررات السخيفة نفس القرار بقتل الحسين و قطع رأسه و سبي نسائه من آل البيت عليهم السلام ؟ ألا يعني إصرار المدافعين عن معاوية و عن يزيد و عن الكثير من أعمال بني أمية المتعلقة بشؤون الحكم و من بعدهم تجاوزات بني العباس (أليسوا هم بدورهم خارجين على الخليفة الأموي ؟) أنهم إنما ينطلقون من مواقف براغماتية فجة بالإصطفاف إلى جانب المنتصر و الدفاع عنه أيا كان و كيفما كانت وسائل إنتصاره حتى لو كانت بالتجني على قيم الإسلام و مبادئه ؟ إذا كان الله قد حث المؤمنين بأن تكون لهم أسوة حسنة برسولهم الكريم فأين يرى هؤلاء الإتباع الحسن لهذا الحث ؟ في علي و أحبائه و أتباعه و المدافعين عنه ، أم في معاوية و محبيه و أتباعه و المدافعين عنه ؟ أفلا ينطوي هؤلاء "الأمويون ، السلطانويون" في كل عصر و مصر على نفسيات تنفر بطبعها من كل ما هو نبوي (فيما يتعلق بشؤون الحكم و المال العام) و ترى أسوتها في معاوية و خلفائه و سلاطين الحكم الذي إتبعوا خطواتهم ؟ ألا يكشف دفاعهم المستميت عن أهل الباطل و البغي - بإخبار رسولنا الأكرم - عن أنهم لا يرون في عدل علي في الحكم (العدل المطلق) و في تجرده و تصرفه في المال العام (الفقر و الإبتلاء الشديدان) أسوة للإقتداء ؟ بل يرون في معاوية و من تبعه من آل أمية و عمالهم و آل العباس و سلاطينهم و المماليك و قوادهم و آل عثمان و ولاتهم و طغاة العصر و وزرائهم و محتسبيهم أسوة في شؤون الحكم و في التصرف الشخصي بالمال العام بعيدا عن الأغراض الشرعية التي أمر بها الله عز و جل و هدى إليها و أقرها و نفذها و أوصى بها رسوله الأكرم و إقتدى بها خلفاؤه الراشدون من بعده ، فليس هؤلاء ممن يكون في قاموس دعواتهم :"اللهم إجعلني مسكينًا وأحيني مسكينًا و أحشرني في زمرة المساكين" ، ألا يرون أن في تولية معاوية يزيدَ من بعده على الرغم من أنوف أهل الحل و العقد و بقايا الصحابة و التابعين و بحد السيف الأسوة القبيحة و السنة السيئة لطغاة اليوم ؟ ما لهم كيف يحكمون !

لست أدري إن كانت عقول هؤلاء و أفئدتهم تتسع إلى أن شأن مخالفي معاوية و سننه في شؤون الحكم و المال و الإدارة ليس مما ينبغي النظر إليه على أنه قضايا شخصية فليس لأحد من الطرفين - و لا ينبغي له أصلا - أن يكون له ثأر شخصي مع إحدى الفئتين إنما هو الشأن العام و حال الأمة و تخلفها و ترديها الفاضح في هذه الشؤون ، فبينما أصبحت مفاهيم من مثيل حقوق الإنسان و المشاركة السياسية و العدالة الإجتماعية من المسلمات إلا أننا ما زلنا نرى من ينبري بعد هذه المدد المتطاولة للدفاع عن طرق في الإدارة و الحكم أقل ما توصف بأنها بالية و رجعية و فاسدة مفسدة من قبيل الإستئثار بالسلطة و الفساد المالي و الإداري و الأخلاقي و الذي يستتبعه حكما فساد ديني .

لست أدري مالجواب بعد كل هذه الأسئلة المحرجة إن كان لدى المنافحين عن الظلمة و الفئة الباغية جوابا أو بعض جواب ، أرجو من الله العلي القدير أن يثبتنا على دينه و لا يفتننا ، اللهم هل بلغت ؟ اللهم فاشهد .

و مالذي سيتحسن بعد الثورات ؟

في كثير من النقاشات مع الذين يعارضون موجة الثورات العربية التي تعصف بالمنطقة العربية أو الذين يقفون منها موقف المتفرج المحتار تبرز أسئلة و تساؤلات كثيرة تبدو في وهلتها الأولى مستعصية على الإجابة و تكاد تحوِّل المؤيدين للثورات بل و حتى المشاركين فيها عن آرائهم و تعيدهم ليركنوا إلى الرغبة في استمرار الأوضاع على حالها ميلا إلى الهدوء و الدعة و "الإستقرارا" الذي طبع العقود السابقة ، من جملة هذه الأسئلة مثلا : "مالذي سيتغير إلى الأفضل بعد تغيير النظام الحالي ؟" ، "ألا ترى الفوضى و عدم الإستقرار الذي يسود في الدول التي أزاحت حكامها ، فهل تريد أن يحل ذلك ببلدك؟" ، "من هو البديل عن الرئيس الفلاني أو الحاكم العلاني ، فنحن لا نعرف البديل؟" ، "المعارضة في البلد الفلاني أو العلاني ليست موحدة و ليست متفقة ، فهي بذلك لا يمكن أن تكون البديل المناسب" ، "إذا ذهب الحاكم فإن الفوضى و عدم الإستقرار سيكون البديل" .

ربما بل و بكل تأكيد يحتاج الأمر إلى محاضرات عديدة و مؤتمرات للإجابة عن مثل هذه التساؤلات الضخمة ، و لكن محاولتي المتواضعة هنا في وضع اليد على الخلفية الذهنية و العقلية التي تنطلق منها هذه التساؤلات و تظهرها على أنها مستعصية على الإجابة ، فأول ما يخطر بالبال هو أن هذه الأسئلة تنطلق من نفسية المواطن الذي ينتظر ما سيحدث كمتفرج و يقبل - كما هي الحال حتى الآن - مالذي سيقدَّم إليه و هو لا يرى في نفسه فاعلا في الأحداث و إنما صدى لها و متأثرا ، و هذا يعني أن الذي يطرح هذه التساؤلات يعتمد منطقا سلبيا غير فاعل و لا مؤثر في الأحداث أي أنه لا ينطلق من مفهوم واجب المشاركة و المسؤولية ومن ثم المحاسبة ، و إنما من مفهوم الإتكالية و التلقي و الإنفعال ، فالعمل السياسي في رأي من ينطلق من هذه الرؤية و لو في أدنى مظاهره هو من شأن الآخرين و لا ينبغي له إقحام نفسه فيما لا يعنيه .

الذي يطرح مثل هذه التساؤلات ينطلق من طريقة غير واقية في التعامل مع الأمور و رغبة سحرية في حلها ، فهو يريد من الحركات الثورية أن تنجز مهام التغيير و الإصلاح لما عملت عليه أنظمة الحكم الحالية على مدى عقود طويلة من إفساد - بل و إلغاء - للحياة السياسية و الواقع الإقتصادي و الإجتماعي بضربة واحدة و بلمح البصر بينما تمتع هذا المواطن طيلة هذه الفترة بالواقعية و أظهر مختلف أنواع "الصبر و التحمل" و السكوت عن كل ما حملته فترة التخريب و الفساد من سلبيات و كبت للحريات ، و هو يضيق صدره اليوم عن تحمل مرحلة التغيير و المخاض التي تعتبر من أصعب و أخطر المراحل في كثير من شؤون الحياة و لا يملك من سعة الصدر لتجاوز بعض هفوات "المعارضات" كونها تخوض في الغالب تجربة جديدة لم تعهدها من قبل و لم يكن بإمكانها القيام بها في وضح النهار في ظل القمع السياسي الذي ساد الفترات الماضية .

الذي يتحدث عن معارضة واحدة و ليس عن "معارضات" ينطلق أيضا من نفس سمات المرحلة السابقة التي كان فيها الحزب الواحد و القائد الفذ يقودان العمل السياسي والحراك الإجتماعي ويحددان وجهة الأمور في الدولة و المجتمع ، و هو يطمح بذلك إلى البديل الذي ينبغي أن يتمثل في حزب معارض وحيد و من المفضل أن يكون له قائد فذ يُتِم المسيرة لتسير الجماهير وراءه متبعة خطواته الحكيمة ، هذا الإنطباع يعني أننا لم نفهم طبيعة المرحلة القادمة و لا أبجديات الديمقراطية و لا مفهوم التعددية ، أي أننا بطرحنا مثل هذه التساؤلات نعبرعن أننا ما زلنا نعيش بمفاهيم الماضي عن العمل السياسي و سنعمل من حيث لا ندري على تكرار نفس التجارب المريرة و دفع أثمانها الباهظة .

ربما ينبغي علينا في هذه المرحلة أيضا تحديد المفهوم الصحيح للإستقرار و لفت النظر إلى أن الإستقرار الذي يقوم على أسس صحيحة لا يمت إلى ذلك الذي يتمسك به الكثيرون ممن يخافون على ضياعه و يعتبرونه من أغلى ما حققته الأنظمة الإستبدادبة الحاكمة و بالتالي وصفه على أنه مما لا ينبغي التفريط به بأي شكل من الأشكال ، فالإستقرار بهذا المفهوم لا يعني سوى الموات و إنعدام الفاعلية و التخلي عن المسؤولية و ترك البلاد نهبة للنظام الحاكم و كذلك ترك مقادير البلاد لعبة في أيديهم يوجهونها كيفما شاؤوا ، كما ينبغي بكل إلحاح الإبداء و الإعادة في أمر هام للغاية و هو أن من يهدد بالفوضى و يتسبب بها هو النظام الحاكم نفسه مع أعوانه إضافة إلى المستفيدين منه في محاولة فاشلة للبرهنة على أن زوال هذا النظام أو ذاك سيكون نذيرا بحلول الفوضى و سواد عدم الإستقارار و ضياع الأمان .

