السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
النمسـا اليـوممفكـــــرةخدمات & طوارئ النمسـا الوطـنإخترنـا لكإعلانــــــاتحـوار صـريحمجتمــــــعهيئة التحـريرمواقع إلكترونيةتواصـــل
 
 

السيرة النبوية الشريفة

تقديم : د. محمد الرمادى
فيينا / 201
9

المستضعفون !
[2] ﴿﴿﴿ أبو عبدالله.؛ خباب بن الأرت ﴾﴾﴾

تمهيد : قد يتبادر إلىٰ ذهن أحد الجهلة بجغرافيا البلاد ومواقع القارات؛ فيتغاضىٰ عن أهمية المنطقة التي يطلق عليها بالخطأ «الشرق الأوسط»؛ وهي نقطة التقاء القادم مِن رحلات الشمال إلىٰ الجنوب أو مركز تجمع المسافر مِن أهل الغرب إلىٰ الشرق، ويتجاهل مقدار وتمركز الثروات الطبيعية الهائلة والتي حباها خالق الإنسان والحياة والكون؛ تلك الثروات القابعة في باطن الأرض والبحر في تلك منطقه سرة العالم؛ وهنا يفهم لِمَ ذاك التكالب مِن دول استعمارية لهذه المنطقة؛ ثم تغيير شكل الاستعمار وصورة التواجد... أضف ارتفاع نسبة الخصوبة في نساء تسكن مناطق ذات موضع استراتيجي هام ومؤثر وفاعل؛ وبالتالي ارتفاع نسبة المواليد وارتفاع نسب الشباب من الجنسين مع وجود عبقرية بشرية تلازمها عبقرية المكان والمناخ والطبيعة... ففي باطن الأرض وعلىٰ وجهها توجد عبقرية السكان وعبقرية المناخ وعبقرية خيرات تلك البلدان...
أقول (الرمادي) : قد يتبادر لذهن أحد الجهلة أن يتفوه فيقول :" نحن أمة مستضعفة! "... ثم يجتر [Wiederkäuer] ما تتناقله وسائل الإعلام لتؤكد ذلك المفهوم الخاطئ ليتحول إلىٰ قناعة عند البعض؛ فيصير بوقا للآخر الذي يريد أن يستعمره ويستنزف خيرات بلاده؛ ليشعره بحالة مِن الفقر الفكري والعوز التفكيري ليثبت-زورا- له ضحالة الإدراك وضعف الفهم وغياب القدرة علىٰ التغيير... وآحدهم مازال يعيش ويريد أن يتعايش في مناخ قديم مِن الذكريات؛ إذ هو يرىٰ أمسه أفضل من غده -فيتغنىٰ علىٰ أطلال التاريخ؛ فيقنع نفسه بما يسميه البعض بــ „الزمن الجميل” ويكتفي بهذا القدر؛ فلا يعمل علىٰ تغيير يومه التعيس لمستقبل أفضل... فيترك ساحة العمل ومكان التغيير لغيره... فيَرْحَل أو يُرَحَل ومَن يبقىٰ فهو إما عميل أو أجير؛ أو فاسد أو مرهق بأعباء توفير وجبة طعام الفطور؛ ويدندن علىٰ أوتر الكسل :« عشاؤنا عليكَ يا كريم»... ورائحة قضايا الفساد تزكم الأنوف؛ كحارس البستان وهو لا يملك أن يتذوق طيب الثمار؛ وهو-ليس بحارس- في حقيقة أمره مالك البستان...
هذا الجزء من بحث « المستضعفين في عهد النبوة؛ وزمن نزول رسالة السماء الأخيرة إلىٰ البشرية؛ علىٰ قلب أمين السماء والأرض علىٰ وحي ربه -تعالىٰ- النبي الرسول آخر المصطفين وخاتم المرسلين ومتمم الأنبياء والمبتعثين-صلى الله عليه وآله وسلم- » هذا البحث يلزمنا إعادة النظر في الواقع الحالي المعاش بمعطيات جديدة وروافد جدت علىٰ كافة الأصعدة وفي كل المجالات... وليس فقط قراءة تاريخية مفصولة عن واقع اليوم؛ إذ ليس مِن المعقول؛ وليس مِن المفهوم أن تظل أمة وصفت بأنها خير أمة أخرجت للناس أن تظل هذه الأمة إما تابعة أو مستأجرة؛ ولا يمكنها -أو يراد لها أن لا تتمكن- أن تتمقعد كراسي الريادة في شتى المجالات فتقود العالم؛ وأن تعلو -بما تحمل مِن افكار صحيحة ولديها مفاهيم سليمة وتمتلك مبادئ راقية وفي حوزتها قيم عالية إنسانية : وكلها توافق النفس البشرية- فتجلس علىٰ مناكب القيادة؛ سواء الفكرية أو الإصلاحية التعليمية التربوية أو الإجتماعية أو السياسية أو في أصعدة العلم ومختبرات البحث العلمي ومجالات التكنولوجيا؛ ولا يقبل عاقل مِن تلك الأمة الخيرية أن تكون مستلزمات حياته اليومية صناعة شرقية أو ما يحتاجه منتجات غربية؛ وأصبحت الأمة العربية وزميلتها الإسلامية- تلك الأمة- هي فقط أمة أستهلاك فلا تشارك في تقدم الشعوب ورفاهية الأمم.
المستضعفون زمن النبوة... كان في استطاعة قائدهم الأول -محمد بن عبدالله؛ نبي الهدى والرحمة عليه السلام- أن يدعو ربه -تعالىٰ- ليرفع عنهم الأذىٰ والضيق والمطاردة مِن مَن يخالفونهم في العقيدة والإيمان ويعارضونهم في فهم ما يجب أن يكون في الحياة الدنيا ثم ما سيكون يوم القيامة وما يليه من حساب ونعيم؛ أو كان يدعو ربه لينزل عليهم جميعاً مائدة مِن السماء لــ : „ تَكُونُ عِيدًا ” وهم محشورون في شِعب أبي طالب لا يجدون طعاما يسد جوعتهم أو قطرةَ ماء تروي ظمأهم... لكنها سُنَّة حياة لمن سيأتي مِن بعدهم -سواء بسنوات أو قرون- ... والمثال قد يتكرر بذاته أو في ظروف مشابهة أو في أحوال مغايرة... والواقع المعاش اليوم يظهر غياب التقييد بالقدوة الحسنة؛ وإعادة تفعيل السنة النبوية العملية لسيد بني آدم والبرية...
...
[2] ﴿﴿﴿ خباب بن الأرت ﴾﴾﴾
قالوا: كان الأرت سواديا. فأغار قوم مِن ربيعة علىٰ الناحية التي كان فيها، فسبوه وأتوا به الحجاز، فباعوه. فــ
وقع إلىٰ سباع بن عبدالعزى الخزاعي، حليف بني زهرة. و
ابنة عبدالله بن سباع هذا، هي أم طريح بن إسماعيل الثقفي الشاعر. فوهبه لأم أنمار بنت سباع، فأعتقته. و
سباع هذا، هو الذى بارزه حمزة بن عبدالمطلب [عم النبي] -رضى الله تعالىٰ عنه-: «... إلىَّ يابن مقطعة البظور» . فقتله حمزة.
وكانت أمه قابلة بمكة. ويقال: إن اسمها أيضا أم أنمار.
وقال الهيثم بن عدي: كان أبو خباب من أهل „كسكر”. و
يقال: إنه كان مِن سواد الكوفة.
و-زعم- أبو اليقظان البصري: أن خباب بن الأرت كان أخا سباع لأمه. فانضم خباب إلىٰ آل سباع، فادّعىٰ حلف بنى زهرة.
- وخباب- فيما يقول ولده- بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة، من بني سعد بْن زَيْد مناة بْن تميم. وأنه وقع عليه سباء، فصار إلىٰ أم أنمار مولاته، فأعتقته. و
أنه كانت به رتة.
قال الواقدي: كان ألكن إذا تكلم بالعربية. فسمي الأرت. و
قال الواقدي: أسلم خباب، وكان قينا بمكة. ويكنى أبا عبدربه. و
عَنْ كُرْدُوسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَلا إِنَّ خَبَّابَ بْنَ الأَرَتِّ أَسْلَمَ سَادِسَ ستة.
وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قال: أسلم خبّاب مع بني مظعون وأبى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالأَسَدِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-، قبل دخول دار الأرقم.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَعْطَوْهُمْ [ أى المستضعفون من المسلمين في مكة أعطوا للمشركين.] مَا أَرَادُوا. قَالَ يُوسُفُ فِي حَدِيثِهِ: حِينَ عُذِّبُوا إِلا خَبَّابَ بْنَ الأَرَتِّ، فَجَعَلُوا يُلْصِقُونَ ظَهْرَهُ بِالأَرْضِ عَلَىٰ الرَّضْفِ حَتَّىٰ ذَهَبَ مَاءُ مَتْنِهِ. و
قال الواقدي: جاء خباب إلىٰ النبي -ﷺ-، فشكا ما أصابه. فقال -ﷺ-: [لقد كان الرجل ممن قبلكم يمشط بأمشاط الحديد حتىٰ يخلص إلىٰ ما دون عظمه مِن لحم وعصب، ويشقّ بالمئآشير، فلا يرده ذلك عن دينه. وأنتم تعجلون. والله، ليمضين هذا الأمر حتىٰ يسير الراكب مِن صنعاء إلىٰ حضر موت لا يخاف إلا الله وحده، والذئب علىٰ غنمه] .
عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَىٰ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دين. فأتيته أقتضيه. فقال لي: „ لَنْ أَقْضِيَكَ حَتَّىٰ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ”. فَــ
قُلْتُ: « لَنْ أَكْفُرَ حَتَّىٰ تَمُوتَ وَتُبْعَثَ». قَالَ: «وَأَنِّي لَمَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذْ رَجَعْتَ إِلَيَّ مَالِي وَوَلَدِي» . فَنَزَلَتْ فِيهِ: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ: لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً» ، إلىٰ قوله «فَرْداً » .
وَعَنِ ابْنِ عباس بنحوه وقوله «سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ » ، يَعْنِي مَالَهُ وَوَلَدَهُ. و
قال الواقدي: كان خباب ممن شهد بدرا. ولم يفارق النبي -ﷺ-. ولما هَاجَرَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهاجر خباب، نزل والمقداد ابن عمرو علىٰ كلثوم بن الهدم، فلم يبرحا منزله حتىٰ توفي قبل بدر بيسير. فتحولا، فنزلا علىٰ سعد بن عبادة. فلم يزالا عنده حتىٰ فتحت قريظة. وآخا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ خباب وجبر بن عتيك بن (الحارث بن) قيس بن هيشة الأوسي. ولم يتخلف عن مشهد من مشاهد رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
عَنْ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ قَالَ: جَاءَ خَبَّابٌ إِلَىٰ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تعالىٰ عنه-، فقال:« ادْنُهُ، ادْنُهُ، فَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْكَ إِلا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ »... فَجَعَلَ خَبَّابٌ يُرِيهِ آثَارًا فِي ظَهْرِهِ لَمَّا عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ.
عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: دَخَلَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ عَلَىٰ عُمَر بْن الخطاب -رَضِيَ اللَّه تعالىٰ عنه-، فَأَجْلَسَهُ عَلَىٰ مَنْكِبِهِ وَقَالَ: « مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْكَ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ». فَــ
قَالَ خَبَّابٌ: « وَمَنْ هُوَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ ».
قَالَ: « بِلالٌ».
قَالَ خَبَّابٌ: « لَيْسَ هُوَ بِأَحَقَّ مِنِّي، إِنَّ بِلالا كَانَ لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمْنَعُهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا وَقَدْ أَوْقَدُوا لِي نَارًا، ثُمَّ سَلَقُونِي فِيهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَىٰ صَدْرِي، فَمَا أَتَيْتُ الأَرْضَ إِلا بِظَهْرِي ».
ثم كشف خباب عن ظهره له. فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرِصَ.
عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ خَبَّابٍ أَعُودُهُ وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ. فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: « لَوْلا [أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ] » ، لَتَمَنَّيْتُهُ ». قَالَ: „ وَأُتِيَ بِكَفَنِهِ قُبَاطِيٍّ. فَبَكَى”، ثُمَّ قَالَ: « لَكِنَّ حَمْزَةَ كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِذَا مُدَّتْ عَلَىٰ قَدَمَيْهِ قَصُرَتْ عَنْ رَأْسِهِ، وَإِذَا مُدَّتْ عَلَىٰ رَأْسِهِ قَصُرَتْ عَنْ قَدَمَيْهِ حَتَّىٰ جُعِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرٌ. وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَمْلِكُ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَإِنَّ فِي بَيْتِي فِي تَابُوتٍ لأَرْبَعِينَ أَلْفِ وَافٍ. وَلَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ».
عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَىٰ خَبَّابٍ نَعُودُهُ، وَقَدِ اكْتَوَىٰ فِي بَطْنِهِ سَبْعًا . وَ
قَالَ: « لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ، لَدَعَوْتُ بِالْمَوْتِ ».
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: «كَانَ خَبَّابٌ قَيْنًا، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْلَفُهُ وَيَأْتِيهِ. فَأُخْبِرَتْ بِذَلِكَ مَوْلاتُهُ، فَكَانَتْ تَأْخُذُ الْحَدِيدَةَ وَقَدْ أَحْمَتْهَا، فَتَضَعُهَا عَلَىٰ رَأْسِهِ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَىٰ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، [فَقَالَ: اللَّهُمَّ انْصُرْ خَبَّابًا.] ... فاشتكت مولاته رأسها - وهي أم أنمار - فَكَانَتْ تَعْوِي مَعَ الْكِلابِ. فَــ
قِيلَ لَهَا: اكْتَوِي. فَكَانَ خَبَّابٌ يَأْخُذُ الْحَدِيدَةَ قَدْ أَحْمَاهَا، فَكَانَ يَكْوِي بِهَا رَأْسَهَا.
قال الواقدي: أتىٰ خباب الكوفة حين اختطها المسلمون، فابتنىٰ بها دارا، وتوفي بها سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. وصلىٰ عليه علي بن أبي طالب منصرفه من صفين.
حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ عِكْرِمَةَ بْنِ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: „ حَدَّثَنِي ابْنُ خَبَّابٍ قَالَ: « كَانَ النَّاسُ يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ بِالْكُوفَةِ فِي جَبَابِينِهِمْ » .
فَلَمَّا ثَقُلَ خَبَّابٌ قَالَ: « أَيْ بُنَيَّ، إِذَا أَنَا مِتُّ، فَادْفِنِّي بِهَذَا الظَّهْرِ، فَإِنَّكَ لَوْ دفنتى بِهِ قِيلَ: دُفِنَ بِهَذَا الظَّهْرِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم-، فَدَفَنَ النَّاسُ مَوْتَاهُمْ بِالظَّهْرِ ». قَالَ: „ فَلَمَّا مَاتَ، دَفَنَهُ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَدْفُونٍ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ”.
عَنِ الْوَاقِدِيِّ فِي إسناده، قال: „ كان الذي يعذب خباباً حين أسلم وَلازَمَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عتبة بن أبي وقاص، أخا سَعْد بْن أَبِي وقاص. واسم أَبِي وقاص مالك بن أهيب ابن عبدمناف بن زهرة. ويقال: إن الذي كان يعذّبه، وهو الثبت، الأسود ابن عبديغوث”.
قال: وكان، فيما ذكر بعض ولده:
- ربعة،
- جيد الألواح،
- عريض ما بين المنكبين،
- عظيم الهامة،
- كثّ اللحية.
وزعم بعض الرواة: أن خبابا كان مولىٰ لعتبة بن ربيعة. وذلك باطل.
أنبأنا الأعمش، عن إبراهيم: أن خبابا كان يكنىٰ أبا عبدالله.
...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
بحوث:
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل مِن السماء ﴾
السيرة النبوية العطرة -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نال شرف قراءة الأصول؛ وبحث المراجع والمصادر وتكحلت عيناه بكتابة هذا البحث:
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
٢٢ ربيع آخر ١٤٤١ هـ ~ ١٩ ديسمبر ٢٠١٩م

أعلى الصفحة
فهرس

الْأَذِيَّةُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الأوائل

المستضعفون؛ مثالا عمار بن ياسر -رضي الله تعالى عنه-
نحن ما زلنا نعيش ونتعايش مع الفترة المكية؛ بما تحمل من أحداث جسام ومواقف عظام في حياة النبوة الخاتمة وزمن الرسالة المتممة لبقية رسالات رب الأرضين والسموات بما فيها من مراحل وننتقل عبر مفاصل وروابط بين كل مرحلة وآخرىٰ حتىٰ نصل بسلام إلىٰ الفترة المدنية:
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَ أَبُو بَكْرٍ وَ عَمَّارٌ وَ أُمُّهُ سُمَيَّةُ ، وَ صُهَيْبٌ وَ بِلَالٌ وَ الْمِقْدَادُ «و[جاء في الحلية : خباب»؛ بدلا من المقداد...
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ :« أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ ؟» قَالَ : «نَعَمْ وَاللَّهِ(!) ، إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونِ أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ ، حَتَّىٰ مَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي بِهِ ، حَتَّىٰ يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ ، حَتَّىٰ يَقُولُوا لَهُ : " اللَّاتُ وَالْعُزَّى إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ " ؛ فَيَقُولُ : نَعَمْ . « افْتِدَاءً مِنْهُمْ ؛ مِمَّا يَبْلُغُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ ».
وَفِي مِثْلِ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-:{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ :}، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْعَذَابِ الْبَلِيغِ . أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ .
ذكر المستضعفين مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم :
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَىٰ مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَىله وسَلَّمَ - الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَىٰ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَمَنَعَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ - بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.
روى عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزبير أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم- إذا جلس في المسجد، جلس إليه المستضعفون من أصحابه: عمار بن ياسر، وخباب بن الأرتّ، وصهيب بن سنان، وبلال بن رباح، وأبو فكيهة، وعامر بن فهيرة... وأشباههم من المسلمين. فتهزأ قريش بهم ويقول بعضهم لبعض: "هؤلاء جلساؤه كما ترون، قد مَنَّ الله عليهم [الأنعام (6/ 53)] من بيننا : { وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَـٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَاۗ }. فأنزل الله -عز وجل- فيهم: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } . و
كانوا قوما لا عشائر لهم ولا منعة. فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء أنصاف النهار، ليرجعوا إلى دينهم. و
فيهم نزلت: { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } . و
المُبَالَغَةُ فِي الْأَذِيَّةِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ؛ فــ أبدء بـــ
« ١ » ﴿ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ أَبُو الْيَقْظَانِ ﴾ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْمُمْتَلِئُ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَالْمُطَمْئِنُ بِالْإِيقَانِ وَالْمُتَثَبِّتُ حِينَ الْمِحْنَةِ وَالِافْتِتَانِ ، وَالصَّابِرُ عَلَى الْمَذَلَّةِ وَالْهَوَانِ ، مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ؛ كَانَ لَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنَ الْبَشَاشَةُ وَالتَّرْحِيبُ ، وَالْبِشَارَةُ بِالتَّطْيِيبِ . كَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، وَبَعَثَهُ عمر عَلَى الْكُوفَةِ أَمِيرًا ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ إِنَّهُ مِنَ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ تَشْتَاقُ إِلَيْهِمُ الْجَنَّةُ ، لَمْ يَزَلْ يَدْأَبُ لَهَا وَيَحِنُّ إِلَيْهَا إِلَى أَنْ لَقِيَ الْأَحِبَّةَ ، مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ .
فمنهم عمار بن ياسر بن عامر بن مالك، أحد بني عنس أخى مراد ابن مالك بن أدد بن زيد. وكان عنس يسمىٰ زيدا. وكان كُنية عمار (أبا) اليقظان، وكنية ياسر أبا عمار. ويقال: أبا عبدالله، وكان حليفا لبني مخزوم.
عن هشام بن الكلبي وغيره قال: قدم ياسر بن عامر، وأخواه الحارث ومالك، مكةَ من اليمن يطلبون أخا لهم. فرجع الحارث ومالك إلىٰ اليمن، وأقام ياسر بمكة وحالف أبا حذيفة بْن المغيرة بْن عَبْداللَّهِ بْن عُمَر بْن مخزوم. فزوجه أبو حذيفة أَمَةً له يقال لها ﴿ سُمَيَّة بنت خيّاط ﴾ : فولدت له ﴿ عمارا ﴾ : فأعتقه أبو حذيفة، ولم ياسر. وعمار مع أبي حذيفة إلى أن مات... و
جاء الإسلام. فأسلم ياسر، وسُمَيَّةُ، وعمار، وأخوه عبدالله بن ياسر. وكان لياسر ابن آخر، أكبر من عمار وعبدالله، يقال له حريث. فقتله بنو الديل في الجاهلية.
وَحَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ ، قَالَ ﴿ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ﴾: « لَقِيتُ ﴿ صُهَيْبَ بْنَ سِنَانٍ ﴾ عَلَىٰ بَابِ دَارِ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ- فِيهَا. فَــ
قُلْتُ لَهُ: « مَا تُرِيدُ؟» فَـــ
قَالَ: « مَا تُرِيدُ أَنْتَ؟»
قُلْتُ: « أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ فَأَسْمَعَ كَلامَهُ ».
قَالَ: « وَأَنَا أُرِيدُ ذَلِكَ». فَــ
دَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَــ
عَرَضَ عَلَيْنَا الإِسْلامَ. فَــ
أَسْلَمْنَا،
ثُمَّ مَكَثْنَا يَوْمَنَا عَلَىٰ ذَلِكَ حَتَّىٰ أَمْسَيْنَا.
ثُمَّ خَرَجْنَا مُسْتَخْفِينَ. فَــ
كَانَ إِسْلامُ ﴿ عَمَّارٍ ﴾ ؛ وَ ﴿ صُهَيْبٍ ﴾: بَعْدَ إِسْلامِ بِضْعَةٍ وَثَلاثِينَ رَجُلا.
وعن مجاهد قال: « أول مَن أظهر الإسلام ﴿ أبو بكر ﴾ ، و ﴿ بلال ﴾، و ﴿ خباب ﴾، و ﴿ صهيب ﴾ ، و ﴿ عمار ﴾.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَ : اسْتَأْذَنَ عمار عَلَى النَّبِيِّ [ﷺ] فَقَالَ : « ائْذَنُوا لَهُ مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ » .
تَأْلِيبُ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ :
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : وَحَدِبَ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ[ﷺ] عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَمَنَعَهُ ، وَقَامَ دُونَهُ ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ[ﷺ] عَلَى أَمْرِ اللَّهِ مُظْهِرًا لِدِينِهِ لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ ؛ فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا ، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا وَفَرَّقَ الْجَمَاعَةَ فــ
أما رسول الله[ﷺ] ، فمنعه قومه. و
أما الآخرون فألبسوا دروع الحديد، وصهروا في الشمس حتىٰ بلغ الجهد منهم.
تَعْذِيبُ قُرَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ لِاتِّبَاعِهِمُ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَىٰ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ ، وَبِرَمْضَاءِ مَكَّةَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ ؛ مَنِ اسْتَضْعَفُوهُ مِنْهُمْ ، يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُبُ لَهُمْ ، وَيَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ...
وجاء أبو جهل إلىٰ سمية، فطعنها في قُبُلها. فهي ﴿ أول شهيد في الإسلام ﴾.
قال عبدالله بن محمد:« بلغني أنها أغلظت له في القول، فأغضبته ».
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: « أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَىٰ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ مُتَجَرِّدًا فِي سَرَاوِيلَ »، قَالَ: « وَنَظَرْتُ إِلَىٰ ظَهْرِهِ، فَإِذَا فِيهِ حَبَطٌ ». فَــ
قُلْتُ لَهُ: « مَا هَذَا؟ »
قَالَ: « هَذَا مِمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَذِّبُنِي فِي رَمْضَاءِ مَكَّةَ ». قال الواقدي:" كان عمار يعذب حتىٰ لا يدري ما يقول". و " كان أبو فكيهة يعذب حتىٰ لا يدري ما يقول". و" بلال، وعامر بن فهيرة، وقوم من المسلمين". وفيهم نزلت هذه الآية: { وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . قال الواقدي: « إنها نزلت في أبي سلمة بن عبدالأسد، وعثمان ابن مظعون. وكان أول من قدم المدينة ».
حدث أبو مالك، في قوله: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ } ، قال: « هو عمار ».
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: « لَمَّا أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا، فَعَذَّبُوهُ لَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّىٰ سَبَّ النَّبِيَّ[ﷺ] وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ. فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ[ﷺ] ، قَالَ: 《 وَمَا وَرَاءَكَ؟ 》قَالَ: « شَرٌّ، وَاللَّهِ، مَا تَرَكَنِي الْمُشْرِكُونَ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ». قَالَ:《 فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ 》قَالَ: « مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ ». قَالَ:《 فَإِنْ عَادُوا، فَعُدْ.》 فَنَزَلَتْ فِيهِ: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ } .
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ النَّبِيَّ[ﷺ] لَقِيَ عَمَّارًا وَهُوَ يَبْكِي. فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: 《 أَخَذَكَ الْكُفَّارُ، فَغَطُّوكَ فِي الْمَاءِ 》، فَـــ《 قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ عَادُوا، فَقُلْ ذَاكَ لَهُمْ 》 .
عَنْ عَبْدِالْحَكِيمِ بْنِ صُهَيْبٍ، قَالَ:« عَذَّبَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا »، وَقَالُوا:" لا نُفَارِقُكَ أَبَدًا حَتَّىٰ تَشْتُمَ مُحَمَّدًا، وَحَتَّىٰ تَقُولَ اللاتُ وَالْعُزَّى خَيْرٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ". فَفَعَلَ. فَتَرَكُوهُ. فَأَتَىٰ النَّبِيَّ[ﷺ] ، فَقَالَ:《 أَفْلَحَ وَجْهُكَ 》. فَقَالَ:« وَاللَّهِ، مَا أَفْلَحَ». قَالَ: 《 وَلِمَ؟ 》قَالَ: « نِلْتُ مِنْكَ، وَزَعَمْتُ أَنَّ اللاتَ وَالْعُزَّى خَيْرٌ مِنْ دِينِكَ ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[ﷺ] :《 فَكَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ؟ 》قَالَ: « وَجَدْتُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ، أَشَدَّ مِنَ الْحَدِيدِ فِي دِينِي ». قَالَ: 《 فَلا عَلَيْكَ، وَإِنْ عَادُوا، فَعُدْ 》. قَالَ: « فَعَمَّارٌ الَّذِي أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان.» والذى { شرح بالكفر صدرا } : عَبْداللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح.
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ، في قوله { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ } ، قال:« ذاك عمار». وفي قوله { وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } ، قال: عَبْداللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح.
عَنْ أُمِّ هاني: أنّ عمار بن ياسر، وأباه ياسر، وَأَخَاهُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ يَاسِرٍ، وَسُمَيَّةَ أُمَّ عَمَّارٍ كَانُوا يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ. فَمَرَّ بِهِمُ النَّبِيُّ[ﷺ] ، فَقَالَ: 《 صَبْرًا «أبشروا» آلَ يَاسِرٍ، فَإِنْ مَوْعِدَكُمُ «فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى» الْجَنَّةُ. 》 فَمَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ. وَأَغْلَظَتْ سُمَيَّةُ لأَبِي جَهْلٍ، فَطَعَنَهَا فِي قُبُلِهَا، فَمَاتَتْ. وَرُمِيَ عَبْدُاللَّهِ، فَسَقَطَ.
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ[ﷺ] :《 الْجَنَّةُ تَشْتَاقُ إِلَىٰ ثَلاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِي: «عَلِيٍّ»، وَ«عَمَّارٍ»، وَ«بِلالٍ» 》 .
قلت(الرمادي): تعددت روايات هذا الحديث وكذا عدد الصحابة؛ والحديث فيه اضطراب وضعف!.
عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: « أُتِيَ النَّبِيُّ[ﷺ] فَقِيلَ لَهُ: " وَقَعَ عَلَى عَمَّارٍ حَائِطٌ ، فمات "». فقال: 《 ما مات عمار 》
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : « وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إِسْلَامٍ إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ يُعَذِّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكَّةَ ، فَيَمُرُّ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ[ﷺ] فَيَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي : « صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ ».
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ :《 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ[ﷺ] مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ ، فَقَالَ : « أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ يَاسِرٍ ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ » 》. فَأَمَّا أُمُّهُ فَقَتَلُوهَا ؛ تَأْبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ .
عَن طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: غَزَتْ بَنُو عُطَارِدٍ مِنَ الْبَصْرَةِ مَاهَ، وَأَمَدُّوا بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَهُوَ عَلَىٰ الْكُوفَةِ. فَخَرَجَ عَمَّارٌ قَبْلَ الْوَقْعَةِ وَقَدِمَ بَعْدَهَا، فَقَالَ: « نَحْنُ شُرَكَاؤُكُمْ فِي الْغَنِيمَةِ ». فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُطَارِدٍ، فَقَالَ: " أَيُّهَا الْعَبْدُ الأَجْدَعُ - وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي حَدِيثِهِ: «الْمُجْدَعُ» ، وَكَانَتْ أُذُنُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- أَتُرِيدُ أَنْ نَقْسِمَ لَكَ غَنِيمَتَنَا؟ " ، فَقَالَ عَمَّارٌ:« عَيَّرْتَنِي بِخَيْرِ أُذُنَيَّ، وَأَحَبِّ أُذُنَيَّ إِلَيَّ ». فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَىٰ عُمَرَ. فَكَتَبَ: « الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ».
عن ابن عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَوْمَ الْيِمَامَةِ عَلَىٰ صَخْرَةٍ وَقَدْ أَشْرَفَ، وَهُوَ يَصِيحُ: « يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَمِنَ الْجَنَّةِ تَفِرُّونَ؟ أَنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. هَلُمُّوا إِلَيَّ » . وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَىٰ أُذُنِهِ قَدْ قُطِعَتْ، فَهِيَ تُذَبْذِبُ وَهُوَ يُقَاتِلُ أَشَدَّ قِتَالٍ.
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِعَمَّارٍ: أَيُّهَا الأَجْدَعُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: خَيْرُ أُذُنَيَّ سَبَبْتَ.
عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُ- قَالَ:« أَقْبَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ[ﷺ] آخِذٌ بِيَدَيَّ وَنَحْنُ نَتَمَاشَىٰ بِالْبَطْحَاءِ، إِذْ أَتَيْنَا عَلَىٰ أَبِي عَمَّارٍ، وَعَمَّارٍ، وَأُمِّهِ. وَهُمْ يُعَذَّبُونَ ». فَقَالَ يَاسِرٌ:« أَهَكَذَا يَكُونُ الدَّهْرُ كُلُّهُ؟» فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: 《 اصْبِرْ، اللَّهُمَّ اغفر لآل ياسر، وقد فعلت》 .
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[ﷺ]: 《 اهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ 》. أَوْ قَالَ:《 وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ 》
عَنْ أَبِي الْعَلاءِ قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ: « مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ الْعَطَّارِ، إِلا تَجِدْ مِنْ عِطْرِهِ، يَصِلْ إِلَيْكَ رِيحُهُ ». وَ « مَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ مَثَلُ الْكِيرِ، إِنْ لَمْ يَحْرِقْكَ بِنَارِهِ، أَصَابَكَ مِنْ شَرَرِهِ وَنَتْنِ رِيحِهِ.»
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، قَالَ: »كَانَ أَوَّلُ مَنْ أَفْشَىٰ الْقُرْآنَ بِمَكَّةَ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ[ﷺ] عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ». وَ « أَوَّلُ مَنْ بَنَىٰ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ».
حَدَّثَ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: « أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ مَسْجِدًا فِي بَيْتِهِ يُصَلِّي فِيهِ عَمَّارٌ ».
عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قُلْنَا لَهُ: « أَخْبِرْنَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ». قال: « مؤمنا نشأ، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ » .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: { أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ } ، قَالَ: « نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ».
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: « أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ[ﷺ] عَمَّارًا مَوْضِعَ دَارِهِ. وَشَهِدَ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَأُحُدٍ، وَالْخَنْدَقِ، وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ[ﷺ]».
عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مضرب العبدى، قَالَ:« قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُ- بِالْكُوفَةِ: « أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَمِيرًا، وَابْنَ مَسْعُودٍ مُعَلِّمًا وَوَزِيرًا، وَهُمَا مِنَ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ[ﷺ] مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِابْنِ أُمِّ عَبْدٍ عَلَىٰ نَفْسِي. فَاسْمَعُوا لَهُمَا وَأَطِيعُوا، وَاقْتَدُوا بِهِمَا. وَقَدْ جَعَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَىٰ بَيْتِ مَالِكُمْ، وَحُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَىٰ السَّوَادِ. وَرَزَقْتُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ شَاةً » . قَالَ: « فَجَعَلَ شَطْرَهَا وَبَطْنَهَا لِعَمَّارٍ، وَالشَّطْرَ الْبَاقِي بَيْنَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ ».
عن الحسن، قَالَ: قَالَ عُمَرُ:« إِنَّمَا وَلَّيْتُ عَمَّارًا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ } .
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ:« أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوْا سَعْدًا، فَأَكْثَرُوا. فَعَزَلَهُ وَوَلَّى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ الْكُوفَةَ».
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ:« إِنَّ عُمَرَ عَزَلَ سَعْدًا عَنِ الْعِرَاقِ، وَقَاسَمَهُ مَالَهُ » . وَ « وَلَّى عَمَّارَ بْنَ ياسر بعدّه ».
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: « أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَخْطُبُ كُلَّ خَمِيسٍ، وَيَدَعُ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ لِلأَمِيرِ، وَهُوَ عَمَّارٌ ». عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ تَيْمِ اللَّهِ سَمِعَهُ، يَقُولُ: « كَانَ عمارا عَلَيْنَا سَنَةً يَخْطُبُنَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فِي عِمَامَةٍ سَوْدَاءَ ». عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ:« أَنَّ عَمَّارًا كَانَ إِذَا خَطَبَ، سَلَّمَ ». عَنْ إِبْرَاهِيمَ:« أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ كَانَ يَقْرَأُ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ { يس } » . فَقَالَ لَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ:« وَمَا أَرَحْنَا مِنْ يَاسِينِكَ ». عَنْ أَبِي زُبَيْدَةَ عَبْثَرٍ، قَالَ:« خَطَبَ عَمَّارٌ بِخُطْبَةٍ وَجِيزَةٍ ». فَقِيلَ لَهُ:« لَوْ زِدْتَ فِي خُطْبَتِكَ؟» فَقَالَ: « أُمِرْنَا بِتَقْصِيرِ الْخُطَبِ وَإِطَالَةِ الصَّلاةِ ». قَالَ:« وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ: { إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ }، فَيَنْزِلُ، فَيَسْجُدُ». عَنْ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: قَالَ عمار:« احدقوا هَذِهِ الصَّلاةَ قَبْلَ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ ». عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: « رَأَيْتُ عَمَّارًا قَرَأَ يَوْمَ جُمُعَةٍ { إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ } ، فَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ ».
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدٍ:« أَنَّ عَمَّارًا كان لا يرى بأسا بالعراض إذا قتل ».[ كأنه عراض الصيد ]
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: « إِنَّا لَمَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ إِذْ عُرِضَ لَهُ حِمَارٌ وَحْشٌ، فَأَسْرَعْنَا إِلَيْهِ بِالرِّمَاحِ، فَطَعَنَّاهُ بِهَا ». فَقَالَ عَمَّارٌ: « وَاللَّهِ لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّىٰ إِذَا رُئِيَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِهَذَا، وَحَتَّىٰ إِنَّ الرَّجُلَ ليرىٰ علىٰ أحدهم العمامة الحسينة فَتُعْجِبُهُ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ مِنْ أَجْلِهَا وَيَأْخُذُهَا مِنْهُ ».
عن علي ابن أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ:« رَأَىٰ عَمَّارٌ رَجُلا يُصَلِّي عَلَىٰ دَابَّتِهِ، فَأَخَذَ بِقَفَاهُ، فَحَطَّهُ عَلَىٰ قِرَارِ الأرض »، وقال: « صلّ ها هنا » .
عَنْ قَتَادَةَ: " أَنَّ رَجُلا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ جَعَلَ يَغْشَاهَا، وَظَنَّ أَنَّهُ لا طَلاقَ إِلا طَلاقُ السُّنَّةِ " . فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: " وَيْحَكَ إِنِّي قَدْ بِنْتُ مِنْكَ ". فَأَتَىٰ الْكُوفَةَ، فَسَأَلَ عَمَّارًا، فَقَالَ:" مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا دُفْعَةً، ثُمَّ غَشِيَهَا؟ " فَقَالَ عَمَّارٌ:« لَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ، لَرَجَمْتُهُ». فَانْطَلَقَ إِلَىٰ امْرَأَتِهِ، فَسَرَّحَهَا، وَقَالَ:
كَانَتْ حَلالا أُمُّ عَبْدِاللَّهِ * لِي لَوْ لَمْ تُطَلَّقْ
حَجَزَ التُّقَىٰ عَنْهَا وَمَنْ * لا يَتَّقِ الرَّحْمَنَ يَوْبَقْ
عَنْ رِبْعِيٍّ: أَنَّ عَمَّارًا أُتِيَ بِشَاةٍ مُصْلِيَةً فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ قَبْلَ رَمَضَانَ. فَتَنَحَّىٰ رَجُلٌ. فَقَالَ لَهُ:« إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَادْنُ وَاطْعَمْ».
عن عبدالله ابن أَبِي الْهُذَيْلِ، قَالَ:" لَمَّا بَنَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ دَارَهُ "، قَالَ لِعَمَّارٍ:« تَعَالَ فَانْظُرْ إِلَىٰ مَا بَنَيْتُ ». فَنَظَرَ، وَقَالَ:« بَنَيْتَ شَدِيدًا، وَأَمَّلْتَ بَعِيدًا، وَسَتَمُوتُ قَرِيبًا».
عَنْ مَيْمُونِ بْنِ شَبِيبٍ، قَالَ:" سَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ:« لا يَضْرِبُ رَجُلٌ عَبْدَهُ ظَالِمًا إِلا أُقِيدَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
حَدَّثَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ أَنَّهُ رَأَى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَبَدَتْ لَهُ حَيَّةٌ. فَنَزَلَ، فَضَرَبَهَا حَتَّىٰ قَتَلَهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ[ﷺ]《 اقْتُلُوا الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي صَلاتِكُمْ 》 .
عن ابن أبى هذيل قال:" رأيت عمار يَشْتَرِي قَتًّا [القت: حب بري يأكله أهل البادية؛ وكذلك علف للدواب] بِدِرْهَمٍ، فَاسْتَزَادَ حَبْلا. فَأَبَى صَاحِبُهُ أَنْ يَزِيدَهُ: فَجَاذَبَهُ، حَتَّىٰ قَاسَمَهُ إِيَّاهُ نِصْفَيْنِ. وَحَمَلَهُ عَمَّارٌ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِلَىٰ مَنْزِلِهِ- أَوْ قَالَ: الْقَصْرُ- وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ ".
عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ:" رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَقْطَعُ عَلَىٰ لِحَافِ ثَعَالِبَ ثَوْبًا ".
عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ:" سئل عمار عن مسئلة، فَقَالَ:« هَلْ كَانَ هَذَا؟ » قَالُوا:" لا". قَالَ:« فدعونا حتىٰ يكون، فإذا كان تحشّمناها لكم».[تشجمناها. والتجشم: التكلف لحل معضلة]
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ:" وَشَىٰ بِعَمَّارٍ رَجُلٌ إِلَىٰ عُمَرَ، فَرَفَعَ عَمَّارٌ يَدَيْهِ فَقَالَ:« اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَبَ عَلَيَّ، فَابْسُطْ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَاجْعَلْهُ مَوْطُوءَ الْعَقِبِ ».
حَدَّثَ أَبُو نَوْفَلِ بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ، قال:" كأن عمارا مِنْ أَطْوَلِ النَّاسِ سُكُوتًا وَأَقَلِّهِمْ كَلامًا ". وَكَانَ يَقُولُ:« أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتْنَةِ ». ثُمَّ عُرِضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ.
عن بلال بن يحيى العبسى أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: « سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ[ﷺ] يَقُولُ: 《 أَبُو الْيَقْظَانِ عَلَىٰ الْفِطْرَةِ، أَبُو الْيَقْظَانِ عَلَىٰ الْفِطْرَةِ. لَنْ يَدَعَهَا حَتَّىٰ يَمُوتُ أَوْ يُنْسِيَهُ الْهَرَمُ 》.
عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: " شَاتَمَ عَمَّارًا رَجُلٌ "، فَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ كَمَا تَقُولُ، فَأَنَا كَتَارِكِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَأَكْثَرَ اللَّهُ مَالَكَ، وَأَوْطَأَ الرِّجَالُ عَقِبَكَ » .
حَدَّثَ وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:" سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ الْمَدَنِيَّ يُحَدِّثُ: أَنَّ عَمَّارًا قَالَ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا- يَوْمَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا فَرَغَ النَّاسُ مِنَ الْقِتَالِ: « سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَبْعَدَ هَذَا الأَمْرَ مِنَ الأَمْرِ الَّذِي عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ[ﷺ] إِلَيْكِ فِيهِ أَمَرَكِ أَنْ تَقَرِّي فِي بَيْتِكِ ». فَــ
قَالَتْ: «مَنْ هَذَا؟ أَبُو الْيَقْظَانِ؟ » ،
قَالَ:« نَعَمْ ».
قَالَتْ:« وَاللَّهِ إِنَّكَ، مَا علمت، تقول الحقّ ». فَــ
قَالَ:« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَىٰ لِي عَلَىٰ لِسَانِكِ ».
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ:" أَحْرَقَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ بِالنَّارِ "، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ[ﷺ] يَمُرُّ بِهِ، فَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَىٰ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: 《 يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً علىٰ عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ 》. 《 تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَا عَمَّارُ 》 .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عنه-، قال: " لما اتخذ النَّبِيُّ[ﷺ] فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، جَعَلَ يَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً. وَجَعَلَ عَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ. فَحَدَّثَنِي أَصْحَابِي أَنَّ النَّبِيَّ[ﷺ] جَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: 《 وَيْحَكَ، يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، تقتلك الفئة الباغية 》 .
حدث علي بن مجاهد، قال: " وقع بين عبدالله بن مسعود وبين عمار بن ياسر تشاجر في شيء. فعجل عمار. فجلس ابن مسعود. فبلغ ذلك عمر -رضي الله تعالى عنه-، فقال:« أتجلس ابن أم عبد؟ »؛ فعزل عمارا، وولى الكوفة المغيرة بن شعبة.
حدث دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لعمار رضى الله تعالى عَنْهُمَا:« أَسَاءَكَ عَزْلُنَا إِيَّاكَ؟ » قَالَ:« لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ سَاءَنِي اسْتِعْمَالُكَ إِيَّايَ، وَسَاءَنِي عَزْلُكَ ».
عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: 《 مَا عُرِضَ عَلَى ابْنِ سُمَيَّةَ أَمْرَانِ قَطُّ إِلا اخْتَارَ الأَرْشَدَ مِنْهُمَا 》 .
عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: « ثَلاثٌ مِنْ كَمَالِ الإِيمَانِ: الإِنْفَاقُ فِي الإِقْتَارِ، وَإِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلامِ ». وجاء من طريق آخر قَالَ : ثَلَاثُ خِلَالٍ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ خِلَالَ الْإِيمَانِ ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ :« يَا أبا اليقظان ، وَمَا هَذِهِ الْخِلَالُ الَّتِي زَعَمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ[ﷺ] قَالَ : 《 مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ خِلَالَ الْإِيمَانِ ؟ 》؛ فَقَالَ عمار عِنْدَ ذَلِكَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : 《 الْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ 》 » .
عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: أَتَى عَمَّارٌ يَوْمَ صِفِّينَ بِلَبَنٍ، فَضَحِكَ وَقَالَ: 《 قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ آخِرَ شَرَابٍ تَشْرَبُهُ حَتَّى تَمُوتَ شَرْبَةُ لَبَنٍ 》 » .
وقال علي -عليه السلام-:« إنّ امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمار و (لم) يدخل عليه بقتله مصيبة موجعة، لغير رشيد. رحم الله عمارا يوم أسلم، ورحم الله عمارا يوم قتل، ورحم الله عمارا يوم يبعث حيا. لقد رأيت عمارا ما يذكر مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم أربعة إلا كان الرابع، ولا خمسة إلا كان الخامس. وما كان أحد من أصحاب محمد يشك في أن عمارا قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين فهنيئا الجنة. عمار مع الحق أين دار. وقاتل عمار في النار » .
عن حبيب ابن أبي ثابت قال: « قتل عمار يوم قتل وهو مجتمع العقل».
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي إِسْنَادِهِ: كَانَ عَمَّارٌ آدَمَ، طُوَالا، مُضْطَرِبًا، أَشْهَلَ الْعَيْنَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَكَانَ لا يُغَيِّرُ شَيْبَهُ. وَقُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ فِي صَفَرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَتِسْعِينَ. وَذَلِكَ الثَّبْتُ. وَيُقَالُ: إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَدُفِنَ بِصِفِّينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ صَلَّى عَلَى عمار وهاشم بن عتبة، فجعل عمار مِمَّا يَلِيهِ، وَهَاشِمًا أَمَامَ ذَلِكَ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِمَا تكبيرا واحدا.
عَنْ عاصم ابن ضَمْرَةَ: أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى عَلَى عَمَّارٍ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُ.
عَنْ مُثَنَّى الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ شَهِدُوا عَمَّارًا قَالَ: لا تُغَسِّلُوا عَنِّي دَمًا فَإِنِّي مُخَاصِمٌ.
وروي عن الأصبغ بن نباته أنه قال: « رحم الله أبا اليقظان، فإني أرى أنه لو شارك أيوب عليه السلام في بلائه، صبر معه».
عَنْ عَبْداللَّهِ بْن جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: قُتِلَ عَمَّارٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَقْدَمَ فِي الْمِيلادِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ.
قلت(الرمادي) تتبعت مسيرة أبا اليقظان- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كاملة إذ انتقل من حالة الضعف والتعذيب إلى أن صار أميراً ثم تحققت نبؤة النبي الخاتم الصادق فيه... وإن كان هناك بعض المسائل معلقة!
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
بحوث:
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
السيرة النبوية العطرة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ
مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
٢٢ ربيع أول ١٤٤١ ه ~ ١٩ نوفمبر ٢٠١٩م

