صدقني، صار ينبغي أن ترحل!
ربما ستكون مطالبتي برحيل
النظام السوري من جملة عدة آلاف بل
والملايين من المطالبات من جميع أنحاء
العالم والتي تنهال عليه منذ أكثر من سنة
ونصف، فمالذي يمكن أن تضيفه هكذا مطالبة
من مواطن سوري يعيش في الغربة منذ أكثر من
عشرين عاما، ومالذي ستحمله من وسائل
الإقناع الجديدة؟ أظن أنه يمكنني أن أسرد
بعض الأسباب التي لم تخطر على بال
الكثيرين والتي لاتدخل عادة في حسابات
السياسة أو في موازنات السياسيين:
لن يمكن لأي متابع لأحداث
الثورة السورية المجيدة ولطبيعة رد فعل
النظام الإجرامي عليها إلا أن يكون قد
تفاجأ بالكثير أوالقليل، فالمفاجأة الكبرى
تتمثل في هذا الإصرار غير المسبوق من
الشعب السوري البطل على إنجاح ثورته
وإيصالها إلى أهدافها التي إرتأتها منذ
البداية في التخلص من الدولة الإستبدادية
ومن الحكم الأوليغارشي الذي خضعت له منذ
أربعين سنة، أقل ما يقال عنها بأنها سنين
عجاف أتت على كل مناحي الحياة السورية،
هذا الشعب البطل - الذي ظن الكثيرون وأنا
منهم للأسف أنه لن يبدي حراكا مهما فعل
هذا النظام به - يصر على دفع الثمن الباهظ
من حيوات خيرة أبنائه وبناته ومن بنى
تحتية ومدخرات ويأبى التراجع وقد صدق أحد
شعارات ثورته "الموت ولا المذلة"، لأجل
هذا الشعار عليك أن ترحل إذ لن يهزم شعب
إتخذ مثل هذا القرار ولن يعود شيء في
سوريا إلى سابق عهده!
المفاجأة الأخرى تكمن في
رد فعل النظام الحاكم الذي تعجز الكلمات
والتعابير اللفظية عن وصفه، إذ ظن
الكثيرون وأنا منهم أيضا أن ردة فعل
النظام ستكون إجرامية عنفية وإنتقامية إلى
أبعد الحدود، ولكني أعترف اليوم أن هذا
النظام قد تجاوز تصوراتنا جميعا في
الإجرام وفي القدرة على التدمير وأن
الحدود التي ظنناها حدودا قد تم تجاوزها
بأمداء بعيدة، ربما يعود ذلك إلى
معلوماتنا المتواضعة - والحمد لله - عن
أساليب التدمير والإجرام التي حكم القدر
علينا بمعايشة بعضها، فمن العدوانات
الإسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني
البطل إلى الغزو الأمريكي الغربي للعراق
الحبيب في 2003، إلى عدوان إسرائيل في
تموز 2006 على جنوب لبنان، إلى غير ذلك من
الحروب، وهكذا يرى العالم - وأغلبه إكتفى
بدور المتفرج - جرائم النظام بحق السوريين
وهو يرفع سقف جرائمه يوما بيوم بدنو
مستواه الخلقي والإنساني طبعا، مترافقة
بصيحات السوريين بأن إسرائيل لم تجرؤ على
إرتكاب مثل هذه الجرائم بحق إخواننا
الفلسطينيين أو اللبنانيين، ربما يجب
التشديد هنا على أنه لا ينبغي لأحد أن
يخفف من طبيعة العدوانات الإسرائيلية ولا
أن يقلل من جرائمه المتكررة والتي يعتبر
الإحتلال لوحده أحد كبرياتها، لقد هزتني
صيحة أحد المعارضين المتحدثين على قناة
فضائية بمطالبته بتدخل أجنبي أي كان
لإنقاذ الشعب السوري وتابع قائلا أتركوا
سوريا تحتل من أية قوة لأنها ستكون أرحم
من هذا النظام، لذلك عليك أن ترحل!
المفاجأة الكبيرة والثالثة
في الثورة السورية تكمن في هذا التواطؤ
والإجماع العالمي - سواءا في ذلك إذا تعلق
الأمر بأعداء سوريا أو حتى بمحبيها - على
ترك هذا الشعب يواجه أعتى النظم الإجرامية
بصدور عارية، إذ حتى تلك الأسلحة التي
ينشق بها جنود الجيش الحر أو تلك التي
يغتنمونها في معاركهم لا يمكن أن تقارن
بما يستخدمه النظام وكأن المعركة تقع على
جبهات حربية متعادية وليس بين جيش ومدنيين
وسكان مدن غير مسلحين، يؤمن السويون بذلك
أن ثورتهم يتيمة وأن إعتمادهم الوحيد
سيكون على رب العباد، وقد عبروا عن ذلك
بشعارهم "يالله، مالنا غيرك يالله"،
والتاريخ والأديان تقول بأنه لن يُغلب شعب
وكل أمره لله، لذلك ينبغي عليك أن ترحل!