الحاكم عندما يصبح بائعا متجولا

في كل مرة تعرض فيها المحطات الفضائية بطريقتها الساخرة تقديم الرئيس اليمني عروضه السخية للمعارضة بتحقيق كل طلباتها لا أجد مفرا من الغرق في موجة من الضحك الممزوج بالمرارة ، فالأمر لا يمكن إلا أن يثير السخرية بالطريقة التي يقدم بها رئيس بلد عربي شقيق عروضه بالديمقراطية و بالتعددية و بدعوة المعارضة للإلتزام بالدستور و بأن تتحلى بالديمقراطية و تلتزم بالتشاركية و بأدب الحوار ، و هي جميعها ألفاظ إفتقدها إلى يوم ليس بالبعيد خطابه و كذلك خطاب نظامه بالكلية ، أما المعاني التي تعبرعنها هذه الألفاظ فيمكن لكل متابع لواقع اليمن السياسي أنها غريبة عن واقعه وتفتقر إلى أي مصداقية ، أما المرارة فلأن الأمر الذي يبدو في ظاهره عرضا بقبول الرأي الآخر و بإبداء الرغبة في تقديم التنازلات للإلتقاء مع المعارضة و الثوار في منتصف الطريق لا ينم عن أقلَّ من استهانة هجينة بعقول الآخرين و لا يخلو من إهانة لتضحياتهم في سبيل نيل حقوقهم و القيام بواجبهم بالمشاركة في صنع سياسات بلدهم ، فالأمر من منظور محايد لا يخلو عن مناورة للحفاظ على السلطة ممن اعتاد إلغاء الآخر و أدمن القضاء على كل صوت معارض، اليوم يتحول القائد الفذ فجأة و من غير مقدمات إلى ديمقراطي عريق من الدرجة الأولى يريد الشراكة مع الآخر و ربما التحول بعد حين إلى موقع المعارضة التي لم تكن في يوم من الأيام من مفردات خطابه السياسي الإقصائي .
بنفس الطريقة - للأسف الشديد - عاد ابن القذافي سيف الإسلام - لا أحد يغرف بأية صفة كان يتحدث - قبل أيام قليلة في لقاء مع إحدى الصحف الأجنبية ليقدم مثيلا لهذه العروض و يقول للصحفية بأنكم إن كنتم تريدون الديمقراطية فإننا على جاهزية لتقديمها ، و إن كنتم تريدون انتخابات نزيهة فنحن لها ، لم أتمكن من تمالك مشاعر السخط الغاضبة في نفسي لطرح الأسئلة عما كان يمكن أن يدور في خاطر الصحفية عند سماعها مثل هذا الخطاب ، تبادرت إلى ذهني بعض الأجوبة التي كانت ستخطر على بالي لو كنت مكانها ، فالأمر لا يعدو ابتداءا عرضا بمفهوم السوق - الصورة النمطية لدى سياسيي  الغرب عن شيخ القبيلة العربي مع خيمته و بازاره - و في الأسواق يتم في العادة عرض ما يروج و ما قد يلقى رغبة الآخرين باقتنائه ، الأمر التالي الذي تبادر في ذهني هو ما ستشعر به هذه الصحفية من استخفاف من تصدر عنه مثل هذه العروض بالشعوب و بعقولها و بقدرتها على الفعل ، فالديمقراطية أمر سيبقى في حدود ما يمن به الحاكم على المحكومين وينبغي النظر إليه على أنه مكرمة من عطاياه و بالتالي يمكن سحبها و استرجاعها عندما يخطر بباله مثل هذا التراجع ، الأمر ليس في نظره إنجازا تحققه الجماهير الثائرة و تشترك في صنعه جميع فئات الشعب فلا تتنازل عنه في يوم من الأيام و لا تفرط فيه وتبذل الغالي و النفيس في سبيل الحفاظ عليه ، إستمرت الأسئلة تجول خاطري و أنا أحاول الغوص في معاني ما تحمله مثل هذه العروض ، فالظاهر أن التحول من ديكتاتورية شمولية إلى ديمقراطية تعددية لا يحتاج من القائد الملهم سوى أن يقرر ذلك ، و الرسالة هي أن الشعوب تُمنَح الديمقراطية و أن الحاكم الفرد هو الذي يقرر ذلك ، هل يمكن لأحدنا تصور ما جال في خاطر هذه الصحفية عندما تسمع ممن يقودون شعوبنا مثل هذه الأقوال ؟  .
الأمر الآخر الذي ينبغي لنا أن نعمل فيه الفكر هو إذا كان الأمر بهذه السهولة فلمَ حرمنا الحكام القادرون على كل شيئ من نعيم الديمقراطية ؟ لماذا لم يمنوا على هذه الشعوب المسكينة بهذه العطايا من قبل و قبل بدء الربيع العربي ؟
الأمر الذي أراه أهم من كل ما سبق و هو الأمر الذي ينبغي علينا تكراره باستمرار - لأن البعض منا أيضا ينطوي على مثل هذه الأفكار - أن الديمقراطية قبل كل شيئ قناعات و ثقافة و ممارسات تنتشر روحها في جميع مناحي الحياة و تبدأ من ولادة الفرد و ترافقه في جميع المراحل العمرية حتى الممات و تترك بصماتها في كل شيئ ، هذا ما يدعونا جميعا إلى العمل على نشر هذه الروح و الإعلان عنها من خلال ممارساتنا و تعاملاتنا مع الآخرين و قبل كل شيئ أن نثبت أنها ليست بحال من الأحوال دعاوى عريضة تفتقر المصداقية .

هل من حسد في ثالثة؟

و أنا أتابع الإنتخابات البرلمانية التركية الأخيرة باهتمام كبير ابتداءا من مرحلة حملات الدعاية الجماهيرية الرائعة و مرورا بيوم الإقتراع السلمي و الهادئ و انتهاءا بساعة إعلان النتائج المرقوبة بكل المعاني ، كان الأمر من البداية و حتى النهاية ظاهرة مثيرة للإعجاب و تستحق المدح و التقدير ، ليس لأنها جاءت بنتائج طيبة للسيد رجب طيب أردوغان و لحزبه و حسب و إنما لما تمثله هذه الإنتخابات من إحراج لجميع (مع القليل من الإستثناءات) أنظمة الحكم في العالمين العربي و الإسلامي (و ربما لكل المستبدين في العالم) التي تجد نفسها في وضع محرج للغاية تحت ضغط شعوبها التي قررت أخيرا أن تأخذ أقدارها بأيديها و أن لا تسلمها لمن يلعب بها و يسرق مقدراتها و يغتال حقوقها و يلتف على حاضرها و يرهن مستقبلها .

خطر ببالي خلال هذه الأحداث سؤال قد يدخل في باب أحلام اليقظة (التي ينصح بها علماء النفس لصحيتها) ، سألت نفسي أكثر من مرة عما إذا كان أحد من زعماء الدول العربية التي تتعرض عروشها (العروش عادة للملوك فقط) أو غيرهم من الحكام المستبدين يتابع مثل هذا الحدث بنفس العين التي حاولت متابعته بها . و إن حصل و فعلها أحد من هؤلاء الحكام و لو خلسة فإن مثل هذا الأمر المتسلل إليه قد يدفعه في بعض اللحظات إلى تساؤلاتٍ مثل التي سأتابع طرحها في النقاط التالية :

مالذي يدفع رئيس الوزراء التركي (طبعا المقصود هنا تركيا كونها دولة إسلامية تشترك بلداننا معها في الكثير من القيم  التاريخ و لكن التساؤلات تنطبق على جميع النظم الديمقراطية أو التي في طريقها لذلك) الذي يملك بيده زمام السلطة لقطع البلاد من أقصاها إلى أقصاها و يجهد نفسه في عرض برنامجه الإنتخابي و يسعى لربح عقول و أفئدة الناخبين ؟ مالذي يرغمه على خوض معركة إنتخابية حقيقية مع الأحزاب السياسية الأخرى و هو غير موقن بما ستحمله صناديق الإقتراع من نتائج (كما هي الحال في جميع دول الإستبداد في العالم) ؟ مالذي جعله لا يركن إلى إنجازات حزبه في الفترة السابقة أو إلى نتائج مسبقة يجعل عملية الإقتراع و التصويت مسرحية تثير الغضب و الألمعلى الرغم من هزليتها ؟

مالذي دفع عشرات آلاف و مئات آلاف الأتراك (و ربما الملايين في بعض الحالات) للتجمع في مختلف الميادين التي جرت فيها الحملات الإنتخابية للإستماع إلى الوعود الإنتخابية لممثلي الأحزاب التي تسابقت على إقناع هذه الجموع ببرامجها و بجدارتها بثقة الناخب التركي ؟ مالذي جعل هذه الجموع الغفيرة تقتنع بهذه العملية من البداية و حتى النهاية ؟ ما هي العوامل التي جعلت هذه الملايين (وصل عدد المسجلين أكثر من خمسين مليون ناخب) مقتنعة بأن لصوتها قيمة و بأن اختيارها لن يزور و بأنه عليها في النهاية القبول بما ستحمله هذه الصناديق من نتائج ؟

الخلاصة التي أخذتها لنفسي من هذا الحدث الجلل (و هو جلل بكل ما تحمله الكلمة من معنى لكل المنطقة العربية و الإسلامية التي كتب عليها الإستبداد و أن تقتنع شعوبها بأن طبيعتها الفكرية - و البنيوية ربما - لا تسمح لها إلا أن تحكم بهذه الطريقة) هو أن العمل و الإنجازات التي قدمها أي حزب من الأحزاب المشاركة في الحياة السياسية أو العمل و الإنجازات التي تعد هذه الأحزاب بتحقيقها هي من وطد هذه العلاقة المبنية على الثقة المتبادلة بين المرشحين و المنتخبين ، ثقة تجعل الناخبين يقدمون بكل حزم على التصويت يعرفون بناءا عليها أن أصواتهم لن تضيع هباءا ، كما تعرف أنها تستطيع أن تطيح بهؤلاء المرشحين إن هم ربحوا هذه المرة و لم ينجزوا موعوداتهم خلال الفترة النيابية القادمة ، فهم على موعد مع صناديق الإنتخابات بعد أربع سنوات تشكل موعد المحاسبة الشعبية للأحزاب و لإنجازاتها ، أما الثقة من جهة المرشحين فإنهم أيضا يعرفون بناءا عليها أنهم مسؤولون أمام ناخبيهم و أمام الدستور الذي عليهم احترامه ، فهم يعرفون أن عملية الإقتراع نظيفة و أن الرقابة عليها شديدة من جميع أطراف العملية الإنتخابية و أن ما ستأتي به الصناديق ما هو إلا نتيجة لعملهم في الفترة الإنتخابية السابقة لا أكثر و لا أقل ، كما أنهم على وعي تام بأن الناخب يراقب عملهم عن كثب و يرى التزامهم بالوعود الإنتخابية و يرى مدى الإنجاز ثم يقدر لهم إن أحسنوا و يسحب منهم ثقته إن هم أساؤوا ، و هكذا تستمر العملية الديمقراطية .

في غمار كل هذا خطرت على بالي تساؤلات أخرى و هي : هل شعر أحد من هؤلاء الزعماء بالحسد (مع علمي بحديث الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام في أنه لا حسد إلا في اثنتين ...) يأكل قلبه من الداخل بعد إعلان نتائج الإنتخابات التي فاز بها حزب العدالة و التنمية بنتائج فاقت أفضل التوقعات بعدة نقاط ؟ هل قال أحدهم لنفسه مالذي يمنعني من أن أكون مكان رجب طيب أردوغان ؟ مالذي يحول بيني و بين شعبي أن يعطيني ثقته (من كل شخصين واحد) و لكن بدون وعود انتخابية كاذبة و بدون تزوير في الصناديق و بدون تشبث رعن بكرسي الحكم على الرغم من الفشل الدائم و المتواصل في تقديم أي شيء نافع للشعب ؟ مالذي يحول بيني و بين أن أحظى بثقة و بمحبة بني أمتي ؟ و قبل كل تلكم الأسئلة يبقى السؤال الأهم و هو : مالذي قدمته كحاكم لأمتي التي منحتني (و لو في أغلب الأحيان مرغمة) قيادتها لكي أقارن نفسي بمثل هذه القامات العظيمة ؟ ألن تكون حسرة هؤلاء الحكام أمر منها اليوم غدا عندما يقومون بين يدي رب العالمين و يسألون عما تسببوا به من آلام و محن للمساكين و الفقراء (الرعاع وفق مصطلح المستبدين) خاصة إذا ما استدعوا في خاطرهم حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به. رواه مسلم وغيره .

سؤالي الأخير هو : هل سنعي كشعوب (أظنني قد فعلناها منذ أمد بعيد) و هل سيعي الحكام المستبدون أن مراحل الفوز بالإنتخابات بالأرقام الفلكية من فئة 100% أو 99,99% و ربما 92% و غيرها قد ولت إلى الأبد ، فبما أن الكثير من فقهائنا أنكروا وجود الإجماع كمصدر للتشريع ينبغي علينا جميعا إنكار وجود الإجماع في عالم السياسة و الإجتماع .

من تجليات الوحدة العربية

على الرغم من شعور عارم يجتاح الشارع العربي بأن الدول العربية متفرقة و متناحرة و مشتتة إلا أن الفترة الأخيرة و ما جرياتها أظهرت لكل متتبع للواقع السياسي و التاريخي في المنطقة العربية أن مظاهر الوحدة متعددة للغاية و أكثر من أن يستطيع أحد غض البصر عنها أو تجاهلها .

فبالنظر إلى الخمسين سنة الماضية يلاحظ المرء أن غالبية الدول العربية مرت بظروف متشابهة للغاية من مرحلة الإستقلال إلى ما بعده ، إلى انقلابات عسكرية و إن كان بصيغ متباينة و التي سميت ظلما و عدوانا "ثورات"، إلى تحول هذه الأنظمة "الثورية" إلى ديكتاتوريات الحزب الواحد و القائد الواحد ، والإقتصاد الواحد ، إلى آخر هذه القائمة من أصناف النظرة الهرمية لكل شيء في الكون ، بحيث تم في النهاية اختصار كل بلد من هذه البلدان بشخص "زعيمه" .