أعلى الصفحة
فهرس

الإيذاء البدني لصاحب الدعوة!

في خِضَمِّ ما تعيشه الأمة الإسلامية -اليوم- من واقع مخجل مؤلم، يُدمي القلب، ويُبكي العين، وتراجع ملحوظ عن موقعها اللائق بها والمميز بين الأمم... اسعىٰ إلىٰ تقديم هذا النموذج الطيب لمواقف صعبة مر بها صاحب الرسالة العصماء؛ لنتمكن من إنزالها علىٰ الواقع الفعلي المُعاش اليوم... أولاً: للإشادة بمكانة النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبيان عظمته، وطريقته المثلى في حل معضلات سير الدعوة وسنته العطرة في فك ما تشابك من مواقف عدائية؛ والأسباب التي أدّت إلىٰ معاداته، وكون هذه المعاداة ليست حديثة العهد بنا، بل هي قديمة قِدَم الرسالة الإسلامية؛ والبعثة المحمدية؛ بل -في حقيقة الأمر- صاحبت كل نبي وواكبت كل رسول يريد بإذن ربه رفع الغشاوة عن العين وإماطة الران من فوق القلب ليعش الإنسان سعيدا بجوار بني جلدته، فمنذ أول بزوغٍ لفجرِ الإسلام، وأعداؤه يحيكون له المكايد والمكائد، وينصبون له الفخاخ والمصايد، لا لشيء إلا لأنه الدين الذي ارتضاه الله تعالىٰ لجميع الخلق، إِنْسِهِم، وجِنِّهِم، عَرَبِهِم، وَعَجَمِهم... ليخرج الناس كافة من ظلمات الجهل؛ ويرفع عنهم تراب العي ويوقف حملات الدجل والتشكيك..
في الفصل السابق عشنا حالات مِن الإيذاء النفسي والمعنوي لسيد بني آدم -ولا فخر- فكان: أولاً :" العنصر الأول: الإيذاء النفسي والمعنوي لرسول الله -ﷺ-: "... ولعله من المفيد لحامل الدعوة التعايش مع السيرة المحمدية معايشة عملية وليس فقط الإطلاع على الهدي المحمدي إطلاع نظري؛ إذ يجب التأسي بالسيد الجليل والنبي النبيل - عملا وقولا وفعلا وسلوكا- فيما يعانيه في كل زمان من يحمل راية الإسلام حملا يوافق سنته صلى الله عليه وآله وسلم ويوافق طريقته ويلتزم هديه ...
أكمل اليوم مع : العنصر الثاني في المحاولات اليائسة لإيقاف سير الدعوة المحمدية الخاتمة والرسالة النبوية الأخيرة الفاصلة بين الحق والباطل... والحديث اليوم عن : الإيذاء البدني لصاحب الدعوة...
بحثي - إذا شاءَ اللهُ تعالىٰ؛ وإذنَ - عن معاداة صاحب الرسالة العصماء من قِبل المشركين؛ الذين ناصبوه العداء؛ إذ أنه جعل الألةَ إِلَهً واحدا، والكفار؛ الذين رفضوا سماع قولة الحق... كانت تعلو فوق رؤسهم 360 صنما ووثنا يعبد من دون الله -تعالىٰ- الواحد القهار الرزاق الأحد الفرد الصمد؛ وقبلوا بتحكيم الهوى والنفس الأمارة بالسوء وتحقيق المصالح الوضيعة... وبحثي عن الحرب علىٰ صاحب السُّنة التي توافق النفس البشرية؛ وتتفق مع الفطرة الإنسانية؛ وتتمشى مع الكينونة الآدمية.،، حربٌ -منذ اللحظات الأولىٰ ومازالت- ضد مبادئ الإسلام وقيمه ومفاهيمه ومعالجاته، ولسوف -إذا إذن ليَّ الرحمن - أتطرق إلىٰ إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم عبر الفترة المكية ومن ثم المدنية ومراحلهما المتعددة - أو ما اصطلح عليه بــ تأريخ زمن الوحي ونزول الرسالة-، أي منذ بداية دعوته صلى الله عليه وسلم إلىٰ إنتقاله إلىٰ الرفيق الأعلىٰ، وسوف -علىٰ قدر الإستطاعة والطاقة- أُرَكِّز الحديث علىٰ المواقف الكبرىٰ التي تعرَّض فيها خاتم رسل الله وآخر مبتعثيه للإيذاء، سواء منه الجسدي أو النفسي والمعنوي؛ إذ أن الإيذاء يبقىٰ إيذاءً، مهما اختلفت أشكاله وتنوعت طرقه.
**
ثانياً: العنصر الثاني: ويصلح أن نسميه المرحلة الثانية من مراحل العداوة والإيذاء البدني للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم:
فَشِل الطواغيت في تخويف الرسول ﷺ، والذين آمنوا معه، أو إغرائهم، فصبوا جام حقدهم علىٰ إيذائه صلى الله عليه وسلم إيذاءً بدنيًّا، فقد تعرَّض النبي الرسول ﷺ للإيذاء الجسدي علىٰ أيدي السفهاء من الكفار والمشركين وهو صابر مُحتَسِب، وعلينا جميعاً أنْ نفخر بهذه القدوة وتلك الإسوة للنبي الكريم الذي شرَّفَنا اللهُ تعالىٰ بأن انتسبنا إليه، فمن أجلنا ومن أجل إيصال الدين إلينا تحمَّل أشدَّ أنواع الإيذاء، فليس أقل من أنْ نتَّبعه ونتَّبع هديه ونتمسك بسُنَّته، ونحب مَنْ يُحِبُّه، ونُبغِض مَنْ يُبغضه.
ومن صور الإيذاء محاولة خنق الرسول ﷺ وهو يصلي، فــ
:" عن عبدِاللهِ بنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما - أنه قال: «بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ؛ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّىٰ أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقَالَ: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } [غافر: 28] ».
وبَوّب الإمام مسلم في صحيحه: تحت عنوان : « مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ» ؛ وذكره البخاري:
فــيحدّثنا عَبْدُاللَّهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ كان يُصلّي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوسٌ، إذ قال بعضهم لبعض :" أيُّكم يجيء بسلىٰ جزور بني فلان فيضعَه علىٰ ظهر محمد إذا سجد... فانبعث أشقىٰ القوم فجاء به، قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ؛ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلاَ جَزُورٍ... فَقَذَفَهُ عَلَىٰ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ووضعه بين كتفيه]، [قال : فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم علىٰ بعض (أي يتهم آحدهم الآخر بهذه الفعلة الشنيعة)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ] فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ [فرفع ﷺ رأسه]، وَدَعَتْ عَلَىٰ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ»... يكمل الصحابي الجليل- عَبْدُاللَّهِ بن مسعودٍ – فيقول:« وأنا أنظر لا أُغني شيئاً، لو كانت لي مَنَعَة» [بمعنى أنه من لم يكن قدرة علىٰ فعل شئ ما!]".
ثم قال ﷺ : 《اللهمَّ عليك بقريش》 ثلاث مرات .
فشقَّ عليهم إذ دعا عليهم، قال : «وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة»، ثم سمّىٰ : 《اللهمَّ عليك بأبي جهل، وعليك بعُتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأُميّة بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط》... وعدَّ السابع فلم نحفظه . قال : «فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتُ الذين عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، صرعى في القليب، قليب بدر»
... وفي هذا الرجل - أعني: عُقبةَ بن أبي مُعَيط - نزل قولُ الله تعالىٰ: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً } [الفرقان: 28، 29].
*.] الشوك على درب النبي
ومن صور إيذائه صلى الله عليه وسلم ما كانت تقوم به امرأة أبي لهب:
فقد كانت تحمل الشوك، تلقي بالاشواك في طريق النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى وتضعه أمام دربه يومياً، فتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلىٰ بابه ليلاً... وكانت امرأةً سليطةً تبسط فيه لسانَها، وتطيل عليه الافتراء والدَّس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بِحمَّالة الحطب... فــ نزلت بها آيات سورة المسد آيه 4،5 { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } .
ولم يتوقف الإيذاء عند هذا الحد، فلما يئس رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة خرج باحثًا عن ملاذ جديد للدعوة الإسلامية ولنصرة الدعوة، فوقع اختياره علىٰ الطائف، فقرَّر النبِيُّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَخرج بالدَّعوة مِن مكةَ إلىٰ الطائف؛ لعلَّه يجد بينهم من يؤمن بهذه الرِّسالة الخالدة، ويطلب النُّصْرة والعونَ من أهلها، ويَرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عندِ الله تعالىٰ، فلم يجد من يؤويه أو ينصره، فآذوه مع ذلك أشد الأذىٰ، ونالوا منه ما لم ينله قومه،
وهذه الحادثة من صور إيذائه البدني ﷺ
... كان معه زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم عشرة أيام لا يَدَعُ أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمَه...
ما قام به أهل الطائف:
حينما ذهب إليهم يدعوهم إلىٰ الدخول في دين الله تعالىٰ، فتحدثنا أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: « هَلْ أَتَىٰ عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ »، قَالَ: 《 لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَىٰ ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَىٰ مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَىٰ وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِى... فَقَالَ: « إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ »، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: « يَا مُحَمَّدُ! »؛ فَقَالَ: « ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ »، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:《 بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا 》
... قالوا له ﷺ : " اخرج من بلدنا "... وأَغْرَوا به سفهاءهم، فلمَّا أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبُّونه ويصيحون به حتىٰ اجتمع عليه الناس، فوقفوا صَفَّين وجعلوا يرمونه بالحجارة، ورجموا عراقيبه حتىٰ اختضب نعلاه بالدماء... فكانوا يرمونه بالحجارة حتىٰ دَمِيَت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتىٰ أصيب في رأسه، فانصرف راجعًا إلىٰ مكة محزونًا،
... بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله ﷺ، يقذفونك بالحجارة، فترد عليهم بالدعاء لهم، وترفض أنْ يُعذِّبهم الله تعالىٰ؛ بأنْ يُطبِق عليهم الأخشبين.
فــ أيُّ رحمة هذه!
إنه الرحمة المهداة والنعمة المسداة مِن رب العالمين إلىٰ البشرية جمعاء، ولِمَ لا، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
وفي مرجعه ذاك دعا بالدعاء المشهور، دعاء الطائف: 《 اللَّهمَّ(!)... إليك أشكو ضَعْف قوَّتي... وقلَّة حيلتي... وهواني علىٰ النَّاس... يا أرحم الرَّاحمين(!)... أنتَ ربُّ المستضعَفِين وأنت ربِّي... إلىٰ من تَكِلُني(!) إلىٰ بعيدٍ يتجهَّمني(!)... أم إلىٰ عدوٍّ ملَّكْتَه أمري(!)... إن لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي... ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي... أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقَتْ له الظُّلمات... وصلحَ عليه أمر الدُّنيا والآخرة مِن أن تُنْزِل بيَّ غضبك... أو يحلَّ عليَّ سخطك... لك العُتْبَى حتَّىٰ ترضىٰ... ولا حول ولا قوَّة إلا بك》.
... حين أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم وسالت الدماء من قدميه الشريفتين، وأصابه من الهم والحزن ما جعله ينْطَلِقُ عَلَىٰ وَجْهِه ولم يَسْتَفِقْ إِلا وجبريل -عليه السلام- قائم عنده يقول له:« إن شئت يا محمد أن أُطْبِق عليهم الأخشبين»، فأتىٰ الجواب منه –عليه الصلاة والسلام والرحمات والبركات - بالعفو عنهم قائلاً:《 أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالىٰ وحده لا يشركُ به شيئًا》.
هذا مُجْمَل ما ورد في حادثتي الخنق والخروج إلى الطائف، وما تعرض فيهما.
تأمَّلوا – معي... يا أتباع النبي المصطفىٰ والرسول المجتبىٰ المجتبىٰ - يسير النبي صلى الله عليه وسلم مشياً علىٰ قدميه من مكة إلىٰ الطائف مسيرة ستين ميلاً، ليس معه إلاَّ زيد بن حارثة، يسير في صحراء قاحلة من أجل إبلاغ دعوة ربه، فيقابله أهلها بهذا الجفاء وهذه الإهانة وهذا الإيذاء، وتدمى قدماه الشريفتان، ويتسلَّط عليه السُّفهاء، ويسبُّه الأشقياء، ويؤذيه التُّعساء، فيشق علىٰ نفسه الكريمة ذلك، وهو ثابت ثبوت الجبال، واثِقٌ فيما عند الله تعالىٰ، يسير في طريق دعوته بِلا كلل ولا ملل.
فهذا نبيكم يتحمل العناء الشديد كي يخرج العباد من عبادة العباد إلىٰ عبادة رب المخلوقات والعباد... يُؤذىٰ فيصبر، يجرح ويتألم ويكمل مسيرة الدعوة؛ ويعفو ويصفح، فاتخذوه أسوةً لكم وتحمَّلوا في سبيل دينكم ما قد تجدوه مِن المشقَّة والعناء.
*.] هذه بعض مظاهر الإيذاء التي تعرَّض لها النبي الأكرم والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من قومه؛ لِيُثنوه عن دعوته، وبقيت صورة أخرىٰ من صور الإيذاء التي مارسها مشركو قريشٍ ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المقاطعة؛ حيث تحالف المشركون علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم، وتعاهدوا علىٰ ألاَّ يُبايعوهم ولا يُجالسوهم ولا يُخالطوهم ولا يَدخلوا بيوتهم ولا يُكلِّموهم حتىٰ يُسلِموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم للقتل.
فانحاز بنو هاشم وبنو المطَّلب مؤمنهم وكافرهم إلاَّ أبا لهب، وحُبِسوا في شعب أبي طالب، واستمرَّ هذا الحِصار ثلاثة أعوام، واشتدَّ الحصارُ حتىٰ بلغهم الجَهْد، فأكلوا الأوراق والجلود، وكان يُسمع من وراء الشِّعب أصوات نسائهم وصبيانهم تصيح من الجوع... ثلاثة أعوام يعيش فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه في مقاطعة تامة؛ من أجل الضغط عليه لتقديم تنازلات ويترك دِينه الحق، ولكنه صبر وثبت... فداك أبي وأمي ونفسي يا رسول الله ﷺ... إنَّ قوة الحقِّ أقوىٰ من كلِّ الصِّعاب، ومن كلِّ المِحَن، فللحق صوته وقُوَّته، فتمسَّكوا بالحق واصبروا عليه، { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 1-3].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نستخلص العبر والدروس من الحالات السابقة ؛ فنجد :" حِلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصبره علىٰ الأذىٰ
والحِلم: هو ضبْط النفس عند هَيجان الغضب.
والغضب: هو ثورة النفس وغَليان القلب؛ لتملُّك الشيطان من النفس والعقل.
فالحلم مَلَكة تعمل علىٰ ضبْط النفس، وهو درجة سامية لا يصل إليها إلا من استطاع أن يَكبح زِمام غضبه.
وللحلم مكانة عظيمة؛ لأنه صفة من صفات العلي العظيم، الذى له صفات الكمال؛ كما أخبر - سبحانه - عن نفسه: { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة: 263].
وأيضًا من صفات الأنبياء: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114].
ودلَّنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغَّبنا في الحلم بقوله: 《 من كظَم غيظًا وهو قادر علىٰ أن يُنفذه، دعاه الله - عز وجل - علىٰ رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتىٰ يُخيَّر من الحور العين ما شاء》.
وحثَّ - صلى الله عليه وسلم - علىٰ الحلم حينما قال رجل:" أوصني يا رسول اللهط، قال - صلى الله عليه وسلم -: 《 لا تَغضب》، فردَّد مرارًا، قال: 《لا تَغضب》.
فدعانا - صلى الله عليه وسلم - بقوله للحلم، كما كانت سيرته - صلى الله عليه وسلم - دعوة عملية إلىٰ الحلم في مواقفَ كثيرةٍ معلومة مشهورة؛ منها:
ما حدَث حينما كُسِرت رَباعيَتُه وشُجَّ وجْهُه - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، وقد شقَّ ذلك علىٰ أصحابه كما يروي لنا أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل: « يا رسول الله، ادعُ علىٰ المشركين»، قال - صلى الله عليه وسلم -: 《 إني لم أُبعَث لعَّانًا؛ وإنما بُعثت رحمة》.
وينقل ابن مسعود - رضي الله عنه - لنا ذلك؛ حيث قال: « كأني أنظر إلىٰ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًّا من الأنبياء ضرَبه قومه فأدْمَوه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: 《 اللهمَّ اغفِر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون》».
انظر ما في هذا القول من جِماع الفضل، ودَرجات الإحسان، وحُسن الخلق، وكرَم النفس، وغاية الصبر والحلم؛ إذ لم يَقتصر - صلى الله عليه وسلم - علىٰ السكوت عنهم حتىٰ عفا عنهم، ثم أشفَق عليهم ورحِمهم، ودعا وشفَع لهم، فقال: 《 اغفر 》، أو 《 اهدِ 》، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: 《 لقومي 》، ثم اعتذر عنهم بجهْلهم، وقال: 《 فإنهم لا يعلمون 》.
ويوم ذهب إلىٰ أهل الطائف يدْعوهم، فسبُّوه وآذَوه أيَّما إيذاءٍ، وسلَّطوا عليه السفهاء وقذَفوه بالحجارة، وسخِروا منه، وردُّوه...
فماذا كان منه - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ونفسي؟!
هل دعا عليهم؟
هل طلب من ربِّه أن يَنتقم منهم؟
هل غضِب وثأَر لنفسه؟
هل تمرَّد علىٰ القيام برسالته وتقاعس عن إتمام دعوته؟
كلا وألف كلا ... لا والله بأبي هو وأمي ونفسي، ما كان ذلك، بل كان الصبر والحلم والحرص علىٰ نجاة قومه، بل الخوف من أن يكون قد قصَّر في رسالته ودعوته.
وهذا هو ربُّهُ -تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه- قد أرسَل إليه جبريل ومعه ملك الجِبال - عليهما السلام - ليَأمره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما يشاء، فيأبىٰ إلا الدعاءَ لقومه، والأمل في الله بهدايتهم.
فما أعظمه من نبي وما أحلَمه! فمن يَملك مثل هذا الحلم من البشر؟!
وتعالَوا لنعيد علىٰ مسامعنا ما ترويه لنا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر-رضي الله تعالى عنها وعن ابيها وأمها وأختها وأخيها-؛ حيث إنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل أتىٰ عليك يوم أشدُّ من يوم أُحد؟؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: 《 لقد لَقيت من قومك ما لَقيت، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العَقبة؛ إذ عرَضت نفسي علىٰ ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلىٰ ما أردت، فانطلَقت وأنا مهموم علىٰ وجهي، فلم أستفِق إلا وأنا بقَرن الثعالب، فرفَعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرَتُ فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال:« إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملَك الجبال؛ لتَأمره بما شِئت فيهم»، فناداني ملك الجبال، فسلَّم علي، ثم قال:« يا محمد، ذلك فما شِئت، إن شئت أُطبق عليهم الأخْشَبين»، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: 《 بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئًا 》
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*.] تعرض النبي للقتل
حاول الكفار قتل النبي وأرسلوا من يقتله، كما أطلقوا الجوائز والمال والنساء لمن يأتي برأس محمد -عليه السلام-، ولكن كان الله معه يحفظه ويُنير دربه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثاني من بحث أذى المشركين الذي لحق بخاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين -صلى الله عليه وآله وسلم-. الإيذاء البدني.
٢٤ صفر من العام الهجري ١٤٤١ الموافق 23 أكتوبر 2019 من الميلاد العجيب لعيسى ابن مريم العذراء البتول-عليهما السلام-
نال شرف قراءة المراجع ومتابعة المصادر؛ وتكحلت عيناه بكتابة هذا البحث:
د. محمدالرمادي