صار ينبغي لك أن ترحل بعد
أن صبغت حياة السوريين بالسواد وملأت
أيامهم حزنا وأسى، بعد أن أصبحت الأشياء
التي تدخل البهجة على قلوبهم محدودة جدا
وعلى رأسها تدمير دبابة أو إصابة طائرة من
أسلحة جيشك على يد ثوار الجيش الحر، هذه
الأسلحة التي دفع المواطن السوري ثمنها
جوعا وتخلفا وترهيبا وأملا في تحرير
أراضينا المحتلة، دفعها جوعا باقتطاع
النسب المختلفة من ميزانية الدولة التي
كان ينبغي أن تذهب للفقراء من أجل تمويل
جيشنا المغوار الذي يستعد للمعركة الحاسمة
من أجل المعركة الكبرى، ودفعها تخلفا لأن
الصرف على البنى التحتية كان محدودا بسبب
المبالغ التي كانت تذهب لإعداد جيشنا ليوم
التحرير، ودفعها ترهيبا لأن التركيز على
المعركة القادمة كان مرتبطا بإسكات كل صوت
ناقد على كل الأخطاء والتجاوزات بل وحتى
الجرائم، كان علينا أن نسكت في سبيل
الوصول إلى اليوم الموعود، وها قد ظهر
لجميع السوريين أنه لم تكن ثمة معركة ولم
توجد في يوم من الأيام إستعدادات للتحرير،
بل كل ما هنالك تجهيز للشبيحة - الذين
تعجز الكلمات والجمل عن إيجاد ما يصفهم أو
ما يعبر عن واقعهم - ولفرق خاصة في جيشنا
كي تصب على شعبنا حمم القتل صباً وتجرعه
المذلة تجريعا، من أجل هذا صار رحيلك بداً
لابد منه!
صار ينبغي أن ترحل لأنك
أجبرت السوريين على التحول إلى لاجئين
بترك منازلهم ومدنهم، وقد حولت سوريا
ولأول مرة في التاريخ من بلد ينزح ويهرب
ويلجؤ إليها الناس من جميع أنحاء العالم
إلى بلد يهجره أهله فرارا من الجرائم التي
يرتكبها جيشك وشبيحتك، كذلك عندما تضاف
صفة "لاجئ" أو "نازح" إلى لفظ مواطن سوري
فإنه عار لا يغسله سوى رحيلك السريع عنا،
أما أن تُجْمَع التبرعات لمواطنين سوريين
دفعتهم الحاجة لمد أيديهم بعد أن كانوا
ذوي أيادٍ عليا فهذا مما لا يمكن غفرانه،
لذلك عليك أيضا أن ترحل!
النظام أو لنتحدث من الآن
فصاعدا عن "بقايا النظام" يرتكبون جرائم
تفتقر أن تكون أهدافا عسكرية أو سياسية
تكتيكية أو حتى إستراتيجية، إذ تحمل جميع
جرائمه صفة النكاية والإنتقام من المواطن
العادي وخاصة الفقير، في رسالة منه
لمواطنيه بأن مجرد الثورة أو تأييدها أو
حتى السكوت عنها وإتخاذ موقف الحياد جريمة
يعاقب عليها بقوانينه بأشد العقوبات
الجماعية التي لا تميز بين مذنب أو بريء،
كل من يراقب الأعمال الحربية الأخيرة
للنظام سيصل إلى نتيجة مفادها أنه يقوم
بتدمير المتبقي من البنى التحتية وبقتل
أكبر عدد ممكن من المواطنين والتسبب في
أكبر قدر من تدمير المساكن وفي العاهات
الجسدية والجراحات النفسية، هنا ينبغي لكل
من مازال يؤيد النظام ولو بذرائع من قبيل
الخوف من الفوضى أو من الإقتتال الطائفي
أو من تقسيم سوريا، ينبغي لهؤلاء جميعا أن
يعيدوا النظر في مواقفهم التي لم تعد لا
مبررة ولا مسؤولة، إذ الخطب اليوم يكمن في
إيقاف معتوه يخرج على الناس بسلاحه ويثير
بين صفوفهم الرعب والقتل والفتك، لم يعد
يمكن وصف فعائل النظام الأخيرة بأقل من
هذه الأوصاف، لأجل هذا صار عليك أيضا أن
ترحل!