سكوت الشعوب العربية الطويل على كل أنواع الفساد و العسف و لمدة طويلة يعبر عن شكل من أشكال من الوحدة العربية التي لم تسمح أنظمتها سوى بطيف بسيط من التباين بين هذا القطر العربي و ذاك ، منها الأحزاب التي تدور في فلك الحزب الزعيم الأوحد ، أو بعض حريات الصحافة و اللجوء إلى هامش من الحريات في المسلسلات و الأفلام و المسارح .

 من مظاهر الوحدة العربية أيضا انتقال الدول العربية التي رأت لمدة طويلة في الطريقة الإشتراكية في الإقتصاد إلى الطريقة الرأسمالية ، و من ثم إلى الليبرالية الرأسمالية و الخصخصة ، في هذه المرحلة نمت في أغلب الدول العربية طبقة "الإقتصاديون الجدد" الذين كانوا قبل ذلك من متزعمي الطبقات الكادحة ، و هم في الغالب من أقارب أو عشائر أو موالي السلطة الحاكمة .

ربما مما ساهم في الحراك الجماهيري في العقد الأخير اللجوء و التمهيد إلى مشروعات التوريث و تحويل الجمهوريات إلى ما يشبه الملكيات التي يتم توارث الحكم فيها بين أعضاء الأسرة الحاكمة على الرغم من أن "الدستور" يشير إلى النظام الجمهوري ، إضافة إلى و ترافقا مع ذلك سيطرة أفراد العائلة على مفاصل الأحزاب و الإقتصاد و الجيش و الإعلام بحيث تعمل جميعها و في تضامن مثير لإنجاز هذه المشاريع .

ربما يمكن إضافة مايحصل منذ عدة أشهر من حراك جماهيري لا مثيل له في المنطقة إلى مظاهر الوحدة العربية ، فبمجرد سقوط نظام القمع التونسي و انطلاق عملية التغيير هناك بادر الشعب المصري بالنزول إلى الشارع و استطاع هو أيضا إسقاط نظام مبارك و البدء بالعملية الديمقراطية التي ترنو إليها أنظار شعوب المنطقة بكل الإهتمام ، و معها انطلق مشوار التغيير السلمي في يمن الحكمة ، وكذلك نزل الأخوة الليبيون إلى التظاهر ليفاجئوا العالم بعد ركونهم لعميد الحكام العرب لفترة تربو على الأربعة عقود ، و امتدت المظاهرات إلى كل من عُمان و المغرب و البحرين و سورية و الأردن و العراق و الأراضي الفلسطينية المحتلة .

أما إذا لاحظنا ردود أفعال أنظمة الحكم على مجريات الساعة من ناحية الطريقة و من ناحية الأفكار فإنه يظهر لنا الكثير مما يجمع هذه الأمة ، فمن الإنكار و من ثم الإستنكار ، و استدعاء المؤامرات و التدخلات الأجنبية ، و الفزاعة الإسلاموية و القاعدة ، و التهديدات بالإنقسام و الفتنة ، و ربما البدء بالإصلاحات مع بعض التأخير و لكن مرفقة ببلادة تحركاتها السياسية و الإعلامية ، و إعطاء المنح بأسلوب القطرة قطرة تشكل في مجملها عوامل جديدة يمكن إضافتها إلى عوامل الوحدة العربية .

ربما تجدر الإشارة هنا إلى أن التعاون الأمني بين أنظمة الحكم العربية في الفترات السابقة ، الذي لم يكن مقر اجتماعاته من قبيل الصدفة في تونس يتمظهر في أصفى تجلياته هذه الأيام حيث يمكن لأي إنسان بسيط ملاحظة اشتراكها إلى درجة تشبه عملية الإستنساخ في مظاهرها الخارجية و خلفياتها الفكرية و أدواتها القمعية .

أظن أن أهم ما ستتجلى من خلاله مظاهر الوحدة العربية في أن ما ينتظرها بعد هذه االتحركات و بفضل الثوران الشعبي سيكون بإذن الله و بسواعد الشعوب و بوعيها مستقبلا مشرقا تصنعه شعوب المنطقة العربية أخيرا و على اختلاف انتماءاتها العرقية و اعتقاداتها الدينية و تمذهباتها الفقهية ، هذا المستقبل لا يجوز لهذه الشعوب تركه يفلت من أياديها وينبغي أن تجعله في أعلى قمة ما يجمعها و يجعل منها أمة واحدة .

المثقف زمن الثورات

لا يخطر على بالي في هذه الأيام ، أيام ثورات الغضب العربي على سنوات القحط التي رابت على سنوات تيه بني إسرائيل ، سنوات الجفاف التي أرادت أن تأتي على الحريات بل على بقاياها في زاوية كل بيت عربي ، سنوات الإقصاء التي جعلت من العمل العام عملية انتحارية إن لم تكن بوقا للسلطات الحاكمة أيا كان اتجاهها و تسير باتجاهها و تبقى بوقا لها عندما تغير وجهتها أو حتى تعكسها ، لا يخطر على البال أقل من تلك الطرفة التي تتحدث عن ثلاثة من أمهر جراحي التجميل عندما جلسوا يتباهون بإنجازاتهم العلمية .

قال الأول و هو أمريكي : لقد وصل إلى المستشفى الذي أعمل فيه شاب في مقتبل العمر و لكن للأسف أصيب في حادث أثناء اشتراكه في مسابقة رياضية و اضطررنا أن نضع له قدما اصطناعية بدلا من قدمه التي قطعت و بعد سنوات من التدريب و المعالجات الطبيعية عاد و تمكن من الإشتراك في الأولمبياد الكوني و احتل المركز الأول في سباق المئة متر حواجز .

قال الثاني و هو فرنسي : وصل إلى مشفى التجميل الذي أعمل فيه رجل أصيب في حريق بتشوهات رهيبة مما اضطرنا إلى قطع بعض إصابعه التي التصقت ببعضها و ذاب الجلد و اللحم على العظام ، و لكن بعد أكثر من عشر عمليات تجميلية استطعنا أن نعيد الليونة إلى أصابعه و أصبح اليوم من أمهر عازفي البيانو في العالم .

جاء دور الجراح العربي فقال : نقل إلى المستشفى الذي أعمل فيه جراحا شاب مسكين أصيب في حادث سير و كان دماغه فلقتين و قد هرست بشكل لم أر مثله في حياتي ، و الحمد لله بعد عدة عمليات و غيبوبة دامت لأشهر استطعنا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه و لكن للأسف لم يكن بالإمكان إعاده كل دماغه إلى الجمجمة فاضطررنا لحشو الجزء المنقوص ببعض قطع القماش و القطن المعقم ، و بعد عدة سنوات رأيت هذا الشاب و قد أصبح اليوم من قيادات المجتمع الثقافية و يتسلم أعلى المناصب في بلده .

يبدو أن هذه هي حال من يتصدرون العمل العام في عالم الإعلام العربي اليوم و قد تنبه لها الساسة لدينا و عملوا استنساخا لهذا الشاب ليتصدر مع منسوخيه العمل العام و الظهور على وسائل الإعلام في الفضائيات الرسمية التي يشعر أي متابع بسيط لها أنها إنما تقوم بعمل مستنسخ يعاد مضغه و إن كان باختلافات بسيطة لا تكاد تستحق الذكر ، كما أنها لا تعدو أن تقدم إنتاجا يشبه ذلك الحشو من القطن الذي استقر في جمجمة صاحبنا .

الأمر الذي يدعو إلى الأسف و الشعور بالإحباط هو أن يشعر المرء أن هذا النوع قد و صل أيضا و بشكل كبير إلى استنساخ رجال الثقافة الذين ينبغي أن تكون مواقفهم بمثابة البوصلة عند مفترقات الطرق و إلى علماء الدين الذين ينبغي أن يشكلوا المرجعية و الضوء في آخر النفق في أحلك اللحظات التاريخية ، و هم بهذه المواقف إنما يساهمون في التعمية على تبين الطريق الصحيحة و في إطالة هذا النفق و تصعيب المسيرة .

لغة النفي و الإنكار

إذا كانت الحكمة تقول : "تكلم حتى أراك" و هو تعبير يعكس مفهوما راقيا للغة و لوظيفتها الإنسانية في التعبير و في التواصل بين بني البشر فإن الدهشة التي أصابت و تصيب المتابعين للحوادث و الأحداث الماراتونية التي تجتاح العالم العربي هذه الأيام لما يكاد يشبه تحولا جذريا في طريقة استخدام اللغة و الكلام و الكتابة و صياغة الخبر تلفزيونيا كان أم صحفيا أو حتى في مدونات الإنترنت ، هذه الدهشة تعبر عن نفسها في رغبة عارمة في تحديد مفهوم جديد للغة و للتواصل ، خاصة و أن إصرار جميع الحكومات في الدول العربية على استخدام لغة و خطاب يلغي وظيفة اللغة من هذه الجهة و يأتيان عليها من القواعد .

فبينما ينبغي أن تكون اللغة وسيلة من وسائل الإثبات و الإخبار و الوصف الإيجابي - بالمعنى الوضعي و ليس كمقابل للذم - تتميز لغة وسائل الإعلام الرسمية بأنها تعتمد في الغالب على مفردات النفي و السلبية - ليس كمقابل للمدح - و الإنكار ، أظن أن أيا منا ستجتاحه نوبة من الضحك المتواصل إذا سمع في النشرة الجوية خبرا من نوع أنه لم تهطل الأمطار في المنطقة كذا و لم تهب أي عواصف رعدية مثلا في منطقة كذا ، أو إذا قرأ أحدنا في صفحة الحوادث في صحيفة ما خبرا من نوع أنه لم يحصل اليوم أي حادث سير في شوارع العاصمة و بالتالي لم يكن ثمة ضحايا حوادث مرورية ، أو إذا تم بث خبر مفاده أنه لم يحدث إطلاق نار على الحدود بين البلدين س و ع ، للأسف هذا النوع من الأخبار تجابهنا به أغلب وسائل الإعلام العربية الرسمية بخصوص ما يحدث من تغيرات ليست يومية و إنما أضحت منذ مدة ساعية تقريبا .

بداية مشوار الإنكار تبدأ مع إنكار عوامل تشابه بين هذا البلد و البلد الذي أنجز عملية التغيير الثوري ، ثم يلحق بها إنكار وجودي كامل لما يحصل من غليان شعبي أو مظاهرات و لأي مطالبات جماهيرية ، يرفق هذا الإنكار بنفي وجود أي مسببات لأي نوع من هذه التحركات فالأمور مستقرة و الحريات متوفرة و المجتمع يعيش حالة رخاء اقتصادي و تواؤم بين جميع أعضائه و بالتالي لن يحصل عندنا ما يحصل في الدول الأخرى ، يتبع هذا الإنكار بغباء فاضح يريد دعم حجج الإنكار بزيادة لافتة للنظر بلقاءات مع "النخب" الثقافية و الدينية و المجتمعية تدور معظم محاورها حول التأكيد على ما يراد لفت النظر عنه .

للبرهنة على أن هذا البلد أو ذاك لا يماثل البلد الآخر الذي حدثت فيه احتجاجات و مطالبات و ربما انتهت بتغييرات في أنظمة الحكم يتم سوق مختلف الأدلة و الحديث عن سياقات مختلفة تجعل النظام السياسي بمنأى عن أية مطالبات ناهيك عن أية تغييرات ، غالبية هذه الأدلة تعتمد على قول شيء و غض البصر عن أشياء كثيرة سيثير التحدث عنها من الإختلاف ما لن يكون بالإمكان إصلاحه أو تجاوزه ، فمثلا عندما يتم التحدث عن الفساد المالي و الإداري من المتظاهرين يكون رد النظام الحاكم بالتحدث عن الإنجازات الكثيرة في جميع المجالات ، وعندما ترتفع الأصوات المطالبة بالتغيير يتم البحث عن كبش فداء المرحلة في محاولة جديدة للفت النظر عن المطالب الحقيقية و عن الرغبة في إنجاز تغييرات فعالة وهو أسلوب جديد يتابع مسيرة الإنكار بحيث يتم تحويل المسؤولية المباشرة عما يحدث ، هذا الإنكار المتواصل يؤدي في أبسط الأحوال إلى إنكار الحاجة إلى أي تغيير و بالتالي ترك المجال مفتوحا لزيادة النقمة الشعبية .