أعلى الصفحة
فهرس

الإيذاء على يد سفهاء المشركين

تمهيد : صبر الرسول -ﷺ- علىٰ أذىٰ المشركين
اقتضت حِكمة الله -تعالىٰ- أنْ يبتلي أنبياءَه ورسلَه –صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً- بأنواعٍ شتَّى من الإيذاء علىٰ يد أعدائهم؛ ليكونوا قدوة لأتباعهم في الصبر علىٰ الإيذاء في سبيل دعوتهم، فــ عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ »؛ قَالَ:《 الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَىٰ الْعَبْدُ عَلَىٰ حَسَبِ دِينِهِ》...فــ لم يبعث الله -تعالىٰ- نبيّاً أو رسولاً إلىٰ قومٍ مِن الأقوام إلا ولاقىٰ هذا النبي والرسول الصعوبات في رحلته الدعويّة ومسيرته التبليغية؛ وشاءت مشيئة الله -جلَّ جلاله- أن تكون الدنيا دار ابتلاء، لذلك لا بدَّ أن يمتحن الإنسان فيما يكره، لا فيما يحب. فـ مِن شمائل النبي -ﷺ- ، صبره علىٰ أذىٰ المشركين. فقد شاء الله تعالىٰ أن تكون الدنيا دار ابتلاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[سورة الملك]؛ وجاء:{وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}[سورة المؤمنون]؛ ونطق القرآن الكريم بالقول:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[سورة العنكبوت}؛ وقال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}[سورة الأحقاف : من آية 35].
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- :«لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ؛ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ؛ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ»
تنبيه :
ومِن الخطأ في القول أن نقول بأنه -ﷺ- خاف علىٰ نفسه أو ماله بل كانت قولته « أُخِفْتُ »؛ وفارق بين هذه الحالة وبين «خفتُ»... ولا تظهر من سيرته العطرة حالة خوف إطلاقاً!
الإمام الشافعي - رحمه الله تعالىٰ- حينما سُئل: "ندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين!؟"، فقال:« لن تمكن قبل أن تُبتلىٰ».
السادة الكرام والسيدات العفيفات!
نتدارس اليوم صفحةً مِن حياة النبي -ﷺ- في الفترة المكية قبل الهجرة؛ وفي طياتها مراحل عدة ومفاصل متشابكة، وهي صفحة مُؤلِمة علىٰ النفس الإنسانية والسَّلِيقَةِ الآدمية والطبيعة والسَجِيّة والفِطرة البشرية... فيها يتعرَّض النبي -ﷺ- لأشد أنواع الإيذاء علىٰ يد سفهاء قومه مِن المشركين الذين ناصبوه العَدَاء، فحاربوه ووقفوا في طريق دعوته.
وقد تعدَّدت وسائل محاربتهم للنبي -ﷺ- ولدعوته، فمنها الحرب النَّفْسية والدعائية والإعلامية، ومنها الحرب المادية والإيذاء الجسدي... فـــ النبي -ﷺ- حينما جاء بالدعوة عومل معاملة قاسية،ٌ إذ إنَّ قُرَيْشًا اشْتَدَّ أَمْرُهُمْ لِلشَّقَاءِ الَّذِي أَصَابَهُمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُمْ-رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين-، فَأَغْرَوْا بِرَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- سُفَهَاءَهُمْ، فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ، وَرَمَوْهُ بِالشِّعْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- مُظْهِرٌ لِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَسْتَخْفِي بِهِ، مُبَادٍ لَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ، وَاعْتِزَالِ أَوْثَانِهِمْ، وَفِرَاقِهِ إيَّاهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
فشلت محاولاتُ قريشٍ الدعائية والإعلامية بين الأشخاص وعند مواسم والكاذبة في وقف دعوة النبي -ﷺ-، فاشتدَّ غضبها وازداد غيظها، وعَظُمَ حَنَقُها علىٰ النبي -ﷺ- ومَنْ معه، فلجؤوا إلىٰ الإيذاء الجسدي ولنأتي بمثالا:
« قلتُ[أي : الحارث بن الحارث الغامدي] لأبي؛ ونحنُ بمنًى ما هذِهِ الجماعةُ!؟، قالَ:" هؤلاءِ قومٌ اجتمَعوا علىٰ صابئٍ لَهُم"، قالَ:" فأشرَفْنا"، فإذا رسولُ اللَّهِ -ﷺ- يدعو النَّاسَ، قالوا:" يا رسولَ اللَّهِ تدعو النَّاسَ إلىٰ توحيدِ اللَّهِ –تعالىٰ- والإيمانِ بِهِ؛ وهُم يردونَ عليهِ قَولَهُ ويؤذونَهُ... حتَّى ارتفعَ النَّهارُ انصدعَ عنهُ النَّاسُ... وأقبلتِ امرأةٌ قد بدا نحرُها تبكي... تحملُ قدحًا فيه ماءً ومنديلًا... فتناولَهُ مِنها وشرِبَ وتَوضَّأَ... ثمَّ رفعَ رأسَهُ إليها فقالَ:《 يا بُنَيَّةُ خمِّري عليكِ نحرَكِ ولا تخافي على أبيكِ غلبةً ولا ذُلًّا》... فقُلنا :" مَن هذِهِ!!؟"، قالوا:" هذِهِ زينبُ ابنتُهُ"» .
[أَشَدُّ مَا أُوذِيَ بِهِ الرَّسُولُ -ﷺ- ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : «أَنَّ أَشَدَّ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا كَذَّبَهُ وَآذَاهُ، لَا حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- إلَىٰ مَنْزِلِهِ، فَتَدَثَّرَ مِنْ شِدَّةِ مَا أَصَابَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَىٰ- عَلَيْهِ:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } ».
أولاً :" العنصر الأول: الإيذاء النفسي والمعنوي لرسول الله -ﷺ-:
يبدأ الأذىٰ من قِبل الكفار، فيُوصَف ما جاء به الرسول -ﷺ- من الهدىٰ والنور والضياء والشفاء والرحمة، يُوصَف بأنه شِعر أو سحر أو كهانة، فيُتَّهَم بأنه -ﷺ-، مجنون وشاعر وساحر وكاهن، ويأتي الاتهام بالسحر، ومثلُه في سياق العجز والهروب من العقل:{ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}[الصافات: 36]، وبينما يتهمه المشركون بهذه التهم ينفيها عنه رب العالمين:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]، {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 30، 33]، ويستمر مسلسل التعريض والسخرية به -ﷺ-:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، فيشكك في استحقاقه لرسالة ربه -سبحانه وتعالىٰ-.
ويحزن الرسول -ﷺ-، وهو يعلم أنه علىٰ الحق، وأنه يدعو إلىٰ الهدىٰ والنور، فيُواجَه بهذا السيل من التهم والافتراءات، فينزل القرآن مرة أخرىٰ علىٰ رسول الله -ﷺ-، مثَبِّتًا له ومؤيدًا وآمرًا له -ﷺ- بالصبر علىٰ ما يقول الكافرون:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَىٰ الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 33 - 35].
كان المشركون يشتمون ويسبون النبي -ﷺ- فكانوا يُسمونه مُذمَّمًا بدلاً من اسمه 《مُحَمَّد》، فــ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ-:《أَلَا تَعْجَبُونَ كيف يَصْرِفُ اللَّهُ عنِّي شَتْمَ قريشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ!》.
ومن باب السخرية كان المشركون يسألون النبي -ﷺ- المعجزات علىٰ سبيل التعجيز والاستهزاء حينما يفاجَؤُون بالدلائل والمعجزات؛ فــ عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ:" انْشَقَّ الْقَمَرُ علىٰ عَهْدِ النَّبِيِّ -ﷺ- حَتَّىٰ صَارَ فِرْقَتَيْنِ علىٰ هذا الْجبلِ وعلىٰ هَذَا الْجبلِ "، فقالوا:" سحرَنَا مُحَمَّدٌ"، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:" لَئِنْ كَانَ سَحَرَنَا، فَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ".
استخدم المشركون السخرية والاستهزاء بالنبي -ﷺ-؛ كي يُثنوه عن دعوته، فاتَّهموه بالجنون تارة، وبالسحر تارة، وبالكذب أخرىٰ، وقد عبَّر القرآنُ عن هذه الاتهامات الباطلة، فقال -تعالىٰ-:{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحِجر: 6]، وقال -سبحانه-:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [ص: 4].
الاستهزاء برسول الله -ﷺ-، يقول الله -عز وجل-:{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [ الأنبياء: 36]، والعجب العجيب والأمر الغريب أن يهزأ المبطل بالمحق، وأن يسخر السفيه بالعاقل، تلك والله أذية كبيرة تقع كالصخر علىٰ صدر الذي يتعرض لهذا النوع من الأذىٰ... رسول الله -ﷺ- يعلم أنه علىٰ الحق وهم يستهزئون به:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41].
يستهزئون بشخصيته -ﷺ-، ولكنه يصبر علىٰ هذا الأذىٰ، وهو يتفكر في قول الله -تعالى عز وجل- يسري عن شخص رسوله:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [الأنعام:10] لقد دارت دائرة السوء عليهم، وهذا الاستهزاء الذي استهزءوا به قد أصبح وبالاً عليهم.
وكان لهذا الاستهزاء وتلك السخرية أثر في نفس النبي -ﷺ-، وهو الصادق المصدوق، وهو الأمين، المشهود له برجاحة العقل، فواسىٰ اللهُ -تعالىٰ- نبيَّه الكريم قائلاً:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحِجر: 97-99].
صبره -ﷺ- علىٰ الاتهامات.
وكان من وسائلهم في تلك الحرب المعنوية إثارة الشبهات والدعايات الكاذبة والباطلة، ولقد صبر رسول الله -ﷺ- علىٰ شتىٰ الاتهامات؛ إنهم اتهموه بالشعر فقالوا أنه شاعر، وأن هذا القرآن إنما هو شعر، وأنهم -أيضاً- شعراء ولو شاءوا أن يأتوا بمثل شعره لأتوا، يريدون أن يحولوا هذا القرآن عن مجراه العظيم، والقالب الذي نزل به؛ لكي يقولوا للناس: نحن نستطيع أن نصنع مثله:{بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]، قالوا:{أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات:36]. وقالوا:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]. إنهم ينتظرون نهايته، وينتظرون موته حتىٰ تدفن دعوته في مهدها، ولا تقوم لها قائمة، ولكن الله -سبحانه وتعالىٰ - تولىٰ-بعظمته وقدرته- الدفاع عن رسوله وتثبيت نبيه -ﷺ-:{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:38-41]. وقال -عز وجل-:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يــس:69] وكلُّ عارفٍ باللغة العربية - بنثرها وشعرها- يعرف أن هذا القرآن ليس علىٰ وزن الشعر، وليس شعراً كالذي يقوله الشعراء.
وأوذي -عليه السلام- باتهامه بالسحر:{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس:2]،{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4]،{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:4]، ولكن الله -تعالىٰ في سماه وسما في علاه وتقدست اسماه- رد عليهم، فقال:{كَذَلِكَ مَا أَتَىٰ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52].
لماذا يريد الجاهليون أن يصموا شخصية رسول الله -ﷺ- بالسحر؟
لأنهم رأوا أن لهذا القرآن الذي يتلوه -ﷺ- على الناس أثراً عظيماً علىٰ نفوس الناس؛ إنه يجذب الأنظار، ويأخذ بمجاميع القلوب، ويشد الأذهان، ويُعمل العقل والفكر في نصوصه، فإن عليه لطلاوة، وإن فيه لحلاوة، ولذلك يريدون أن يصرفوا أذهان الناس عن سبب هذا التأثير؛ سبب هذا التأثير أن هذا القرآن من عند الله، أن القرآن كلام الله، سبب هذا التأثير أنه نزل من عند الله الخالق الرازق المحيّ الذي خلق هذا الكائن البشري بما فيه من جسد وروح ونفس، ويعلم -سبحانه- ما يؤثر بهذه النفس البشرية، وما تتأثر به هذه النفس الآدمية، إنهم يريدون أن يصرفوا سبب التأثير إلىٰ أي شيء؟ إلىٰ السحر الذي يؤثر كذلك في الناس؛ إنها -والله- دعاية إعلامية -رخيصة- يريدون أن يلبسوا علىٰ الناس الذين يتأثرون بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وصبر -ﷺ- علىٰ اتهامه بالجنون: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر:6]. وقالوا:{أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات:36]؛ {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} [الدخان:14].
ليس -هناك- أصعب علىٰ صاحب الإيمان، ومالك العقل الراجح، ورب الرأي السديد، والفكر الصائب، أن يُتهم في عقله، وأن يوصف بالجنون. فتولىٰ الله الرد علىٰ هذه الفرية مثبِّتاً رسوله -ﷺ-:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46]. وقال -عز وجل-:{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]. وقال -سبحانه وتعالى-: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1-2].
صبره -ﷺ- علىٰ التكذيب.
وقد صبر رسول الله -ﷺ- علىٰ اتهام كفار قريش له بالتكذيب، {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4]. {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان:4]. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَىٰ اللَّهِ كَذِباً} [الشورى:24]. يقولون هذا من جهة في مناسبات كثيرة، في مواقف متعددة، وهم في مناسبة أخرىٰ في موقف آخر يعلمون ويعترفون بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بكذاب. ففي صحيح البخاري: لما سأل هرقل أبا سفيان في بداية مقابلته له، قال:" هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال!؟"... هرقل جاءته لحظات من التجرد والإنصاف، ولقد همَّ أن يدخل هذا الدين لولا جشع الملك، وحب الرئاسة، وخوفه من زوال سلطانه، فرجع إلىٰ الكفر، ولكنه قد رأىٰ الحق بأم عينيه. يقول هرقل لأبي سفيان:" هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟"، فرد:" لا". ثم قال له في آخر مقابلته:" وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب علىٰ الناس ويكذب علىٰ الله؛ أنت تقول أن محمداً -ﷺ- ما عهدت منه الكذب علىٰ الناس قبل البعثة، ولا يكذب علىٰ الناس، فعلمتُ أنه لم يكن ليذر الكذب علىٰ الناس ثم يكذب علىٰ الله، والكذب علىٰ الله أصعب وأشد من الكذب علىٰ الناس، فعلم أنه صادق.
ولقد تولىٰ القرآن الرد علىٰ هذه المزاعم فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} -كذب- {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]. إذا زعمتم أنه كذاب هاتوا عشر سور مثل سور القرآن:{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود:13}، لكي تُألِفوا هذه السور؛ من سائر عظماء الشعراء وأهل النثر والبلاغة:{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13}. ثم تنزل القرآن في الرد عليهم إلىٰ ما هو أدنىٰ من ذلك، فقال الله -عز وجل-:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38]. عظَّم التحدي ونقص المقدار، فظهر التحدي أعظم:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه} [يونس:38}، سورة واحدة فعجزوا، ولما حاول الكذابون أن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن؛ أتوا بأشياء مضحكة ليس هذا مجال سردها، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35}. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ} [السجدة:4]. ويُسَري القرآن الكريم والذكر الحكيم عن نفس رسول الله -ﷺ-، ويثبت الله -تعالىٰ- به قلب رسول الله -ﷺ- فيقول:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
وقالوا عنه:{إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4]، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5]، وظلُّوا يُرَوِّجون لهذه الشُّبه وتلك الدَّعاوى الباطلة، ولكن القرآن الكريم كان أعلىٰ سطوة وأقوىٰ حُجَّة في وجه هذه الشُّبه والأباطيل، فظلَّ الناس يدخلون في دين الله -تعالىٰ- أفواجاً، وظلَّ عدد المسلمين في تزايد.
فما كان منهم إلاَّ أنْ حاولوا - وبكل قوة - أنْ يمنعوا القرآنَ من الوصول إلىٰ أسماع الناس، فكانوا يطردون الناسَ ويُثيرون الشَّغَب والضَّوْضاء ويلعبون إذا رأوا النبيَّ -ﷺ- يتهيَّأُ للدعوة، قال -تعالىٰ-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ومن حربهم المعنوية أيضاً:
استقبال الناس وتحذيرهم من النبيِّ -ﷺ- ودعوته، ومن هؤلاء الطُّفَيل بن عمرو الدَّوْسي، وكان شاعراً لبيباً، رئيس قبيلة دوس، قدم مكة، فاستقبله أهلها قَبْل وصوله إليها، وبذلوا له أجَلَّ تحيَّة وأكرم تقدير، وقالوا له:" يا طفيل! إنك قدمتَ بلادَنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنما قولُه كالسِّحر، يُفرِّق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشىٰ عليك وعلىٰ قومك ما قد دخل علينا، فلا تُكلمه ولا تسمعنَّ منه شيئًا".
انظر وانتبه -أيها القارئ الكريم- إنها الدعاية الكاذبة التي تحمل في طيَّاتها عوامل ضعفها، فهم يخشون من سماعه؛ لأنهم يُدركون أنَّ الحقَّ كل الحق في هذا القرآن العظيم.
يقول الطُّفَيل:« فواللهِ ما زالوا بي حتىٰ أجمعتُ ألاَّ أسمعَ منه شيئًا، ولا أكلمه، حتىٰ حَشَوتُ أُذني - حين غدوت إلىٰ المسجد - كُرْسُفًا (قُطْناً)؛ فَرَقًا من أنْ يبلغني شيء من قوله ».
قال:« فغدوتُ إلىٰ المسجد فإذا هو قائم يُصلِّي عند الكعبة، فقمتُ قريبًا منه، فأبىٰ الله -تعالىٰ- إلاَّ أنْ يُسمعني بعضَ قولِه، فسمعتُ كلامًا حَسَنًا »... إلىٰ أنْ قال:« فَعَرَضَ علَيَّ الإسلامَ، وتلا عليَّ القرآنَ. فواللهِ ما سمعتُ قولاً قَطُّ أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدلَ منه، فأسلمتُ وشهدتُ شهادةَ الحق ».
... وها هو ضِمادُ الأزْدي، وكان يرقي من هذا الريح، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون:" إنَّ محمدًا مجنون"، فقال:« لو إني أتيتُ هذا الرَّجلَ لعل الله يشفيه علىٰ يدي »... فلقيه، فقال:« يا محمد! إني أرقي من هذا الريح، فهل لك؟» فقال رسول الله -ﷺ-: 《إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه، مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد》.
فقال- ضِمادُ -:« أعد عليَّ كلماتك هؤلاء »، فأعادهُنَّ عليه رسولُ الله -ﷺ- ثلاث مرات، فقال:« لقد سمعتُ قولَ الكهنة، وقولَ السَّحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مِثلَ كلماتك هؤلاء، هاتِ يدَك أبايعك علىٰ الإسلام، فبايعه ».
وهكذا -أيها القارئ الواعي المستنير- فإن المحنة تتولَّد منها المنحة، والفجر ينبثق من غسق الليل، فقد انقلبت تلك الحرب الدعائية وهذه الإشاعات الكاذبة وبالاً عليهم، إذ أنهم روَّجوا للنبي -ﷺ- وساعدوا في نشر دعوته دون أن يشعروا، ولربما لو أمسكوا ألسنتهم لَمَا علم الطُّفَيل بن عمرو الدَّوْسي والضِّمادُ الأزْدي شيئاً عن النبي -ﷺ- ودعوته.
حادثة المساومة:
وعلىٰ الرغم من شدة هذا اللون من الإيذاء النفسي للرسول ﷺ، الذي أحزنهم، فإنه -صلى الله عليه وآله وسلم-، ظل صابرًا علىٰ دعوته، محتسِبًا فيما يواجهه في سبيل تبليغها، ثابتًا علىٰ مبدأ التبليغ لدعوة ربه -جلَّ في علاه وتقدست اسماه-، فسلك الكفار مسلكًا آخر؛ طمعًا منهم في التأثير علىٰ الرسول -ﷺ-، والحادثة كما روتها كتب السيرة :
حَدِيثُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ مَعَ الرَّسُولِ - ﷺ -
اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ( بْنِ كَلَدَةَ )، أَخُو بَنِي عَبْدِالدَّارِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ السَّهْمِيَّانِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، -أَوْ مَنْ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ-. فَـــــ : اجْتَمِعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:" ابْعَثُوا إلَىٰ مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّىٰ تُعْذِرُوا فِيهِ "، فَـــ بَعَثُوا إلَيْهِ:" إنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدْ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، فَأْتِهِمْ "؛ فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ- سَرِيعًا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنْ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِيمَا كَلَّمَهُمْ فِيهِ بَدَاءٌ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، حَتَّىٰ جَلَسَ إلَيْهِمْ؛ فَقَالُوا لَهُ :" يَا مُحَمَّدُ(!)، إنَّا قَدْ بَعَثْنَا إلَيْكَ لِنُكَلِّمَكَ، وَإِنَّا وَاَللَّهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِثْلَ مَا أَدْخَلْتَ عَلَىٰ قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إلَّا قَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ - أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ - فَإِنْ كُنْتَ إنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ [1.] مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّىٰ تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إنَّمَا تَطْلُبُ بِهِ [2.] الشَّرَفَ فِينَا، فَنَحْنُ نُسَوِّدُكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ [3.] مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ [4.] رِئْيًا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ - وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنْ الْجِنِّ رِئْيًا - فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا لَكَ أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ لَكَ حَتَّىٰ نُبْرِئَكَ مِنْهُ، أَوْ نُعْذِرَ فِيكَ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - :《مَا بِي مَا تَقُولُونَ... مَا جِئْتُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ 》... أَوْ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ - .
وهو نفس العرض والمساومة التي عرضها عتبة .. فلنراجع الحادثة :
[ مَا دَارَ بَيْنَ عُتْبَةَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيِّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ :" يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَىٰ مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيَّهَا شَاءَ، وَيَكُفُّ عَنَّا ؟ " - وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ - فَقَالُوا :" بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، قُمْ إلَيْهِ فَكَلِّمْهُ "، فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّىٰ جَلَسَ إلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- ، فَقَالَ :" يَا ابْنَ أَخِي، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنْ السِّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا. قَالَ : فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ-: 《قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ 》؛ قَالَ :" يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّىٰ تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّىٰ لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّىٰ نُبْرِئَكَ مِنْهُ - فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَىٰ الرَّجُلِ حَتَّىٰ يُدَاوَىٰ مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ -. حَتَّىٰ إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ، وَرَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ :《 أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ !؟ 》؛ قَالَ :" نَعَمْ "، قَالَ :《 فَاسْمَعْ مِنِّي 》؛ قَالَ :" أَفْعَلُ "؛ فَقَالَ:《 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } 》ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ، أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ؛ ثُمَّ انْتَهَىٰ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- إلَىٰ السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ :《 قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ 》.
[مَا أَشَارَ بِهِ عُتْبَةُ عَلَىٰ أَصْحَابِهِ ]
فَقَامَ عُتْبَةُ إلَىٰ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ :" نَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ ". فَلَمَّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا :" مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ ". قَالَ :" وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاَللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَىٰ الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ" ، قَالُوا :" سَحَرَكَ وَاَللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ " ، قَالَ :" هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ " .
ولم يتوقف المشركون عن الإيذاء النفسي للرسول -ﷺ- بل تعدوه إلىٰ الطعن في شرفه وعرضه؛ فتأتي :
„حادثة الإفك”:
ولم يكتف الأعداء بأذيته في نفسه -ﷺ- بل تجاوزوا ذلك إلىٰ الطعن في شرف زوجته عائشة -رضي الله عنها-، وهو ما يسمىٰ بــ „حادثة الإفك” التي روتها أمنا عائشة -رضي الله عنها-؛ فقد ورد في الصحيحين [البخاري ومسلم] وهو حديث طويل، والحادثة باختصار أن النبي -ﷺ- كان إذا أراد سفرًا أقْرَعَ بين نسائه، فلما أراد التوجه لغزوة بني المصطلق خرج سهم عائشة -رضي الله تعالىٰ عنها وعن أبيها وعن أمها وأخيها وأختها-، فتوجهت معه، وجُعِل لها هودج، فلما كان آخر ليلة من رجوعهم إلىٰ المدينة تخلفت في طلب عِقْد كان لأختها أسماء، فحُمِل الهودجُ ظنًّا منهم أنها فيه؛ لأنها كانت خفيفة كما أخبرت، فسار القوم، ورجعت فلم تجدهم، فمكثَتْ مكانها منتظرة أن يعلموا بفقدها فيعودوا ليأخذوها، فغلبها النوم، فمر بها صفوان بن الْمُعَطَّل، وكان يعرفها قبل آية الحجاب، فأناخ ناقته، وولّاها ظهره، وصار يسترجِعُ حتىٰ استيقظت، وحملها علىٰ الناقة، ولَحِق بالنبي ﷺ، فأشاع عبدالله بن أُبي ابن سلولَ - لعنه الله - الإفك، وفشا ذلك بين المنافقين وضعفاء المسلمين، [ولَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ اشتكَتْ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَهَيَ لا تَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فلما أُخْبِرت بذلك ازْدَادَتْ مَرَضًا إِلَىٰ مَرَضِها، واستأذنت رسول الله أن تُمَرَّض في بيت أمها، فأذن لها، فلما فشا ذلك الكلام شق علىٰ النبي ﷺ، فجمع الصحابة وقال: 《يا معشر المسلمين، من يَعْذِرُني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟... فوالله ما علمْتُ علىٰ أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمْتُ عنه إلا خيرًا》... فقال سعد بن معاذ سيدُ الأَوس: «أنا أعْذِرُك منه، إن كان من الأوس ضربْتُ عنقَهُ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمَرْتَنَا ففعلْنَا أَمْرَك»... فقال سعد بن عبادة سيد الخزرج:« كذَبْتَ، لا تقدِرُ علىٰ قتله»... فهمّ الأوس والخزرج بالاقتتال، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ -ﷺ- يُخَفِّضُهُمْ حَتَّىٰ سَكَتُوا، فأنزل الله عشر الآيات من أول سورة النور يُبَرِّئ فيها السيدة عائشة، أولُها قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } [النور: 11]، وبذلك ثبتت براءتُها في القرآن، فقرأ النبي -ﷺ- الآيات عليها وعلىٰ الصحابة ففرحوا، وأنزل الله -عز وجل- براءتها من فوق سبع سماوات، فليس مسجد يُذكر الله فيه إلاَّ وشأنها يُتلىٰ فيه آناء الليل وأطراف النهار.
محصلة هذا الجزء:
ظل -ﷺ- صابرًا محتسبًا، لم تَثْنِهِ الشدائد عن دعوته، ولم تصرفه الإغراءات عن منهجه، وظلت كلماته التي خاطب بها عمه أبا طالب حين ناقشه أمْرَ العدول عن دعوته، تُصِمُّ آذان كل عدو؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه: 《 والله يا عَمِّ، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، علىٰ أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتىٰ يُظْهِرَه الله، أو أهْلِكَ دونه 》.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الأول من بحث أذى المشركين الذي لحق بخاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين -صلى الله عليه وآله وسلم-.
١٧ صفر من العام الهجري ١٤٤١ الموافق 16 أكتوبر 2019 من الميلاد العجيب لعيسى ابن مريم العذراء البتول-عليهما السلام-
د. محمدالرمادي

أعلى الصفحة
فهرس

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[(121)]

1.] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- لَمَّا نَزَلَتْ : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية 214] وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلصِينَ ؛ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا[(122)] وَهَتَفَ : 《يَا صَبَاحَاهُ 》.
فَقَالُوا : «مَنْ هَذَا ؟ » .
فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ ، فَقَالَ :《 أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ 》.
قَالُوا : «مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا» ،
قَالَ : 《فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيَّ عَذَابٌ شَدِيدٌ 》.
قَالَ أَبُو لَهَبٍ[(123)] : >>تَبًّا لَكَ ! <<؛
" مَا جَمَعْتَنَا إِلا لِهَذَا ؟ ".
ثُمَّ قَامَ ،
فَنَزَلَتْ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } [سورة المسد آية 1 ] وَقَدْ تَبَّ . هَكَذَا قَرَأَهَا الأَعْمَشُ[(124)] يَوْمَئِذٍ.
2.] وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ ، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالا : لَمَّا نَزَلَتْ : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [سورة الشعراء آية 214] انْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَضَمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلا أَعْلاهَا حَجَرًا ثُمَّ نَادَى : 《يَا بَنِي عَبْدِمَنَافٍ ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ ؛ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ فَجَعَلَ يَهْتِفُ : يَا صَبَاحَاهُ ! . 》
3.] وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ ، قَالا : إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ : «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية 214] قَالَ : 《يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ》- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - 《اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِمَنَافٍ ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . . ».
4.] وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ :«بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَجَمِيعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : >>أَلا يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمَرْءِ . أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاهَا فَيَجِيءُ بِهِ ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ؟ <<... فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا .
فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةُ ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلاةَ قَالَ :《اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ 》، ثُمَّ سَمَّى : 《اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَعِمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ 》.
قَالَ عَبْدُاللَّهِ : «فَوَاللَّهِ ، لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ »، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : 《وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً》 ».
5.] وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، قَالَ : قُلْتُ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُما -: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ : «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ ، فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ ، وَدَفَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } [سورة غافر آية 28] ».
6.] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَبُو جَهْلٍ :>> هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ <<.
فَقِيلَ : "نَعَمْ" .
فَقَالَ : >>وَاللاتِ وَالْعُزَّى ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ ، وَلأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ <<.
قَالَ : فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي ، زَعَمَ : لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ ، قَالَ : فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : "مَا لَكَ ؟ "
فَقَالَ : >>إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلٍ وَأَجْنِحَةٍ<< ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: 《لَوْ دَنَا لاخْتَطَفَتْهُ الْمَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا》 .
7.] وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ ».
فَقَالَ : 《لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَا لَيْلِ بْنِ عَبْدِكَلالٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ ، فَنَادَانِي فَقَالَ : «إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ» .
قَالَ : 《فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ 》،
ثُمَّ قَالَ :« يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ، فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ» .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: 《بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهْم مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا》 . [(125)]
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعد هذا الملف :
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
الأربعاء : ٢٧ ذو الحجة ١٤٤٠ هـ ~ 28 أغسطس 2019 م

أعلى الصفحة
فهرس

قُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُفْلِحُوا[(69)]

هذه المرحلة؛ والتي ابدء الحديث عنها -أقصد المرحلة المَكيَّة بمقدماتها وارهاصاتها وأحداثها وتقسيماتها وروابطها ومفاصلها وشخصياتها المحورية- هي المرحلة الأولىٰ مِن مراحل البعثة المحمديَّة؛ وهي بدايات الرسالة النبويَّة المصطفويَّة الأحمديَّة؛ هذه المرحلة تبدءُ تأريخيا بـ (١٣) ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة[(70)] المباركة مِن مَكةَ المكرمة إلىٰ يثرب والتي سيطلق عليها لاحقاً مدينة رسول الإسلام -المدينة المنورة؛ والتي طيَّب الله ثراها بمرقده ومِن بعده بجواره وزيريه في الأرض: صديق هذه الأمة وخليفته الأول في إدارة شؤون المسلمين وفق الكتاب والسُنَّة المحمديَّة، وفاروقها؛ الثاني في الخلافة الراشدة علىٰ منهاج النبوة-، وهي السَنة التي تقارب (٦٠٩) الميلادية[(71)].
لقد كان ﷺ في مرحلة النبوة[(72)] يخاف من الوحي يأتيه بإحدىٰ صوره؛ ولذلك كان يأتي لخديجةَ -رضي الله عنها وارضاها- شاكيا، ويقول لها: 《خشيت علىٰ نفسي》[(73)]، ويصف الرجل الذي يظهر أمامه ويقول: 《سطا عليَّ الرجل》[(74)]، وكان يجري منه محاولا الهرب من أمامه. [(75)]
أما في مرحلة الرسالة[(76)] فكان يأنس بالوحي، ويتعجله، ويخاف أن يتركه ولا يأتيه[(77)]
ولقد اختلف الوحي مع محمد صلى الله عليه وسلم في فترة النبوة عن الوحي في فترة الرسالة[(78)]، يقول القاضي عياض[(79)]: «وإنما بدأ الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا؛ لئلا يفجأة الملَك، ويأتيه بصريح النبوة بغتة، فلا تتحملها قواه البشرية، فبدئ بأوائل خصال النبوة، وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا، وما جاء من :
*.] رؤية الضوء[(80)]، و
*.] سماع الصوت[(81)]، و
*.] تسليم الحجر والشجر عليه بالنبوة»[(82)]، حتىٰ يستشرف عظيم ما يراد به، ويستعد لما ينتظره، فلم يأته الملَك إلا بأمر عنده مقدماته[(83)]
يقول ابن كثير[(84)] الدمشقي:« ... بدء الوحي بصورة التدرج يهدئ القلب، ويطمئن النفس..». [(85)]
ومن صور الوحي في بدايته ما يلي:
1- الرؤيا الصادقة:
إذا نام الإنسان انقطع عن عالم الناس، وعاش مع باطنه وإدراكاته اللاشعورية، وخلال النوم تهيم نفس النائم في رؤىٰ تتضمن أفكارا وأحداثا، لا يمكن له أن يتصور حدوثها في حالة اليقظة؛ ولذا كانت الرؤىٰ المنامية تدريبا للإنسان وهو في عالم اللاشعور، علىٰ ما سوف يراه في عالم الإدراك والشعور[(86)].
ولقد كان من رحمة الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن بدأه الوحي بالرؤيا الصادقة، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح»[(87)].
وبذلك كان الوحي يُعْلِمُ رسول الله وهو نائم بما يريده الله تعالىٰ في رؤىٰ صادقة، صالحة، خالية من الضغث والوهم، وكانت رؤىٰ الوحي في وضوحها وظهورها تشبه ضوء الصبح في بيانه وسطوعه.
جاء في فتح الباري أنه «ثبت في مراسيل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أولا في المنام حتىٰ أتاه الملَك بعد ذلك في اليقظة علىٰ الصورة التي أتاه بها في المنام»[(88)]، وقد تعددت الرؤىٰ المنامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يندهش لذلك..
ومنها[(89)] :
- رأى أن آتٍ أتاه، ومعه صاحبان له، فنظروا إليه فقالوا: «هو، هو»، ثم ذهبوا.. فهاله ذلك، وتساءل عما رأى، وعن حديثهم أمامه، فقال له عمه أبو طالب: «يابن أخي، ليس بشيء»[(90)].
- وأتاه هذا الآتي مرة أخرى، فجاء لعمه، وقال له: 《يا عم، سطا بي الرجل الذي ذكرت لك، فأدخل يده في جوفي حتى أني أجد بردها》، فخرج به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطيب بمكة، فحدثه حديثه، وقال: عالجه، فصوب به، وصعد، وكشف عن قدميه، ونظر بين كتفيه، وقال: «يابن عبدمناف، ابنك هذا طيب طيب، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته، وليس الرائي شيطانا، ولكنه من النواميس الذين يتحسسون بها القلوب للنبوة»، فرجع به[(91)].
- رأى في منامه أن سقف بيته نزعت منه خشبة، وأدخل فيه سلم من فضة، ثم نزل إليه رجلان، فأراد أن يستغيث فمنع من الكلام، فقعد أحدهما إليه، والآخر إلى جنبه، وأدخل أحدهما يده في جنبه فنزع ضلعين منه، وأدخل يده في جوفه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجد بردها، فأخرج قلبه، فوضعه على كفه، وقال لصاحبه: «نعم القلب قلب رجل صالح»، فطهر قلبه وغسله، ثم أدخل القلب مكانه، ورد الضلعين، ثم ارتفعا، ورفعا سلمهما، فإذا السقف كما هو، فذكر ذلك لخديجة بنت خويلد فقالت له: «أبشر، فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا، هذا خير فأبشر»[(92)].
- ورأى في منامه جبريل ومعه نمط من ديباج فيه كتاب فقال له: اقرأ.
[وقد ذكرتُ الحديث في :" [ ٥ ] المجلد الخامس؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}"، فليراجه هناك؛ مِن منشورات <<آستروعرب نيوز>>.]
فقال له: "ما أقرأ؟ ".
فغته به حتى ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الموت، ثم أرسله فقال: اقرأ.
قال صلى الله عليه وسلم: "ما أقرأ؟ ".
فغته به حتى ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الموت، ثم أرسله فقال له: اقرأ.
قال صلى الله عليه وسلم: "ماذا أقرأ؟ "، قال ذلك إلا افتداء منه أن يعود إليه بمثل ما صنع.
قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتهى فانصرف جبريل، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه، قال: "فكأنما كتب في قلبي كتابا"، فذكر ذلك لخديجة فقالت: أبشر، فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا[(93)].
وهكذا ...
تعددت الرؤى، وركزت على قضية إعلام الرسول بنبوته، وتطهيره، وإعلامه ما ينتظره من أحوال وأعمال، حتى لا يفجأه الملَك على صورته الحقيقة، فيصاب بالخوف والاضطراب. [(94)]
إن هذه المقدمة بيان لأهمية الرؤىٰ، وإبراز لدورها في تهيئة الإنسان لأحداث عالم اليقظة، وبخاصة إذا كانت الأحداث غريبة مدهشة.[(95)]
2- نداءات الملائكة:
من صور الوحي الذي بدأ برسول الله ﷺ نداء الملائكة عليه، وإعلامهم إياه بنبوته، وهو لا يعرف المنادِي، ولا يمكنه تحديد مصدر النداء..
من ذلك ما رواه ابن كثير بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: 《إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر》[(96)].
قالت: «معاذ الله، ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث».
فلما دخل أبو بكر، قالت له خديجة:« يا عتيق، اذهب مع محمد إلىٰ ورقة»[(97)]
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: «انطلق بنا إلىٰ ورقة».
قال: « ومن أخبرك؟»
قال: «خديجة».
فانطلقا إليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: 《إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض》.
فقال له:« لا تفعل إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني».
فلما خلا ناداه: «يا محمد، قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} قل: لا إله إلا الله»، فأتى محمد ورقة، فذكر له ذلك، فقال له ورقة: «أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل» [(98)]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: 《خرجت مرة حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: «يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل»، فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فرفعت أنظر إليه فما أتقدم وما أتاخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أتأخر ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرفت راجعا إلى أهلي》. 《حتى أتيت خديجة فجلست إليها》 فقالت: «يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، فبلغوا مكة، ورجعوا إلي!!»
《ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: «أبشر يابن عم واثبت، فوالذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكون نبي هذه الأمة».》
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة، فأخبرته بما أخبرتها به، فقال ورقة: «قدوس قدوس! والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت».
فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة.
وفي مرة ثالثة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره، وانصرف يصنع كما كان يصنع؛ حيث بدأ بالكعبة فطاف، فلقيه ورقة عند الكعبة، قال له: «يابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت».
فلما أخبره قال له ورقة: «والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتقاتلنه ولتوذينه، ولئن أدركت ذلك لأنصرن الله نصرا يعلمه»، ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه.
ويقول صلى الله عليه وسلم لخديجة: 《لما قضيت جواري، هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئا، فنظرت عن شمالي فلم أرَ شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض فقلت: دثروني دثروني، وصبوا عليَّ ماء باردا》[(99)]
__________
2. 1. ] إن نداءات الملائكة لرسول الله، وتعجبه مما يسمع، دفعه إلىٰ معرفة شيء من أسرار ما يسمع؛ ولذلك كان يرجع لخديجة يقص عليها ما رأى.
وكانت خديجة رضي الله عنها خير معين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تسمع منه وتجتهد في معرفة أسباب ذلك، وتسأل أهل الكتاب عن خبر ما يسمع، وتخبر زوجها رسول الله ﷺ بما يسري عنه ويطمئنه.
وكانت تبحث عن أسرار ما يرىٰ لتطمئن عليه، وتطمئنه رضي الله عنها،
قالت له مرة: «يابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟»
قال: 《نعم》.
قالت: «فإذا جاءك فأخبرني به».
فجاء جبريل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 《يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني》.
فقالت: «قم يابن عم، فاجلس علىٰ فخذي اليسرىٰ».
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، فقالت: «هل تراه؟»
قال: 《نعم》.
قالت: «فتحول فاقعد علىٰ فخذي اليمنىٰ»، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس علىٰ فخذها اليمنىٰ،
فقالت: «هل تراه؟»
قال: 《نعم》.
فحسرت فألقت خمارها ورسول الله ﷺ جالس في حجرها ثم قالت: «هل تراه؟»
قال: 《لا》.
قالت: «يابن عم، اثبت وأبشر، فوالله إنه لملَك، ما هذا شيطان»[(100)]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- كلام الشجر والحجر:
يروي ابن سعد بسنده أن رسول الله ﷺ حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتىٰ لا يرىٰ بيتا، ويفضي إلىٰ الشعاب، وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال:« السلام عليك يا رسول الله»، وكان يلتفت عن يمينه، وشماله، وخلفه، فلا يرىٰ أحدا.([(101)])
وَروىٰ الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 《إني أعرف حجرا كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن》 ( [(102)])
وقال محمد بن عمر بسنده عن برة بنت تجراة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى كرامته، وابتداءه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد، حتىٰ تحسر عنه البيوت، ويفضي إلىٰ شعاب مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر، ولا شجر، إلا قال:« السلام عليك يا رسول الله»، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، فلا يرى إلا الشجر، وما حوله من الحجارة، وهي تحييه بتحية النبوة: «السلام عليك يا رسول الله». [(103)]
وروى ابن سعد عن هشام بن عروة عن أبيه -رحمهما الله تعالىٰ- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 《يا خديجة، إني أرى ضوءا، وأسمع صوتا، لقد خشيت أن أكون كاهنا(!!)》،
فقالت:« إن الله تعالىٰ لا يفعل بك ذلك يابن عبدالله؛ إنك تصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتصل الرحم». [(104)]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4- لقاء الملائكة:
من رحمةِ الله -تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه- برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن أخذ يهيئه للقاء ملَك الوحي، وذلك بإرسال الملائكة إليه، تعلمه كلمة، أو شيئا ما؛ ليستعد بذلك علىٰ ملاقاة جبريل -عليه السلام-.
يروي ابن سعد أن رسول الله ﷺ لما نزلت عليه النبوة كان يأتيه "إسرافيل" واستمر معه يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل شيء من القرآن علىٰ لسانه([(105)])، يقول أبو شامة: إن «إسرافيل" كان يأتي النبي وهو في غار حراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة، ولا يقيم معه، تدرجا وتمرينا..»
وأحيانا كان يأتيه جبريل بصحبة ملك آخر...
يقول ابن عباس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل علىٰ الصفا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 《يا جبريل، والذي بعثك بالحق ما أمسىٰ لآل محمد سفة دقيق، ولا كف مِن سويق》، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدةً من السماء أفزعته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 《أأمر الله القيامة أن تقوم!؟ 》.
فقال جبريل:« لا، ولكن أمر الله إسرافيل فنزل إليك، حتىٰ يسمع كلامك».
فأتاه إسرافيل فقال:« إن الله تعالىٰ بعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض إليك أن أسير معك جبال تهامة زمردا، وياقوتا، وذهبا، وفضة، فإن شئت نبياً ملكاً، وإن شئت نبياً عبداً؟»،
فأوما إليه جبريل: «أن تواضع».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 《بل نبياً عبداً》 ثلاثا ([(106)]).
ويقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أتاه جبريل وميكائيل، فنزل جبريل وبقي ميكائيل واقفا بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: «أهو هو؟»
قال: «هو هو.»
قال: «فزنه برجل»، فوزنه به فرجحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: «زنه بعشرة»، فوزنه فرجحهم.
قال: «زنه بمائة»، فوزنه فرجحهم.
قال: «زنه بألف»، فوزنه فرجحهم.
ثم جعلوا يتساقطون عليه من كفة الميزان.
فقال ميكائيل: «تبعته أمته ورب الكعبة»،
ثم 《أجلسني علىٰ بساط كهيئة الدرنوك، فيه الياقوت واللؤلؤ》، فقال أحدهما لصاحبه: «شق بطنه»، فشقه، فأخرج منه مغمز الشيطان، وعلق الدم فطرحها، فقال أحدهما لصاحبه: «اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء»، ثم قال أحدهما لصاحبه: «خط بطنه»، فخاطه، ثم أجلساه فبشره جبريل برسالة ربه حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم.[(107)]
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس، وعنده جبريل؛ إذ سمع نقيضاً من السماء من فوق، فرفع جبريل بصره إلىٰ السماء فقال:« يا محمد، هذا ملك قد نزل، لم ينزل إلىٰ الأرض قط». »[(108)]
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: 《فاتحة الكتاب》، و《خواتيم سورة البقرة》، لن تقرأ حرفا منها إلا أوتيته»[(109)]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5- مجيء جبريل -عليه السلام- بالقرآن:
استمر الوحي بالمقدمات مع رسول الله ﷺ علىٰ النحو المبين، وأدرك محمد صلى الله عليه وسلم أن أمراً عظيماً ينتظره، وسمع من زوجته، ومن ورقة، ومِن غيرهما: أن الذي يراه ويسمعه هو الوحي الذي كان يأتي موسى وعيسى والأنبياء من قبله -عليهم صلوات الله وسلامه-.
وشيئا فشيئا بدأ يطمئن لما يرىٰ، ويثق فيما يسمع حتىٰ جاءه جبريل -عليه السلام- بأول آية قرآنية أمره الله تعالىٰ أن يقرئه بها، تصور السيدة عائشة رضي الله عنها نزول جبريل بأول آية قرآنية علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول رضي الله عنها: جاءه الملَك "أي جبريل" وهو في غار حراء، فقال: اقرأ.
قال: "ما أنا بقارئ"........... فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ([(110)]
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
ثم قال: "يا خديجة، ما لي؟ " وأخبرها الخبر، "لقد خشيت علىٰ نفسي".
فقالت خديجة له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتقري الضيف، وتعين علىٰ نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة لأبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي والعبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وقد عمي في شيخوخته.
فقالت له خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك.
فقال ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومخرجي هم؟ ".
فقال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي.[(111)]
يخبرنا د. غلوش:" ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن الهداية التي جاءته، ومع أنه كان علىٰ يقين بالفوز العظيم بمجيء جبريل؛ ولذلك قال لخديجة: 《أرأيتك الذي كنت أخبرتك أن رأيته في المنام؟ فإنه جبريل، استعلن لي، وأرسله إليَّ ربي》.. ومع كل ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أصيب بالروع، وخشي على نفسه.
وهذا الخوف الذي عاشه النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء جبريل عليه السلام جعل البعض يتساءل عن سبب هذا الخوف؛ لأن المقام مقام سرور ورضىٰ، وليس مقام رهبة وهلع.
وقد تناول العلماء هذه المسألة، ورأوا أن الخوف لم يكن من النبوة، أو من الوحي، وإنما كان من تصوره أذى يأتي من الغط الشديد، أو من ثقل المسئولية، أو لأن الحوار لم يكن عاديا.. فلقد أمر جبريل -عليه السلام- محمدا صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثلاث مرات، وغطه بشدة ثلاث مرات أيضا، والرسول يقول له: "ما أنا بقارئ"، وينتشر خبر ذلك عند خديجة، وأبي بكر، وورقة، ويتحدث عنه أهل مكة؛ ليكون حديثهم تعريفاً بمحمد، وتنبيها علىٰ منزلته عند الله، والناس، فضلا من الله ونعمة.
يقول الإسماعيلي[(112)]: « إن العادة جرت بأن الأمر الجليل إذا قضىٰ الله تعالى بإيصاله إلى الخلق أن يتقدمه ترشيح وتأسيس، وكان ما يراه النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة ومحبة الخلوة والتعبد من ذلك، فلما جاءه الملَك فجأه بغته بصورة تخالف العادة والمألوف، نفر طبعه البشري منه، وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه، وينفر وطبعه منه، حتى إذا اندرج عليه، وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى خديجة التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له، فهونت عليه خشيته، مما عرفته من أخلاقه الكريمة، وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة؛ لمعرفتها بصدقه، ومعرفته وقراءته الكتب القديمة، فلما سمع كلامه أيقن بالحق، واعترف به، وأشار الإسماعيلي كذلك إلى أن الحكمة في ذكره صلى الله عليه وسلم ما اتفق له في هذه القصة: أن يكون سببا في انتشار خبره، في بطانته، ومن يستمع لقوله، ويصغى إليه، طريقا في معرفتهم مباينة من سواه في أحواله لينبهوا على محله[(113)] ويعرفوا مقامه صلى الله عليه وسلم.
ومع لقاء جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم وإقرائه أول سورة العلق نلاحظ بعض الملاحظات:
الأولى: غط جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات؛ ليجعل التفاته وفكره إليه وحده، دون الانشغال بغيره، ويعرفه بثقل الرسالة، وضخامة المسئولية، ويتعود على التلقي من الوحي فقط.
وليكن صبورا حين التبليغ.
ويعلم أن تكرار الطلب منهج في نشر دين الله تعالىٰ.
وليتأكد صلى الله عليه وسلم بتكرار الغط أن ما يحدث حقيقة واقعية ملموسة، وليست خيالا أو وهما.
لقد كان جبريل -عليه السلام- في أشد الاشتياق للقاء محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك ضمه إليه، وقبله أكثر من مرة.
كان من الممكن أن يلقن جبريل -عليه السلام- محمدا صلى الله عليه وسلم بما يلقنه شفاهة من بعد، ويمضي، لكنه فعل ذلك بأمر الله تعالىٰ؛ ليؤكد خطورة الأمر، وأهميته، وضرورة بذل الجهد، وتحمل المشاق في أداء الواجبات الخطيرة، وهل هناك أخطر من مهمة الرسالة والدعوة؟!!
وكان من الممكن أن يتم اللقاء مناما، لكن الله تعالىٰ أراد أن يطلع رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم على صورة روحه الأمين، كما أراد له أن يعرف أهم صور الوحي بعد أن عاش الرؤى، وسمع النداء، وشاهد الجمادات تناجيه، وعاش الخلوة بفكره، أراد الله له بعد ذلك أن يتعود على صورة الوحي التي ستستمر معه، وقد كان، فجاء جبريل وأقرأه أول سورة العلق.
الثانية: في بدء الوحي بـ"اقرأ" بيان لموقف الإسلام من القراءة، ومن العلم كله، فالقراءة أساس معرفة الدين، بها يحفظ القرآن، وتصان السنة، وتفهم الشريعة، وبها تكون الدعوة، وحماية الإسلام ... وبالعلم تحيا الأمة، وتحافظ على الضرورات الشرعية جميعا، وتنظم كافة جوانب الحياة.
الثالثة: قدمت خديجة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة للزوجة العظيمة المثالية، فلقد كانت تعيش حياة رسول الله لحظة بلحظة، تتمنى له الخير، تشاركه في كل ما يعن له، وتهتم بكل ما يهمه.
لقد أعطته مالها فأغنته صلى الله عليه وسلم به، وأبعدته عن متاعب الفقر ومشاغله، ولما بدأ الوحي مناما ونداء وضوءا كانت تطمئنه، ولكنها من ورائه كانت تبحث عن حقيقة ما يرى صلى الله عليه وسلم خوفا عليه وحذرا.
وكان رضي الله عنها إذا غاب عنها ترسل في طلبه مَن يبحث عنه[(114)]
كما ذهبت وحدها إلى ورقة، وأخبرته بخبر زوجها، تريد أن تعرف شيئا عنه، فقال لها ورقة: قدوس، قدوس، والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة.[(115)]
ولم تكتفِ بما سمعت عن ابن عمها ورقة، بل ذهبت مرة أخرى إلى غلام[(116)] لعتبة بن ربيعة بن عبدشمس[(117)] -نصراني من أهل نينوى- يقال له: <<عداس>>، فقالت له: «يا عداس، أذكرك الله إلا ما أخبرتني: هل عندكم علم عن جبريل؟»
قال عداس: «قدوس، قدوس، ما شأن جبريل يُذكر هذه الأرض التي أهلها أهل أوثان(!!؟).»
فقالت: «أخبرني بعلمك فيه».
قال عداس:« هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام».[(117)]
لقد تميزت خديجة رضي الله عنها بكمال الخِلْقَة والْخُلُق، يقول عنها صلى الله عليه وسلم: 《خير نسائها خديجة بنت خويلد》 [(118)]
وقد جعلت عقلها الكامل في خدمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، وكانت رضي الله عنها خير معين لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك بشرها الله ببيت في الجنة[(119)]
ونلحظ مدى ملاطفتها وتقديرها لزوجها في مناداته: <<يابن عم>>.. ولذلك فقد استحقت التقدير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: 《إني رزقت حبها》.[(120)]
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعد هذا الملف :
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِمِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى
الأثنين : ١٩ ذو الحجة 1440 هـ ~ 20 أغسطس 2019 م