عندما يهدد المتحدث الرسمي
لوزارة الخارجية السورية باللجوء إلى
إستخدام الأسلحة الكيميائية إذا ما تعرضت
سورية لتدخل خارجي فإنه عليك أن ترحل! إذ
ضد من سيتم إستخدام هذه الأسلحة؟ ضد
مواطنيك الذين لاحول لهم ولا قوة أم ضد
الدول التي إن تدخلت فلن يكون لبقايا
جيشنا أي حول أو قوة بالرد عليها؟ كذلك
عندما يهدد إعلام النظام بشن الغارات
المتتالية على المدنيين إن لم تنسحب قوات
الجيش الحر من المناطق التي تقع تحت
سيطرته، ومجازر إعزاز وفرن قاضي عسكر
ومبنى السكري وغيرهما مصاديق لهذه
التهديدات، هل بات المواطن السوري العادي
رهنا لتخاذل ولجبن المتبقي من وحدات
جيشنا؟ لأجل هذا صار ينبغي أن ترحل!
صار ينبغي أن ترحل قبل أن
تصبح معالم الدمار والتقتيل صناعة محصورة
عليك، فكل الصور التي تنقلها محطات
الإعلام والتي تماثل تلك التي تتناقلها
وسائل الإعلام عند وقوع الزلازل أو غيرها
من الكوارث الطبيعية تطرح جملة ثابتة لم
تكن تستخدم سوى عن التتار وجيوشهم، وعن
جحافل الإسرائيليين وعن إعتداءاتهم، فجملة
مثل "من هنا مرالتتار" أو "هذه ليست غزة"
أضحت تستخدم عن جنودك المرتزقة الذي لا
يتقنون سوى القتل والتدمير وباتت وثيقة
الإرتباط بشبيحتك الذين عَمِلْتَ على
إعدادهم بتجريدهم من كل ما هو إنساني
فأصبح يقال: "من هنا مرت كتائب الأسد".
صار ينبغي أن ترحل لأن
السوريين لا يصدقون ولايريدون أن يصدقوا
أن من يفعل ببلادهم كل هذا الخراب يمكن أن
يكون سوريا، فبدؤوا ينشرون شائعات من قبيل
أن الطيارين الذين يرمون حمم قذائفهم على
المدنيين قدموا من روسيا أو من إيران أو
ربما من خارج كوكبنا، هم ينسون أن من
يعطيهم الأوامر سوري على جميع الأحوال وأن
من يريد منهم فعل ذلك سوري من دون شك، كما
أنهم ينسون أن إفساد أربعين سنة والإتيان
على كل ماهو أخلاقي وكل ما هو إنساني
سيتمخض عن كائنات لا إنتماء لها ولا أخلاق
لها ولا إنسانية لها، هل يمكنك أن ترحل
حتى يمكننا البدء في بناء بشر أسوياء؟
صار ينبغي أن ترحل حتى
تترك للسوريين بلدا لم تسوَّ جميع أنحائه
بالأرض، فعلى الأقل أترك بعض النواحي التي
يمكنهم الإعتماد عليها في عملية بناء
النواحي الأخرى، دبابات ومدرعات جيشنا
تنتشر في ربوع القطر وتسرق وقودا كان في
العادة مخصصا للسيارات وللآليات الزراعية
التي تمدنا بالقوت وتجعلنا في منأى عن
الإستيراد ناهيك عن الحاجة للمساعدات
الخارجية التي تمن بها بعض الدول الغنية
على الدول الفقيرة وبالطبع مقابل أثمان
سياسية، جميع موارد ومخزون سوريا
الإستراتيجي سخرته لخوض حربك الخاسرة ضد
شعبك، حتى صوامع الحبوب وخزانات المياه
أصبحت أهدافا لقواتك بعد أن كانت مآذن
المساجد هدفا لها، فهلا تركت بعض ما تبقى
من سوريا كي يمكننا أن نبدأ من جديد؟
أخيرا ربما صار ينبغي أن
ترحل قبل أن تتم تصفية جميع المتبقين من
أقاربك ومن المقربين منك حتى لا يشمت بك
القدر ويجعلك شاهدا على فنائهم عن آخرهم،
لأن
زيادة أي يوم وربما ساعات
في مدة حكمك تمارس فيها القتل والتدمير في
حق شعبك ستزيد من النقمة على من حولك
وستؤجج نار الإنتقام والثأر منهم، ولن
ينفع يومئذ التنادي للتعامل بالقيم
الإسلامية والعربية النبيلة! |