من أساليب ممارسة الإنكار التذكير الدائم إلى حد ممل بالرصيد التاريخي لهذا النظام و لهذا القائد مرفقا بالإغماض المتعمد عن جميع الإخفاقات التاريخية التي يمثل الواقع الحالي في جميع مناحي الحياة خير شهيد عليها ، و إظهار ذلك على أنه منة من هذا القائد الملهم ، و أن الشعب ناكر للجميل و يثبت باحتجاجاته أنه لم يكن يستحق ذلك الإحسان .

حتى تستمر حلقات مسيرة الإنكار تستدعى بالضرورة نظرية المؤامرة و التدخلات الأجنبية الراغبة في زعزعة الإستقرار و الوئام و إفشال عمليات التنمية و غير ذلك من الإتهامات ، و لست أدري إذا لم يكن يعني هذا بأبسط ما يمكن فشلا أمنيا و إعلاميا كاملا لهذا النظام أو ذاك إذا كان لتدخلات بسيطة من هنا و هناك القدرة على إحداث مثل هذا التخلخل و الإفتتان وفقا للتشكيلات المجتمعية عرقية كانت أو دينية أو حتى طائفية ، و السؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو : هل هذا هو الإنجاز الأمني و الأمان الذي يستطيع هذا النظام أو ذاك أن يؤمنه للبلاد ؟ هل يمكن استئمان مثل هذه الأنظمة على متابعة تسلم المسؤوليات عن البلاد و التي تثبت الأحداث أنها إنما كانت قائمة على شفا جرف قابل للإنهيار عند أول نسمة ربيعية ؟ أوليست علاقة سليمة و صحيحة و صحية بين النظام الحاكم و الشعب هي الأجدر و الأقدر على الوقوف في جبهة واحدة ضد أي نوع من هذه التدخلات ؟

حتى تكتمل حلقات الإنكار يتم التأكيد في كل مرة يقوم النظام الحاكم فيها بإجراء تغييرات بأن ما يحدث لا يتم تحت ضغط الشارع و ليس كاستجابة لمطالبات الشعب بل هو من خطة الإصلاح التي يقوم بها وفق رؤيته و تبعا للمخطط الزمني الذي ارتآه و تحقيقا للأهداف التي يرغب الوصول بالبلاد إليها بمحض إرادته ، هذا الإنكار و من وجهة نظر نفسية محضة لا يساهم سوى في إضرام نقمة الجماهير و برفع سقف مطالباتها و تجاوز المرحلة الحالية إلى ما بعدها ، إذ من المعروف للنظام أنه إذا أقر بأنه إنما يستجيب للمطالبات الشعبية فإن ذلك سيكسب الجماهير مزيدا من الثقة بقوتها و بمقدرتها على التغيير مما سيؤدي بدوره إلى المزيد من المطالبات ، فيلجأ النظام بذلك إلى الإنكار ، الذي ربما لا يستطيع أي نظام شمولي أو حاكم مستبد فهمه هو أنه بالسير في إصلاح يعيد العلاقة بين الحاكم و المحكوم إلى وضعها الطبيعي الذي يقوم و ينبغي أن يقوم في الأساس على التأثير المتبادل و على أن الحكومات إنما وجدت لخدمة الشعوب و لمصالحها يمكنه أن ينهي هذه الدوامة اللامتناهية من إظهار العضلات و القدرة على ليِّ ذراع الآخر ، فما هو المعيب في أن يعترف النظام بأنه إنما يعمل وفق رغبات الشعب و نزولا عند إرادته ؟

فاقد الشيء لا يعطيه

المضحك المبكي في الكثير مما يحدث هذه الأيام على الساحة السياسية في العالم العربي أن حكومات ذوات تاريخ عريق في الفساد ، و أنظمة حكم ذوات خبرة عتيدة في الإستبداد ترى في نفسها الجهة الأكثر مناسبة لقيادة بلادها في المرحلة القادمة وفق متطلبات الواقع الجديد الذي بدأ صوت الجماهير يلعب دور المحرك الرئيس فيها و ليس دورا هامشيا لم يكن يلقى من هذه الحكومات أي اعتبار و لم يكن يدخل في حساباتها لا في قليل و لا في كثير ، هل يمكن التحدث هنا عن مرونة فائقة أو عن تلون حربائي أم عن سيولة عدمية في سبيل البقاء في الحكم ؟

فمن الدكتاتورية و الشمولية في أساليب الحكم و الإدارة و بعد عهود من الإهمال و في أحسن الأحوال من الوعود الكاذبة و المماطلات غير المتناهية يريد هؤلاء بضربة واحدة  تشبه استخدام أجهزة التحكم في الأجهزة الألكترونية الإيحاءَ بأن الطريق للإصلاحات قصيرة للغاية بحيث يمكنهم بضغطة زر واحدة التحول و الإستجابة لصوت الجماهير في لعبة أقل ما يمكن وصفها بالإلتفاف على رغبات الجماهير في الديمقراطية ، و لكنهم للأسف لا شيء في حساباتهم سوى العودة من الباب الخلفي لقيادة المرحلة القادمة وفق المتطلبات الجديدة .

و من الفساد الإداري القائم على المركزية و المعتمد على المحسوبيات و الولاءات المعهودة إلى سياسةٍ جوهرها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب متبوعة بمفاهيم المراقبة و المحاسبة توحي هذه الأنظمة بإمكانية القطع مع ما فات و التمهيد للبدء بعهد جديد بدا و لعقود طويلة أنه مما لا يمكن لهذه الأنظمة أن تجيده أو أن تمارسه في واقع السياسة و الإدارة و الإقتصاد ، و ذلك انطلاقا من تركيباتها القائمة على اللعب على التناقضات و من طرق تفكيرها المتصفة بالجمود و على ردود أفعالها المعتمدة على منطق القوة الخشنة و حسب .

و من النهب المُمَنْهج لثروات البلاد و التحكم في اقتصادها و إمكانياتها باسم اقتصاد الدولة تارة و باسم العولمة تارة أخرى و باسم الخصخصة تارة ثالثة إلى لغة جديدة قوامها العدالة الإجتماعية و تحقيق النمو على جميع الأصعدة و التشاركية بين القطاعين العام و الخاص و جذب الإستثمارات و إنجاز مشاريع التنمية الإقتصادية و البشرية .

و من إهمالٍ كاملٍ لجميع فئات الشعب و خاصة الشباب منهم الذين يشكلون النسبة العظمى للسكان في جميع هذه الدول و مع غيابهم شبه الكامل في برامج التنمية و إيجاد فرص عمل جديدة تستوعبهم و تفيد من إمكانياتهم إلى الحديث عن خلق فرص عمل جديدة و إقامة مشاريع بنى تحتية طال غيابها .

الأسئلة المهمة التي قد لا تحتاج لإجابة هي : أين كان هذا الكم الهائل من الأفكار و البرامج و السياسات لعشرات السنين ؟ لماذا كانت توجهات و خطط الحكومات المتتالية تصب في غير هذا الإتجاه ؟ أين كانت هذه الخطط من مصالح الشعوب و خصوصا من الطبقات الفقيرة و الكادحة ؟ هل كان هذا من قواعد اللعبة التي قامت هذه الأنظمة على أساسها و رأت فيها وسيلة لاستمرار وجودها ؟

الملاحظ في هذه الطروحات أنها توجه الصفعات المتتالية لتلك الشعوب التي أظهرت أبعد الأمداء للتحمل و الصبر و القبول بهذه الطرق البائدة في الحكم ، و يأتي اليوم نفس من مارس في حقهم أبشع الأساليب في الحكم و الإدارة ليقول لننس الأمس و لنبدأ من جديد على أسس جديدة نقيضة لكل ما سبق ، المهم أن نبقى في أماكننا نحكمكم و نسيطر على مقدراتكم ، فهل ستنطلي اللعبة على الشعوب التي أظهرت حتى الآن وعيا سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و تاريخيا ترك بموجبه جميع التوقعات خلف ظهره و هي ترنو بعيون ملؤها الأمل إلى مستقبل جديد لا وجود فيه للآكلين على كل الموائد و لأصحاب فتاوى ما يطلبه الجمهور و لمن يحاول مسك العصا من المنتصف أي مكان سوى مزابل التاريخ و قوائم العار ؟

ينبغي علينا ألا ننسى في هذا المجال أن جميع الأنظمة الحالية هي نفسها التي عايشت عصر الشيوعية و تبنت الفكر الإشتراكي خلاله ، و كانت من الشاهدين على مرحلة نهاية الحرب الباردة و أوحت أنها خرجت منها منتصرة و كأنها كانت أحد أطراف المعركة ، ثم انتقلت ظاهريا من النظام الإشتراكي إلى النظام الإمبريالي و منه إلى الليبرالية الجديدة في إمكانيات فائقة على التأقلم الحربائي الذي يجيد تغيير الألفاظ و اللعب على التعبيرات و يبقي الأوضاع على الأرض على حالها ، هذه القدرة الفائقة قد تثير التعجب و لكنها لم تنل و لن تنال أدنى قدر من الإحترام و الإعجاب .

ألا يتجاوز الأمر عند هؤلاء الذهاب إلى السوق و شراء المرء ما يحتاجه ؟ فبنفس النقود التي في الجيب يمكن للمرء شراء هذا الشيء أو ذاك ؟ أم أن الأمر مبني على قناعات و ثقافات و بنىً و آليات و قبل كل شيء على متطلبات الجماهير التي لم تعد ترضى بمثل هذا السخف ؟ ألا يشكل هذا بحد ذاته الجوابَ الأوفى لعدم جدية هذه الحكومات و باستهانتها بالجماهير و برعونة رؤيتها للأمور ؟ ألا يعبر هذا قبل كل شيء على الرغبة بالإستمرار في نفس النهج ؟

هل يمكن للشعوب العربية أن تعتبر هذه المبادرات كإعلان توبة عما اقترفته هذه الأنظمة بحقها ؟ إذا كان الله قد وعد العباد بقبول التوبة قبل أن تغرغر النفس فهل ستقبل هذه الشعوب توبة حكامها ؟ أم أن هذه الحكومات قد بلغت مرحلة الغرغرة من منظور شعوبها ؟ أم أنها لربما قد تجاوزتها منذ آماد بعيدة ، إلا أن منسأة سليمان - العصا البوليسية - كانت توحي بسريان بعض الدماء في شرايينها و ببعض مظاهر الحياة تدب في أعضائها ؟ أم أننا سنرى برهانا على أن الله يحيي العظام و هي رميم ؟

فاقد الشيء لا يعطيه

المضحك المبكي في الكثير مما يحدث هذه الأيام على الساحة السياسية في العالم العربي أن حكومات ذوات تاريخ عريق في الفساد ، و أنظمة حكم ذوات خبرة عتيدة في الإستبداد ترى في نفسها الجهة الأكثر مناسبة لقيادة بلادها في المرحلة القادمة وفق متطلبات الواقع الجديد الذي بدأ صوت الجماهير يلعب دور المحرك الرئيس فيها و ليس دورا هامشيا لم يكن يلقى من هذه الحكومات أي اعتبار و لم يكن يدخل في حساباتها لا في قليل و لا في كثير ، هل يمكن التحدث هنا عن مرونة فائقة أو عن تلون حربائي أم عن سيولة عدمية في سبيل البقاء في الحكم ؟

فمن الدكتاتورية و الشمولية في أساليب الحكم و الإدارة و بعد عهود من الإهمال و في أحسن الأحوال من الوعود الكاذبة و المماطلات غير المتناهية يريد هؤلاء بضربة واحدة  تشبه استخدام أجهزة التحكم في الأجهزة الألكترونية الإيحاءَ بأن الطريق للإصلاحات قصيرة للغاية بحيث يمكنهم بضغطة زر واحدة التحول و الإستجابة لصوت الجماهير في لعبة أقل ما يمكن وصفها بالإلتفاف على رغبات الجماهير في الديمقراطية ، و لكنهم للأسف لا شيء في حساباتهم سوى العودة من الباب الخلفي لقيادة المرحلة القادمة وفق المتطلبات الجديدة .