أعلى الصفحة
فهرس

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}
[قرآن كريم]
[ ٥ ] المجلد الخامس :

الْمُقَدِّمَة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[(1)].
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [(2)].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[(3)].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[(4)].
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [(5)].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[*]{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}[*]{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا}[(6)].
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون}[(7)].
[ ١ . ] الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: بدء الوحي (*) : بداية المرحلة المكية:
لما قربت أيام الوحي حَبَّبَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْخَلْوَةَ وَالتَّعَبُّدَ لِرَبِّهِ [(8)].[(9)]. وَكَانَ يَخْلُو بِـ » غَارِ حِرَاءٍ « يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ[(10)].
وَحَدِيثَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ يوضح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُجَاوِرُ[(11)]. بِغَارِ حِرَاءٍ[(12)] وَيَتَحَنّثُ فِيهِ[(13)]، الْحِنْثُ، وَهُوَ الْحِمْلُ الثّقيل، وكذلك التّقَذّرُ، إنّمَا هُوَ تَبَاعُدٌ عَنْ الْقَذَرِ، وَأَمّا التّحَنّفُ بِالْفَاءِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التّبَرّرِ؛ لِأَنّهُ مِنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ؛ خليل الرحمن-عليه السلام-، وَإِنْ كَانَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ الثّاءِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التّقَذّرِ وَالتّأَثّمِ، [(14)].[(15)]. فاللفظة من الضداد.
ثم يرجع ﷺ إلىٰ أهله فيتزود لمثلها، وكانت عبادته علىٰ دين إبراهيم -عليه السلام-، وَبُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْأَوْثَانُ وَدِينُ قَوْمِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ . [(16)].
قَالَ ﷺ : " يَا خَدِيجَةُ ، وَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ بُغْضَ هَذِهِ الأَصْنَامِ شَيْئًا قَطُّ وَلا الْكُهَّانِ".[(17)].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ بَأَجْيَادٍ[(18)]. إِذْ رَأَى مَلَكًا وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَىٰ الأُخْرَىٰ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَصِيحُ:" يَا مُحَمَّدُ أَنَا جِبْرِيلُ[(19)].، يَا مُحَمَّدُ أَنَا جِبْرِيلُ" ، فَذُعِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ذَلِكَ ، وَجَعَلَ يَرَاهُ كُلَّمَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَىٰ السَّمَاءِ ، فَرَجَعَ سَرِيعًا إِلَىٰ خَدِيجَةَ فَأَخْبَرَهَا خَبَرَهُ ، وَقَالَ : " يَا خَدِيجَةُ ، وَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ بُغْضَ هَذِهِ الأَصْنَامِ شَيْئًا قَطُّ وَلا الْكُهَّانِ ، وَإِنِّي لأَخْشَى أَنْ أَكُونَ كَاهِنًا "(!!!) ، قَالَتْ : 《 كَلا يَا ابْنَ عَمِّ لا تَقُلْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتُؤَدِّي الأَمَانَةَ ، وَإِنَّ خُلُقَكَ لَكَرِيمٌ 》 ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَهِيَ أَوَّلُ مَرَّةٍ أَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ مَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَقَالَ وَرَقَةُ : « وَاللَّهِ إِنَّ ابْنَ عَمِّكِ لَصَادِقٌ ، وَإِنَّ هَذَا لَـــ 《 بِدْءُ نُبُوَّةٍ 》، وَإِنَّهُ لَيَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ ، فَمُرِيهِ أَنْ لا يَجْعَلَ فِي نَفْسِهِ إِلا خَيْرًا ».
وكان لا يرى رؤيا[(20)]. إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكانت تلك الرؤيا الصادقة مقدمات الوحي. وقيل مدتها ستة أشهر. [(21)].
فلما تم له أربعون[(22)]. سنة جاء جبريل [أمين وحي السماء] بالنبوة وذلك في يوم الأثنين لسبع عشرة خلت من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده -ﷺ-، فيكون عمره إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر وثمانية أيام، وذلك يوافق 《 6 أغسطس سنة 610 م 》وهو بغار حراء.
تحقيق المسألة :
جاء في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري عن أن أم المؤمنين عائشة[(23)] بنت أبي بكر الصديق . -رضي الله عنها؛ وعن أبيها- أنها قالت: " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح.[(24)] ثم حبب إليه الخلاء [(25)] . وكان يخلو بغار حراء [(26)] . فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله [(27)] . ويتزود لذلك [(28)] . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق [(29)] . وهو بغار حراء فجاءه الملك [(30)] . فقال له《 أقرأ 》، فقال له « ما أنا بقارئ(!؟)» [(31)] . قال« فأخذني فغطني [(32)] . حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني». فقال《 أقرأ 》. فقلت « ما أنا بقارئ (!؟)» ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال《 أقرأ 》 فقلت « ما أنا بقارئ (!؟)» فغطني ثالثة ثم أرسلني فقال 《 أقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، أقرأ وربك الأكرم 》، فرجع بها [(33)] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة -رضي الله عنها- يرجفُ فؤادُهُ فدخل علىٰ خديجة بنت خويلد فقال:« زملوني زملوني » [(34)] ، فزملوه ؛ حتىٰ ذهب عنه الرَّوعُ. فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي [(35)] .فقالت خديجة: كلا والله ما يحزنك الله أبداً[(36)] إنك لتصل الرحم [(37)] وتحمل الكل [(38)] وتكسب المعدوم [(39)] . وتقرى الضيف وتعينُ علىٰ نوائب الحق[(40)]..... فانطلقت به خديجة حتىٰ أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ابن عم خديجة، وكان أمرأً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني. فيكتب من الأنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيرا قد عمى. فقالت له خديجة:" يا ابن عم(!) اسمع من ابن أخيك "[(41)] ، فقال لي ورقة :" يا بن أخي ماذا ترى(!؟). فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقاله له ورقة:" هذا 《 الناموس》 [(42)] . الذي نزل علىٰ موسىٰ، يا ليتني فيها[(43)] جذعاً[(44)] ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك[(45)]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أومخرجي هم(!؟)»، قال:" نعم. لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به الا عودي، وأن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزراً [(46)]. ثم لم ينشب ورقة أن توفى و« فتر الوحي» [(47)].
فــ أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم مِن القرآن 《اقرأ》 كما صح ذلك عن عائشة؛ وروي ذلك عن أبي موسىٰ الأشعري وعبيد بن عمير. قال النووي:" وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف".
فائدة:
كان له ﷺ من العمر ثلاث وستون سنة، منها: أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًّا رسولًا، نُبِّئَ بإقرأ :" نزول الوحي[(48)].
وجاءه جبريل في غار حراء، فقال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ ، قال: اقرأ، قال: لست بقارئ ، فغتَّه[(49)]. حتى بلغ منه الجهد، فقال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ [(50)].[(51)]. وبهذه السورة كان ﷺ نبيًّا،[راجع :" أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْه".]
ثم أرسله الله تعالىٰ بسورة المدثر إلىٰ الإنس والجن، قال ﷺ بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعتُ بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرُعبْتُ منه، فرجعت فقلت زمِّلوني، فأنزل الله تعالى: ياأيها المدثر [(52)].إلى قوله :{ والرجز فاهجر }.[(53)].فحميَ الوحيُ وتتابع [(54)]. [(55)]. وبهذه السورة كان رسولًا ﷺ.- فــ أُرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلىٰ المدينة، بعثَهُ الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلىٰ التوحيد، أخذ علىٰ هذا عشر سنين يدعو إلىٰ التوحيد.
اقول(الرمادي): هذه سنته ﷺ وطريقته العملية وهديه في تبليغ شرع ربه ﷻ وحين غابت سنته وطريقته عن اذهان المسلمين اصابنا ما نحن فيه اليوم من أضطراب في فهم الإسلام وضعف شديد طرأ على الأذهان في أدراك وفهم الإسلام(!؟).
الدعوة إلىٰ الإسلام
بدأ ﷺ بالدعوة إلىٰ الله تعالى سرًا، فأسلم علىٰ يديه: السابقون الأولون، [انظر: ابتعاث 《آخر رسالات السماء》]
لا خلاف أن مبعثه كان يوم الإثنين، وقيل بأن الشهر كان ربيع الأول سنة إحدىٰ وأربعين لثمانٍ خلون منه، من عام الفيل وهذا قول الأكثرين[(56)].
" فَلَمَّا كَمُلَ لَهُ أَرْبَعُونَ ، أَشْرَقَ عَلَيْهِ نُورُ النُّبُوَّةِ وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ بِرِسَالَتِهِ ، وَبَعَثَهُ إِلَىٰ خَلْقِهِ وَاخْتَصَّهُ بِكَرَامَتِهِ ، وَجَعَلَهُ أَمِينَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ . وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَبْعَثَهُ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَاخْتُلِفَ فِي شَهْرِ الْمَبْعَثِ . فَقِيلَ : لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَىٰ وَأَرْبَعِينَ مِنْ عَامِ الْفِيلِ ، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }[(57)] [ الْبَقَرَةِ : 185 ] ، قَالُوا : أَوَّلُ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ بِنُبُوَّتِهِ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، وَإِلَىٰ هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ يحيىٰ الصرصري حَيْثُ يَقُولُ فِي نُونِيَّتِهِ :
وَأَتَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ فَأَشْرَقَتْ * شَمْسُ النُّبْوَةِ مِنْهُ فِي رَمَضَانِ[(58)].
وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا : إِنَّمَا كَانَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَىٰ بَيْتِ الْعِزَّةِ ، ثُمَّ أُنْزِلَ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً [(59)].
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، أَيْ فِي شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَفَرْضَ صَوْمِهِ .
وَقِيلَ : كَانَ ابْتِدَاءُ الْمَبْعَثِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ [(60)].
وَكَمَّلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ مَرَاتِبَ الْوَحْيِ[(61)]. مَرَاتِبَ عَدِيدَةً :
إِحْدَاهَا : الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ ، وَكَانَتْ مَبْدَأَ وَحْيِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وَكَانَ لَا يَرَىٰ رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ .
الثَّانِيَةُ : مَا كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ فِي رَوْعِهِ وَقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَىٰ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ ».
أَخْرَج عَبْدُالرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ عِمْرَانَ ، صَاحِبٍ لَهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: » مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلَّا قَدْ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ ، وَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهَا لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَقْصَى رِزْقِهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا ، فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ رِزْقِهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَىٰ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ ».[(62)].
الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُخَاطِبَهُ حَتَّىٰ يَعِيَ عَنْهُ مَا يَقُولُ لَهُ ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَانَ يَرَاهُ الصَّحَابَةُ أَحْيَانًا .
الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ ، وَكَانَ أَشَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَيَتَلَبَّسُ بِهِ الْمَلَكُ حَتَّىٰ إِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ ، وَحَتَّىٰ إِنَّ رَاحِلَتَهُ لِتَبْرُكُ بِهِ إِلَىٰ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ رَاكِبَهَا . وَلَقَدْ جَاءَ الْوَحْيُ مَرَّةً كَذَلِكَ وَفَخِذُهُ عَلَىٰ فَخِذِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ كَادَتْ تَرُضُّهَا .
الْخَامِسَةُ : أَنَّهُ يَرَىٰ الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا ، فَيُوحِي إِلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَهُ ، وَهَذَا وَقَعَ لَهُ مَرَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ﷻ ذَلِكَ [(63)] .
السَّادِسَةُ : مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ ﷻ وَهُوَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا .
السَّابِعَةُ : كَلَامُ اللَّهِ ﷻ لَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ مَلَكٍ ، كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ ﷻ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ-سلام الله تعالى عليه- ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ ثَابِتَةٌ لِمُوسَى قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَثُبُوتُهَا لِنَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ .
وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ مَرْتَبَةً ثَامِنَةً : وَهِيَ تَكْلِيمُ اللَّهِ ﷻ لَهُ كِفَاحًا مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ ، وَهَذَا عَلَىٰ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.... وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ بَلْ كُلُّهُمْ مَعَ عائشة كَمَا حَكَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ إِجْمَاعًا لِلصَّحَابَةِ [(64)].
وكان أول مَن أسلم خديجة -رضي الله عنها-، ثم علي ثم زيد بن حارثة، ثم أبو بكر -رضي الله عنهم-، ثم دخل الناس في دين الله واحد بعد واحد، حتىٰ فشىٰ الإسلام في مكة، ثم أمر الله تعالى نبيه ﷺ بأن يجهر بالدعوة [(65)]. [(66)].، فدعاهم إلىٰ الله، وصعد علىٰ الصفا وقال:« يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش، حتىٰ اجتمعوا، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج عليكم بسفح هذا الوادي أكنتم مصدقي(!؟) »
قالوا: " نعم (!) ؛ ما جرَّبنا عليك كذبًا"،
قال: « فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد»[(67)].
وقد ناصبه صناديد قريش ومَن معهم العداء، ولكن مع ذلك لم يستطع أحد منهم أن يتهمه بصفة الكذب أو صفة غير لائقة، وقد قال الله تعالى؛ فأنزل فيه قرآناً[(68)].... فــ لو عرفوا خُلُقًا ذميمًا فيه ما سكتوا عنه(!!!)– وقد عاش بينهم أربعين عامًا -؛ لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها أمام الناس، فوجدوا أن كلمة (ساحر) و (كاهن) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه؛ حيث يفرق بدعوته إلىٰ الله ﷻ بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوجة وزوجها، واتهموه بالجنون (حاشا لله)؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلىٰ عبادة الله وحده، وتابع دعوته إلىٰ الله في المواسم، والأسواق، وخرج إلىٰ الطائف، وأسلم الجن في طريقه عند رجوعه من الطائف، وحصل له من الأذىٰ الكثير فصبر واحتسب.
وهذا يحتاج إلىٰ دراسة ومراجعة وتفصيل وفهم مع إدراك الجزئيات المتعلقة بسير الدعوة في مجتمع مكة لنتمكن من إنزالها على واقعنا المعاصر...
وَاللَّهُ- تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ وجَلَّ قَدْرُه - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَىٰ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ، وَعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
أعد هذا الملف : د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِمِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى
الأثنين : 26 ذو القعدة 1440 هـ ~ 29 يوليه 2019 م

(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مِنْ فيض كرمه -سبحانه وتعالى- ومزيد فضله وعظيم توفيقه أنه -ﷻ- مكنني مِن قراءة ومراجعة أمهات الكتب وعيون الاثر ومِن ثَمَّ تحضير وكتابة ثم صياغة المجلدات الأربعة والتي نشرت تباعاً علىٰ موقع آستروعرب نيوز ؛ والذي يُبث من قلب القارة الأورُبية؛ ولاية فيينا؛ عاصمة جمهورية الألب المطلة علىٰ الدانوب الأزرق؛ وهذا مِن تفضل وسماحة مدير الموقع/ الأستاذ الأخ: أيمن وهدان؛ فـ أشكر الله تعالى أولاً ثم أشكره على تثبيت المجلدات في صدر الصفحة الرئيسة للموقع؛ ، وها أنا أشرع في بداية المجلد الخامس فارجوه - خالقي ورازقي - وادعوه أن يثبت قدمي على الطريق المستقيم ويبصر عقلي بالفهم الصحيح وينور قلبي بفهم صحيح لكتابه العزيز وسنة نبيه الكريم ﷺ ... فمن الله تعالى التوفيق والسداد والصلاح !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع والهوامش: تطلب عن طريق إدارة موقع آسترو عرب نيوز.

أعلى الصفحة
فهرس

ابتعاث 《آخر رسالات السماء》

اراد الله -تعالىٰ- ابتعاث آخر رسالات السماء لأهل الأرض جميعاً؛ بعد أن وصل حالهم لما وصلوا إليه رحمة بهم، واراد-تعالىٰ ذكره وجل قدره- إرسال متمم رسله وخاتم أنبيائه-صلىٰ الله عليه وآله وسلم- للثقلين الجن والإنس[(286)]، فختار أفضل بقعة علىٰ وجه الأرض؛ واطهر موضع بجوار بيته العتيق الحرام، واختار أفضل قلب واطهره؛ وانبه عقل وازكاه؛ فاصطفىٰ مِن خلقه أحمدا؛ واجتبىٰ مِن ولد آدم محمدا وارتضاه للعالمين المصطفىٰ فأنزل أمين السماء جبرائيل-عليه السلام- علىٰ قلب أمين السماء والأرض محمد-صلى الله عليه وآله وسلم بخمس آيات ؛ الأول من سورة العلق؛ تحوي تكليفين، الأول: قراءة وتدبر كتابه الكريم المحفوظ في الصدور؛ فيترتب على القراءة والتدبر سلوك يوافق الكتاب ومبني على سنته العطرة؛ فإنما بحث عليه السلام رحمة للعالمين، {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، والثاني: قراءة فهمية وتدبر عقلي للكتاب-خلق الحياة والكون والإنسان- الذي في الكون منشور له-عليه السلام- ولمن سيؤمن به ويهتدي بسنته ويسير علىٰ طريقه ويلتزم منهجه، فيترب على القراءة الفهمية للكتاب المنشور في الكون علماً يفيد البشرية جمعاء؛ فيأتي القرآن الكريم والذكر الحكيم بمفردة من مفردات الخلق وآحدى آيات الإيجاد وصورة من صور تنشأة الكون والحياة ألا وهي الإنسان {خلق الإنسان من علق}، إذ سبحانه وتعالىٰ اختار زمان البعثة (مِن السنة الميلادية: 671) الخاتمة؛ ومكان الرسالة (نقطة الإبتداء: مكة المكرمة / ومِن ثمَّ نقطة الارتكاز: المدينة المنورة) المتممة واختار-سبحانه- أكرمَ إنسان لدعوته وأفضلهم رتبة لعرض رسالته؛ فهو-تعالى- خالق الزمان وموجد المكان ومحي الإنسان؛ وهذه اللحظة الانبعاثية لرسالة السماء-الجديدة- الخاتمة ولحظة نزول الوحي الآلهي-حدثت- في أعلىٰ منطقة تطل علىٰ كعبة الرحمن بيته المعظم فوق جبل النور بغار حراء كأنها إطلالة علوية آخرىٰ مِن علو الرسالة وعلو المبشر بها تجاور إطلالة مَلك الملآئكة -علو جبرائيل- فمنذ تلك اللحظة سينطلق بعدها نور الهداية الإسلامية وشعاع الوحدانية الربانية ليعم نور التوحيد الكون كله وشعاع تطبيق أحكام القرآن العملية وأحكام الحديث التفصيلية كافة المعمورة بأكملها؛ فليست خصوصية المكان-مكة المكرمة- ستوقف الدعوة في مهدها؛ إذ أن الهداية لمَن علىٰ الأرض وسكانها؛ كما وأن خصوصية مَن نزل فيهم بدءاً لن ستخصهم فقط؛ وإن كانوا يملكون زمام لغة الوحي المنزل من السماء-اللغة العربية- وإن كان اللفيف الأول من زوجة عاقلة يجاورها رجل-من عائلتها- متخصص في علم الأديان، وابن عم لصاحب الرسالة تربىٰ علىٰ عين بصيرة في بيته منذ صباه، وصديق طريق... كانوا ومازالوا أشعة ضوئية في سيرتهم العطرة لمن سيجئ من بعدهم، وغيرهم-رضوان الله تعالىٰ ورضاه عليهم جميعا- كثير، بل ستتعداهم، وعليك أن تنظر بعد ذلك لهؤلاء السادة العلماء الكبار؛ علماء أمة الإسلام تجدهم مِن كل حدب وصوب جاءوا؛ فهذا الحبشي وهذا الفارسي وهذا الرومي وهذا الأعجمي وهذا البخاري وهذا النيسابوري وهذا القرطبي وهذا الأندلسي وهذا المِصري وهذا التونسي وهذا المغربي وهذا الموريتاني وهذا النمساوي وهذا الألماني وهذا الأمريكي، وضعوا بصمة ناصعة البياض في طريق فهم وتبليغ الإسلام بشقيه الذكر الحكيم وهدي النبي الكريم.
في لحظات البعثة الأولىٰ؛ وهي لحظات حرجة كانت-رضي اله تعالى عنها- الأُولىٰ علىٰ كل الأوائل : الزوجة والصاحبة فــ :
1.] آمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ-صاحبة العقل الراجح والنفس السامية العالية- وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَهُ-صلى الله عليه وآله وسلم- مِنْ اللَّهِ، وَوَازَرَتْهُ عَلَىٰ أَمْرِهِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنْ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ. فَخَفَّفَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمَّا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدٍّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ، فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ، إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا إذَا رَجَعَ إلَيْهَا، تُثَبِّتُهُ وَتُخَفِّفُ عَلَيْهِ، وَتُصَدِّقُهُ وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النَّاسِ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَىٰ "[(287)].
في لحظات البعثة الأولىٰ؛ يأتي دور صاحب العلم ليثبت قلب رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم- ويقنعه بصحة ما سمعه وما رأه فــ :
2.] خَدِيجَةُ بَيْنَ يَدَيْ وَرَقَةَ تُحَدِّثُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إلَىٰ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ؛ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: 《قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، فَقُولِي لَهُ : «فَلْيَثْبُتْ»》 . فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ. [(288)]
في لحظات البعثة الأولىٰ؛ يأتي تأكيد عقلي يلحقه تثبيت لقلب الرسول مِن رجل متخصص في علم الأديان:
فَلَمَّا قَضَىٰ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ، صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ : 《يَا ابْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ!!!》 فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: 《وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذَّبَنَّهُ وَلَتُؤْذَيَنَّهُ وَلَتُخْرَجَنَّهُ وَلَتُقَاتَلَنَّهُ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ، فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى مَنْزِلِهِ . [(289)].
3.] ابْتِدَاءُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَابْتُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّنْزِيلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[(290)].
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ : {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[(291)]
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ : {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[(292)].
وَقَالَ تَعَالَىٰ : {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}[(293)] وَذَلِكَ مُلْتَقَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَامَّ الْوَحْيُ إلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- . وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ مُصَّدِّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، قَدْ قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ، وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا حَمَلَهُ عَلَىٰ رِضَا الْعِبَادِ وَسَخَطِهِمْ، وَالنُّبُوَّةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ، لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَطِيعُ بِهَا إلَّا أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَىٰ وَتَوْفِيقِهِ، لَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ النَّاسِ وَمَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَىٰ.
قَالَ : فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَٰ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، عَلَىٰ مَا يَلْقَىٰ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْأَذَىٰ[(294)].
4.] :" ذِكْرُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ[(295)] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ مِنْ النَّاسِ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَصَلَّىٰ مَعَهُ وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَىٰ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ- رِضْوَانُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. [(296)]
5.] :" إسْلَامُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ[(297)] ثَانِيًا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ الْكَلْبِيُّ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ ، وَصَلَّى بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. "[(298)].
6.] :" إسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ[(299)] الصِّدِّيقِ[(300)] -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَشَأْنُهُ
[ نَسَبُهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ ، وَاسْمُهُ عَتِيقٌ ، وَاسْمُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي بَكْرٍ: عَبْدُاللَّهِ ، وَعَتِيقٌ: لَقَبٌ لِحَسَنٍ وَجْهُهُ وَعِتْقُهُ
[ إِسْلَامُهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَظْهَرَ إسْلَامَهُ ، وَدَعَا إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ .
[ مَنْزِلَتُهُ فِي قُرَيْشٍ وَدَعْوَتُهُ لِلْإِسْلَامِ ]
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ ، مُحَبَّبًا سَهْلًا ، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا ، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ؛ وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا ، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ ، فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ . "[(301)]
7.] :" ذِكْرُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[ إسْلَامُ عُثْمَانَ[(302)] وَالزَّبِيرِ[(303)] وَعَبْدِالرَّحْمَنِ[(304)] وَسَعْدٍ[(305)] وَطَلْحَةَ [(306)]]
قَالَ : فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ - فِيمَا بَلَغَنِي - عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِشَمْسِ بْنِ عَبْدِمَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ .
[ ص: 251 ] بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِعَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ،
وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبُ بْنُ عَبْدِمَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ،
وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا وَصَلَّوْا .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :" مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَتْ فِيهِ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ ، وَنَظَرٌ وَتَرَدُّدٌ ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ ، مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ".
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ : بِدُعَائِهِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ : عَكَمَ : تَلَبَّثَ ، قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَانْصَاعَ وَثَّابٌ بِهَا وَمَا عَكَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ سَبَقُوا النَّاسَ بِالْإِسْلَامِ ، فَصَلَّوْا وَصَدَّقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ . "[(307)]".
8. ] إسْلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ[(308)] ، وَأَبِي سَلَمَةَ[(309)] ، وَالْأَرْقَمِ[(310)] ، وَأَبْنَاءِ مَظْعُونٍ[(311)] ، وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ[(312)] ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ[(313)] وَامْرَأَتِهِ[(314)] ، وَأَسْمَاءَ[(315)] ، وَعَائِشَةَ[(316)] ، وَخَبَّابٍ[(317)] ]
ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ. وَ
أَبُو سَلَمَةُ ، وَاسْمُهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِالْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ،
وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ: وَاسْمُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدُمَنَافِ بْنِ أَسَدٍ- وَكَانَ أَسَدٌ يُكَنَّى أَبَا جُنْدُبِ - بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَ
أَخَوَاهُ قَدَامَةُ وَعَبْدُاللَّهِ ابْنَا مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ.
وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِمَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ؛ وَ
امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ، أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ
وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ صَغِيرَةٌ .
وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، وَيُقَالُ : هُوَ مِنْ خُزَاعَةَ ".
9. ] إسْلَامُ عُمَيْرٍ[(318)] وَابْنِ مَسْعُودٍ[(319)] وَابْنِ الْقَارِّيِّ[(320)] ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ[(321)].
وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ . بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ
وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارِّيِّ ، وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ حَمَالَةَ بْنِ غَالِبِ بْنِ مُحَلِّمِ بْنِ عَائِذَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ الْقَارَّةِ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْقَارَّةُ : لَقَبٌ ( لَهُمْ ) وَلَهُمْ يُقَالُ :
قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَّةَ مَنْ رَامَاهَا
وَكَانُوا قَوْمًا رُمَاةً [(322)]".
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
ـــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية العطرة -علىٰ صاحبها أفضل الصلوات وأتم التسليمات وكامل البركات-.
المرحلة المكية؛
ابتعاث 《آخر رسالات السماء》؛ وبداية《نبوة خاتم الأنبياء؛ وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين 》
نال شرف قراءة ومراجعة وكتابة هذا الفصل :" ﴿ بدايات نبوته ﴾ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ ] .
د. محمد الرمادي

أعلى الصفحة
فهرس

حجر يثبت نبوته فما بال البشر !
مِنْ 《شَوَاهِدِ نُبُوَّتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَرَكَتِهِ》 [(249)].:

ما زلتُ مع حضراتكم اتكلم عن بدايات البعثة المحمدية وارهاصاتها ومقدمات الرسالة النبوية زمن المرحلة المكة؛ وهي المرحلة الأولى من مراحل الدعوة المحمدية ونقطة البداية في الرسالة الإسلامية في بحثٍ عن :" آيَاتِ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ[(250)].
وهذا البحثُ مقدمةٌ بالغةُ الأهمية في إثبات نبوته وتحقيق رسالته فيترتب على ذلك تصديق ببعثته ثم إتباع ما جاء به وحيا من ربه -تعالى ذكره- أضيفها لما سبق من بحوثٍ أثبتُ -بعون الله-تعالى ذكره- وفضله وتوفيقه- بها صدق أخباره وصحة أقواله؛ وأن القرآن الكريم؛ الذكر الحكيم مِن عند الذي أرسله -سبحانه وتعالى- وأن سنته الطاهرة العطرة وحي من عند رافع السموات بغير عمد نراها وأنهما -آيات الذكر الحكيم والسنة النبوية العطرة- تنسبا إنزالاً إلى علام الغيوب جاءه الوحي مِن ربه -تعالى في سماه وسما في علاه وتقدست اسماه- بها {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[(251)]. ولقوله[ﷺ] :" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ﴿„ إنِّي قَدْ 《خَلَّفْت》 فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا 《كِتَابَ اللَّهِ؛ وَسُنَّتِي》، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ‟﴾ فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَيَرُدُّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ." [(252)]. وجاء في خُطْبَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلفظةٍ آخرى فِي حديث حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وجاء من بين بنودها أنه قَالَ ﴿„ ... يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ 《تَرَكْتُ》 فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا 《كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ》 ‟﴾ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [(253)]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ﴿„ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي ، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ‟﴾[(254)]. ولا نغفل أن رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جاءت بلفظ :" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-﴿„ إِنِّي خَلَّفْتُ فِيكُمُ اثْنَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا أَبَدًا : كِتَابَ اللَّهِ وَ《نَسَبِي》 ، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ‟﴾ [(255)]. وتأتي إضافةٌ أثبتها: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-﴿„ إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا ، 《مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا《 كِتَابَ اللَّهِ ، وَسُنَّتِي ، وَلَنْ تَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ‟﴾. [(256)].
وخلاصةُ هذا الجزء من البحث أنه يجب الأخذ بكتاب الله -تعالى ذكره- والأخذ بسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهما على درجة واحدة من حيث الاعتماد عليهما؛ وبحوث إثباتات النبوة وتأكيد الرسالة تبدء -أصلاً- بإثبات الآلوهية؛ فتحقيق الربوبية؛ فتفعيل الحاكمية؛ ومن ثم إثبات أنه -سبحانه وتعالى- أرسل الرسل جميعاً - عليهم مِن الله تعالى السلام الرحمة والبركة- بشرا مبلغين وهاديين ومنذرين، وهذا من مبادئ الإسلام؛ بمعنى الإيمان بكتبه ورُسِلِه؛ ومَن يراجع معي تلكم البحوث -والتي نشرت (حصرا) على موقع آستروعرب نيوز؛ والذي يصدر من فيينا~النمسا- يجد أنني بدأتُ في الحديث عنها -إثباتات النبوة وتأكيد الرسالة- منذ عهد آدم أبي البشر -عليه السلام- وعززت ذلك بدعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل وأبنه الذبيح إسماعيل ابن هاجر القبطية -المصرية- وما أثبته من قول كليم الله موسى بن عمران وبشرى المعجزة عيسى ابن مريم العذراء الزهراء البتول -سلام الله تعالى عليهم وصلواته وبركاته أجمعين-.
وانتقل من اقوال السادة الأنبياء الكبار-صلوات الله تعالى وسلامه وبركاته عليهم أجمعين- إلى باب مِن مجلد جديد؛ سأكمله بمشيئته تحت عنوان عريض «معجزات النبي المختار»فــ:
" عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ [(257)] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-《إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ》. [(258)].
وهناك زيادة من سنن الترمذي؛ باب المناقب أثبتها :《كَانَ [بِمَكَّةَ حَجَرًا] يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِيَ بُعِثْتُ》.[(259)]
وبيان[(260)] الحديث :
جاء في بعض الروايات أن هذا الحَجر هو الحَجر الأسود: وقيل غيره، وأنه هو الذي في زقاق بمكة يعرف بزقاق الحجر: أي ولعله غير الحجر الذي به أثر المرفق، فقد ذُكر أنه اتكأ عليه بمرفقه، وهو الذي يقال له زقاق المرفق وغير الحجر الذي به أثر الأصابع[(261)]؛ وعلي القاري قد حدد موضعه وإمام أي باب من أبواب الكعبة!
و:" الْمَعْنَى يَلْتَئِمُ مَعَ خَبَرِ عَائِشَةَ﴿„ لَمَّا اسْتَقْبَلَنِي جِبْرِيلُ بِالرِّسَالَةِ؛ جَعَلْتُ لَا أَمُرُّ بِــ 《حَجَرٍ》وَلَا 《مَدَرٍ》 وَلَا 《شَجَرٍ 》إِلَّا سَلَّمَ عَلَيَّ ‟﴾ [(262)].
فــ::" قَوْلُهُ :《كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ》 أَيْ : يَقُولُ :«السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ»؛ كَمَا فِي رِوَايَةٍ « لَيَالِيَ بُعِثْتُ« ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ《إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ》[(263)].
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهنا اتطرق إلى أمر آخر ففِي هَذَا إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي بعْضِ الْجَمَادَاتِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ }[(264)]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[(265)]. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَبِّحُ حَقِيقَةً وَيَجْعَلُ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِ تَمْيِيزًا بِحَسْبِهِ.
قال ابن إسحاق حدثني عبدالملك بن عبيدالله[(266)] بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية[(267)]- عن بعض أهل العلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، « كان إذا خرج لحاجة-أي لحاجة الإنسان- أبعد حتى تحسر عنه البيوت[(268)] -حتى لا يرى ببناء- ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: « السلام عليك يا رسول الله» [(269)]. وكان «يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا» [(270)]. ..فلا يرى إلا الشجر والحجارة.
فمكث [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل -عليه السلام- بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في [ شهر ] رمضان[(271)].
قال صاحب نور اليقين :" ليس في ذلك كبير إشكال فقد سخّر الله الجمادات للأنبياء قبله، فعصا موسى التقمت ما صنع سَحَرَة فرعون بعد أن تحوّلت حيّة تسعى ثم رجعت كما كانت، ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين. وكذلك غيره من الأنبياء سخّر الله لهم ما شاء من أنواع الجمادات لتدلّ العقلاء على عظيم قدرهم وخَطَارة شأنهم. [(272)].
قلت(الرمادي) وبمراجعة سيرته العطره [إن صح الخبر] في بدايات عمره: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ قَالَ : فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ :« هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ؛ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ »؛ فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ :" مَا عِلْمُكَ !".
وهنا الشاهد من سرد هذه الرواية كما ذكرها ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح : فَقَالَ :« إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ ﴿„ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ ‟﴾ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا؛ وَلَا يَسْجُدْنَ إِلَّا لِنَبِيٍّ وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ »[(273)].
وقريب من هذا ما رواه جَابِرٌ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِحَجَرٍ ، وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سَجَدَ لَهُ. [(274)].
وإلى ذلك يشير مَن قال:
لم يبق من حجر صلب ولا شجر * إلا وسلم بل هناه ما وهبا
وإلى ذلك يشير أيضا صاحب الهمزية بقوله:
والجمادات أفصحت بالذي أخـ * ـرس عنه لأحمد الفصحاء
أي والجمادات التي لا روح فيها نطقت بكلام فصيح لا تلعثم فيه: أي بالشهادة له بالرسالة، ولم تنطق به أهل الفصاحة والبلاغة وهم الكفار من قريش وغيرهم.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ» كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَخَرَجْنَا[(275)] فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ »[(276)]
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ ، قَدْ خَضَّبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ بِالدِّمَاءِ ، قَالَ : مَا لَكَ ؟ قَالَ : خَضَبَنِي هَؤُلَاءِ بِالدِّمَاءِ وَفَعَلُوا وَفَعَلُوا ، قَالَ : تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ . فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَجَاءَتْ تَخُطُّ الْأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، قَالَ : مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا . قَالَ : ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ فَرَجَعَتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : حَسْبِي " [(277)].
يقول صاحب الحلبية[(278)] : وإلى تسليم الحجر قبل البعثة يشير السبكي في تائيته بقوله:
وما جزت بالأحجار إلا وسلمت * عليك بنطق شاهد قبل بعثة
وأما في حديث عائشة فقد قالت: قال رسول الله: «لما أوحي إليّ جعلت لا أمرّ بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله» وما ذكره بعضهم أن الجن قالوا له بمكة: من يشهد أنك رسول الله؟ قال تلك الشجرة، ثم قال لها من أنا؟ فقالت: رسول الله» فليس من المترجم له. [(279)]
وفي الخصائص الصغرى: وخُصَّ بتسليم الحجر، وبكلام الشجر، وبشهادتهما له بالنبوة، وإجابتهما دعوته. [(280)].
وفي كلام السهيلي[(281)].: يحتمل أن يكون نطق الحجر والشجر كلاما مقرونا بحياة وعلم. ويحتمل أن يكون صوتا مجردا غير مقترن بحياة وعلم. وعلى كل هو علم من أعلام النبوة.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: أكثر العقلاء، بل كلهم يقولون عن الجمادات لا تعقل، فوقفوا عند بصرهم. والأمر عندنا ليس كذلك؟ فإذا جاءهم عن نبيّ أو وليّ أن حجرا كلمه مثلا يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت. والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم[(282)].
وقد ورد «أن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له، ولا يشهد إلا من علم وأطال في ذلك» وقال قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا، فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك، لكون الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها عينا وأسمعنا تسبيحها ونطقها، وكذلك اندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله-عز وجل-، ولولا ما عنده من العظمة لما تدكدك، والله أعلم. [(283)].
وعند البخاري حديث عن ابي هريرة:" فَقَالَ [رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-] بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ ". وفي نفس الرواية يكمل :" رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي". وينهي النبي الروايتين بقوله :" فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ". [(284)].
ر" رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : كَانَ عَلَى شَطِّ مَاءٍ ، وَمَعَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، فَقَالَ : لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَادْعُ ذَلِكَ الْحَجَرَ الَّذِي هُوَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلْيَسْبَحْ وَلَا يَغْرَقْ ، فَأَشَارَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ ، فَانْقَلَعَ الْحَجَرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَانِهِ ، وَسَبَحَ حَتَّى صَارَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَشَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَكْفِيكَ هَذَا ؟ قَالَ : حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَانِهِ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ ".[(285)].وقال:" القسطلانى ولم أره لغيره [قصد فخر الدين الرازي في تفسيره] والله أعلم بحاله[(285)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية العطرة -علىٰ صاحبها أفضل الصلوات وأتم التسليمات وكامل البركات-؛ المرحلة المكية؛ أحداث ما قبل البعثة المحمدية.
نال شرف قراءة ومراجعة وكتابة هذا الفصل :" ﴿ „ سلام الحجر والشجر والمدر والجبل عليه قبل مبعثه ﴾ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ ] .
د. محمد الرمادي
الأحد : ٦ شوال ١٤٤٠ هـ ~ ٩ يونيو ١٩ ٢ م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر والهوامش تطلب -رجاء- عن طريق موقع استرو عرب نيوز من الباحث.

أعلى الصفحة
فهرس

《 لَتُكَذَّبَنَّهُ 》... عناد «الجهل»

الْمُقَدِّمَةُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، حَمْدًا كَثِيرًا[طيبا مباركا]عَلَى مَا خَصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ[المرحومة]بِالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ[أهل الأفهام]حُمَاةِ الدِّينِ ، الَّذِينَ صَرَفُوا عِنَانَ فِكْرِهِمْ[وقدحوا زناد عقلهم]فِي الذَّبِّ عَنْهُ مِنْ تَضْلِيلِ الْمُخَرِّفِينَ وَالْمُهَرَّفِينَ ، فَبَيَّنُوا لِلْعَامَّةِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْغَثَّ مِنَ السَّمِينِ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْوَعْدِ الْأَمِينُ ، أَدَّى الرِّسَالَةَ وَبَلَّغَ الْأَمَانَةَ ، فَكَانَ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنِ الصَّحَابَةِ الطَّيِّبِينَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ[(134)]
وَبَعْدُ
... مازلنا نتعايش بدايات المرحلة الأولىٰ - المرحلة المَكْيَّة - من مراحل الدعوة الإسلامية - والتي نحتاج لدراستها اليوم دراسة فقية فهمية إدراكية تشريعية منهاجية لإنزالها علىٰ واقعنا الحالي المعاش بالفعل ؛ وما أشبه هذه المرحلة بحياتنا اليوم ؛ فيجب دراستها بعد الفشل الذريع والمحبط لما قامت به بعض الحركات ذات الوشاح الإسلامي خلال السنوات الماضيات علىٰ الساحة العربية والمتواجدة في المناطق التي تسكنها غالبية[(135)] إسلامية أو الآخرىٰ - ما يطلق عليها - ذات أقلية[(136)] إسلامية(!) ؛ وأن كنتُ لا استسيغ استخدام هذا المصطلح المتداول عند الكثير ؛ وخاصة مَن هم مِن السكان الأصليين - المسلمين - مع ما يعانون أو الذين يحملون جنسية الدولة التي يقيمون بها منذ سنوات - تزيد عن الخمسين - أو تحصل علىٰ أوراق ثبوتية رسمية لإقامة صحيحة - سواء أكان لاجئ أو دارس أو عامل -... تلك الجماعات التي تحمل وتلك الحركات التي ترفع شعارات عنوانها إسلامي لكنها جوفاء لا يتمكن حاملها مِن تطبيقها أو إنزالها علىٰ أرض الواقع ؛ وهذا في بلاد العرب والمسلمين ؛ مع ملاحظة غياب مشروع إسلامي أو تقديم نموذج صالح في ذهنية المسلم الذي تجنس بجنسية غربية ؛ وعاش في دول الغرب منذ أكثر من أربعين عاما ويزيد فالعبرة ليس ببناء وزخرفة المساجد... لكن الأصل بناء عقل ونفسية الساجد...
أقول(الرمادي) : ما زلنا في المجتمع المَكي - عهد النبوة ؛ في سنواتها الأُول - نتعايش أحداثه ومجريات أموره... بما فيه ؛ وما عنده ؛ وما عليه ؛ وما يتميز به ؛ وايضاً بما فيه من مثالب وعيوب ؛ وأحاول... بل أريد أن أحدد الصورة الحقيقية له والتيارات الفكرية والتربية العقدية والمفاصل الإجتماعية لهذا المجتمع ؛ إذ فيه - بما فيه – ستغرس البذرة النبتة الإسلامية الأولى :" الدعوة إلىٰ الإسلام " كـ عقيدة وأحكام... وكمنهاج وتشريع... وطريقة معينة في الحياة وطراز خاص من العيش... وظن أنها - أيْ مَكة - ستكون أيضا بها النبتة الإسلامية ؛ لكن ما شاء الله - تعالى ذكره - كان... ولا يفهم من هذا الطرح إنني أدعو إلىٰ الإنغلاق علىٰ الذات أو التقوقع داخل حويصلة مذهب بعينه أو التوقف عند أراء وفتاوىٰ السادة العلماء مِن السلف الصالح دون مراعاة مستجدات الأمور ومستحدثات الأحوال والتمسك بأقوالهم مع فارق الزمان من جهة أو اختلاف الكيان السياسي- في السابق أو اليوم - من جهة آخر... والمناخ العام ؛ أو يفهم البعض خطاً إني أدعو إلىٰ السكنىٰ في حارةٍ ضيقة مسدود طرفها الآخر فيدعي البعض : " أن دخلها منا وخارجها ضدنا وعلينا "... إذ الأصل فينا التواصل مع الآخر والتقارب معه وإظهار ما لدينا فكرا وسلوكا... لذا علينا مدارسة هذه المرحلة بعناية فائقة ثم تتلوها مرحلة ثانية مع الربط المحكم بين مفصل مرحلة والرابط إلىٰ التي تليها فنحتاج لدراسة عميقة إدراكية تفصيلية لجزئيات عدة تكون منها هذا التجمع الإسلامي الأول في مكة ومِن ثم - بعد سنوات – تكون المجتمع الإسلامي الأَول في المدينة ، وكيف قَبَلَت ثُلةٌ التواجد داخل تجمع إسلامي هش ضعيف قليل العدد عديم العداد يقوده النبي محمد والرسول المبتعث والمصطفى المختار ؛ ومَن هؤلاء!... أو ما أطلق عليهم أوائل المؤمنين من النساء والغلمان والرجال ؛ وكيف تعايشوا مع مجتمع يرفضهم فيستنكر عليهم ما هم عليه من إيمان وما يقومون به مِن أعمال وما يتلفظون به مِن أقوال فيعذبهم مَن كان بالأمس رفيق ويقتل بعضهم مَن كان بالأمس رفيق طريق... كما يجب علينا دراسة – جوانب شخصيات ومفتاح نفسيات - مَن رفض الإسلام اسما وموضوعا ؛ وشكلا وتفصيلا ؛ وفكرا وأحكاما ؛ وعقيدة وأفعالا؛ ومَن هم! ؛ يرافق هذه وتلك دراسة نفسية وعقلية والدافع عند الفريق - الأول - الذي سما في الدنيا ونجىٰ في الآخرة، وبالتوازي والفارق بعيد : ما هي الدوافع عند الفريق - الثاني - الذي خسر الدارين فرفض فكرَ رجلٍ يقول : « أنه مُرسل مِن السماء ليصحح مفاهيم وقناعات ومقاييس مَن تنكبوا الطريق المستقيم بفكر جديد ».. كما حاربوا مَن وافقوه علىٰ فكره الجديد وإن نادىٰ به مِن قبله السادة المرسلين وجم غفير من السادة الأنبياء - صلوات الله تعالىٰ عليهم أجمعين - ؛ فــ عُذِب أهل التوحيد ؛ وقُتِل مَن وضع قدماه علىٰ بداية صراط الرب الواحد الأحد المجيد ؛ وشُردَ مَن قال بأنه فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد ، أو كيف حُوربت الدعوة الجديدة!؛ ولماذا حاربها الرافضون!. بيد أنه هناك فريق ثالث وقف في منتصف الطريق ونحتاج لتسليط الضوء عليه لنعلم - ايضاً - دوافعه.
دراسة مراحل الدعوة المحمَّدية ومفاصلها والروابط بينها - علىٰ صاحبها الصلاة والسلام والتبريكات والرحمات ومع تبعه بإحسان - دراستها تجب وجوب تعلم أحكام العقيدة ومبادئ الإيمان وأركان الإسلام وآيات الأحكام وأحاديث الأحكام... فالجميع وحي مِن عند الله - تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه – كي نتمكن من استئناف الحياة الإسلامية بدلا من البقاء في طقوس كهنوتية ومواسم دينية وشعائر موسمية .
المرحلةُ المَكْيَّة بسنواتها[(137)] تحدد لنا عدة معالم ؛ نحتاج إلىٰ إعادة طرحها علىٰ طاولة البحث وتفصيل جزئياتها علىٰ مائدة التقصي باسلوب يتناسب مع العصر الحالي ، كما نحتاج إلىٰ بلورتها بطريقة علمية عملية مستنيرة وليست تقليدية كما عودتنا مرتزقة المنابر ومَن يتمقعد علىٰ فضائيات أو مَن يقدمها بعتبارها تاريخ مضىٰ وانتهىٰ ؛ فدراستها بطريقة تطبيقية ؛ وخاصة مَن يعيش في دول الغرب - الذي تعلوه أجراس الكنائس وتوجد فيه صوامع الرهبان وبجوارهم مصليات في منازل وغرف عبادة للمسلمين ؛ عدا مأذنة يتيمة تطل علىٰ الدانوب الأزرق – والتفقه في كيفة تعامل النبي المصطفىٰ والرسول المجتبىٰ والحبيب المرتضىٰ والخليل المحتبىٰ - صلىٰ الله عليه وآله وسلم- مع غير المسلمين كمقابلته أولا في اللحظات الأولىٰ من البعثة مع مَن تبحر في النصرانية القس «ورقة بن نوفل» ثم مقابلته الثانية وهو يطوف بالكعبة - البيت الأول للعبادة علىٰ المعمورة - ثم إخباره بالمحور الأول من عنوان هذا الفصل من سيرته العطرة ؛ وكهجرة بعضهم إلىٰ الحبشة سواء الأولى أو الثانية ؛ وما قاله عن «النجاشي» ؛ وتأثر رهبان الحبشة حين سمعوا القرآن يتلىٰ علىٰ مسامعهم من فم جعفر بن أبي طالب... فبكوا حتىٰ اخضلت لحاهم ؛ وخروج النبي... صاحب الدعوة إلىٰ الطائف ؛ وقو عداس له ؛ ثم نسرع الخطى لنشهد أحداث في المرحلة المدنية فنقرأ وثيقة المدينة المنورة ونشهد أحداث مجئ وفد نصارى نجران إلىٰ مسجده الشريف وسمح لهم بالصلاة فيه.
معالم المرحلة المكية إجمالاً:
( ١ . ) المَعْلمُ الأول : اختيار المكان :
نقطة البدء[(138)]... مركز الإبتداء لإنطلاق الدعوة.
( ٢ . ) المَعْلمُ الثاني : اختيار الزمان :
توقيت بدء البعثة... وزمن بدء الرسالة ، مركز الإنطلاق لنشر الدعوة ؛ وقول السيد المسيح ابن العذراء الزهراء البتول - عليهما السلام - : « وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ »[(139)].
( ٣ . ) المَعْلمُ الثالث : اصطفاء[(140)] حامل الدعوة... احتباء خاتم الأنبياء ؛ واختيار آخر المرسلين واجتباء وارتضاء متمم المبتعثين... «{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[*] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}»[(141)]
( ٤ . ) المَعْلمُ الثالث : ثلة من الأولين...
اجتباء صحابته «{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }»[(142)]
( ٤ . ) المَعْلمُ الرابع : اختيار لُغة[(143)] الخطاب.
وأريد أن اربط هذا الفصل بما قاله القس ورقة بن نوفل[(144)] في الفصل السابق إذ قد أتبتُ قوله -رضي الله عنه- في تلك المفاصل الأربعة من مراحل البعثة ؛ فقد قَالَ وَرَقَةُ :
( ١ . )《 لَتُكَذَّبَنَّهُ 》 وَ
( ٢ . )《 لَتُؤْذَيَنَّهُ 》وَ
( ٣ . )《 لَتُخْرَجَنَّهُ 》وَ
( ٤ . )《 لَتُقَاتَلَنَّهُ 》[(145)].
وهذه محاور أربعة كبرىٰ تحتاج إلىٰ تفصيل منهجي وترتيب تشريعي وتوثيق إدراكي وتحقيق ذهني كامل وإعمال عقل مستنير في دعوة الإسلام بشقيها:
الأول : الذاتي مع النفس والجوارح والأعمال والأقوال والتصرفات والسلوك والأخلاق علىٰ المستوىٰ الفردي ؛
و
الثاني : علىٰ المستوىٰ الجمعي ؛ أي مع الآخر كعلاقة الإنسان بغيره من بني الإنسان أو ما حوله مِن كائنات وموجودات... ثم أهم علاقة وعلىٰ رأس العلاقات جميعاً كيفية تنظيم علاقة الإنسان بخالقه...
إذ أنه قد حدثت هذه المحاور الأربعة علىٰ امتداد تاريخ الإسلام الطويل - القديم منه والحديث - مِن لدن نبي المرحمة ؛ ورسول السلام صاحب الرسالة الخالدة -صلى الله عليه وآله وسلم-... وما جرىٰ مع السلف الصالح الكريم والخلف المبتلىٰ العظيم ، ونربط هذه المحاور بالمراحل مع روابطها ومفاصلها ربطاً محكماً مع ما جرىٰ في زمن الرسالة ووقت البعثة وإعادة قراءة لردود افعال وأقوال وتصرفات المعسكر المناوئ لنبي الهدى ورسول التقوىٰ -صلى الله عليه وآله وسلم- واتباعه ؛ ومَن جاء مِن بعده - عليه السلام -.
أبدءُ بما ثبت في الصحائف التي كُتبت بحروف مِن فضة وعلامات مِن ورِق علىٰ ألواح من ذهب خالص مرصعة بنجوم السماء:
يتحدث -صلى الله عليه وآله وسلم- عن نفسه الذكية فيقول:
* . ] كُنْتَ عِنْدَهُمُ 《 الصَّادِقَ 》《 الْأَمِينَ 》.[(146)]
ثم يزيد - عليه السلام- المسألة وضوحاً فيقول : - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
* . ]《 وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ 》《 أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ.《[(147)]
وخلال الأربعين عاما الأُول من عمره الشريف ؛ والتي عاشها مع أهل مكة وعشيرته قريش :
* . ] كَانَ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً مُنْذُ كَانَ... اعْتَرَفْ لَهُ بِذَلِكَ مُحَادُّوهُ ، وَعِدَاهُ . وَكَانَ يُسَمَّى قَبْلَ نَبُّوتِهِ 《 الْأَمِينَ 》.[(148)]
* . ] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : كَانَ يُسَمَّىٰ 《 الْأَمِينَ 》بِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الصَّالِحَةِ[(149)] .
* . ] وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ[(150)] : « كَانَ يَتَحَاكَمُ إِلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ».[(151)]
* . ] عَنْ مُجَاهِدٍ[(151)]: قَالَ مَوْلَايَ السَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ: " كُنْتُ فِيمَنْ بَنَى الْبَيْتَ ، وَأَنَّ قُرَيْشًا اخْتَلَفُوا فِي الْحَجَرِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوهُ ، حَتَّى كَادُوا يَقَعُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالسُّيُوفِ ، فَقَالَ : " اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ "، فَــ " دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ 《 الْأَمِينَ 》 ". فَقَالُوا : " يَا مُحَمَّدُ ، قَدْ رَضِينَا بِكَ "[(152)].
* . ] وَقَالَ - تَعَالَى » : {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} »[(153)] ... أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَىٰ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[(154)].
* . ] وَعَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَىٰ أَبِي طَالِبٍ " ؛ فَقَالُوا لَهُ : " إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَأْتِينَا فِي كَعْبَتِنَا وَنَادِينَا وَيُسْمِعُنَا مَا يُؤْذِينَا ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا فَافْعَلْ " . قَالَ : فَقَالَ لِي : " يَا عَقِيلُ الْتَمِسِ ابْنَ عَمِّكَ " . قَالَ : " فَأَخْرَجْتُهُ مِنْ كِبْسٍ مِنْ أَكْبَاسِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّىٰ انْتَهَىٰ إِلَىٰ أَبِي طَالِبٍ " ، فَقَالَ لَهُ : " يَا ابْنَ أَخِي ، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنْ كُنْتَ لِي مُطِيعًا ، وَقَدْ جَاءَنِي قَوْمُكَ – يَزْعُمُونَ - أَنَّكَ تَأْتِيهِمْ فِي كَعْبَتِهِمْ وَنَادِيهِمْ فَتُسْمِعُهُمْ مَا يُؤْذِيهِمْ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكُفَّ عَنْهُمْ !؟ " ؛ قَالَ : فَحَلَّقَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : " وَاللَّهِ مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنْ أَنْ يُشْعِلَ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ شُعْلَةً مِنَ النَّارِ " ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: 《 إِنَّهُ - وَاللَّهِ - مَا كَذَبَ قَطُّ 》" فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ ".[(155)]
* . ] عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ » ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى ذكره- » {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} »[(156)] الْآيَةَ . وَ
رَوَى غَيْرُهُ : « لَا نُكَذِّبُكَ ، وَمَا أَنْتَ فِينَا بِمُكَذَّبٍ. « [(157)]
* . ] وَقِيلَ : إِنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شُرَيْقٍ[(158)] لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ[(159)] يَوْمَ بَدْرٍ[(160)] ، فَقَالَ لَهُ : " يَا أَبَا الْحَكَمِ لَيْسَ هُنَا غَيْرِي ، وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا ، تُخْبِرُنِي عَنْ مُحَمَّدٍ ، « صَادِقٌ » .. هُوَ أَوْ « كَاذِبٌ » ؟ ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: " وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَــ « صَادِقٌ »، وَ « مَا كَذَبَ » مُحَمَّدٌ قَطُّ ".[(161)]
وَقَدْ ذَكَرْنَا[(162)] أَنَّ قَوْمَهُ الْمُعَادِينَ لَهُ غَايَةَ الْعَدَاوَةِ مَا زَالُوا مُعْتَرِفِينَ بِصِدْقِهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْهِ كَذِبًا ، بَلْ وَمُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسَاحِرٍ ، وَكَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يُرْسِلُونَ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي فِيهَا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهَا ذَلِكَ .
وأنتقل بحضراتكم إلىٰ خارج مكة المكرمة ؛ بل نذهب خارج جزيرة العرب كلها :
* . ] فَفِي الصَّحِيحَيْنِ[(163)] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ[(164)] أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ[(165)] حَدَّثَهُ ، قَالَ : " انْطَلَقْتُ إِلَى الشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " فَبَيْنَمَا أَنَا بِالشَّامِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ[(166)] ، قَالَ : " وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ[(167)] جَاءَ بِهِ ، فَدَفَعَهُ إِلَىٰ عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَىٰ هِرَقْلَ " ، فَقَالَ هِرَقْلُ : " هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ " ، قَالُوا : " نَعَمْ " ، قَالَ : " فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَدَخَلْنَا عَلَىٰ هِرَقْلَ ، فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ " ، فَقَالَ : " أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ " ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: " فَقُلْتُ أَنَا " . فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي . فَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ ، فَقَالَ : " قُلْ لَهُمْ : إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ " . قَالَ : فَقَالَ : " وَايْمِ اللَّهِ ! لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ كَذِبٌ لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ " . ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : " سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ ". قَالَ : قُلْتُ : " هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ " . قَالَ : " فَهَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَنْ مَلَكَ " ، قُلْتُ : " لَا " . قَالَ : " فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِــ « الْكَذِبِ » قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ ". قُلْتُ : " لَا "[(168)]، وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ ...
وهذا ما أكده صاحب الشفا ؛ القاضي عياض:" وَسَأَلَ هِرَقْلُ عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ : " هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ "، قَالَ أَبَو سُفْيَانَ : " لَا ".[(169)]
* . ] قَالَ مُقَاتِلٌ: " طَافَ أَبِو جَهْلٍ بِالْبَيْتِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَمَعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ؛ وَكَانَ يُقَالُ لِلْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ[(170)] « رَيْحَانَةُ » قُرَيْشٍ[(171)] ، وكَانَ يُسَمَّى الْوَحِيدُ فِي قَوْمِهِ[(172)] ...فَقد رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُلَقَّبُ بِــ « الْوَحِيدِ »، أَيْ : لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي مَالِهِ وَشَرَفِهِ فِي بَيْتِهِ[(173)]]... فَتَحَدَّثَا[أي : أَبِو جَهْلٍ و الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ]فِي شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: " وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لَــ 《 صَادِقٌ 》! "
فَقَالَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ لَهُ :" مَهْ! وَمَا دَلَّكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ ! ".
قَالَ أَبِو جَهْلٍ : " يَا أَبَا عَبْدِشَمْسٍ ، كُنَّا نُسَمِّيهِ فِي صِبَاهُ 《 الصَّادِقَ 》《 الْأَمِينَ 》 ، فَلَمَّا تَمَّ عَقْلُهُ وَكَمُلَ رُشْدُهُ ، نُسَمِّيهِ : « الْكَذَّابَ » « الْخَائِنَ»!! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لَــ « صَادِقٌ »! ".[ [(174)]
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ : " فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَهُ وَتُؤْمِنَ بِهِ !!؟ ".
اقول (الرمادي) : هنا تأتي الإجابة الواضحة التي لا لبس فيها من فم أبي جهل إذ رد فــ :
قَالَ : " تَتَحَدَّثُ عَنِّي بَنَاتُ قُرَيْشٍ أَنِّي قَدِ اتَّبَعْتُ « يَتِيمَ » أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَجْلِ كِسْرَةٍ ، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنِ اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا.[(175)]
يوضح لنا حقيقة أبي جهل؛ عمرو بن هشام أبو زهرة في خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وآله وسلم – فكتب يقول:
" أن أشد الناس طغيانا علىٰ النبي - صلىٰ الله تعالىٰ عليه وسلم- عمرو بن هشام الذي سماه التاريخ الإسلامي بحق " أبا جهل " فقد كان فاجرا، لا شرف في القول يقيده، ولا خلق كريم يمنعه، بل كان الحقد الدفين يدفعه، وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - يصابره ليثير عطف الناس علىٰ الدعوة المحمدية، يترك هذا الطاغوت فى اندفاعه إلىٰ الشر وصبره له[(176)].