و من الفساد الإداري القائم على المركزية و المعتمد على المحسوبيات و الولاءات المعهودة إلى سياسةٍ جوهرها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب متبوعة بمفاهيم المراقبة و المحاسبة توحي هذه الأنظمة بإمكانية القطع مع ما فات و التمهيد للبدء بعهد جديد بدا و لعقود طويلة أنه مما لا يمكن لهذه الأنظمة أن تجيده أو أن تمارسه في واقع السياسة و الإدارة و الإقتصاد ، و ذلك انطلاقا من تركيباتها القائمة على اللعب على التناقضات و من طرق تفكيرها المتصفة بالجمود و على ردود أفعالها المعتمدة على منطق القوة الخشنة و حسب .

و من النهب المُمَنْهج لثروات البلاد و التحكم في اقتصادها و إمكانياتها باسم اقتصاد الدولة تارة و باسم العولمة تارة أخرى و باسم الخصخصة تارة ثالثة إلى لغة جديدة قوامها العدالة الإجتماعية و تحقيق النمو على جميع الأصعدة و التشاركية بين القطاعين العام و الخاص و جذب الإستثمارات و إنجاز مشاريع التنمية الإقتصادية و البشرية .

و من إهمالٍ كاملٍ لجميع فئات الشعب و خاصة الشباب منهم الذين يشكلون النسبة العظمى للسكان في جميع هذه الدول و مع غيابهم شبه الكامل في برامج التنمية و إيجاد فرص عمل جديدة تستوعبهم و تفيد من إمكانياتهم إلى الحديث عن خلق فرص عمل جديدة و إقامة مشاريع بنى تحتية طال غيابها .

الأسئلة المهمة التي قد لا تحتاج لإجابة هي : أين كان هذا الكم الهائل من الأفكار و البرامج و السياسات لعشرات السنين ؟ لماذا كانت توجهات و خطط الحكومات المتتالية تصب في غير هذا الإتجاه ؟ أين كانت هذه الخطط من مصالح الشعوب و خصوصا من الطبقات الفقيرة و الكادحة ؟ هل كان هذا من قواعد اللعبة التي قامت هذه الأنظمة على أساسها و رأت فيها وسيلة لاستمرار وجودها ؟

الملاحظ في هذه الطروحات أنها توجه الصفعات المتتالية لتلك الشعوب التي أظهرت أبعد الأمداء للتحمل و الصبر و القبول بهذه الطرق البائدة في الحكم ، و يأتي اليوم نفس من مارس في حقهم أبشع الأساليب في الحكم و الإدارة ليقول لننس الأمس و لنبدأ من جديد على أسس جديدة نقيضة لكل ما سبق ، المهم أن نبقى في أماكننا نحكمكم و نسيطر على مقدراتكم ، فهل ستنطلي اللعبة على الشعوب التي أظهرت حتى الآن وعيا سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و تاريخيا ترك بموجبه جميع التوقعات خلف ظهره و هي ترنو بعيون ملؤها الأمل إلى مستقبل جديد لا وجود فيه للآكلين على كل الموائد و لأصحاب فتاوى ما يطلبه الجمهور و لمن يحاول مسك العصا من المنتصف أي مكان سوى مزابل التاريخ و قوائم العار ؟

ينبغي علينا ألا ننسى في هذا المجال أن جميع الأنظمة الحالية هي نفسها التي عايشت عصر الشيوعية و تبنت الفكر الإشتراكي خلاله ، و كانت من الشاهدين على مرحلة نهاية الحرب الباردة و أوحت أنها خرجت منها منتصرة و كأنها كانت أحد أطراف المعركة ، ثم انتقلت ظاهريا من النظام الإشتراكي إلى النظام الإمبريالي و منه إلى الليبرالية الجديدة في إمكانيات فائقة على التأقلم الحربائي الذي يجيد تغيير الألفاظ و اللعب على التعبيرات و يبقي الأوضاع على الأرض على حالها ، هذه القدرة الفائقة قد تثير التعجب و لكنها لم تنل و لن تنال أدنى قدر من الإحترام و الإعجاب .

ألا يتجاوز الأمر عند هؤلاء الذهاب إلى السوق و شراء المرء ما يحتاجه ؟ فبنفس النقود التي في الجيب يمكن للمرء شراء هذا الشيء أو ذاك ؟ أم أن الأمر مبني على قناعات و ثقافات و بنىً و آليات و قبل كل شيء على متطلبات الجماهير التي لم تعد ترضى بمثل هذا السخف ؟ ألا يشكل هذا بحد ذاته الجوابَ الأوفى لعدم جدية هذه الحكومات و باستهانتها بالجماهير و برعونة رؤيتها للأمور ؟ ألا يعبر هذا قبل كل شيء على الرغبة بالإستمرار في نفس النهج ؟

هل يمكن للشعوب العربية أن تعتبر هذه المبادرات كإعلان توبة عما اقترفته هذه الأنظمة بحقها ؟ إذا كان الله قد وعد العباد بقبول التوبة قبل أن تغرغر النفس فهل ستقبل هذه الشعوب توبة حكامها ؟ أم أن هذه الحكومات قد بلغت مرحلة الغرغرة من منظور شعوبها ؟ أم أنها لربما قد تجاوزتها منذ آماد بعيدة ، إلا أن منسأة سليمان - العصا البوليسية - كانت توحي بسريان بعض الدماء في شرايينها و ببعض مظاهر الحياة تدب في أعضائها ؟ أم أننا سنرى برهانا على أن الله يحيي العظام و هي رميم ؟

لماذا نخاف من الديمقراطية ؟

أظن أن أول ما يخطر ببالي في محاولة الإجابة على هذا التساؤل الكبير هو أن الإنسان عدو لما يجهل - و لا أريد الدخول هنا بجدالات عقيمة عن أن الديمقراطية من الغرب و نحن لدينا الشورى و ما يصلح للغرب لا يصلح لنا فقد كتبت عن هذا الموضوع مئات المقالات و الكتب و عقدت ربما عشرات الندوات - لأن الكثيرين منا لا يعرفون مالمقصود بالديمقراطية و يخلطون بين الديمقراطية كمنطلق و بينها كوسيلة ، و لأن الأغلبية منا لم يسعدها القدر للأسف بمعايشة تجربة ديمقراطية صحية ليرى غنى و جودة هذا الجو الذي يستطيع فيه كل فرد التعبير عن نفسه و رؤية الآخر المختلف بجانبه و هو يعب أيضا عن نفسه دون أية غضاضة أو انتقاص .

ربما نخاف من الديمقراطية لأننا نتبنى فكرا عنصريا ، لأن من أهم متضمنات الديمقراطية أن البشر متساوون و يتمتعون بنفس الحقوق و تجب عليهم بالمقابل نفس الواجبات ، و عندما يخاف أحدنا من هذه المبادئ الإنسانية العامة و المشتركة التي تقول لنا أنْ لا أحدَ أفضل من أحد ، فلا يمكن أن يعني ذلك مع محاولة تحسين الظن إلا أننا ننطوي على شعور بالإستعلاء نحو الآخر مع ملاحظة أن الآخر في هذه الحالة هو الشريك في الإنسانية أو في الأمة أو في الوطن أو في المدينة أو في الحي أو في المؤسسة أو في النادي أو في أية خلية مجتمعية مهما صغرت .

ربما نخاف من الديمقراطية لأننا نكره التنوع الذي هو سنة الله في الخلق و نكره الإختلاف الذي هو إرادته في التاريخ و نكره الإعتراض الذي يجسد تعبيرا عن حرية الإنسان في الإختيار التي من أجلها خلق الله الإنسان ، برفضنا الديمقراطية نقرر الإستغناء عن التنوع في الطبيعة الذي يغني حياتنا و يبهج نفوسنا و القضاء عليه في عالم الإجتماع و السياسة لأننا نظن أنه سيضعفنا . و ربما نحن نكره التنوع لأننا نخلط بينه و بين الشذوذ ، كما أننا نكره الإختلاف لأننا نخلط بينه و بين التخالف ، كما أننا نكره المعارضة لأننا نخلط بينها و بين الهدم .

ربما نخاف من الديمقراطية لأننا استكماليون و نتبنى عقيدة "إما كل شيء أو لا شيء" ، فالديمقراطية كأسلوب في الحياة تقول لنا أننا مازلنا على طريق التكامل - و لربما لن نبلغ النهاية المثلى بما أن الأمر مؤسس على التطور و التغيير - و لم نبلغ النهاية بعد بينما يرى الإستكماليون أن كل شيء ناجز وعلى خير مايرام و ما من ضرورة لأي حراك اجتماعي أو سياسي .

ربما نخاف من الديمقراطية لأننا دوقماطيقيون ننطلق من الإعتقاد الجازم واليقين المطلق بأحقية مواقفنا دون الاستناد إلى براهين يقينية ، و بإنكار الآخر و برفضه باعتباره على باطل مطلق و الذي يعني أنه لا مكان عندنا في ألوان الطيف إلا للأبيض و الأسود ، و لا مكان في مجال الأفكار إلا للصح و الخطأ ، و لا مكان في الولاءات إلا لمع أو ضد "عقيدة بوش" ، و لكن ألا يعني هذا أننا لا نترك أي فرصة لادعاءاتنا اليقينية هذه أن تتفاعل و تتطور و تثبت أحقيتها و جدارتها على أرض الواقع لأننا نقف موقف الرافض من التلاقح الفكري .

ربما نخاف من الديمقراطية لأننا نحب القيام بدور الوصي على الآخر "القاصر" لأننا نعرف ما هو جيد بحقه و ما هو سيء ، و نعرف صالحه و مصالحه أكثر منه ، أي أن الآخر لم يبلغ الرشد و يحتاج لمن يقوم مقام الوصي على مقدراته حتى يحين الوقت الذي يصبح فيه مؤهلا للقيام بأمره ، و لكننا نعمل خلال هذه الفترة على تأخير هذا الحين و ربما الإجتهاد على ألا يحين أصلا استبقاءا للأمور على حالها بين رشيد "دائما" و قاصر دائما" ، و لا ننسى أن الآخر قد يكون في بعض الأحيان هو مجموع الأمة ، أظن أنه لا يمكن وصف مثل هذه الدعوى بأقل من السُّبة لمجموع الأمة التي ستضيع إذا تُرِك لها تقرير أمرها .

ربما نخاف من الديمقراطية لأننا نظن بأننا "الأصلح" من غيرنا للقيام بأمر ما بينما لا يتمتع غيرنا باللياقات اللازمة لذلك ، أي أننا ننطلق من حيث ندري أو لا ندري من فكر إقصائي يجعلنا نخاف كثيرا من الفكرة عندما نحاول و لو لوهلة قصيرة أن نضع أنفسنا محل الآخر الذي أقصيناه فيجتاحنا الخوف من أن تنقلنا الظروف و الأقدار إلى الطرف الآخر من المعادلة ، و لأننا ننسى أننا لو كنا نعمل وفق المبادئ الديمقراطية فإنه لن يكون ثمة مجال للإقصاء و إنما المشاركة هي عماد الأمر ، مرة بالإمساك بالمسؤولية من جهة التنفيذ و مرة أخرى بصفة الرقيب و المحاسب .