أما مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ[(177)] فـــَ قِيلَ:
أَنَّهُ اجْتِمَاعُ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو لَهَبٍ[(178)] ، وَأَبُو سُفْيَانَ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ[(179)] ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ[(180)] ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ[(181)] ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ[(182)] ... اجْتَمَعُوا... وَقَالُوا : قَدِ اجْتَمَعَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ ، وَهُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ،[(183)] ...
هنا يلتقط خيط الرواية ابن كثير الدمشقي فيقول: زَعَمَ السُّدّيُّ[(184)] أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيُجْمِعُوا رَأْيَهُمْ عَلَىٰ قَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِيهِ[أي في النبي محمد - عليه السلام-] ، قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلْحَجِّ لِيَصُدُّوهُمْ عَنْهُ[(185)] وَقَدِ [ قال قائل منهم ][(186)] اخْتَلَفْتُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ؛ فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ [ وتوجد رواية :"
فَقَالَ قَائِلُونَ " :][(187)] مَجْنُونٌ (!)، وَ
آخَرُ يَقُولُ [فَقَالَ قَائِلُونَ :][(188)] كَاهِنٌ (!)، وَ
آخَرُ يَقُولُ [فَقَالَ قَائِلُونَ :][(189)] شَاعِرٌ (!)،
[وَقَالَ آخَرُونَ : ][(190)] [فَقَالُوا : " سَاحِرٌ (!)" ،
فرد عليهم الْوَلِيدُ فــ قَالَ:
" لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عَقْدِهِ " .... وَ
انْصَرَفَ الْوَلِيدُ إِلَىٰ بَيْتِهِ... فَــ
دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ :
" مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِشَمْسٍ أَصَبَأْتَ ؟ " ؛
[وهذه رواية وهناك آخرى أغضبته سأذكرها ]
فَــ
قَالَ الْوَلِيدُ: " فَكَّرْتُ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ تَقُولُوا : « سَاحِرٌ »... جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ ،][(191)]
وتفصيل قولهم :
" أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيُجْمِعُوا رَأْيَهُمْ عَلَىٰ قَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِي النبي محمد عليه السلام ، قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلْحَجِّ لِيَصُدُّوهُمْ عَنْهُ " :
فــَ
تَعْلَمُ الْعَرَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ [ مَجْنُونٌ ، كَاهِنٌ ، شَاعِرٌ ، سَاحِرٌ ] لَا يَجْتَمِعُ فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَسَمُّوا مُحَمَّدًا بِاسْمٍ وَاحِدٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ، وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ بِهِ "...
ونعود لما قاله الوليد بن المغيرة المخزومي ردا علىٰ أقوالهم جميعاً :
" فَقَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ : " شَاعِرٌ (!) " ؛
فنسمع رد الوليد إذ : قَالَ : سَمِعْتُ كَلَامَ ابْنِ الْأَبْرَصِ [- يَعْنِي عَبِيدَ بْنَ الْأَبْرَصِ][(192)] ، وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ[(193)] [وَعَرَفْتُ الشِّعْرَ كُلَّهُ] [(194)] ، وَمَا يُشْبِهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ كَلَامَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [ أي ليس كَلَامَ شَاعِرٍ ،] ؛ فَــ
قَالُوا : " كَاهِنٌ "(!).
فَقَالَ الْوَلِيدُ: " مَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا بِسَجْعِهِ "[(195)] و
اردف فَقَالَ : الْكَاهِنُ يَصْدُقُ وَيَكْذِبُ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ ؛ فَــ
قَامَ آخَرُ فَقَالَ : " مَجْنُونٌ "(!)؛
فَقَالَ الْوَلِيدُ: [لَقَدْ عَرَفْنَا الْجُنُونَ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ يُخْنَقُ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ][(196)] فــ الْمَجْنُونُ يَخْنُقُ النَّاسَ وَمَا خَنَقَ مُحَمَّدٌ قَطُّ . وَ
انْصَرَفَ الْوَلِيدُ إِلَى بَيْتِهِ ، فَــ
قَالُوا : صَبَأَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ؛
[هذه هي الرواية الآخرى] فَــ
دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ وَقَالَ : مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِشَمْسٍ ! هَذِهِ قُرَيْشٌ تَجْمَعُ لَكَ شَيْئًا يُعْطُونَكَهُ[(197)] ، زَعَمُوا أَنَّكَ قَدِ احْتَجْتَ وَصَبَأْتَ .
فقد قيل كان ماله : أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ؛ وَقَالَ آخَرُونَ : كَانَ مَالُهُ أَرْضًا؛ كَانَ ذَلِكَ غَلَّةَ شَهْرٍ بِشَهْرٍ . وَ
الصَّوَابُ [كما قال الطبري؛ أبو جعفر] مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تعالى ذكره - » وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا » وَهُوَ الْكَثِيرُ الْمَمْدُودُ ، عَدَدُهُ أَوْ مَسَاحَتُهُ[(198)]. وقِيلَ : هُوَ مَا يُمَدُّ بِالنَّمَاءِ كَالزَّرْعِ وَالضَّرْعِ وَالتِّجَارَةِ . ".[(199)]
فَقَالَ الْوَلِيدُ: " مَا لِي إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ ، وَلَكِنِّي فَكَّرْتُ فِي مُحَمَّدٍ " ، فَــ
قُلْتُ [ يتساءل الوليد ] : " مَا يَكُونُ مِنَ السَّاحِرِ ؟ " . فَــ
قِيلَ : " يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ ، وَبَيْنَ الْأَخِ وَأَخِيهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا " ، فَـ
قُلْتُ [أي الوليد... بعد تفكره وتقديره - اخزاه الله تعالى -] : إِنَّهُ سَاحِرٌ . شَاعَ هَذَا فِي النَّاسِ وَصَاحُوا يَقُولُونَ : إِنَّ مُحَمَّدًا سَاحِرٌ .[(200)]

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى توضح حال توترهم :
" أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ ، وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ فَقَالَ : إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتُقْدِمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا ، فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَيَرُدُّ بَعْضُكُمْ قَوْلَ بَعْضٍ ، فَــ
قَالُوا : " فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِشَمْسٍ فَقُلْ ، وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُومُ بِهِ " . فَــ
قَالَ : " بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا وَأَنَا أَسْمَعُ " ، فَــ
قَالُوا : " نَقُولُ كَاهِنٌ ، فَــ
قَالَ : " مَا هُوَ بِكَاهِنٍ ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ " . فَــ
قَالُوا : " نَقُولُ مَجْنُونٌ " ، فَــ
قَالَ : " مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنَقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ " .
قَالُوا : " فَنَقُولُ شَاعِرٌ " ، فَــ
قَالَ : " مَا هُوَ بِشَاعِرٍ ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ وَهَزَجِهِ وَقَرِيظِهِ وَمَقْبُوضِهِ وَمَبْسُوطِهِ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ " .
قَالُوا : " فَنَقُولُ سَاحِرٌ " ،
قَالَ : " فَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ ، قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عَقْدِهِ " . فَــ
قَالُوا : " مَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِشَمْسٍ ؟ " .
قَالَ : " وَاللَّهِ إِنْ لِقَوْلِهِ حَلَاوَةً ، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَغَدِقٌ ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَى ، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا : « سَاحِرٌ » يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَبِيهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَخِيهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ . فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا حَذَّرُوهُ إِيَّاهُ ، وَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَهُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا » . إِلَىٰ قَوْلِهِ : « سَأُصْلِيهِ سَقَرَ.« وَ
أَنْزَلَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ : « الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ » . أَيْ أَصْنَافًا .[(201)]

وأنتقل بحضراتكم إلى ما حدث مباشرة بين النبي المصطفى عليه السلام وبين الوليد بن المغيرة
فَعَنْ عِكْرِمَةَ[(202)] ، أَنْ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَىٰ النَّبِيِّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ[(203)] .
وعند البغوي في رواية آخرى :" ( غَافِرٍ : 1 - 3 ) قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ مِنْهُ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ ، فَلَمَّا فَطِنَ النَّبِيُّ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاسْتِمَاعِهِ لِقِرَاءَتِهِ [الْقُرْآنَ] أَعَادَ قِرَاءَةَ الْآيَةِ ، فَانْطَلَقَ الْوَلِيدُ حَتَّىٰ أَتَىٰ مَجْلِسَ قَوْمِهِ بَنِي مَخْزُومٍ ، فَقَالَ : [ وَاللَّهِ ] لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ آنِفًا كَلَامًا مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ.[(204)]
ونسمع قول الْوَلِيد حين :" نَزَلَ : »{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} »... إِلَىٰ قَوْلِهِ : »{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} » سَمِعَهُ يَقْرَؤُهَا ؛ فَــ كَأَنَّهُ 《 رَقَّ 》لَهُ[(205)]] فَــ
قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلَامًا مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْإِنْسِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ ، وَإِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُوُ وَلَا يُعْلَىٰ عَلَيْهِ ، وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ[(206)]
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ.
فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: " سَحَرَهُ مُحَمَّدٌ"... صَبَأَ وَاللَّهِ الْوَلِيدُ ، وَاللَّهِ لَتَصْبُوَنَّ قُرَيْشٌ كُلُّهُمْ[(207)] .
فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ[(208)]
ونتتبع الرواية من بدايتها :
رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ سَمِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَعْجَبَهُ وَمَدَحَهُ ، ثُمَّ سَمِعَ كَذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى كَادَ أَنْ 《 يُقَارِبَ 》الْإِسْلَامَ . وَدَخَلَ إِلَىٰ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُ - مِرَارًا ، فَــ
جَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ ، فَــ
قَالَ : " يَا وَلِيدُ! ... أَشَعَرْتَ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ ذَمَّتْكَ بِدُخُولِكَ إِلَىٰ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ ، وَزَعَمَتْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَقْصِدُ أَنْ تَأْكُلَ طَعَامَهُ ؟ وَقَدْ أَبْغَضَتْكَ لِمُقَارَبَتِكَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ، وَمَا يُخَلِّصُكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنْ تَقُولَ فِي هَذَا الْكَلَامِ قَوْلًا يُرْضِيهِمْ ، فَــ
فَتَنَهُ أَبُو جَهْلٍ فَافْتَتَنَ ، وَقَالَ : " أَفْعَلُ " [(209)].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَوْلُهُ : « {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} » إِلَىٰ « {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} ».
قَالَ : دَخَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَىٰ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، يَسْأَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَىٰ قُرَيْشٍ فَقَالَ : " يَا عَجَبًا لِمَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ ، وَلَا بِسَحْرٍ ، وَلَا بِهَذْيٍ مِنَ الْجُنُونِ ، وَإِنَّ قَوْلَهُ لَمِنْ كَلَامِ اللَّهِ " ، فَــ
لَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ قُرَيْشٍ ائْتَمَرُوا ؛ وَ
قَالُوا : " وَاللَّهِ لَئِنْ صَبَأَ الْوَلِيدُ لَتَصْبَأَنَّ قُرَيْشٌ " ، فَــ
لَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ قَالَ : " أَنَا وَاللَّهِ أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ[(210)].
ونسمع رواية الطبري تقول : " فَــ
قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: " يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ " ،
قَالَ الْوَلِيدُ : " أَقَدْ تَحَدَّثَتْ بِهِ عَشِيرَتِي(!؟) ، فَلَا يَقْصُرُ عَنْ سَائِرِ بَنِي قَصِيٍّ ، لَا أَقْرَبُ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ (!)"...
ثم يخلص إلىٰ القول :" وَمَا قَوْلُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ "[(211)]
نكمل الرواية لتوضح لنا المناخ العام والصورة التي كان عليها أهل مكة عند البعثة المحمدية:
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَنَا أَكْفِيكُمُوهُ . فَمَضَىٰ إِلَيْهِ حَزِينًا ؟ ؛ فَانْطَلَقَ حَتَّىٰ دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ[(212)] ، فَأَتَاهُ فَــ
قَالَ : أَيْ عَمُّ[(213)] فَــ
قَالَ ابن المغيرة لَهُ : " مَا لِي أَرَاكَ حَزِينًا ". فَــ
قَالَ : [ إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا(!!!)[(214)] . وَقَالَ لِلْوَلِيدِ: أَلَمْ تَرَ قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ[(215)].
أوضح الرواية بقول:
أَبُي جَهْلٍ لَهُ : " وَمَا لِي لَا أَحْزَنُ وَهَذِهِ قُرَيْشٌ يَجْمَعُونَ لَكَ نَفَقَةً يُعِينُونَكَ بِهَا عَلَىٰ كِبَرِ سِنِّكَ وَ-يَزْعُمُونَ- أَنَّكَ زَيَّنْتَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ ، وَتَدْخُلُ عَلَىٰ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ وَابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتَنَالَ مِنْ فَضْلِ طَعَامِهِمَا ؛
[قَالَ : " لِمَ ؟ ". [يَجْمَعُونَ المَال!؟ ]
قَالَ : يُعْطُونَكَهُ ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا تَتَعَرَّضُ لِمَا قِبَلَهُ[(216)]
فَــ « غَضِبَ » الْوَلِيدُ وَ « تَكَبَّرَ »،
قلتُ(الرمادي): وهذا ما اراده عمرو بن هشام ؛ أبو جهل من إثارة النعرة الجاهلية في نفس ابن المغيرة !!.
فرد مسرعاً
وَقَالَ : أَنَا أَحْتَاجُ إِلَىٰ كِسَرِ مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ ، فَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ قَدْرَ مَالِي ، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى مَا بِي حَاجَةٌ إِلَىٰ ذَلِكَ ،
قلت(الرمادي) : وهذا ما اراده أبو جهل من حديثه مع الواليد... إثارة الحمية الجاهلية...
قَالَ الْوَلِيدُ : قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي أَكْثَرُهَا مَالًا[(217)]
ثم قَالَ : أَلَسْتُ أَكْثَرَهُمْ مَالًا وَوَلَدًا ؟[(218)]
قَالَ أَبِو جَهْلٍ: " فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يُعْلِمُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لِمَا قَالَ ، وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ[(219)]
ثُمَّ قَامَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ حَتَّى أَتَى مَجْلِسَ قَوْمِهِ ، فَــ
قَالَ لَهُمْ[(220)] : إِنَّمَا أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ ، وتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَاهِنٌ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ شَاعِرٌ ، تَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَذَّابٌ وهم يقولون : لَا - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمَّى《 الْأَمِينُ 》 قَبْلَ النُّبُوَّةِ ، مِنْ صِدْقِهِ – فَــ
قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْوَلِيدِ : فَمَا هُوَ ؟[(221)] .
قَالَ : " فَمَاذَا أَقُولُ فِيهِ ؟ " ، فَوَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ[(222)]
قَالُوا : " لَا وَاللَّهِ " .
قَالَ : " فَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَذَّابٌ فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ ؟ "،
قَالُوا : " لَا وَاللَّهِ " .
قَالَ : " فَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَاهِنٌ فَهَلْ رَأَيْتُمُوهُ تَكَهَّنَ قَطُّ "، وَلَقَدْ رَأَيْنَا لِلْكَهَنَةِ أَسْجَاعًا وَتَخَالُجًا فَهَلْ رَأَيْتُمُوهُ كَذَلِكَ ؟ ".
قَالُوا : " لَا وَاللَّهِ " .
وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمَّى 《الصَّادِقَ》 《الْأَمِينَ》 مِنْ كَثْرَةِ صِدْقِهِ . فَــ
قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْوَلِيدِ: " فَمَا هُوَ ؟ " ؛ فَــ
فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ ، فَــ قَالَ : " مَا هُوَ إِلَّا سَاحِرٌ ! أَمَا رَأَيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَوَالِيهِ ؟ " [(223)]
مع اعترافه الكامل في عدة روايات أنه قال :" وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لَحَلَاوَةً ، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يَعْلَىٰ . وَقَالَ أَبِو جَهْلٍ: " وَاللَّهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّىٰ تَقُولَ فِيهِ ". قَالَ الوليد : " فَدَعْنِي حَتَّىٰ أُفَكِّرَ فِيهِ " ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ : " إِنَّ هَذَا سِحْرٌ يَأْثِرُهُ عَنْ غَيْرِهِ ". [(224)] [(225)]
إلا أن النعرة الجاهلية وعناد الجهل سيطر على قلوب وأفئدة وعقول القوم فصاروا لا يبصرون !.

وعند الطبري وأثيرالدين الأندلسي رواية ؛ أذكرها كي تكتمل الصورة الذهنية لحال أهل مكة !: "
عَنْ قَتَادَةَ[(226)] قَوْلُهُ : « {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} » ، ( زَعَمُوا ) :فقد " رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ حَاجَّ [اللفظ لأثير الدين] أَبَا جَهْلٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ ،[(227)] أَنَّهُ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ نَظَرْتُ فِيمَا قَالَ هَذَا الرَّجُلُ ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ لَهُ بِشِعْرٍ ، وَإِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً ،[ وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ ، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ][(228)] وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَىٰ[(229)] ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ ، فَـــ
خَالَفُوهُ وَ
قَالُوا : " هُوَ شِعْرٌ " ، فَــ
قَالَ : " وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ هَزَجَهُ وَبَسِيطَهُ " ،
قَالُوا : " فَهُوَ كَاهِنٌ "،
قَالَ : " وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ " ،
قَالُوا : " هُوَ مَجْنُونٌ " ،
قَالَ : " وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ ،
لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ وَخَنْقَهُ "،
قَالُوا : " هُوَ سِحْرٌ " ،
قَالَ : " أَمَّا هَذَا فَيُشْبِهُ أَنَّهُ سِحْرٌ ، وَيَقُولُ أَقْوَالَ نَفْسِهِ " .
... كُلُّ هَذَا وَالْوَلِيدُ يُفَكِّرُ فِيمَا يَقُولُهُ فِيهِ ، فَفَكَّرَ وَقَدَّرَ ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ " [(230)]
وذكرتُ الروايات عمداً لنتحسس ما حدث بالتمام مع أول لحظات غرس بذرة الإسلام في المجتمع المكي فقد رُوِيَ هَذَا بِأَلْفَاظٍ غَيْرِ هَذِهِ وَيَقْرُبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَفِيهِ : " وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْكَذِبِ ؟ " ؛ فَــ
قَالُوا : " فِي كُلِّ ذَلِكَ اللَّهُمَّ لَا "، ثُمَّ
قَالُوا : " فَمَا هُوَ ؟ ". فَــ
فَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: " مَا هُوَ إِلَّا سَاحِرٌ . أَمَا رَأَيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ ، وَوَلَدِهِ وَمَوَالِيهِ ؟ وَمَا الَّذِي يَقُولُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثِرُهُ عَنْ مِثْلِ مُسَيْلِمَةَ وَعَنْ أَهْلِ بَابِلَ ، فَارْتَجَّ النَّادِي فَرَحًا وَتَفَرَّقُوا مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ "[(231)].
ثم أكد الوليد ما فكر فيه بقوله : " وَمَا أَشُكُّ أَنَّهُ سَحْرٌ ".[(232)]
إذاً الخلاصة من هذه الروايات وتتبعها الوصول إلى القصد منها وهو : الدعاية المغرضة وإشاعتها بين الناس خاصة لقرب قدوم موسم الحج ومجئ القبائل العربية من كل حدب وصوب لمكة فتستقبلهم وشاية أن بمكة ساحر يسحر الناس لينفضوا من حوله!...
وعند الطبري أيضا :" قَالَ ابْنُ زَيْدٍ[(233)] فِي قَوْلِهِ : » ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا » إِلَىٰ قَوْلِهِ : » إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ » ، قَالَ : هَذَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ... ثم
قَالَ : " سَأَبْتَارُ لَكُمْ هَذَا الرَّجُلَ اللَّيْلَةَ " ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي وَيَقْتَرِئُ ، وَأَتَاهُمْ فَقَالُوا : " مَهْ ! ".
قَالَ : " سَمِعْتُ قَوْلًا حُلْوًا أَخْضَرَ مُثْمِرًا يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ " ، فَــ
قَالُوا : " هُوَ شِعْرٌ !؟ " .فَـ
قَالَ : " لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ ، لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِالشِّعْرِ مِنِّي ، أَلَيْسَ قَدْ عَرَضَتْ عَلَيَّ الشُّعَرَاءُ شِعْرَهُمْ نَابِغَةُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ ؟
قَالُوا : " فَهُوَ كَاهِنٌ " ، فَــ
قَالَ : " لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ ، قَدْ عَرَضَتْ عَلَيَّ الْكَهَانَةُ " ،
قَالُوا : " فَهَذَا سِحْرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهُ "،
قَالَ : " لَا أَدْرِي إِنْ كَانَ شَيْئًا فَعَسَى هُوَ إِذًا سَحْرٌ يُؤْثَرُ "[(234)].

رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا ابْتُلِيتُمْ بِمِثْلِهِ ، لَقَدْ .... [(235)] و
أكمل الرواية من الشفا بتعريف حقوق المصطفىٰ للقاضي عياض:
كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ ، وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ ، وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ : سَاحِرٌ ! لَا وَاللَّهِ ، مَا هُوَ بِسَاحِرٍ.[(236)]...
يلتقط خيط الرواية ابن تيمية:
" قُلْتُمْ : " سَاحِرٌ "... " لَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِسِحْرٍ ، قَدْ رَأَيْنَا السَّحَرَةَ وَنَفْثَهُمْ وَعَقْدَهُمْ "، وَ
قُلْتُمْ : " كَاهِنٌ "... " لَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِكَاهِنٍ ، قَدْ رَأَيْنَا الْكَهَنَةَ وَسَمِعْنَا سَجْعَهُمْ "، وَ
قُلْتُمْ : " شَاعِرٌ "... " لَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِشَاعِرٍ ، لَقَدْ رَوَيْنَا الشِّعْرَ ، وَسَمِعْنَا أَصْنَافَهُ كُلَّهَا ؛ هَزَجَهُ وَرَجَزَهُ وَقَرِيظَهُ "، وَ
قُلْتُمْ : " مَجْنُونٌ "... "وَلَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ ، وَلَا تَخْلِيطِهِ "...
ثم يخاطبكم قائلاً: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ :" انْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ فَإِنَّهُ - وَاللَّهِ - لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ " . وَ
كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وَمِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ . ".[(237)]
فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي وَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً.« [(238)]
والمعنى قريب من سابقه لكن مع شخصيات آخرىٰ :
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : " قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ ، وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا ، فَنَزَلْنَا عَلَىٰ خَالٍ لَنَا فَأَكْرَمَنَا ، وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ "، فَــ
قَالُوا : " إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ ". فَجَاءَ خَالُنَا فَثَنَا عَلَيْنَا الَّذِي قِيلَ لَهُ ، فَــ
قُلْتُ لَهُ : " أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ ، وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ . فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا ، فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا ، وَتَغَطَّى خَالُنَا بِثَوْبِهِ يَبْكِي ، وَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ.
فَنَافَرَ أُنَيْسٌ رَجُلًا عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا فَأَتَيْنَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَى بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا . قَالَ : وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ سِنِينَ ،
قُلْتُ : لِمَنْ ؟
قَالَ : لِلَّهِ ،
قُلْتُ : فَأَيْنَ تَوَجَّهُ ؟
قَالَ : أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي ، أُصَلِّي عِشَاءً ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ ، حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ ، فَــ
قَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي . فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ عَلَيَّ ، ثُمَّ جَاءَ فَـت
قُلْتُ : مَا صَنَعْتَ ؟
قَالَ : لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ ،
قُلْتُ : فَمَا يَقُولُ النَّاسُ ؟
قَالَ : يَقُولُونَ : شَاعِرٌ ، كَاهِنٌ ، سَاحِرٌ . وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ ،
قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشُّعَرَاءِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ يُقْرِي بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لِــ《 صَادِقٌ 》، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ .
قَالَ : قُلْتُ : " فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ "،
قَالَ : " فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ "، فَــ
قُلْتُ : " أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ ؟ ". فَــ
أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ : الصَّابِئَ ، فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ . . . " ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَصِفَةَ إِسْلَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ مُسْلِمٍ[(239)].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَىٰ النَّبِيِّ ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ : » {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} » .
قَالَ : " أَعِدْ "، فَــ
أَعَادَ النَّبِيُّ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَـ
قَالَ : " وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لِطَلَاوَةً ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لِمُثْمِرٌ ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ ، وَمَا يَقُولُ هَذَا الْبَشَرُ[(240)]
قَالَ الزُّهْرِيُّ : " حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا سُفْيَانَ ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ ، خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ ، وَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ فِيهِ ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا ، وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا ، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا ، وَ
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : " لَا تَعُودُوا ، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي - نَفْسِهِ شَيْئًا "،
ثُمَّ انْصَرَفُوا ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَىٰ مَجْلِسِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ ، حَتَّىٰ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ ، فَعَلُوا كَذَلِكَ ، ثُمَّ جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَعَاهَدُوا أَنْ لَا يَعُودُوا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ، ثُمَّ أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَــ
قَالَ : " أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ (!!؟). فَــ
قَالَ : " يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا ، وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا " ، فَــ
قَالَ الْأَخْنَسُ: " وَأَنَا ، وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ " ،
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَىٰ أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ ، فَــ
قَالَ : " يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ _!!؟). فَــ
قَالَ : " مَاذَا سَمِعْتُ "، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِمُنَافٍ الشَّرَفَ ؛ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا ، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا ، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا ، ثُمَّ إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَىٰ الرُّكَبِ ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ ، قَالُوا : مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُصَدِّقُهُ أَبَدًا [(241)]
" نذهب لأبي زهرة إذ كتب يقول :" العصبية العربية الجاهلية التي كانت مستمكنة فى النفس العربية يتوارثونها جيلا بعد جيل، فالعرب تنفس علىٰ قريش مكانتها، وقريش تنفس علىٰ بنى قصى ما لهم من مكانة، وبنو قصي وغيرهم ينفسون علىٰ بنى عبدمناف، وبنو أمية ينفسون علىٰ بنى هاشم رياستهم للعرب، وكونهم فى المكانة العليا من سدانة البيت والقيام عليه، فهاشم ورث الرياسة من عبدمناف، وعبدالمطلب أخذها عن هاشم، وأبو طالب ورثها عن عبدالمطلب.
فالدعوة الإسلامية تعرضت لعداوة من عادوا قصيا، وتعرضت لمن عادوا عبدمناف، ثم تعرضت لمن كانوا أعداء لبنى هاشم، ومن كل هؤلاء تكونت المقاومة، ولعل أمثل صورة لهذه العداوات مجتمعة هو عمرو بن هشام الذى اشتهر فى الإسلام باسم أبي جهل - وهو به جدير -. فقد كان فرعون هذه الأمة، وإن لم يكن فرعون فى مثل سفهه وحنقه ورعونته.
نسمع من عند أبي زهرة :
فناداه رسول الله - صلىٰ الله تعالىٰ عليه وسلم - بكنيته :" أبا الحكم ". [(242)] :" كَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ ، وَلَكِنَّ بَنِي قُصَيٍّ قَالُوا : فِينَا النَّدْوَةُ فَقُلْنَا : نَعَمْ ، فِينَا الْحِجَابَةُ ، فَقُلْنَا : نَعَمْ ، فِينَا السِّقَايَةُ ، فَقُلْنَا : نَعَمْ . وَذَكَرَ نَحْوَهُ[(243)] .
والرواية بتمامها « عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، قَالَ : إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي كُنْتُ أَمْشِي أَنَا وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ مَكَّةَ ، إِذَا لَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي جَهْلٍ : " يَا أَبَا الْحَكَمِ ، هَلُمَّ إِلَىٰ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِلَىٰ رَسُولِهِ أَدْعُوكَ إِلَىٰ اللَّهِ ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مُحَمَّدُ ، هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا ؟ هَلْ تُرِيدُ إِلا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ ، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ مَا اتَّبَعْتُكَ ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقًّا ، وَلَكِنَّ بَنِي قُصَيٍّ ، قَالُوا : فِينَا الْحِجَابَةُ ، فَقُلْنَا : نَعَمْ ، فَقَالُوا : فِينَا النَّدْوَةُ ، فَقُلْنَا : نَعَمْ ، ثُمَّ قَالُوا : فِينَا اللِّوَاءُ ، فَقُلْنَا : نَعَمْ ، قَالُوا : فِينَا السِّقَايَةُ ، فَقُلْنَا : نَعَمْ ، ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ ، قَالُوا : مِنَّا نَبِيٌّ وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ " .[(244)]
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ[(245)] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَدِمَ ضِمَادٌ[(246)] مَكَّةَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ : " إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ " ، فَــ
قَالَ : " لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَىٰ يَدِي " ،
قَالَ : " فَلَقِيتُ مُحَمَّدًا " ، فَــ
قُلْتُ : " إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَىٰ يَدِي مَنْ شَاءَ ، فَهَلُمَّ " ، فَــ
قَالَ مُحَمَّدٌ :" إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَمَّا بَعْدُ " قَالَ : فَــ
قَالَ : " أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ ". فَــ
أَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَــ
قَالَ : " وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ ، فَمَا سَمِعْتُ بِمِثْلِ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ[(247)] الْبَحْرِ". فَــ
قَالَ : " هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعُكَ عَلَىٰ الْإِسْلَامِ " ،
قَالَ : فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَــ
قَالَ : " وَعَلَىٰ قَوْمِكَ " ، فَــ
قَالَ : وَعَلَىٰ قَوْمِي".[(248)] الْحَدِيثَ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
نال شرف مراجعة وقراءة وكتابة هذا الفصل :" بدايات ﴿ „ البعثة المحمدية ”﴾ ".
د. محمد الرمادي
الجمعة : ١٢ رمضان ١٤٤٠ هـ ~ ١٧ مايو ١٩ ٢ م

أعلى الصفحة
فهرس

بدايات ﴿ „ البعثة المحمدية ”﴾

تمهيد :
بعد أن عشنا - سوياً : أنت كمتابع وناقد ؛ وأنا كباحث وكاتب - في الصفحات النيرات السابقات عن بدايات السيرة المحمدية منذ أن حُرِّرَت في يوم الإثنين ٢١ صفر ١٤٣٨ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ~ الموافق ٢١ من شهر نوفمبر عام ٢٠١٦ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول عليهما السلام [(97)]. فنشرت على موقع آستروعرب نيوز... خلال تلك الفترة الزمنية عشنا مع تلك الصفحات التي كتبت بحروف من ذهب على صفائح من الفضة : عشنا مع مقدمات ؛ وارهاصات مجئ خاتم الأنبياء ؛ وقدوم آخر المرسلين منذ عهد أبي البشر وأول الأنبياء سيدنا آدم -عليه السلام- مروراً بأبي الأنبياء الخليل وصولا إلى الرسول المعجزة ابن مريم العذراء الزهراء البتول -عليهم الصلاة والسلام-... ثم تحقيق نسب هذا النبي المنتظر ، فميلاده الكريم المرتقب ، فأخبار زمن طفولته ، فأحداث أيام شبابه ... فسنوات حياته قبل البعثة الهادية لأفضل السبل والرسالة الخالدة لإصلاح حال البشرية ؛ والتي نوَّر - الله تعالى في سماه وتقدست اسماه- بمنهاجها الصالح دروب الإنسانية في كل زمان ومكان ، وتأصيل طراز حياتها الموافق لبني آدم وبناته عبر الدهور والأزمان ...
وما نُشِرَ هي قراءتي الأولى لجزء تمهيدي أساسي مع تلك الرحلة الضرورية ، وهي فصلٌ أصيل جوهري من السيرة المحمدية العطرة - وبالقطع - يحتاج هذا الفصل لإعادة مراجعة مع تدقيق وتحقيق ؛ ولربما إضافة وإعادة تحرير مع توثيق ؛ فكما جرى العرف عند الكُتَّاب - وإني دونهم - فهم يقولون عن باكورة عملهم أنه (الطبعة الأولى) ؛ وفي حالتنا النَشر الأول لبحوث السيرة النبوية العطرة ؛ وتكرم مدير موقع آستروعرب نيوز بتثبيت الصفحة ...
والغالب إذا أكرمت ببعض الوقت في عمري - رغبة مني - فالأجل بيده وحده سبحانه وتعالى ... أقول : الغالب أن يتم إعادة قراءة ما خطته يميني ، إما لتصحيح أخطاء في الفهم أو سوء إدراك لحدث أو عدم دقة في ترتيب الأبواب وحسن السرد أو حجبت معلومة أو فكرة غابت عند النظر والإستدلال أو خلط في إعمال الفكر إثناء التحضير الأول ... أو أخطاء في كتابة الجملة أو خطأ في النحو أو فساد في البلاغة ، ثم تأتي خطوة هامة - أريدها - وهي القيام بترجمة البحوث للُغة دولة جمهورية الالب التي يرويها الدانوب الأزرق نهار مساء والتي يصدر منها الموقع الإلكتروني ... إذ اتوقع - والعلم عند الله تعالى - أنه خلال الخمس سنوات القادمات ستكون لغة الخطاب على منابر المساجد في النمسا باللغة الألمانية حيث سينقرض الجيل الأول أو يكاد ويذهب لرب غفور رحيم فيغفر زلاتهم ويتجاوز عن مثالبهم وسيئاتهم ، ويتبقى الجيل الثاني ومَن جاء مِن بعده مِن أبناء المسلمين الذي ولدوا في ديار الغرب فتحصلوا على الجنسية الغربية وصارت لغتهم الأم هي لغة الدولة التي يحملون أوراقها الثبوتية وهذا ما يظهر الأن - على الأقل ملاحظ عندي - إذ أن دروس السبت في المسجد المِصري بالحي العشرين لا يحضرها إلا ابناء الجيل الأول ؛ ثم احتاج إلى ترجمة لما قلته إثناء الدرس أو خطبة الجمعة عند حضور ابناء التجمعات الإسلامية...