أخيرا

ربما نخاف من الديمقراطية لأننا نخاف من الآخر أن يقصينا كما أقصيناه ، و هذا الخوف مبني أساسا على كل ما سبق ذكره ، فهو مبني مثلا على تاريخنا الطويل بالتعامل السيء مع الآخر و إقصائه و الوصاية عليه و إجباره على تبني أفكارنا على الرغم منه و إعطاؤه شعورا دائما بالدونية و التبعية و عدم الأهلية ، و لكن أليس تغيير هذا عن قناعة تامة منا هو الأفضل من أن يتم تغييره بالقوة مما سيغير الأدوار و يبقينا في هذه الدوامة إلى أن يفعلها أحدهم و هو لا ينظر نظرة وقتية و حسب بل يغادر موضع قدميه ببصيرة تنفذ إلى المستقبل الذي نتمنى أن يكون مشرقا بإذن الله و بفعل الشعوب .

ألا يعني كل ماسبق أننا ننطلق من مفهوم خاطئ من البداية حتى النهاية و على طول الخط لمفهوم المسؤولية ، حيث يرى كل من يخاف من الديمقراطية لأي سبب مما استطعت ذكره أعلاه و لأي سبب آخر ضاق المجال عن ذكره أو لم يخطر لي على بال أن المسؤولية تشريف لا تكليف و أن على المرء حمد ربه أن كفاه هذا الأمر بغيره ؟

اللعنات المتلاحقة

أخيرا أبى "الزعيم" الليبي إلا أن يُلجِئ شعبه إلى الإستعانة بالشريعة الدولية لتتدخل بقواتها من أجل حمايته من بطشه و من بطش المرتزقة الذين جلبهم من خارج البلاد ، أبى ذلك ليضم إلى قائمة منجزاته الطويلة التي يخزى لها جبين أي إنسان شريف حر .

لست أدري إن كانت لعنات الأرض و السماء ، التاريخ و الجغرافية ، البشر و الحجر ، الأحرار و العقلاء ، الشعوب الأبية الكريمة كافية للتعبير عن فظاعة ما يحصل .

فلعنة هؤلاء جميعا على من استمر في حكم شعبه لأكثر من أربعين سنة و لم يكتفِ بما اكتزه من المليارات و بتحويل البلاد إلى مزرعة عائلية تخدم نزواته و نزوات حفنة من الأقارب و الموالين .

اللعنة على من لم يشبِعْه عرق و جوع و ذل الملايين لعدة عقود و أصبحت حساباتهم المصرفية ثقوبا سوداء تأتي على كل شيء مثل جهنم كلما سُئِلت هل امتلأت قالت هل من مزيد .

اللعنة على من يخرج من خلف الجدر ليهدد شعبه بالإبادة و الإفناء إن هم خرجوا عليه و أرادوا المطالبة بتغييره ، ليكونوا مثل غيرهم من شعوب العالم التي تستحق الحرية و العيش بكرامة .

اللعنة على من ينقل تهديداته لشعبه بالإفناء من حيز التوعد إلى الواقع و لا يبالي بالدماء المسفوكة و الدموع المسكوبة و لا بالنداءات المستغيثة .

اللعنة على من يجابه المتظاهرين المسالمين العزل مستخدما أسلحة صممت لخوض أشرس المعارك على الجبهات و تم شراؤها على حساب لقمة عيش الفقراء و قبل كل شيء لاستخدامها ضد عدوان خارجي يريد النيل من حرية الشعب و استقلاله .

اللعنة على من يستعين بأعداء الأمة و يسلم رقاب شعبه للمرتزقة يعيثون في بلاده فسادا و الهدف كله البقاء على كرسي الحكم ، هذا الكرسي الذي يدعي صاحبه بين الجنون و العقل أنه غير موجود و أنه أصلا لا يحكم .

اللعنة على من لم يستجِب لنداءات العقل و أصر لآخر لحظة على المضي بمشوار القتل و الإبادة إلى غايته .

اللعنة على من يحلم بحكم شعبه بعد كل هذه المآسي التي سببها له و هو يمني النفس بأن بلده و شعبه سيكونان بعد هذه المجازر مثلما كانا قبلها .

اللعنة على من أرغم شعبه على اللجوء إلى هيئة الأمم المتحدة و إلى مجلس الأمن طلبا للحماية منه و من توعده بتتبعهم من حارة إلى حارة و من شارع لآخر حتى يفني آخرهم .

اللعنة على من لم يبقِ لشعبه بدا من الفرح لتدخل قوات أجنبية تأتي بقرار أممي لتعينه على حاكمه و تنقذه من بطشه ، و الذي أبى أن يسمع لإرادة شعبه و أظهر بأن لا قيمة عنده لدماءه .

اللعنة على من لم يرضَ من شعبه ما رضيه رب العباد من عباده ، فالله ترك لعباده حرية أي يكفروه بينما قال الطاغية إما أن أحكمكم أو أن أبيدكم .

أخيرا اللعنة على من شاهد كل هذا و يأبى إلا أن يعيدها مع شعبه و يصر على أن يحكم بالحديد و بالنار و ضد إرادة من يحكم و يدعي بعد ذلك أنه إنما يحكم برغبتهم و باسمهم و لمصلحتهم .

آخر الأخير ، ألا ينبغي صب لعنة اللعنات المتلاحقة على أمم و شعوب رضيت و ترضى أن يصل بها الأمر إلى مثل هذا الواقع المرير ، كأن تُحكَمَ ضد إرادتها و لغير مصلحتها و تُسامَ كل ألوان المهانة و الإذلال ؟ ألا تستحق مثل هذه الشعوب التي ترضى أن تحكم بطرق الإقطاعات القروسطية ما يحدث لها ؟ و لكن ألا يعني أن يتسلمَ قيادتها مثل هؤلاء السفاحين و أن يحكموها بمثل هذه الأساليب الإستبدادية و القمعية و الإستغلالية و أن ينهوا تاريخ حكمهم بمثل هذه السيناريوهات الدموية أنها إنما كانت أصلا تعيش و تتقلب في لعنات بعضها من فوق بعض ؟

عندما يحكي الإختلاف تشابها صارخا

تأبى أنظمة الحكم المسيطرة في الدول العربية عند هبوب أول نسمات التحركات الشعبية التي تسود العالم العربي عليها ، و التي أثبتت الأشهر القليلة الماضية أنها نذير تسونامي شعبي عظيم يجتاح المنطقة العربية بكاملها و الذي لا يبقي في طريقه شيئا و لا يذر ، كما أنه لا يترك للمتنبئين و المحللين السياسيين سوى فرص التنبؤ بالقضاء عليها و الإطاحة بها ، تأبى هذه الأنظمة إلا أن تتحف الجماهير العربية بسيناريوهات متماثلة تصل إلى حد التطابق في طريقة ردها على ما يحدث . و هي بذلك تثبت من حيث لا تريد و لا يخطر لها على بال أنها من التشابه إلى درجة توحي بأنها تملك قائمة من الأجوبة الجاهزة و ردود الأفعال المتطابقة ، بحيث يظهر التناقض الفاضح بين الخطاب الإعلامي الذي يصر على عدم وجود أي تشابه بين هذه الدول و بين الخطاب العملي الذي يعكس بلسان الحال تشابها يصل إلى حد المطابقة .

فأول ما تبادر إليه هذه الأنظمة هو التعليق الخافت و الخجول على ما يحدث في البلدان الأخرى لأنه تبعا لوجهات نظرها ثمة مبررات موضوعية و عملية لما يحدث في تلك الدول "الأخرى"، بينما تختفي دواعي وجود هذه المبررات في بلدانها ، فكل شيء على ما يرام و الأمور على أحسن ما يكون و الركود الشعبي و السكون السياسي "خير" دليل على رضا شعوبها و على انعدام أية حاجة ناهيك عن أية رغبة لديها في التغيير ، و بما أن هذه الشعوب لم تعبر بعد عن أية مطالبات - في جو حرية التعبير المتاح لديها - أيا كان نوعها فهذا يعني انعدام وجود هذه المطالبات من حيث الأصل ، و بالتالي فإن نظام الحكم بمنأى عما يحدث في المنطقة . الملاحظ في ردة الفعل هذه التخلي و لأول وهلة و بدفعة واحدة عن الفكرة القومية التي تعني فيما تعني أن لهذه الأمة آلاما مشتركة و تطلعاتٍ و آمالا مشتركة لطالما تغنت بها هذه الأنظمة و عدتها من ضمن مقومات الوحدة العربية التي تجمع العرب من المحيط إلى الخليج .

كل هذه الأنظمة تبدأ باللجوء إلى نظرية المؤامرة الخارجية ، فأول ما تتحدث عنه هو وجود مجموعات شاذة و متفرقة من الشباب تتبنى أجندات خارجية و مدفوعة من أعداء الأمة الذين لا يريدون بها خيرا ، و تريد تقويض الإستقرار السياسي و الأمني للبلاد وفقا لهذه الأجندات ، وقد تضاف إليها سمة أنها مجموعة تم التغرير بها و هي "جاهلة" و لا تعرف ما تفعل ، يضاف إليها في بعض الأحيان الإدعاء بوجود المندسين الذين يسيؤون للجماهير المتظاهرة و يستغلون مطالبهم "المشروعة" بالتغيير - بالطبع يمكن الإشارة هنا على سبيل الفكاهة أن اتهام القذافي الثائرين الليبيين بتلقيهم حبوب الهلوسة ظاهرة قذافية بامتياز - و هي بهذا تحاول محاولة مكشوفة إلى حد فاضح أن تلبس هذه التحركات ثوب التدخلات الخارجية و تبني الولاءات الأجنبية ، و هي محاولة لا تخفي الرغبة باتهامها بالخيانة في الخطوة التالية ، أي أن الوضع الداخلي و الفساد الفاضح و الإستبداد المستغرق كلها أمور لا تستدعي بأي شكل و لا بأية صورة قيام أي حراك شعبي للمطالبة بأية تغييرات سياسية أو اقتصادية أو إدارية.

الخطوة التالية التي يخرج بها النظام على الشعب الثائر و المتظاهرين هي الإدعاء بأن لبلده خصوصيةً تميزه عن البلد العربي "الآخر" ، و أن ما حصل في ذلك البلد لا يمكن أن يحصل في بلده انطلاقا من هذا الإختلاف الإدعاء ، و بالطبع في هذا الكلام الكثير من الحق لأنه لا يوجد بلد في العالم يماثل بلدا آخر و لربما لا يوجد إنسان في العالم يشبه آخر من كل وجه ، و لكن الذي لا شك فيه أيضا أن جميع البشر متماثلون من حيث هم بشر و عرضة لنفس الظواهر و هم بذلك متماثلون من حيث هم مختلفون . إن الكم الهائل من أوجه التشابه الذي لا يتم التحدث عنه هو أن جميع هذه الأنظمة استبدادية - و لو بدرجات مختلفة - لم تصل إلى الحكم بانتخابات شرعية و هي بالتالي لا تعبر عن شعوبها و عن آمالها ، و هي إضافة لذلك ذات تاريخ طويل في الفشل و الإخفاق على صعيد الإنجاز ، ناهيك عن حجم الفساد المالي و الإداري الفاضح الذي أصبح من ألف باء بل و من أبرز معالم طريقتها في الحكم .

الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا المجال لإثبات أن هذا النظام أو ذاك لا يشابه غيره من الأنظمة الحاكمة هي : هل سيسعدنا القدر بأن نرى ردة فعل من أحد هذه الأنظمة يثبت فيها مدى اختلافه لأبعد الحدود عن غيره و مدى اختلاف ردة فعله عن ردود أفعال غيره من الأنظمة ؟ بكلمات أخرى : هل سيخرج أحد زعماء الأنظمة السياسية المتبقية و يفاجئ شعبه الثائر باعتذار عن سوء الأحوال و الإقرار بفشل سياسته و يتبعها بقرار تاريخي بالتخلي الفوري عن الحكم ؟ هل ستحدث سابقة من هذا النوع "و من الخطاب الأول و اللحظات الأولى" يقول فيها أحد هؤلاء الزعماء بأني كنت أحكم و أني كنت مستعدا للبقاء في كرسي الحكم اعتمادا على استكانة شعبي و ركونه للأوضاع و لعدم إبدائه أية رغبة في التغيير - ما قد يمكنه تبريره بأنه انعكاس للرضا و القناعة بالأمور - أما و قد ظهرت بوادر التململ و طلبات التغيير و التي ستتبعها بالإستقراء لما حدث حتى الآن مظاهرات و اشتباكات و ربما عنف و قتل و غيرها مما يؤسف له ، فإنني سأترك مقادير الحكم و أغادر هذا الكرسي بكل سلام و اطمئنان ؟ هل سيحاول أحد هؤلاء الزعماء أن يدخل التاريخ من هذا الباب ؟ هل سيعمل أحد من هؤلاء الزعماء على إرباك الجماهير الغاضبة و إدخالها في حيص بيص عندما يبادر بمثل هذا الموقف غير الداخل في حسابات أي من شعوب المنطقة ؟

هل ستسعدنا الأحداث الجارية بحالة أو أكثر يقرر فيها رأس النظام الحاكم التصرف "بحكمة" - تنطلق من تعريف الحكمة أصلا التي تعني فيما تعنيه النظر في عواقب الأمور و أدبارها - و يترك على أساسها كرسي الحكم موفرا على شعبه رحلة طويلة من العذابات و التضحيات المعروفة العواقب مقدما ، لأن كل الأحداث التاريخية تظهر أن الشعوب هي التي تنتصر و أن الأمر لا يعدو أن يكون أمر وقت و بذلك أيضا عدد الضحايا التي سيتطلبها الوصول إلى هذه النهاية المنطقية ؟ خاصة و أن الشعار الذي تطرحه هذه الثورات سلمي للغاية يكتفي من نظام الحكم بمجرد الرحيل ، أي أن النظام الحاكم يعطى فرصة الرحيل و التمتع بالمليارات التي تم نهبها على مدى عشرات السنين بعدما مكنته الظروف من الحكم دون رقابة أو محاسبة على طول هذه المدة .

ثمن النفط العربي الباهظ !

منذ اكتشاف النفط بكميات هائلة في أواسط القرن الثامن عشر في المنطقة العربية و الخليج العربي و منذ تحوله إلى سلعة استراتيجية تقوم عليها الكثير من الصناعات الهامة في دول العالم الصناعي المتقدم ، حيث بالنفط تدور عجلات وسائل النقل و به تعمل الكثير من محطات توليد الطاقة الكهربائية ، و حوله تتمحور معظم ملفات استراتيجيا السياسة الدولية و بسببه تحظى هذه المنطقة على اهتمام دولي منقطع النظير . الملفت للنظر أن معظم عائدات هذه الثروة لا تعود على أبناء المنطقة بالخير الكثير بسبب خضوع دول هذه المنطقة لأنظمة حكم تعمل على تكديس عائدات النفط في حساباتها و تعود بالفتات اليسير على شعوبها و على بنية بلدانها التحتية - مع ملاحظة وجود بعض الأنظمة التي تنفق بشكل سخي على بلدانها كثمن لسكوت شعوبها على فسادها المالي و السياسي و تبعيتها الفاضحة للمصالح الغربية - و بسبب قناعاتها بعدم تأمين حياة رخية لشعوبها التي ستتفرغ عندئذ للتفكير بأنظمة الحكم و شؤونها السياسية و الإقتصادية التي تدار مقاديرها و مقدراتها وفقها و ربما في مرحلة لاحقة إلى السعي للمبادرة بالسعي لتأسيس أنظمة حكم يكون للجماهير المحكومة فيها الكلمة الأساس و يدخل فيها عناصر تنتمي إلى أبجديات السياسة الحديثة مثل حق - واجب - الإنتخاب و المراقبة و المحاسبة ، حيث ترسخ للأسف الشديد على مدى قرون أن هذين الأمرين غير ضرورين في الحياة السياسية و الإقتصادية للمنطقة ، لأن السياسة ليست من الشؤون التي ينبغي على الجماهير أن تشغل بها نفسها لأنها من مهام ولي الأمر و من مهام السياسيين - تجدر الملاحظة هنا إلى أن النذر اليسير من أنظمة الحكم في المنطقة يمارس السياسة بمفهومها الحديث و يمكن اختصار ما تقوم به و لمدة عقود بالمحافظة على وجودها في السلطة و على إبقاء الأمور على حالها و بالسيطرة على مقدرات البلاد - و الذين يطلق عليهم في الغالب ولي الأمر .

الشعوب العربية تدفع ثمن النفط للمرة الأولى من حريتها و من مستقبلها بسبب ارتهان سياسات بلدانها لاستراتيجيات دولية تخضع السياسات المحلية و تكون تابعة لها ، فانعدام المشاركة السياسية في هذه المجتمعات يؤدي إلى سيطرة الفئات الحاكمة و بالتعامل - التواطؤ - مع الدول الإستعمارية - على الرغم من القناعة السائدة بانتهاء هذه المرحلة التاريخية - يعني في الواقع عدم اشتراك الشعوب في السياسات التي تنظم البرامج الإقتصادية التي تعنى بالأمور النفطية ابتداءا من التنقيب و الإستخراج و التصنيع و التصدير و آخر هذه القائمة . تجدر الإشارة إلى أن الشعوب العربية كاملة تشترك في دفع هذا الثمن سواءا أكانت نفطية أم لا ، أي أن هذه اللعنة تعم جميع الدول بسبب موقع المنطقة الجيوسياسي .

المرة الثانية التي تدفع فيها الشعوب العربية هذه الفاتورة الباهظة الثمن هي عندما لا تتم إعادة عائدات النفط كي يتم استثمارها في الإنسان و في البنى التحتية لهذه البلدان و ذلك بسبب أن مبالغ كبيرة من هذه العائدات تختفي في حسابات شخصية لحكام هذه البلدان و عائلاتها - و هذا مرتبط بنظم الحكم الأسرية لأغلب الدول النفطية - أو في حسابات خارجية بحيث تحرم البلدان النفطية من استثمار هذه العائدات و بالتالي تحرم شعوبها من التمتع بهذه الثروة .

المرة الثالثة التي يتوالى فيها مسلسل الدفع هو ارتباط أغلب أنظمة حكم الدول النفطية باتفاقيات غير متوازنة مع في الدول الصناعية - المستوردة للنفط العربي - يتم وفقها عقد صفقات لشراء أسلحة بأرقام أقل ما يمكن وصفها بها هو أنها خيالية ، و المضحك في الأمر أنه لا يوجد ما ينم عن أن لهذه الدول أي معارك محتملة أو أي عدو واضح المعالم يمكن استخدام هذه الأسلحة في مواجهته ، و الأمر المبكي هو أن مصادر كثيرة تكشف من فترة لأخرى عن حجم الفساد المالي - من رشاوى و تزوير في الأسعار و في الكميات - الذي يحيط بهذه الصفقات .

المرة الرابعة التي يجبر المواطن العربي على دفع ثمن النفط هي أنه عندما يطالب ببعض الحريات السياسية و الإقتصادية مثل نصيبه من هذه العائدات لوضعها في البنى التحتية أو الإستثمارات الداخلية فإنه يجابه بالرد الأمني من أنظمة الحكم بواسطة الأسلحة التي دفع ثمنها من عائدات النفط و بغطاء سياسي من الدول المستوردة لهذا النفط - مصدرة الأسلحة في نفس الوقت - التي وطنت سياساتها على وجود هذه الأنظمة السياسية التي تجيد كل أنواع الفشل في خدمة قضايا مواطنيها و بلدانها وتحافظ على أرقى العلاقات معها و في جميع المجالات .

ربما المرة الأخيرة التي يتفرج المواطن العربي على ثمن النفط و هو يتسرب من حسابات البلدان النفطية و من حسابات و استثمارات أنظمة الحكم هي عندما يسعده القدر بالتخلص من هذه الأنظمة بثورات شعبية كالتي نعايشها هذه الأيام ، و يتم الحجز على هذه الأموال و الإستثمارات كي تغيب و ربما للأبد - كما تدل الخبرات التاريخية مع الأنظمة المصرفية العالمية - و لا ترى الشعوب إلا أجزاء يسيرة منها ، لتكون النتيجة المرة أن لا أحد قد استفاد من هذه العائدات سوى الدول المتقدمة و مصارفها و معامل أسلحتها ، و تم حرمان كل من الأنظمة السياسية و المواطن منها .

هل يمكن أخيرا التحدث عن النفط كنعمة ؟ هل يمكننا تصور كيف كانت ستكون حالة المنطقة لو عدمت هذه النعمة؟

هل تجيد أنظمة الحكم العربية إدارة الأزمات ؟

تدل الثورات الشعبية التي تجتاح العديد من الدول العربية و الطرق المختلفة التي افتجرتها أنظمة الحكم للتعامل معها في هذه الدول على افتقار هذه الأنظمة لحسن التدبير و انعدام الحس التاريخي بمجرى الأمور لديها . و إذا أراد المرء أن يحاول البحث عن بعض العوامل و الأسباب التي تتيح بعض إمكانيات الفهم لهذه الظاهرة فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن هذه الأنظمة استكانت إلى فكرة السكون التي سادت المنطقة العربية لعدة عقود مضت ، الأمر الآخر هو استبعادها الكلي لفكرة قيام أي نوع من الثورات و ركونها إلى الطرق التقليدية التي سيطرت على تغيير أنظمة الحكم و التي تتمثل إما بالإنقلابات العسكرية التي قفز أغلب هؤلاء الحكام على كراسي الحكم وفقها أو بتغييرات صورية لا تمت بأية صلة لأي نوع من الحراك السياسي ، و هم قاموا لأجل هذا الأمر بعمليات تنظيف مستمرة لصفوف جيوشها من كل من يمكن أن يتوقع منهم الطموح أو التطلع إلى مثل هذه الأفكار . يمكن أن يضاف إلى هذه العوامل أن المرء الذي يفاجأ بأمر لم يكن بالحسبان غالبا ما تكون استجابته شديدة الإرتباك و يتبدى هذا الإرتباك على مستوى السرعة و على مستوى الطريقة و أخيرا على مستوى المحتوى .

على مستوى سرعة الإستجابة تبدأ العملية بالتجاهل التام لكل ما يجري في الشارع و يتم التحدث في وسائل إعلامها الموجه عن أمور لا علاقة لها بأحداث الساعة لتقول بلسان الحال أنه لا يحدث أي شيء و كل الأمور على أحسن ما يرام . فنقل حفلات غنائية أو مباريات كرة قدم بينما الملايين في الشوارع و المئات يضحون بدمائهم لا يمكن إلا وصفه باستنكار هجين ، يجعلنا هذا السلوك نتذكر سلوكات مماثلة للأطفال عندما يجابهون و هم يرتكبون خطأً ما فتكون استجابتهم أن يبادروا بنفي ارتكابهم هذا الخطأ قبل أن تلقى التهمة إليهم أو يجابهوا بالسؤال عن ذلك .

على مستوى طريقة الإستجابة يجابه المرء بسلوكات أقل ما يمكن وصفها بأنها تأتي خارج السياق و لا علاقة لها بالماجريات أو بالأحداث أو بالمطالب التي خرجت الشعوب من أجلها إلى الشوارع ، يرغمنا هذا السلوك على استدعاء سلوكات الأطفال مجددا عندما يجابهون بالسؤال عما إذا كانوا قد ارتكبوا خطأ ما فتكون إجابتهم بمحاولة اللف و الدوران حول الموضوع و الرد بأسئلة ارتدادية للفت النظر عن الأمر محل النقاش .

أما فيما يتعلق بالمحتوى فعلى الرغم من الإختلافات التي تعود إلى الإختلافات التي تميز هذا القطر العربي عن القطر الآخر و تبعا لفترة التسلط و نوع و درجة الفساد التي تطغى على هذا النظام أو ذاك و اعتمادا على تركيبات المجتمع الإثنية و الدينية في هذا القطر أو ذاك إلا أن محتويات الإستجابات المختلفة لهذه الأنظمة تشترك بالبدء بالإتهمات لفئات مدفوعة و جهات خارجية بالسعي لزعزعة أمن البلاد و بالعمل لحساب أجندات خارجية متبوعة في المرحلة التالية بتقديم التنازلات على جرعات صغيرة - الذي يعني الإعتراف الخجول بالتغيرات الحادثة - و مخففة بشكل كبير اعتمادا على النقطة السابقة التي تسم طريقة الإستجابة بالبطء الشديد . باستمرار ضغط الجماهير تأتي جرعات التنازلات التالية مشفوعة بأمل كبح هيجان الشارع و لكنها تبقى دون المستوى المطلوب بسبب دائرة الفراغ التي أدخل النظام الحاكم نفسه في أتونها لعلمه أن سقوطه لن يكون نهاية لمرحلة معينة بأي شكل من الأشكال و إنما بداية لمرحلة تالية قوامها المحاسبة و هو أمر تجنبته هذه الأنظمة طوال فترة تواجدها في السلطة لأنها انطلقت من مسلمة البقاء في الحكم للأبد ، و تعلم يقينا أن فتح دواوين المحاسبة و هي قد أرغمت على التخلي عن السلطة سيكون أقسى بأضعاف مضاعفة من خلعها من كراسي الحكم و ذلك بناء و قبل كل شيء على ما تعلمه من نفسها عن سجلاتها داكنة السواد في مجالات حقوق الإنسان و الفساد المالي و السياسي ودواوين الفشل التي لا يمكن معرفة بدايتها من نهايتها .

أخيرا تنبغي الإشارة هنا إلى أن أنظمة الحكم الفاسدة و الدكتاتورية في العالم العربي - و في إطار عدم استعدادها للأزمات التي تهز استقرارها - تسدي إلى شعوبها مساعدات لا تقدر بثمن عندما تظهر بعد أول و أبسط هزة تتعرض لها على أنها تخفي عن بنية أبعد ماتكون عن نظام دولة و لا تذكر ردات فعلها إلا بتصرفات العصابات والبلطجية و أولاد الشوارع ، و إذا بالسكينة و البرود المعتاد في حالات السكون يكشر عن عصابة لم تعرف في يوم من الأيام أدنى درجات اللياقة أو الحكمة و الأهم من ذلك كله جهلها بألف باء السياسة و التقاط خط التغيرات التاريخية التي تعصف بها و هذا مرده عودا على بدء إلى حالة السكون و الإستقرار - بالمعنى السلبي - و الجمود التي وطنت نفسها عليها منذ البداية و حاولت إبقاء شعوبها وفق هذه الرؤية لأطول مدة ممكنة .

فوضى المعجم السياسي العربي

أظهرت التغيرات السياسية و الإنقلابات و الثورات الشعبية الأخيرة المتلاحقة في أغلب الدول العربية كما هائلا من الفوضى في عالم المصطلحات و المفاهيم السياسية ، و بغض النظر عما إذا كانت هذه الفوضى متعمدة أو غير متعمدة أو عما إذا كانت ناتجة عن عدم معرفة في بعض الأحيان أو عن غموض فعلي في أحيان أخرى ، المفاجئ أن هذا الأمر لم يقتصر على متحدثين غير اختصاصيين للأسف و إنما امتد ليصل إلى ذوي الخبرة و التخصص ، فعندما يتم التحدث عن الدولة تبدأ الأمور و المفاهيم بالتداخل مع غيرها من المفاهيم ليتم الإنتقال و بدون مقدمات إلى الحكومة و بسرعة فائقة إلى أجهزة الدولة و من ثم إلى البلد . و عندما يتم التحدث عن النظام يتداخل مفهوما النظام بمعناه المقابل للفوضى و النظام بمعنى الحكومة التي تمسك بزمام الأمور و التي بدورها تحمل مفهوما يتداخل مع مفهوم الدولة و هكذا يضطر المتحدث أن يشرح المصطلح الذي يستخدمه في محاولة متكررة لإزالة الغموض الناتج عن هذا التداخل و الإزدواج في المعاني و في الإستخدامات

فعلى العكس مما تحمله كلمة "دولة" من معان في الكثير من لغات العالم و التي تحمل في ثناياها معاني الإستقرار و الثبات "ستات" نجد أن معنى هذه الكلمة في لغتنا العربية يفيض بمعاني التغير و التنقل و التحول "تداول" ، مما قد يلقي بعض الضوء على ما استقر في الوجدان السياسي العربي على أن الدولة مما يعتريه التغير و التلون خاصة و أن تاريخنا السياسي و السلطوي يدعم هذا التصور الذي كانت تنسب فيه الدولة إلى عهد قريب إلى الأسرة الحاكمة و يتغير اسم هذه الدولة بتغير الأسرة الحاكمة بل بتغير الحاكم في بعض الأحيان . كان الأمر سيكون رائعا لو دلت هذه الكلمة علىى تداول السلطة وفق تقنيات معينة و ليس على تداول البلد و نظام الحكم بكامله .

مما قد يسهم في توضيح الأمر أن الدولة العربية الحديثة و التي لا يصل عمر أقدمها من القرنين والتي خضعت أغلبيتها للإستعمار - الإستخراب - الأوروبي و لفترات تختلف من قطر لآخر و من نوعية استخرابية لأخرى تبدأ بالإنتداب و الوصاية و تنتهي بالإستيطان و بدأت بعد استقلالها تتحسس الطريق إلى بناء مؤسساتها عبر انقلابات عكسرية جاءت برجال الجيش إلى السلطة و أبقت عليهم بصورة أو أخرى ، بحيث امتدت مرحلة غياب الدولة و مؤسساتها الحقيقية بشكل كامل تقريبا عن الحياة السياسية حتى يومنا هذا ، و لتستمر بذلك فوضى المعجم السياسي ، و قد غابت في هذه المرحلة بشكل كامل تقريبا البرلمانات الممثلة لإرادات الشعوب كما اختفت ظاهرة تعدد الأحزاب التي تكون مصحوبة بشكل تلقائي بأحزاب معارضة و أخرى مؤيدة و بمؤسسات المجتمع المدني و بوسائل الإعلام المستقلة التي تثري بمهمتها كسلطة مستقلة الحراك السياسي و تفتح للرقابة الباب و للمواطنين النوافذ للإطلاع على ما يجري خلف الكواليس .

إذا انتقلنا إلى مفهوم "المسؤول" فسنجد أيضا ضبابية تغشى هذا المصطلح فانطلاقا من الإشتقاق اللغوي الذي يعني الشخص الذي يسأل بصيغة المفعول أي الذي يقع عليه السؤال وهذا سيتطابق بشكل رائع مع المعنى المأمول في الديمقراطيات الحديثة بل و حتى في مجال الأعمال و الوظائف الحياتية العادية و يمتد للطلبة في الجامعات و للتلاميذ في المدارس و للعمال في الحياة المهنية و الذي يعبر في النهاية عن مبدأ راسخ و هو أن كل من يفعل أي شيء يتحمل مسؤولية ذلك العمل و بالطبع نتائجه المترتبة عليه ، أي أن الموظف الذي يتحمل مهمة سياسية ينبغي أن يخضع للمساءلة القانونية على أفعاله و قد يخضع بعدها للمحاسبة في حال ثبوت تقصير او فشل ما . و عند مقارنة هذا المفهوم مع ما يعنيه في السياسة العربية نجد أن المفهوم السائد هو ذلك الشخص الذي يتمتع بصلاحيات تجعل تصرفاته فوق المساءلة و فوق ذلك تجعل صاحبها يتمتع بامتيازات وحصانات متعددة تجعل البون واسعا للغاية بين الواقع و النظرية .

من جملة الأمور التي ظهرت فيها هذه الفوضى المعجمية أيضا أنه عندما يتم التحدث عن الحزب الذي بيده السلطة - بغض النظر عن طريقة وصوله إلى السلطة و التي هي في الغالب غير دستورية - يتم التحدث عن الحزب الفلاني الحاكم لتصبح هذه الصفة الطارئة و الناتجة عن وضع سياسي حالي أو توازن قوى سياسية معين صفة ملازمة و تضاف إلى إسم الحزب ، على الوجه المقابل تلصق صفة الحزب المعارض إلى الأحزاب التي لم تدخل في السلطة التنفيذية لسبب أو آخر و عندما تدخل هذه الأحزاب في أية حكومة نرى أن صفة "المعارض" تلازمها لتصبح جزءا من اسمها ، الأمر الأكثر سخرية هو أن تلازم بعض الأحزاب و الحركات صفة "المحظور" لتصبح أيضا جزءا من اسمها و ليس صفة عارضة ناتجة عن وضع سياسي معين . و يمكن القول في النهاية أن هذه الفوضى و السكون في الصفات الملازمة للأحزاب السياسية خير شاهد على حالة السكون و "الإستقرار" السياسي الذي يسود المنطقة العربية منذ عدة عقود .

آخر ما يمكن أن يشار إليه في هذا المجال هو سمة تستدعي الضحك و البكاء في آن عندما تكون من مفردات السياسة التي تصف العلاقة الرابطة بين الحاكم و المحكوم مع بدايات القرن الواحد و العشرين ، ففي أغلب الدول العربية تلقى على هذه العلاقة الصفات التي تنطبق على علاقة الأب و الإبن و بالتالي فإن الناظم الذي سيتم التحدث عنه في هذه العلاقة سيتمحور حول الطاعة و العصيان ، الرضا و العقوق ، الحب و الكراهية ، و تغيب بذلك أدنى المعايير المنظمة لعلاقة الحاكم و المحكوم و يتم التنازل عن مبادىء أساسية تنظم هذه العلاقة مثل الإختيار و التمثيل و الرقابة و المحاسبة والمواطنة و المحكومية ، خاصة إذا تم - و هذا ما يحدث في الغالب - إسقاط مواصفات علاقة الأب بأبنائه في مجتمعاتنا الشرقية و التي يسود فيها مبدأ الجبرية و الطاعة و التملك و التبعية ، و تغيب الصفات المثالية التي تسود هذه العلاقة في عالم الفطرة مثل الحنو و التضحية و الفداء و الإيثار بشكل تبادلي في العادة و ربما بكفة تميل لصالح الأبناء على حساب الوالدين .

شروط نشر الأعمال الفنية و الأدبية (المؤلفة أو المنقولة) فى أوسترو عرب نيوز :

عدم التعرض إلى (الذات الإلهية) .. الأديان السماوية .. المذاهب الدينية .. القوميات .

عدم التعرض بالسب أو الانتقاص من شخصية خاصة أو اعتبارية  .. بشكل مباشر أو بالتورية حال النقد .

أن لا ينشر فى أي وسيلة إعلامية صادرة بالعربية من النمسا .. خلال فترة النشر بـ أوسترو عرب نيوز .

أن يضمن المؤلف أو المراسل نشره فى النمسا مذيلا بعبارة : منقول عن أوسترو عرب نيوز (كلمة شرف)

ما ينشر في أوسترو عرب نيوز .. يعبر عن رأي كاتبه أو ناقله أو راسله ..
أوسترو عرب نيوز .. لا تتحمل المسئولية الأدبية أو القانونية .

أوسترو عرب نيوز .. تهيب بحضراتكم الإبلاغ عن أي تجاوز .. لعمل الإجراء المناسب على الفور .. بالحذف مع الاعتذار .

أعلى الصفحة


الموقع غير مسئول عن تصحيح الأخطاء الإملائية و النحوية

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رئيس التحرير : أيمن وهدان




أخبار عرب النمسا