-*-*-

قلتُ(الرمادي) عشنا مع مقدمات وارهاصات مجئ نبي آخر الزمان .. وسوف نتعايش - منذ الأن وصاعدا - مقدمات وبدايات أحداث البعثة المحمدية الخاتمة لرسالة السماء إلى البشرية جمعاء ... ولعله من حسن الطالع أن يتوافق نشر هذه الفصل مع بداية شهر القرآن شهر الصيام شهر رمضان !.
ثم ... سنتواجد تعايشا وعلما وارجو أن يكون سلوكا وتطبيقا مع مراحل البعثة المحمدية الأساسية والمحورية أو ما أُطلق عليه :
- بالمرحلة المكية ومفاصلها المتممة لها وإنتقالها من دور إلى دور آخر ؛ ومن محور إلى محور و
- المرحلة المدنية وأحداثها ؛ ثم
- مرحلة إنشاء الكيان - المجتمع - الإسلامي الأول و
- كيفية الإنتقال بين مفاصل المرحلة الأولى إلى الثانية فالثالثة إنتقالا سلسلا مع إلقاء اضواء على المحاور ثم
- إحكام الروابط المفصلية خلال كل فترة إنزال الوحي وحياة وعمر البعثة المحمدية وسنين الرسالة الأحمدية لننتقل إلى كيفية بناء صرح الكيان - المجتمع - الإسلامي الأول بمدينته المنورة ...
وهذه المراحل وتلك المحاور والمفاصل غابت أو كادت تغيب عن مَن تقدم ببرنامج إصلاح إما سهوا وإما جهلا ... وصار الإسلام عند الغالبية طقوسا كهنوتية وشعائر روحية!!.
تنبيه:
وهنا ينبغي أن اركز على ملاحظة ألا وهي :
مرت الأمة الإسلامية في كافة عصورها بمراحل ضعف وفي بعض أزمانها بفترات إنكسار ولكنها ظلت باقية لأنها كانت واعية وعيا إدراكيا كاملا ومتمسكة بـ ﴿ „ أساس ”﴾ وجودها و ﴿ „ جوهر ”﴾ قيامها و ﴿ „ عماد ”﴾ كيانها و ﴿ „ عمود ”﴾ حامل فسطاطها ألا وهو الكلمة التي رفضت صناديد قريش وكبراؤها - في بدايات مرحلة الفترة المكية من الرسالة المحمدية والبعثة الأحمدية - أمام أبي طالب في بيته وهو على فراش مرضه أن يتفوهوا بها ؛ وهي الكلمة التي عبَّر عنها الرسول الكريم بقوله ﴿ „ تدين بها العرب لقريش ”﴾ و ﴿ „ بها تدفع العجم الجزية لهم ”﴾ [(98)] ... وهذا تعبير محمدي بليغ يضرب على وتر حساس عند القوم يخاطب به ما تَمَلَك في صميم قلب قبيلة قريش من حب السيادة ... فهم سادة مكة وكبراؤها والتي قابع في حضنها البيت الحرام ... وهم - وهي الثانية - يخاطب الذين يملكون المال برحلة الشتاء ورحلة الصيف والتي ذكرهما القرآن الكريم ؛ فهم رفضوا قول ﴿ „ لا إله الا الله ”﴾ [(99)] وهي توأم كلمة الشهادة ... بمعنى أن الآمر والناهي هو وحي السماء إذ يأتي بعدها ﴿ „ محمد رسول الله ”﴾ [(100)] .... فتمتزجا معا بقوله : ﴿ „ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ”﴾ ﴿ „ أَطِيعُواْ اللّهَ ”﴾ ﴿ „ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ... ”﴾ [(101)] خاطب الرسول الكريم مَن استحوذ على المُلك وبيده السيادة كما خاطب النبي الأعظم مَن يملكون المال وبأيديهم الجاه... فرفضوا ﴿ „ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ”﴾ ﴿ „ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّاب ”﴾ ... ثم تساءلوا فقالوا : ﴿ „ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ”﴾ ثم تعجبوا فنظر بعضهم لبعض وهم يقولون ﴿ „ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب ”﴾ [(102)]
... ندخل العام الثاني عشر[(103)] 《 ١٢ ق. هـ. 》 قبل الهجرة المباركة ليثرب والتي سُميت بمدينته المنورة التي طيَّب الله - تعالى - ثراها بمرقده في غرفة السيدة صاحبة الفقة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر بجوار صاحبيه ؛ وزيره الأول - الصديق - والثاني - الفاروق - في الأرض[(104)] ؛ وخليفته الأول والثاني[(105)] رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في إدارة إصلاح الأمة وصلاح شؤون الكيان - المجتمع - الإسلامي الثاني[(106)] بعد إنتقاله[ﷺ] إلى الرفيق الأعلى وهو العام الموافق《 ٦١٠ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن العذراء الزهراء البتول مريم بنت عمران-عليهما السلام 》[(107)]
-*-*-
(*) منذ أكثر من [1440*١٤٤٠] عاماً حان قدوم بعثة رسول ومجئ رسالة نبي هو دعوة[(108)] أبي الأنبياء الخليل 《إبراهيم》 وابنه الذبيح 《إسماعيل》 مِن 《هاجر[(109)]》-عليهم سلام الله وبركاته ورحماته- المصرية ابنة سلالة الملوك...
(*) وآن مجئ رسول عَلمَ أهل الكتاب مِن أحبار اليهود[(110)] بقرب بزوغ فجر رسالته ... وكانوا ينتظرونه ...
(*) وبشر[(111)] برسالته كلمةُ الله وروح منه ورسوله المعجزة 《عيسى》 ابن 《مريم》 بنت《عمران》 الزهراء العذراء البتول-عليهما من الله تعالى السلام- ؛ فقال رهبان النصارى[(112)] بما قال به سيدهم ... وتقرأ هذا في مواضع[(113)] متعددة ومتفرقة من اسفار الإنجيل ؛ العهد الجديد ؛ وخاصة في إنجيل برنابا[(114)] ؛ وهو غير معترف به.
(*) وأخبر كهان العرب[(115)] بما لديهم من قرين ينقل لهم أخبار ؛ كما جاء في العديد من المصادر الدينية السماوية أو الوضعية الأرضية[(116)]...
(*) في هذا المناخ العام بما فيه ؛ وفي هذا الوسط العقائدي والديني والفكري والإجتماعي والسياسي والاقتصادي انتظر الناس قدومه ؛ بيد أنه لم يكن التهيؤ لرسالته ؛ والاستعداد لنبوته ؛ والتأهيل لبعثته بالقدر الكافي الذي سيسهل مهمته السماوية...
(*) فعرب الجزيرة ركنوا لعبادة الأوثان واسترحام الأصنام ؛ وإن كانوا يدعون أنهم على بقايا دين الخليل إبراهيم - عليه السلام -؛ وقد يبدو المشهد العام كأنه خليط من العادات المتوارثة والأفكار الفاسدة والتقاليد البالية مُزجت برغبات دونية لبشر أهمهم إشباع جوعة البطن وجوعة الفرج وإشباع حاجاتهم الغريزية...
(*) واليهود - خاصةً أحبارهم - صدموا بأن الذي جاء ليس من نسل موسىٰ فضاعت عليهم النبوة ؛ كما أنه ليس من نسل أخيه هارون فضاع عليهم المُلك[(117)] ، وهما - النبوة والمُلك - لهما بريق الذهب الخالص في أعين الناس فيقتل الأخ أخاه ويستولي الابن على ميراث ابيه...
(*) علماء النصارى وأحبارهم علموا بمجيئه ؛ فتسمع ما حدث في الحبشة زمن حكم النجاشي[(118)] ... ثم تسمع ما قاله القس ورقة بن نوفل[(119)]...
(*) ما يهم هنا شهادة أهل العلم ورجال التخصص :
(*) فقد تكلم مَن تبحر في النصرانية وعلم بكتابها فتمكن من ترجمة النص من لغته الأم إلى لغة العرب[(120)]...
استمع إليه ماذا قال!!؟.
(*) بيد أن هذا المشهد يتطلب مقدمة:
(*) فـ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْأُوَلِ "..نقرأ حين يخبرنا أنه [ﷺ] كان الحجر والشجر يسلم عليه ...
- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: " عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَرَامَتِهِ ، وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ ، كَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتَّى تَحَسَّرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ وَيُفْضِي إلَى شِعَابِ مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا ، فَلَا يَمُرُّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إلَّا قَالَ : 《 السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ 》 . فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-حَوْلَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفِهِ ، فَلَا يَرَى إلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ . فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي شَهْرِ 《 رَمَضَانَ 》 [(121)]. "
و مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْأُوَلِ :"
- عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ ، كَانَ لَا يَمُرُّ 《 بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ مِنْهُ 》، وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءٍ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَنْسَكُ فِيهِ .
- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 》 إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ《 . [(122)].
- وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا ، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا قَالَ :《 السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ 》 [(123)].
و مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْأُوَلِ :"
- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ ، قَدْ خَضَّبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ بِالدِّمَاءِ ، قَالَ : " مَا لَكَ ؟ ". قَالَ : « خَضَبَنِي هَؤُلَاءِ بِالدِّمَاءِ وَفَعَلُوا وَفَعَلُوا »، قَالَ :" تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً ؟ ". قَالَ : « نَعَمْ » . قَالَ : " ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ " . فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَجَاءَتْ تَخُطُّ الْأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، قَالَ : " مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا " . قَالَ : « ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ »... فَرَجَعَتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « حَسْبِي » [(124)]
(*) فحين سمع محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب القرشي العدناني المكي مَن يخاطبه من السماء يقول له :" أنت رسول الله وأنا المَلَك جبريل" قال ابن إسحاق :" قَالَ : « فَخَرَجْتُ [مِن حِرَاءٍ] حَتَّى إذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ يَقُولُ : " يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ "؛ قَالَ : « فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَقُولُ : " يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ." ». قَالَ : « فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ ، قَالَ : فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي ، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا إلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ ؛ ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي ». [(125)].
(*) ... نزل عليه المَلك في غار حراء حينها ... فنتساءل : " أين ذهب !؟"...
(*) ذهب إلى صاحبة العقل الراجح والفكر المستنير ... ذهب إلى خاصةِ أهلة ﴿ „ الزوج ”﴾ ﴿ „ خديجة ”﴾ وهي المرأةُ الأولى والوحيدة في شبابه وكهولته ... وهو الذي سيصبح رسول رب العالمين للثقلين مجتمعين... وخاتم السادة النجباء المرسلين من خالق السموات والأرضين والخلائق أجمعين ومتمم المبتعثين ...
ونلاحظ في هذه الجزئية الهامة واللحظة الأولى من المخاطبة المباشرة بين إنسان وبين مَلَك تمثل له بصورة يتمكن الإنسان من رؤيته وهذه لا تحدث إلا فقط للأنبياء والرسل ... وهنا ينبغي ملاحظة أن هناك من الكائنات المخلوقة ذات طبيعة خاصة تختلف عن الطبيعة البشرية الآدمية كالملآئكة والجن والشياطين لا يتمثلون إلا مَن أذن له الرحمن كقصة سيدنا سليمان مع بلقيس ...
نكمل فهو [ﷺ] لم يذهب في هذه الحالة الحرجة إلى عمه الذي رباه سنوات مِن بعد موت جده عبدالمطلب ؛ كما لم يذهب إلى صديقه أبي بكر ... بل ذهب لامرأته...
﴿ „ تنبيه ”﴾
- ويجب أن أنبه هنا إلى مسألة يعاني منها الكثير :
ففي الطبيعة البشرية : يوجد حاجات عضوية [مثل : التنفس ؛ والنوم ؛ وإخراج الفضلات] تتطلب إشباعا حتميا وإلا مات الإنسان ، وهناك مظاهر للغريزة تتطلب إشباع غير حتمي [مثل : ميل الذكر للأنثى والعكس... الأمومة...] ... إذاً الذكر يحتاج إلى أنثى ؛ ولكن يجب أن يكون هذا الذكر رجلاً ، فإذا كان - فقط - ذكر دون رجولة ... إذاً فحديثي عن اهتمامات ذكر ضئيلة ورغبات تؤرقه ... بيد أن الرجل والذي يملك فحولة الرجولة يحتاج إلى امرأة تمتلك أنوثة كاملة وعقل وفهم إدراك وليس موضع يهدئه للحظات ... والفارق بين أنثى وامرأة كبير كما أن الفارق أيضا كبير بين ذكر ورجل!!. والقراءة التشريعية والقراءة المنهجية والفهم المستنير السلوكي لقوله تعالى : ﴿ „ وَمِنْ آيَاتِهِ ”﴾ أي من علامات وبراهين ودلائل وجوده الأبدي الأزلي ؛ فيأتي بمثال : ﴿ „ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ”﴾ ثم يبين مستوى العلاقة ﴿ „ لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم ”﴾ وهذا أولاً ؛ ﴿ „ مَّوَدَّةً ”﴾ وهذا ثانياً ؛ وَ ﴿ „ رَحْمَةً ”﴾ وهذا ثالثا ﴿ „ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ ”﴾ ثم يعود النص القرآني الكريم للتذكير بدلائل وبراهين الخلق والإبداع والتصوير ﴿ „ يَتَفَكَّرُون ”﴾ فينهي النص القرآني الآية الكريمة بالقوى العاقلة عند الإنسان [(126)] .
(*) وننتقل إلى الموقف الثاني في بدايات البعثة ؛ فــ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُصُّ عَلَى خَدِيجَةَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ مَعَهُ [(127)]
... « وَانْصَرَفْتُ [ الحديث عن رسول الله محمد ] رَاجِعًا إلَى أَهْلِي حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْتُ إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا : فَقَالَتْ : يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، أَيْنَ كُنْتَ ؟ فَوَاَللَّهِ لَقَدْ بَعَثَتْ رُسُلِي فِي طَلَبكَ حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ ؛ وَرَجَعُوا لِي »...
ثم يكمل صلوات الله وسلامه عليه : ثُمَّ « حَدَّثْتهَا بِاَلَّذِي رَأَيْتُ »، فَقَالَتْ : أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمِّ وَاثْبُتْ ، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ ". [(128)]
(*) هنا في هذه الرواية تخبرنا أم المؤمنين السيدة خديجة بما كنتُ تحدثتُ عنه في مسألة رغبتها في الزواج من الشاب الصادق الأمين محمد [(129)]
(*) فإلى أين ذهبت - رضي الله عنها - به - صلى اله عليه وآله وسلم - !!؟..
(*) ذهبت - رضي الله عنها - به إلى أهل العلم ورجل التخصص : ابن عم خديجة ورقة بن نوفل؛ ونعتبره:" أحد قلائل مفكري العرب الجاهليين في القرن السابع الميلادي؛ ويمكننا وصفه بأنه :" تخصص في تاريخ الأديان وعلم اللاهوت [(130)] .
وأعود وأنبه أنه مِن مستلزمات اتمام هذه البحوث في السيرة المحمدية ملاحق متعلقة بالشخصيات المحورية [(131)] في حياة الرسول والني محمد خاصة في الأربعين عاما الأولى من حياته!!
ومن تلك الشخصيات المحورية... على سبيل المثال وليس الحصر :
(*) العم شقيق أبيه أبوطالب
(*) الزوج خديجة بنت خويلد
(*) ورقة بن نوفل
وتلك الشخصيات تتطلب دراسة مستفيضة حولها ؛ وقد أُكرمتُ بالإنتهاء من بحث عن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد... وعندي بعض أوراق حول بقية الشخصيات المحورية...
(*) أعود لتلك المحادثة بين نبي آخر الزمان ورسول خاتم الرسالات وبين الزوج خديجة بنت خويلد ومن ثم ابن عمها ورقة بن نوفل:
- خَدِيجَةُ بَيْنَ يَدَيْ وَرَقَةَ تُحَدِّثُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ثُمَّ “ قَامَتْ [خديجة بنت خويلد؛ زوج محمد] فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ”،
ثُمَّ “ انْطَلَقَتْ إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا ” ،
وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ،
فَــ “ أَخْبَرْتُهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ ” ؛
فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ :" قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى ، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ " ، فَـ
قُولِي لَهُ :" فَلْيَثْبُتْ ". فَــ رَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ،
واستشهدُ بفقرة ستصاحبنا طول فترة البعثة وزمن الرسالة وجميع مراحلها:
لنسمع معاً:
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ -اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ ، صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا ، فَــ
لَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ : “ يَا ابْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ ” ،
« فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- »؛ فَــ
قَالَ لَهُ وَرَقَةُ : “ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى وَ
: [ ١ . ] 《 لَتُكَذَّبَنَّهُ 》
وَ
: [ ٢ . ] 《 لَتُؤْذَيَنَّهُ 》
وَ
: [ ٣ . ] 《 لَتُخْرَجَنَّهُ 》
وَ
: [ ٤ .] 《 لَتُقَاتَلَنَّهُ 》 ،
ثم قال القس ورقة بن نوفل :" وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ "،
ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ ،
ثم أظهر ورقة - رضي الله تعالى عنه - للنبي - عليه السلام - علامة قبوله لقوله بما يوافق ما في الكتب ؛ واعترافه بنبوته فَــ
“ قَبَّلَ يَافُوخَهُ ”، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى مَنْزِلِهِ . " [(132)]
(*) وأثبتُ هذه المفاصل الأربعة من مراحل البعثة من قول ابن نوفل: قَالَ وَرَقَةُ :" وَ « لَتُكَذَّبَنَّهُ » وَ « لَتُؤْذَيَنَّهُ » وَ « لَتُخْرَجَنَّهُ » وَ « لَتُقَاتَلَنَّهُ » ...
ـــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
نال شرف مراجعة وقراءة وكتابة هذا الفصل :" بدايات ﴿ „ البعثة المحمدية ”﴾ ".
محمد الرمادي
الجمعة : ٢٨ شعبان ١٤٤٠ هـ ~ ٣ مايو ١٩ ٢ م

أعلى الصفحة
فهرس

 أَوَّلِ ‴مَا نَزَلَ عَلَيْه

تمهيد لـــ " معرفة أول ما نزل...
التعبير عن تلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقرآن بنزوله عليه يشعر بقوة يلمسها المرء في تصور كل هبوط من أعلىٰ . ذٰلك لعلو منزلة القرآن وعظمة تعاليمه التي حولت مجرىٰ حياة البشرية وأحدثت فيها تغيرا ربط السماء بالأرض ، ووصل الدنيا بالآخرة ، ومعرفة تاريخ التشريع الإسلامي في مصدره الأول والأصيل -وهو القرآن- تعطي الدارس صورة عن التدرج في الأحكام ومناسبة كل حكم للحالة التي نزل فيها دون تعارض بين السابق واللاحق ، وقد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق وآخر ما نزل على الإطلاق ، كما تناول أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تشريع من تعاليم الإسلام ، كالأطعمة ، والأشربة ، والقتال... ونحو ذلك . وللعلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ، وآخر ما نزل كذلك أقوال ...". [(67)]
ومبحث:" نزول القرآن:" مهم في علوم القرآن بل هو أهم مباحثه جميعاً لأن العلم بنزول القرآن أساس للإيمان بالقرآن وأنه كلام الله وأساس للتصديق بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الإسلامَ حقٌ ثم هو أصل لسائر المباحث... في علوم القرآن فلا جرم أن يتصدرها جمعاء ليكون مِن تقريره وتحقيقه سبيل إلىٰ تقريرها وتحقيقها وإلا فكيف يقوم البناء علىٰ غير أساس ودعائم ولأجل الإحاطة بهذا المطلب العزيز يجب الــ -تكلم- إن شاء الله علىٰ معنىٰ نزول القرآن ثم علىٰ مرات هذا النزول ودليل كل نزول وكيفيته وحكمته ثم علىٰ الوحي وأدلته العقلية والعلمية مع دفع الشبهات الواردة في ذلك المقام"... هذا ما خطه بيمينه الشيخ الأستاذ المعلم محمد عبدالعظيم الزُرقاني في عام 1943م...
وقلتُ (الرمادي) وهذه البحوث -على أهميتها- ستخرجنا إلىٰ بحوث علوم القرآن ؛ الحديث هنا عن فرع واحد فقط منها لذا أحيلُ القارئ -تفضلا وتكرماً- إلىٰ مصادر هامة -لمن أراد المزيد- إلىٰ ما كتبه الزركشي أو السيوطي.
-*-*-
مبحث فِي مَبْعَثِهِ[(68)] -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ - وَأَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ:
بَعَثَهُ اللَّهُ -سبحانه في علاه وعلا في سماه وتقدست اسماه- عَلَىٰ رَأْسِ أَرْبَعِينَ[(69)] وَهِيَ سِنُّ الْكَمَالِ . وَأَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ الرُّؤْيَا ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. [(70)]
قِيلَ : وَكَانَ ذَلِكَ سِتَّةَ[(71)] أَشْهُرٍ ، وَمُدَّةُ النُّبُوَّةِ[(72)] ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً[(73)] ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقلت (الرمادي) هذه المسألة تحتاج إلى إعادة نظر وبحث!!.
ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ، وَكَانَ يُحِبُّ الْخَلْوَةَ فِيهِ...
وأتوقف قليلاً لإثبات حال يحتاج إلىٰ إلقاء اضواء عليه :
١ . ] الحال الأول :" قَدْ كَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يَرَى ضَوْءًا وَيَسْمَعُ صَوْتًا ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ وَتُنَادِيهِ بِالنُّبُوَّةِ ، وَهَذِهِ أُمُورٌ ابْتُدِئَ بِهَا تَدْرِيجِيًّا لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنُّبُوَّةِ ، وَاسْتِلْطَافًا لَهُ ؛ لِئَلَّا يَفْجَأَهُ صَرِيحُ الْوَحْيِ ، وَيَبْغَتَهُ الْمَلَكُ ، فَلَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ قُوَّتُهُ الْبَشَرِيَّةُ . "[(74)]
٢ . ] الحال الثاني :" السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ أَكْثَرُ إِيجَازًا ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمْ أَبْلَغُ الْعَرَبِ وَأَفْصَحُهُمْ ، وَعَلَىٰ الْإِيجَازِ مَدَارُ الْبَلَاغَةِ عِنْدَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ مُعْظَمَهَا تَنْبِيهَاتٌ وَزَوَاجِرُ وَبَيَانٌ لِأُصُولِ الدِّينِ بِالْإِجْمَالِ .
٢ . ١. ] أُسْلُوبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ: إِنَّ أَكْثَرَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ لَا سِيَّمَا الْمُنَزَّلَةُ فِي أَوَائِلِ الْبِعْثَةِ قَوَارِعُ تَصُخُّ الْجَنَانَ ، وَتَصْدَعُ الْوِجْدَانَ ، وَتُفْزِعُ الْقُلُوبَ إِلَىٰ اسْتِشْعَارِ الْخَوْفِ ، وَتَدُعُّ الْعُقُولَ إِلَىٰ إِطَالَةِ الْفِكْرِ فِي الْخَطْبَيْنِ الْغَائِبِ وَالْعَتِيدِ ، وَالْخَطَرَيْنِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَهُمَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْإِبَادَةِ وَالِاسْتِئْصَالِ ، أَوِ الْفَتْحُ الذَّاهِبُ بِالِاسْتِقْلَالِ ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَشَدُّ وَأَقْوَىٰ ، وَأَنْكَىٰ وَأَخْزَىٰ - بِكُلٍّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَنْذَرَتِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ أَصَرُّوا عَلَىٰ شِرْكِهِمْ ، وَلَمْ يَرْجِعُوا بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَإِفْكِهِمْ ، وَيَأْخُذُوا بِتِلْكَ الْأُصُولِ الْمُجْمَلَةِ ، الَّتِي هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ السَّهْلَةُ ، وَلَيْسَتْ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْعَقْلُ ، أَوْ يَسْتَثْقِلُهُ الطَّبْعُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ ، يَصْرِفُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ . رَاجِعْ تِلْكَ السُّوَرَ الْعَزِيزَةَ ، وَلَا سِيَّمَا قِصَارُ الْمُفَصَّلِ مِنْهَا كَـ ( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ) ، وَ ( الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ) ، وَ ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) ، وَ ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) ، وَ ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) ، وَ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) ، وَ ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) ، ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) ، ( وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ) ، ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) .[(75)] تِلْكَ السُّوَرُ الَّتِي كَانَتْ بِنَذْرِهَا ، وَفَهْمِ الْقَوْمِ لِبَلَاغَتِهَا وَعِبَرِهَا ، وَتَفَزُّعِهِمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ ، حَتَّىٰ يَفِرُّوا مِنَ الدَّاعِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَانٍ إِلَىٰ مَكَانٍ ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ )[(76)] - ( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ )[(77)] ثُمَّ إِلَىٰ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الطِّوَالِ ، فَلَا نَجِدُهَا تَخْرُجُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَنْ حَدِّ الْإِجْمَالِ ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [(78)] ، وَقَوْلِهِ بَعْدَ إِبَاحَةِ الزِّينَةِ وَإِنْكَارِ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَىٰ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) "[(79)]
... فَأَوَّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [(80)] هَذَا قَوْلُ -أم المؤمنين ؛ زوج النبي؛ بنت أبي بكر الصديق- عائشة[(81)] وَالْجُمْهُورِ[(82)] .
وَهَذَا أَوَّلُ مُصْحَفِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جَعَلَ فِي أَوَّلِهِ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ).[(83)]
بيد أنه قَدْ جَاءَ مَا يُعَارِضُ هَذَا ، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ -بن عبدالله- : أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ... ( يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ )[(84)]
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عائشة لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْئًا .
الثَّانِي : الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي التَّرْتِيبِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ ، فَإِنَّهُ إِذَا قَرَأَ فِي نَفْسِهِ أُنْذِرَ بِمَا قَرَأَهُ ، فَأَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوَّلًا ، ثُمَّ بِالْإِنْذَارِ بِمَا قَرَأَهُ ثَانِيًا[(85)].
الثَّالِثُ : أَنَّ حَدِيثَ جابر[(86)] ، وَقَوْلَهُ : أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ ( يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ )[(87)] -هذا- قَوْلُ جابر[(88)] ، وعائشة أَخْبَرَتْ عَنْ خَبَرِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ[(89)]
الرَّابِعُ : أَنَّ حَدِيثَ جابر الَّذِي احْتَجَّ بِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ نُزُولُ الْمَلَكِ عَلَيْهِ أَوَّلًا قَبْلَ نُزُولِ ( يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ )[(90)] فَإِنَّهُ قَالَ : فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ ، فَرَجَعْتُ إِلَىٰ أَهْلِي فَقُلْتُ : " زَمِّلُونِي... دَثِّرُونِي " ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءٍ أَنْزَلَ عَلَيْهِ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) فَدَلَّ حَدِيثُ جابر عَلَىٰ تَأَخُّرِ نُزُولِ ( يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) وَالْحُجَّةُ فِي رِوَايَتِهِ لَا فِي رَأْيِهِ[(91)] ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ".
ونتمم البحث بما :" ذَكَرَه الْحَافِظُ السَّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ... إذ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ:
أَحَدُهَا : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ( 96 ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
ثَانِيهَا: ( يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 74 ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ.
وَجَمَعُوا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَىٰ الْإِطْلَاقِ ، وَهُوَ صَدْرُ سُورَةِ اقْرَأْ . وَالثَّانِي أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِتَمَامِهَا ، أَوِ الثَّانِي أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ آمِرًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ . وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا فِي " الْإِتْقَانِ".
ثَالِثُهَا : سُورَةُ الْفَاتِحَةِ ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ : ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ إِلَىٰ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ ( اقْرَأْ ) وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَىٰ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ( قَالَ السُّيُوطِيُّ ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَوَّلُ . وَأَمَّا الَّذِي نَسَبَهُ إِلَىٰ الْأَكْثَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا عَدَدٌ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَىٰ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ . وَحُجَّتُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخَدِيجَةَ:" إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً ، فَقَدْ وَاللَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا " . فَقَالَتْ : " مَعَاذَ اللَّهِ ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ" - ... وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخْبَرَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ وَرَقَةً أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَثْبُتَ وَيَسْمَعَ النِّدَاءَ ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَا نَادَاهُ - أَيِ الْمَلَكُ - " يَا مُحَمَّدُ قُلْ : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - حَتَّى بَلَغَ - ( وَلَا الضَّالِّينَ ) ... قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْحَدِيثِ : " هَذَا مُرْسَلٌ ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، وَنَقَلَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ احْتِمَالَ أَنَّ هَذَا بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ).
هَذَا - وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ -محمد عبده- فَقَدْ رَجَّحَ أَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَىٰ الْإِطْلَاقِ ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) ... واستدرك صاحب المنار بالقول :" وَنَزَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَىٰ ذَلِكَ مَنْزَعًا غَرِيبًا فِي حِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَفِقْهِ الدِّينِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ ... ".[(92)]
وقد بحثتُ المسألة هذه في فصل :" مرحلة النبوة ".[علىٰ صفحات موقع استروعرب نيوز] . فالرجاء يراجع في موضعه.. والحمد لله رب العالمين!. "
-*-*-
ثم وجدتُ مَن حاول -يائسا- أن يطعن في المسألة؛ ويبخر حولها ؛ لذا رايتُ -ومِن الله تعالىٰ ذكره- التوفيق والصلاح أن أجعل هذه المسألة ضمن شبهات حول القرآن العظيم والذكر الحكيم ؛ وهو ملحق في نهاية البحوث... فاللهم نرجو منك في علاك التوفيق والهداية.
-*-*-
وثبت في صحيح الإمامين البخاري ومسلم “ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ : الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ . قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ . فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ . قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ . قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [(93)] . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ : أَيْ خَدِيجَةُ ! مَا لِي ؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، فَقَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلَّا ! أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ ! لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا . وَاللَّهِ ! إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى- وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ - ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : أَيْ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ . قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَآهُ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ ! لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا[(94)] .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَوَاللَّهِ ! لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ أَبَدًا. ”
وعليه فـــ :" أَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "[(94)].وقد ذكرتُ قولها قريباً...
وأختم هذا البحث بمقدمات في مسائل أول ما نزل من القرآن
قاعدة البحث في مسائل أوّل ما نزل:
فقال محمد بن عبدالعظيم الزُرقاني (ت: 1367هـ): ( مدار هذا المبحث علىٰ النقل والتوقيف. ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها[(95)]
وذكر الإمام عبدالله بن محمد بن أبي شيبة: في مصنفه قولاً واحداً " عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ :" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ " ، ثُمَّ نُونٌ .
كما ذكر ابن أبي شيبة قولا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : سَمِعْت عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ ثُمَّ نُونٌ .
وذكر عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ : أَخَذْت مِنْ أَبِي مُوسَى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . [(96)] ".
-*-*-*-*-*-*-
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة الرسالة المحمَّدية وارهاصات البعثة الأحمَّدية : ٤. ] بحوث المجلد الرابع: 《...زَمَانُ آخِرِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ..》-صلى الله عليه وآله وسلم -
تشرف بمراجعة وقراءة وكتابة هذا الفصل من المجلد الرابع :
د. مُحَمَّدٌ الرَّمَادِيُ
المراجع والمصادر والهوامش تجدها في نهاية البحوث؛ إن شاء الله تعالىٰ

أعلى الصفحة
فهرس

يوم „ مبعثه ‟
بحوث الفصل الرابع:《...زَمَانِ آخِرِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ..》-صلى الله عليه وآله وسلم-فصل: يوم بعثته

تمهيد :
أركان الإسلام أو أعمدته التي يبنىٰ عليها كيان الدين الحنيف يجب أن تكون قطعية الثبوت ؛ ويجب -أيضا- أن تكون قطعية الدلالة ؛ فيجب أن تثبت هذه الأركان عند تلقيها والحديث عنها بطريق لا يتطرق إليه إرتياب أو شك ؛ وهذا ما سماه السادة العلماء قطعية الثبوت ؛ أي أنه وحي من قِبل الحاكم... أي صاحب الآمر ... ومالك النهي -سبحانه وتعالى- وتم التبليغ لكافة البشر -العامة من الناس قَبل أهل التخصص وأصحاب العلم الراسخ- بطريقة لا يتطرق إليه الشك أو الإرتياب ؛ إذ هي -أركان الإسلام ؛ وعقائده- الأساس الذي سيبنىٰ عليه الأحكام الشرعية العملية التفصيلية اليومية المتعلقة بالحياة الدنيا ، والتي قد لا يدرك كنهها العقل البشري المحدود والقاصر ولكن قد يسعىٰ العالِم لشرح حكمتها واستنباط دلالتها ، وتلك الأحكام المتعلقة بالحياة الآخرة ، بجانب القَصص القرآني ؛ فجميع قضايا الإيمان وكل مسائل العقيدة يجب أن تكون قطعية الثبوت... كما يجب أن تكون كل قضية بمفردها أو مسألة بعينها قطعية الدلالة... بمعنى أنها تدل علىٰ معنىٰ واحد لا يتعداه إلىٰ آخر ولا يصح أن يفهم أمر آخر ؛ أو أمر ثان... فيحدث التباس في الذهن أو تشويش في الفهم ؛ أو تداخل بين فهمين في قضية واحدة فتضيع عقيدة أو يهتز إيمان...
لذا فــ قضايا العقيدة أو موضوعات الإيمان يجب أن تكون قطعية الثبوت وقطعية الدلالة.
أما مسائل الأحكام الشرعية العملية اليومية التفصيلية للمسلم فيكفي فيها غلبة الظن ؛ أو ما يطلق عليه العلماء شبهة دليل ؛ فــ كثير من النصوص الشرعية -سواء آيات من الذكر الحكيم أو أحاديث نبوية- قد تحتمل آكثر من معنى-كــ آية :"أو لامستم (وفي قراءة :"لمستم") النساء"- وهنا يأتي صاحب العلم الراسخ في العلوم اللُغوية والعلوم الشرعية ليستنبط حكما شرعيا في المسألة المبحوثة... ويذهب إلى ما لم يذهب إليه العالِم الآخر الراسخ في العلوم الشرعية واللُغوية... والممارس لتبيين الأحكام الشرعية العملية يجد فناً فقهيا تحت مسمىٰ "الفقه المقارن" ، كما نجد بحوث "آيات الأحكام" وبحوث "أحاديث الأحكام" ؛ فالواقع الفقهي يُظهر بوضوح وجود مذاهب... مثل مذهب النعمان بن ثابت -أبي حنيفة- ؛ ومذهب مالك بن أنس ؛ ومذهب محمد بن إدريس الشافعي ؛ ومذهب أحمد بن حنبل... وعلماء كثر -رحمهم الله تعالى جميعاً-... فهم بحثوا في المسائل الفقهية العملية .
إذاً هناك مسألتان لكل منهما أدلتها... فــ
أولاً : مسائل العقيدة وقضايا الإيمان... وهذه أدلتها قطعية الثبوت قطعية الدلالة... و
ثانياً : مسائل الأحكام الشرعية العملية اليومية التفصيلية في حياة المسلم...
**
عزيزيــ(ــتي) القارئــ(ـة) !
مازلتُ أبحث مقدمات النبوة الخاتمة لرسالة السماء الآخيرة... والحديث مازال متصل عن ارهاصات نبوة خاتم المرسلين وآخر المبتعثين وإمام الأنبياء والمتقين محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صلى الله عليه وآله وسلم.
والثابت بعثة الرسول محمد... سواء جاء الإخبار عنها علىٰ لسان السادة الأنبياء ؛ مثل :
- دعاء أبي الأنبياء الخليل إبراهيم وابنه -الذبيح ابن هاجر المصرية- النبي إسماعيل أو
- بشارة ابن العذراء البتول الزهراء مريم بنت عمران -المعجزة في الخلق والتكوين والإيجاد والتصوير: عيسى ابن مريم- ؛ أو من خلال بشارات :
- الكتب السماوية السابقة أو كما ذكرتُ من بعض
- الكتب الدينية عند بعض الأقوام...
و
الثابت -أيضا- أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- بُعث بكتاب سماوي (كلام الله تعالىٰ) تحدىٰ به الإنس والجن أن يأتوا بمثله ، فما استطاعوا ومازال التحدي قائم حتىٰ يرث الله -تعالى- الأرض ومن عليها... و
الثابت أنه -عليه السلام- أوتي القرآن ومثله معه ؛ فصار المسلم لديه بين يديه قرآنا يتلىٰ وهو منهاج حياة ؛ وطريقة معينة في العيش بغض النظر عن مكان الإنسان وزمانه وأيضا لديه سنة -طريقة- نبوية عطره وهي سلوك عملي وكيفية معينة في الحياة... وهما -القرآن الحكيم والسنة النبوية المحمدية- مصدرا التشريع لحياة المسلم ومصدرا المنهجية الحياتية...
**
والحديث عن بحوث《...زَمَانِ آخِرِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ..》-صلى الله عليه وآله وسلم- وبعض المسائل ؛ مثل:《...الدين الذي كان عليه قبل الرسالة..》و《...بدء الوحي..》و《...سنه عند التبليغ..》و《...يوم بعثته..》تجد فيها أقوال متقاربة وليست متعارضة ؛ وهذا يحتاج مني- بحسن معونته سبحانه وتعالى وتمام توفيقه وكامله – أن أفرد في نهاية البحوث فصول حول الشبهات التي اثارها البعض ؛ إما طعناً في الدين وبعض إحكامه -ومازالت تتردد على ألسنة النقلة وأقلام الجهلة- أو طعنا بمن أرسل به للعالمين بشيرا وهاديا ونذيراً ، ويكفي الرد على تلك الخزعبلات والأوهام قوله تعالىٰ علوا كبيرا حين نطق القرآن يقول :" . أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[(48)] "... والمعنىٰ صريح في كل النصوص القرآنية والآيات الرحمانية ؛ فيتبقىٰ أحاديث المصطفىٰ وأقوال المجتبىٰ المحتبىٰ المرتضىٰ فنطق القرآن قائلاً وإننا نسمع تمام الآيات تقول : ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ [(49)].
بيد أنه توجد بعض تفصيلات... كما جاء في حديث عند مسلم في صحيحه : " وَ... عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ « كَمْ أَتَى لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ مَاتَ ». فَـ
قَالَ « مَا كُنْتُ أَحْسِبُ مِثْلَكَ مِنْ قَوْمِهِ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَاكَ ».[(50)]
والشاهد من الحديث في بعض الأمور الفرعية والنقاط التفصيلية القول :
قَالَ قُلْتُ « إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ النَّاسَ فَــ :„ اخْتَلَفُوا ‟ عَلَيَّ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ قَوْلَكَ فِيهِ » [(51)] .
**
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ : « إِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ »
والشاهد من الحديث: « وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ » [(52)].
وبوَّب ابن خزيمة في صحيحه : كتاب الصوم؛ جماع أبواب صوم التطوع؛ بَابُ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إِذِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ، وَفِيهِ أُوحِيَ إِلَيْهِ ، وَفِيهِ مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " [(53)]. فجعل يوم المولد مثل يوم أوحي إليه فيه واليوم الذي مات فيه صلوات الله تعالى عليه وسلاماته وبركاته وتنعيماته.
والحديث مروي مرة عن عمر-رضي الله عنه ومرة عن رجل دون ذكر اسمه :
" عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، صَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ؟ قَالَ : « يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ ، وَيَوْمٌ أَمُوتُ فِيهِ» [(54)] هَذَا حَدِيثُ قَتَادَةَ.
وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُذْكَرْ عُمَرَ ، وَقَالَ : « فِيهِ وُلِدْتُ ، وَفِيهِ أُوحِيَ إِلَيَّ » [(55)].
وذكر ابن كثير في البداية :" وَقَدْ كَانَ نُزُولُ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَهِيَ : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَا [ابن كثير في البداية] ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " ، وَكَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ، فَقَالَ : « ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ » .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " وُلِدَ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَنُبِّئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ". [(56)] وَهَكَذَا قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أُوحِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ .[(57)].
ثُمَّ قِيلَ :
كَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُ وُلِدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَفِيهِ بُعِثَ ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ . وَ
الْمَشْهُورُ [ كما قال صاحب البداية] :" أَنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا [(58)].
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [(59)] فَقِيلَ : فِي ثَانِي عَشْرِهِ . وَ
رَوَى الْوَاقِدِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. [(60)]
وَقِيلَ : فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لَسْتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ . وَ
رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ ، وَلِهَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ [(61)]
قَالَ [(62)]: قَوْلُ الْبُخَارِيِّ هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَكَانَ النُّزُولُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَ
قِيلَ: لِتِسْعٍ، وَ
قِيلَ: لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَ
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ،
وَ
عِنْدَ الْمَسْعُودِيِّ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَ
عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: ابْتِدَاءُ التَّنْزِيلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ رَمَضَانَ وَعُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَهُوَ تَاسِعُ شُبَاطَ لِسَبْعِ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا مِنْ سِنِي ذِي الْقَرْنَيْنِ،
ونقرأ :" فجاء أمينُ الوحي الرسولَ -صلى الله عليه وآله وسلم- لأول مرة في يوم الإثنين ؛ الحادي والعشرين [٢١] من شهر رمضان من العام الأربعين لميلاده بينما كان يتحنث بغار حراء ".
واختلف العلماء في تحديد تاريخ ذلك اليوم ، ورحج المباركفوري في الرحيق أنه اليوم الحادي والعشرون ... وهو ما لم يقل به غيره ؛ حسب علمي المحدود."[(63)] وَ
قَالَ ابْنُ عَبْدِالْبَرِّ : يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْفِيلِ، وَ
قِيلَ: فِي أَوَّلِ رَبِيعٍ، وَ
فِي (تَارِيخِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ الْفَسَوِيِّ): عَلَى رَأْسِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَ
عَنْ مَكْحُولٍ: أُوحِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالدُّولَابِيُّ فِي (تَارِيخِهِ): نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً لِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَ
عِنْدَ الْحَاكِمِ مُصَحَّحًا: إِنَّ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُكِّلَ بِهِ أَوَّلًا ثَلَاثَ سِنِينَ قَبْلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَاقِدِيُّ وَقَالَ: أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ وُكِّلَ بِهِ غَيْرُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُكِّلَ بِهِ تَدَرُّبًا وَتَدْرِيجًا لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا كَانَ أَوَّلَ نُبُوَّتِهِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ. [(64)]
والأمانةُ العلمية الزمتني عرض ما قيل!!.. أما
* . ] خلاصة البحث:
فـ أعتمد أن أولَ ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ؛ فعلى رأس الأربعين [(65)] في اليوم الموفي الثاني عشر من ربيع الأول يوم الإثنين [(66)] بينما هو نائم إذ اتاه جبريل بنمط من ديباج مكتوب فيه { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله {ما لم يعلم} .
ونكمل هذه المسألة في فصل مستقل تحت عنوان:" أول ما نزل من القرآن الكريم علىٰ قلب النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٤. ] بحوث المجلد الرابع: 《...زَمَانُ آخِرِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ..》-صلى الله عليه وآله وسلم-
مقدمة الرسالة المحمَّدية وارهاصات البعثة الأحمَّدية.
تشرف بمراجعة وقراءة وكتابة هذا الفصل من المجلد الرابع :
د. مُحَمَّدٌ الرَّمَادِيُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر والهوامش تجدها في نهاية البحوث؛ إن شاء الله تعالىٰ

أعلى الصفحة
فهرس

《... سِنُّ الْكَمَالِ ...》
٤. بحوث المجلد الرابع: 《...زَمَانُ آخِرِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ..》-صلى الله عليه وآله وسلم-
فصل: سنُهُ -عليه الصلاة والسلام- حين التبليغ [(22)]

ــــــــــــــــــ

مدخل:
السيرةُ المحمديّة هي المدخل الطبيعي لمعرفة صاحب الرسالة الأخيرة العصماء ؛ والسيرةُ في الأصل : الكتاب الكريم والسنة العطرة ؛ كما أن الأصل في المسلم أن يعرف جيداً - حقا وصدقا ؛ بما لا يدع مجالا للشك أو الريبة -: النبي الذي يتبعه ، والرسول الذي يسير على خطاه ويلتزم هديه ويتقيد بطريقته ، وإنك لا تعرف رسول الله الخاتم -عليه السلام- إلا إذا عرفت الكتاب -القرآن الكريم والذكر الحكيم- الذي أُنزل عليه وحياً من ربه وبلغنا من خالقنا دون تحريف أو تعديل ، فهو المصدر الأول من المنهاج الرباني ؛ والمصدر الأول في التشريع الإلهي، فهو يعطي الخطوط الأساسية الواضحة كطريقة خاصة في حياة الإنسان وطراز خاص من عيش المرء ؛ أينما كان وفي أي زمان وعلى أي حال ، فهذه هي المعرفة الأولى ، أما الثانية فهي معرفة سنته -صلى الله عليه وآله وسلم- إذ أن السنة النبوية؛ وهي المصدر الثاني من مصدري الوحي السماوي المُنزل بواسطة أمين السماء المَلَكِ جبريل -عليه السلام- على قلبِ أمينِ السماء والأرض محمد بن عبدالله؛ فهي المصدر الثاني من التشريع الرباني والمنهاج الإلهي ، فـالسنةُ النبويّة هي مجموع أقواله وأفعاله وصفاته وتقريراته ، وهي أيضا الخطوط الأساسية العريضة لمنهاج المسلم في الحياة .
والسيرة المحمدية تُمهد -وثائقياً- للإيمان بنبوته؛ فينعقد الإيمان في قلب من يؤمن به خاتما للأنبياء ويعتقد اعتقادا جازما برسالة آخر المبتعثين ويصدق تصديقا لا شك فيه بكل ما آتى به متمم المرسلين ؛ فيصير التعريف بالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- مقدم على التعريف بالرسالة ، ولأن الإيمان بالرسول -عليه السلام- هو المقدمة الموطئة لتلقي هديه وسماع أمره وفهم طريقته ؛ وإذا لم يكن الأمر هكذا اضطرب الفهم وتعطل الإدراك فدخل الغريب في صلب عقيدةٍ الأصلُ فيها أن تكون بيضاء نقية لا لبس فيها ولا إيهام. ولا ابهام.. فالعقيدةُ لا تحتاج إلى كبير تأويل والإيمان لا يحتاج إلى عناء تفسير بل يجب أن تكون سهلة يدركها الجميع ويفهمها العامة قبل الخاصة صافية من الشوائب توافق الفطرة السوية البشرية وتتفق مع النزعة الأصلية الفطرية الآدمية فتقنع العقل تماما فيطمئن إليها القلب تصديقا وترتاح إليها النفس البشرية فتهدأ[(23)] .

مَبْعَثُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا-
واختلفَ السَّلَفُ في سنِّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حين نُبئ كم كانت ؟ .

فقال بعضهم: نُبئَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بنتْ قريش الكعبة بخمس سنين، وبعد ما تمت له من مولده أربعون سنة. [(24)] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَلَغَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا[(25)] بجنة عرضها السموات والأرض اعدت للمتقين المؤمنين... وهاديا للطائعين الذين يبحثون عن العقيدة الصحيحة... ونذيرا للعاصين والمنافقين والكافرين الذين يخالفون أمره ويعارضون ما ثبت عقلا ونقلا.
وابن القيم يوافق ابن إسحاق فيقول:" فِي مَبْعَثِهِ[(26)] -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :" بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ[(27)] وَهِيَ سِنُّ الْكَمَالِ (!).
بيد أنه تم اعتماد هذه السن دون تأكيد لمصدرها فــ قِيلَ : وَلَهَا تُبْعَثُ الرُّسُلُ[(28)] .

قول العلماء :
لكن أثبت محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه[(29)] :" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ : « أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ „أَرْبَعِينَ”» ...
فـ التقط خيط الصحة للحديث وأحسن لضمه فقال العسقلاني في شرحه على البخاري :" وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ".[(30)] .
ثم ذكر :" فِي صِفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثُ أَنَسٍ بن مالك «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ عَلَى رَأْسِ „أَرْبَعِينَ”» ؛ كما ذكر الترمذي[(31)] .
حديث البخاري عن ابن عباس:" في سننه :" عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أنَسًا يَقُولُ ﴿... بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ „أَرْبَعِينَ” سَنَةً ﴾...
وقال أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ؛ ورواه مسلم في صحيحه ؛ باب المناقب فنصه :" بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً "[(32)] .
فهذا ما قال به عبدالله بن عباس ؛ وأنس بن مالك وعُروة بن الزُّبَير.

وهناك عند الطبري يوجد حديث موضوع أعرضتُ عنه فلم اذكره. [(34)] .
وشرحَ صاحب الأحوذي في :" ( بَابِ مَا جَاءَ فِي مَبْعَثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَابْنُ كَمْ كَانَ حِينَ بُعِثَ )... ففصَّل فقال:" الْمَبْعَثُ : مِنَ الْبَعْثِ ، وَأَصْلُهُ الْإِثَارَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى التَّوْجِيهِ فِي أَمْرٍ مَا رِسَالَةً ، أَوْ حَاجَةً "...
ثم يأتي بمثالٍ فيقول :" وَمِنْهُ بَعَثْتُ الْبَعِيرَ إِذَا أَثَرْتُهُ مِنْ مَكَانِهِ " ؛ ويكمل بمثال ثان:" وَبَعَثْتُ الْعَسْكَرَ إِذَا وَجَّهْتُهُمْ لِلْقِتَالِ " ، ويزيد المسألة وضوحاً وتبياناً فيقول :" وَبَعَثْتُ النَّائِمَ مِنْ نَوْمِهِ إِذَا أَيْقَظْتُهُ " ، ويختم صاحب الأحوذي مقالته :" وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِرْسَالُ ".[(35)] .
ثم يؤكد صاحب الأحوذي وينهي البحث ؛ فيقول:" وَقَدْ أَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ حِيْنَ بُعِثَ ابْنَ „أَرْبَعِينَ” سَنَةً" .
ويوضح قَوْلَهُ : ( أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ) أَيِ : الْوَحْيُ ؛ ( وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ ) أَيْ : سَنَةً ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ وَحْيِ الْيَقَظَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ [(36)].
وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَامَ بِمَكَّةَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا -يعني صاحب الأحوذي- أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ[(37)] ...
ولإكمال البحث مع التحقيق والتدقيق...
قَالَ آخَرُونَ: بَلْ نُبِّئَ حِينَ نُبِّئَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. [(38)]
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رِوَايَةً شَاذَّةً أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعِثَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَالصَّوَابُ أَرْبَعُونَ سَنَة كَمَا سَبَقَ ، وهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ؛ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ[(39)] .
وأنهي -بعد تفضله سبحانه وتعالى عليَّ وكرمه- هذا الفصل من المجلد الرابع بما ذهب إليه العسقلاني حين يقول في الفتح :" فَعَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّ مَوْلِدَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَكُونُ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ ".[(40)]
ويوجد استدرك عند ابن القيم الجوزية لهذا السن مقارنة بالسيد المسيح ابن مريم العذراء الزهراء البتول فيقول:" وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ[(41)] سَنَةً فَهَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَثَرٌ مُتَّصِلٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ . "...
فتوقفتُ عن البحث إذ ليس وراء التحديد فائدة شرعية ترتجى!..
تنبيه :
تتداول بعض العامة -جهلاً- مقولة أن المرء يفعل ما يشاء إلى أن يصل إلى سن الأربعين... ثم بعدها يتوب ويقلع عن ما اقترفه ؛ وهذه لا أصل لها معلوم في دين أو رأي ينسب إلى عالِم راسخ في العلم؛ فسن التكليف هو سن بلوغ الذكر مبلغ الرجال ؛ وسن التكليف للإناث إذا وصلن إلى مبلغ النساء. والإعتماد على قوله تعالى حين نطق القرآن الكريم بالقول :" {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وَ" الشاهد :{ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}..{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين} [(42)] لا دليل عليه .
كَانَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ قَبْلَهُ -صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليهم أجمعين- بِالْإِيمَانِ بِهِ ، وَالتَّصْدِيقِ لَهُ ، وَالنَّصْرِ لَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا ذَلِكَ إلَى كُلِّ مَنْ آمَنْ بِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ ، فَأَدَّوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَقِّ فِيهِ[(43)] .
يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ﴾ [ أَيْ ثِقَلَ مَا حَمَّلْتُكُمْ مِنْ عَهْدِي ] ... ﴿ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾[(44)] ... فَأَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ جَمِيعًا بِالتَّصْدِيقِ لَهُ ، وَالنَّصْرِ لَهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ ، وَأَدَّوْا ذَلِكَ إلَى مَنْ آمَنْ بِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ[(45)]
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى ".
مقدمة الرسالة[(46)] المحمدية البعثة الأحمدية[(47)].
تشرف بمراجعة وقراءة وكتابة هذا الفصل من المجلد الرابع :
د. مُحَمَّدٌ الرَّمَادِيُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش: تنشر في نهاية البحوث؛ بإذنه سبحانه وتعالى

أعلى الصفحة
فهرس

[ ٤ ] مقدمة المجلد الرابع 《..زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ..》صلى الله عليه وآله وسلم

لا يوجدُ أدنىٰ شك أو لحيظة ارتياب في أن أوان مبعث نبي آخر الزمان كان قد أوشك علىٰ الظهور؛ وقد أزف وقت مجئ الرسالة الخالدة لآخر المرسلين؛ وستهبط شريعة الخالق الواجد المبدع المصور الرازق الكاملة فقد وجبت أن تنزل من السماء بلا ريب للتقييد بالتنفيذ والتطبيق؛ وصار منهاج متمم المبتعثين يلزم البشر أجمعين أن يتقيدوا به؛ فجاءت الأدلة القطعية الثبوت؛ القطعية الدلالة من نصوص وحي السماء سواء العهد العتيق؛ أو العهد الجديد؛ والعهد الحديث تثبت هذا، وتخبر كل الأتباع بالأدلة العقلية والنقلية فتؤكد على هذا؛ كما تضافرت :
١ . ] إخْبَارُ الْكُهَّانِ مِنْ الْعَرَبِ، فَقد أَتَتْهُمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْجِنِّ فِيمَا تَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ، إذْ كَانَتْ وَهِيَ لَا تُحْجَبُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ بِالنُّجُومِ. وَكَانَ الْكَاهِنُ وَالْكَاهِنَةُ لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْهُمَا ذِكْرُ بَعْضِ أُمُورِهِ، لَا تُلْقِي الْعَرَبُ لِذَلِكَ فِيهِ بَالًا، حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذكره وتقدس سره، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي كَانُوا يَذْكُرُونَ، فَعَرَفُوهَا[(1)].
١ . ١ . ] قَذْفُ الْجِنِّ بِالشُّهُبِ ، وَآيَةُ ذَلِكَ عَلَى مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
فَلَمَّا تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضَرَ مَبْعَثُهُ، حُجِبَتْ الشَّيَاطِينُ عَنْ السَّمْعِ، وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ فِيهَا، فَرُمُوا بِالنُّجُومِ، فَعَرَفَتْ الْجِنُّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْعِبَادِ؛ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ بَعَثَهُ، وَهُوَ يَقُصُّ عَلَيْهِ خَبَرَ الْجِنِّ إذْ حُجِبُوا عَنْ السَّمْعِ، فَعَرَفُوا مَا عَرَفُوا، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حَيْنَ رَأَوْا مَا رَأَوْا: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }... إلَى قَوْلِهِ : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا }[(2)].
فَلَمَّا سَمِعَتْ الْجِنُّ الْقُرْآنَ عَرَفَتْ أَنَّهَا إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ السَّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يُشْكِلَ الْوَحْيُ بِشَيْءٍ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَيَلْتَبِسُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ، لِوُقُوعِ الْحُجَّةِ، وَقَطْعِ الشُّبْهَةِ. فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا، ثُمَّ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } الْآيَةَ .
١ . ٢ . ] وتوجد رواية عن ابن هشام في السيرة النبوية تقول :" قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :" ... قَدْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ... نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَعْتَنِقُ الْأَوْثَانَ، حَتَّى أَكْرَمْنَا اللَّهُ بِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ[(3)] .هذه شهادة صدق...
١ . ٣ . ] وأما الرواية الثانية فنجدها في حديث ابن عم رسول الله[(4)] مع ملك الحبشة[(5)] وقت هجرته إليها روته أُمُّ سَلَمَةَ[(6)] بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَتْ: قَالَ " جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ[(7)]- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ[(8)] ، كُنَّا قَوْمًا : [ وأخذت أمنا؛ أم المؤمنين أم سلمة تعدد ما قاله سيدنا جعفر... فقال: كُنَّا قَوْمًا :
1. ] أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ
2. ] نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَ
3. ] نَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَ
4. ] نَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَ
5. ] نَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَ
6. ] نُسِيءُ الْجِوَارَ ، وَ
7. ] يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ...
فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى :
1. ] اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِـ
2. ] نُوَحِّدَهُ، وَ
3. ] نَعْبُدَهُ، وَ
4. ] نَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِـ
1. ] صِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَ
2. ] أَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَ
3. ] صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَ
4. ] حُسْنِ الْجِوَارِ وَ
5. ] الْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ :
1. ] الْفَوَاحِشِ ، وَ
2. ] شَهَادَةِ الزُّورِ ، وَ
3. ] أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَ
4. ] قَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ : نَعْبُدَ اللَّهَ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَإِقَامَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ[(9)]. – قَالَتْ [أم سلمة] : فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ - فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحِلَّ لَنَا، فَغَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا؛ لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ[(10)]
وهذه أروع شهادة صدق من جعفر بن أبي طالب أمام ملك الحبشة اصحمة النجاشي وقت الهجرة الأولى إليها وأمام أثنين من وفد قريش للوشاية بالمسلمين..

وَ تضافرت روايات :
٢ . ] الْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ وَ
٣ . ] الرُّهْبَانِ مِنْ النَّصَارَى[(11)] بـ مُعْرِفَةِ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فـقَدْ تَحَدَّثُوا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ مَبْعَثِهِ، لَمَّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ.
أَمَّا الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالرُّهْبَانُ مِنْ النَّصَارَى، فَعَمَّا وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ إلَيْهِمْ فِيهِ.
وهذه أدلة قد تعرضت لها في بحوث المجلد الأول؛ وأذكر القارئــ(ــ)ــة الكريمــ(ــ)ــة بما جاء :
*.] عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ» : كنتُ „ أَوَّلَ ‟ الأنبياء خلقا و „ آخِرَهم ‟ بعثا[(12)].
**. ] وجاء في مسند الإمام أحمد؛ مسند الشاميين، حديث عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ " مكتوبٌ " لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ؛ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ [أمري] دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ؛ وَبِشَارَةُ عِيسَىٰ بِي؛ وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ "حين وضعَتني" وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ تَرَيْنَ ».
ولنا أن نسمع القول الصريح في سورة الصف؛ إذ نطق القرآن الكريم بالقول : ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين ﴾[(13)].
وعَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:« إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ ». فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ :« إِنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ »[(14)].
وتحدثتُ من قبل عن :" بَدْءِ الْوَحْيِ„" مَبْعَثُهُ " ‟ [صلى الله عليه وآله وسلم] وجرى الحديث عن " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ "... " الحَسَنَةِ ".
ثم كان الحديث عن :" مرحلة النبوة؛ وتحدثتُ عن إرهاصات نبوة محمد بن عبدالله عند أهل الكتاب وكهان العرب عندما قارب زمن بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. بيد أنني فضلت وضعها ضمن ملاحق بحوث السيرة. وفي بحوث سابقة تحدثت عن إرهاصات النبوة قبيل البعثة فالرجاء مراجعة ما سبق وكتبته.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : إِنَّ مِمَّا دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ - مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَدَاهُ لَنَا - أَنْ كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ رَجُلٍ مَنْ يَهُودَ، وَكُنَّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ؛ وكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا، وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا : إِنَّهُ قَدْ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ فَكُّنَا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إِلَى اللَّهِ، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إِلَيْهِ فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ[(15)] .
وَقَالَ وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا هَذَا النَّبِيَّ يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ][(16)].
ثُمَّ
رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتِ الْيَهُودُ بِخَيْبَرَ تُقَاتِلُ غَطَفَانَ فَكُلَّمَا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ فَعَاذَتِ الْيَهُودُ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالُوا : اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنَّ تُخْرِجَهُ لَنَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِلَّا نَصَرْتَنَا عَلَيْهِمْ .
قَالَ : فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ فَهَزَمُوا غَطَفَانَ فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ﴿ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾الْآيَةَ[(17)] . وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ- وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ- قَالَ كَانَ لَنَا جَارٌ مَنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِالْأَشْهَلِ قَالَ : فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِالْأَشْهَلِ قَالَ سَلَمَةُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنًّا عَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ[(18)] وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، قَالَ : فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالُوا لَهُ : وَيْحَكَ يَا فُلَانُ أَوَتَرَى هَذَا كَائِنًا أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ، يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، وَيَوَدُّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أَعْظَمَ تَنُّورٍ فِي الدَّارِ يَحْمُونَهُ ثُمَّ يُدْخِلُونَهُ إِيَّاهُ فَيُطَيِّنُونَهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا قَالُوا لَهُ : وَيْحَكَ يَا فُلَانُ فَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى نَحْوِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ قَالُوا : وَمَتَى تُرَاهُ ؟ قَالَ : فَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ : إِنْ يَسْتَنْفِدَ هَذَا الْغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا، وَحَسَدًا قَالَ : فَقُلْنَا لَهُ : وَيْحَكَ يَا فُلَانُ أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ ؟ قَالَ : بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ. [رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ]. [(19)]
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : لَمْ يَكُنْ فِي بَنِي عَبْدِالْأَشْهَلِ إِلَّا يَهُودِيٌّ وَاحِدٌ يُقَالَ لَهُ : يُوشَعُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : - وَإِنِّي لَغُلَامٌ فِي إِزَارٍ - قَدْ أَظَلَّكُمْ خُرُوجُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذَا الْبَيْتِ- ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ- فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيُصَدِّقْهُ. فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْنَا وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا لَمْ يُسْلِمْ حَسَدًا وَبَغْيًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي إِخْبَارِ يُوشَعَ هَذَا عَنْ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتِهِ وَنَعْتِهِ، وَإِخْبَارِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا عَنْ ظُهُورِ كَوْكَبِ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ قَالَ لِي : هَلْ تَدْرِي عَمَّ كَانَ إِسْلَامُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ، نَفَرٍ مِنْ بَنِي هَدْلٍ إِخْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، ثُمَّ كَانُوا سَادَتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لَا . قَالَ : فَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ يُقَالَ لَهُ : ابْنُ الْهَيِّبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ فَحَلَّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطُّ لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنَّا إِذَا قَحَطَ عَنَّا الْمَطَرُ قُلْنَا لَهُ : اخْرُجْ يَا ابْنَ الْهَيِّبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا. فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرِجِكُمْ صَدَقَةً فَنَقُولُ[(20)] لَهُ : كَمْ ؟ فَيَقُولُ : صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ قَالَ : فَنُخْرِجُهَا، ثُمَّ يَخْرُجُ بِنَا إِلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا فَيَسْتَسْقِي لَنَا فَوَاللَّهِ مَا يَبْرَحُ مَجْلِسَهُ حَتَّى يَمُرَّ السَّحَابُ، وَنُسْقَى قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ، قَالَ : ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ قَالَ : يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إِلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ ؟ قَالَ : قُلْنَا : أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ : فَإِنِّي إِنَّمَا قَدِمْتُ هَذِهِ الْبَلْدَةَ أَتَوَكَّفُ خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، هَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتَّبِعَهُ وَقَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ فَلَا تُسْبَقْنَ إِلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ مِمَّنْ خَالَفَهُ فَلَا يَمْنَعَنَّكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ - وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا - : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيِّبَانِ قَالُوا : لَيْسَ بِهِ قَالُوا : بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ لَهُوَ بِصِفَتِهِ فَنَزَلُوا فَأَسْلَمُوا فَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ أَخْبَارِ يَهُودَ[(21)]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نال شرف قراءة النصوص ومراجعة المصادر وكتابة مقدمة المجلد الرابع من السيرة المحمدية العطرة :
د. محمد الرمادي
5 رجب 1440 هـ ~ 12 مارس 2019م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش تجدها في نهاية البحوث.

أعلى الصفحة
فهرس

 [ ٧ . ] العصر الجاهلي ... 《 الجانب الإخلاقي ..》
بحث عن العرب في جاهليتهم !

* . ] لعل هذا الجانب الأخلاقي من حياة الناس في العصر الجاهلي قبل بزوغ نور الإسلام وإضاءة الدنيا بشمس الهَدي القرآني الكريم وسطوع أنوار السراج المنير المحمدي ... إذ هو خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين ... الذي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحمل آخر رسالة تشريعية منهاجية تعبدية أخلاقية علوية إلهية ربانية للبشرية ... فرسالته طراز خاص من العيش وطريقة معينة في الحياة وكيفية فريدة في معالجات مسائل وقضايا وحاجات ومتطلبات الإنسان .. أينما وجد وفي أي زمان كان... حتى يرث الله تعالى الأرض ومن وما عليها .
اقول : هذا الجانب من جوانب الحياة الإجتماعية من اعقد بحوث حياة الإنسان في تاريخه القديم والحديث.. لما يحمل مِن المتناقضات والمتعارضات والمختلفات في كيان فرد أو تجمع أو قبيلة أو عشيرة أو دولة ... وما تمليه النفس الإنسانية لحظة الإشباع على المرء من رغبات وميول ونزعات وشهوات تتفق -أحيانا- مع صفته الآدمية النقية الصافية الراقية العلية ... أو تهبط به كثيراً من خلال وساوس الشيطان الإنسي أو الآخر الرجيم الملعون ... تهبط به إلى دركات بهيمية ومنزلقات غير إنسانية ... ويستغرب المرء أن يتم تشريع فساد خُلقي وإنحلال أخلاقي من خلال برلمان أو نظام أو قانون.
* . ] العرب في الغرب :
تظهر صورة العرب -النمطية- في الإعلام الغربي ... ويضاف بجوارها تصوّر في الذهن الجمعي عند مَن يسكن القارة الأوروبية أو الأمريكتين أو كندا عن المسلم ... تظهرا -الصورة والتصور- العربي/المسلم بألوان قاتمة السّواد ، تجلّلها مزاعم الإرهاب والتّخلف والرّجعيّة والجهل والسذاجة ، والحقيقة المُرة وأنّه على الرّغم من أنّ العرب تأخّروا عن ركب الحضارة وتخلفوا عن التّطور والتقدم العلمي حينما أصبحوا تبعًا للغرب يسيرون خلف ركابه في التّكنولوجيا والحداثة ، إلاّ - أنه من نافلة القول ؛ ويحلو عند البعض التغني بأمجاد الأجداد والتباهي بما كان عليه مَن سبقنا دون النظر إلى حاله اليوم أو محاولة تغييره- أنّ الفضل يعود إليهم ... وخاصّة في عصور النّهضة حينما كان الغرب يحرص على تعلّم لغتهم حتّى ينهل من علمهم ومعارفهم ، وما العلماء المسلمون الذي تميّزوا في كلّ ميادين العلم قديمًا إلاّ مثالاً على هذا التّطور وتلك النّهضة العلميّة والثّقافيّة [(83)] ...
واليوم -العام الدراسي 2019م~1440هـ- تُدخل وزارة التعليم للمملكة العربية السعودية اللغة الصينية مع أنها تحمل أكثر من ٠٠٠ ,٢٠ رمز ... وليس لها ابجدية... تدخلها في برنامج تعلم اللغات الأجنبية باعتبارها لغة الاقتصاد العالمي... ولغة المستقبل...!!!.
أعود لابحث 《 الجانب الإخلاقي ..》 عند العرب في جاهليتهم!..
* . ] العرب قبل الإسلام:
يُطلَق وصف العرب على الأشخاص الذين يتحدّثونَ باللغة العربيّة -الفصحى؛ وليس اللهجة العامية لكل منطقة أو الدارجة لكل مقاطعة- باعتبارها لغتهم الأمّ ، وقد بَيَّن باحثو التاريخ أنّ العرب ذوو أَصْلٍ ساميّ ؛ فهم ينحدرون من نَسْل سام بن نوح ، ويقطنونَ منطقة شبه الجزيرة العربيّة ...
* . ] العرب في الجاهليّة:
هم أولئك الذين عاشوا في الفترة التي سَبَقت ظهور الإسلام ، كما أنّ لفظة الجاهليّة تعني لغةً: ضدّ العِلم، والجاهليّة كمصطلح تعني: الفترة التي كانَ فيها العرب يجهلونَ وجودَ الله ، ورسوله ، وشرائع الدِّين ؛ إذ كانوا يعكفونَ على عبادة الأصنام ... وأدق تعبير يمكنني أن استحضره كمثال ما قاله :"... جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ للنجاشي؛ ملك الحبشة ، فَقَالَ لَهُ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْنَا نَبِيًّا وَرَسُولًا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ ، وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ ، فَصَدَّقْنَاهُ ، وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا ، فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا ، لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا ، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ . . " [(84)]
وقال آخرون : إنّ اسم الجاهليّة يعني: حالة من التباهي بالأحساب ، والمُفاخَرة بالأنساب ...
أمّا في القرآن الكريم فتعني لفظة الجاهليّة: الحِميّة، والطَّيْش، والغضب، كما تشير أيضاً إلى أفعال العرب في تلك الفترة[(85)].
وَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى هِيَ الْقَدِيمَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ ، وَهِيَ الزَّمَنُ الَّذِي وُلِدَ فيهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- : كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْبَسُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ فَتَمَشِي وَسَطَ الطَّرِيقِ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى الرِّجَالِ ، وَقِيلَ : مَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ. وَقِيلَ : بَيْنَ إِدْرِيسَ وَنُوحٍ. وَقِيلَ : زَمَنُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ، وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى : مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى : جَاهِلِيَّةُ الْكُفْرِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى جَاهِلِيَّةُ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ في الْإِسْلَامِ ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى في تأويل الآية :" .. وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ". : أي وَلَا تُحْدِثْنَ بِالتَّبَرُّجِ جَاهِلِيَّةً في الْإِسْلَامِ تَتَشَبَّهْنَ بِهَا بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْكُفْرِ . وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : "إِنَّ فيكَ جَاهِلِيَّةً " ؛ قَالَ : جَاهِلِيَّةُ كُفْرٍ أَمْ إِسْلَامٍ ؟ فَقَالَ : "بَلْ جَاهِلِيَّةُ كُفْرٍ " .[(86)].
من المفيد من باب المقارنة أن نلقي نظرة سريعة على :
* . ] الجانب الأخلاقي: في العالم قبل الإسلام: [(87)].
كان العالم قبل الإسلام بَعيدًا عن القِيم والأخلاق التي تحكم سلوك النّاس ومعاملاتهم، فقد استحوذ الشّيطان على نفوس النّاس... والهوي على قلوبهم... فأضلّهم الأول عن شريعة الله... والثاني عن أخلاقيّات الدّين ومنهاجه ؛ فشاعت فيهم مساوئ الأخلاق ومسترذلات المنكرات كالزّنا والبغي والسّرقة والعدوان والرّبا وشرب الخمر وغير ذلك الكثير. [(88)]... وهذا بصفة عامة... أما
* . ] حال العرب قبل الإسلام من ناحية الأخلاق[(89)]:
صفات العرب في الجاهليّة[(90)].. ممّا لا شكّ فيه أنّ العرب كان لهم صفاتهم وخصائصهم الإجتماعيّة والأخلاقيّة عبر التّاريخ التي تميّزوا بها بين الحضارات وبقية الأمم[(91)]:
أخلاق العربي في الجاهلية[(92)]:
لا شك في أنّ العربي في الجاهليّة عُرف بالعديد من الأخلاق التي ميّزته عن غيره ، وبالرغم من أن بعض هذه الصفات هي من الصفات الدنيئة وبعضها من الرذائل التي ينكرها عقل الإنسان السليم ، فقد انتشر بين العرب في الجاهلية المنكرات والبغي وشتّى صنوف المعاصي والآثام ، فكانت للزّانيات دورٌ لها وتعلق راياتٍ يعرفون بها ، كما شرب العرب الخمر وتغنّوا بها ، ولكنه تميز بالعديد من المزايا والأخلاق الفاضلة، ومن أهم هذه الأخلاق[(93)] والتي صارت من :
* . ] عادات العرب قبل الإسلام[(94)] :
امتلكَ العرب قبل الإسلام مجموعة من العادات والتقاليد السلبيّة التي حرص الإسلام على إلغائها ، واستبدالها بالعادات الحسنة والنافعة[(95)] ، فمن أهمّ هذه التقاليد والعادات[(96)]:
* . ] الغزو والثأر:
وهيَ عادةٌ كانت تُؤدّي إلى حروبٍ تستمرُّ لسنواتٍ طويلةٍ بين القبائلِ والعائلاتِ البدويّة ، وكانت أسباب الحروب تتمثّل أساساً بصعوبة الحياة في الصحراء ؛ فقد كانَوا يقتتلون لأبسط الأسباب ، كالخلاف على المراعي ؛ وذلك بسبب الجوع ، وشُحّ الامطار في المنطقة[(97)].
* . ] التعصُّب:
إذ كانَ العربيّ يفتخر بانتمائه إلى قبيلته ، فيمدحها ، ويدافع عنها ، حيث كانوا مُتفرِّقين ، لا تجمعهم سُلطة عُليا مُحدَّدة ، إذ كانت القبيلة هيَ الحاكمة لكلِّ فئة من الناس؛ ممّا وَلَّد لديهم التعصُّب، والهمجيّة[(98)].
* . ] شُرب الخمر ... ولعب المَيسِر:
بالغَ العرب قبلَ الإسلامِ في شُربِ الخمرِ حتى اتَّخذوا لهم ساقياً ، كما كانوا يمارسون لعب المَيسِرَ ، وما يتبعه من شرور ، وقد أنكرَ بعض العرب عادة شُرب الخمرِ ؛ لما يُحدِثه من ذهابٍ للعقلِ ، وخَدْشٍ للمروءة[(99)].
وعلى الرّغم من تلك الصّفات الذّميمة ، إلاّ أنّ العرب كانت لهم بعض الخصال الحسنة مثل النّخوة والجود والكرم.
تميَّز العرب منذ زمنٍ طويلٍ بمجموعةٍ من العادات والتقاليد ، التي تُشكل الموروث العربي الأصيل ، والمتمثل بالقيم والمبادئ السامية ، التي كانت تتجلى في حياة العرب ، وخلال تعاملهم مع الآخرين ، ورغم أنّ هناك بعض العادات المُشينة ، التي بددها ظهور الإسلام في شبه جزيرتهم العربية قبل آلاف السنين ، بيد أن هناك بعض الشيم والعادات المُشرفة التي عزّزها الإسلام لدى العربي ، ومن هذه الصفات تلك المتعلقة بالرجال العرب ...
صِفات العرب قَبْل الإسلام[(100)] :
اتَّصفَ العرب قَبل مجيء الإسلام بمجموعةٍ من الصِّفاتِ الحسنةِ، منها: [(101)]
صفات الرجال عند العرب[(102)]
* . ] الفَخْر:
وذلك نظراً لوقوعِ المسجدِ الحرامِ في شبة جزيرتهم... جزيرةِ العربِ ، حيث كانوا يَعتزّونَ بأنفسهم ، ويفتخرون بذلك ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن يتكبَّروا به على الناسِ[(103)]
*. ] الشّهامة والنّخوة[(104)]:
فالعربي يتحلّى بصفات الشّهامة والنّخوة التي تأبى عليه إلاّ نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف[(105)] ... فتمثلت هاتان الصفتان بنجدة الملهوف ، وإغاثة المنكوب ، وإعانة المحتاج ، فمن استجار بالرجل العربي لم يمسه ظلم ، ولم يقربه أذى ، كما أنّ الرجل العربي لا يقبل أنّ يرى محتاجاً لمالٍ ، أو طعامٍ ، أو كساءٍ ، ويقف مكتوف الأيدي دون مدّ يد المساعدة.
* . ] الكرم والجود[(106)] :
وهما من الصفات المُتأصِّلة في العرب قَبل الإسلام ، من عادات العرب الأصيلة إكرام الضيف ؛ باستقباله حسن استقبال ، والترحيب به بأجمل الكلام والودّ ، بالإضافة إلى عمل ولائم الطعام التي تليق بالضيف ، وتُعبّر عن كرم المُستقبِل له ، وقد كانوا يُوقِدونَ النار في الليل ؛ حتى يستدلَّ المسافرونَ على بيوتهم ، علماً بأنّهم كانَوا يطلقون عليها اسم «نار الضيافة» ، ومن أشهر الشخصيّات العربيّة التي ارتبطَ اسمها بالكرم حاتم الطائيّ. [(107)] ، فلاشتهار العرب قديمًا بالكرم والسّخاء رويت في ذلك القصص والحكايات الكثيرة ، فقد كان حاتم الطائي أحد من تميّزوا بالكرم والسّخاء الشّديد قديماً ، وممّا يروى عنه أنّه كان إذا أتاه عبده بضيفٍ من الأضياف أعتقه مكافأةً له على ذلك ، كما أنّه ذبح يومًا خيله النّفيسة وقدّمها طعامًا لضيوفه حينما لم يجد ما يضيّفهم به ، ومن الشّخصيات التي اشتهرت بالكرم أيضًا من العرب عقبة ابن أبي معيط الذي يعتبر أحد وجهاء قريش وألدّ أعداء الدّعوة الإسلاميّة ؛ حيث كان يولم لكبراء قريش في كلّ مرّة يرجع فيها من أسفاره . [(108)] وقد عُرف عن العرب قديماً عدم سؤالهم عن حاجة الضيف إلا بعد مرور ثلاثة أيام ... فالكرم[(109)]:‏ إذاً من الصفات التي كان العربي يتباهى بها بل ويتبارز أيضاً ، كما أن العديد من الأشعار العربية كانت تحكي عن الكرم التي تميز به العربي[(110)]‏.
* . ] العِزّة:
فقد كانَ العرب قبلَ الإسلام يرفضونَ العيش بذلّ ، ويعتزّون بحرّيتهم، ويرفضون الظُّلمَ[(111)].
* . ] العِفّة:
على الرغم من اتِّصاف جزءٍ من العرب بعدم اهتمامهم بالعِفّة ، وانشغالهم بالشُّرب ، ولعب المَيسِر ، إلّا أنّ فريقاً من العربِ كانوا أشدّ غيرةً على النساءِ من غيرهم من الشعوب ، وكانوا يحافظونَ على عِرْضهم ، وشَرَفهم ، حتى وصلت فيهم الغيرة إلى وَأْد البنات ؛ حتى لا يلحق بهم العار ، أمّا المرأة ، فقد كانت تحافظ على نفسها ، كما كانت تتَّصف بعِزّة النفس[(112)].
* . ] الفطنة ورجاحة العقل:
كان العربي يستبصر صفات الناس ومقاصدهم ، من الشكل الخارجي ، وطريقة الكلام والتصرف ، وكان قادراً على الحكم بالعدل بين الناس ، وتوظيف الحكمة بالقضاء العشائري.
* . ] طلاقة اللسان فصاحته... ومِن ثم الخطابة[(113)]:
فهذه من الصّفات التي ميّزت العرب بلا شك حتّى اشتهروا بالفصاحة والبيان شهرةً بلغت الآفاق ، وقد كانوا يجتمعون في أسواق ومجالس أدبيّة يتبادلون فيها القصائد والشّعر والخطابة ويتنافسون على ذلك ، وما المعلّقات السّبع [والمذهبيات] التي كانت تعلّق على أستار الكعبة إلاّ مثالًا على هذه الصّفة المتأصّلة فيهم[(114)] ، فكان الرجل العربي مفوّهاً ، طليق اللسان ، بليغ الكلمة ، وفصيح المعنى ؛ فإذا ما تحدث أصاب ، وإذا ما صمت كان ذلكٍ لحكمةٍ حقيقية ، وكان فرسان القوم من العرب شعراء يُجيدون النظم والتصور ، وكثيراً ما كانت تُقام التعاليل من أجل الاستماع لشاعر القبيلة وفارسها .
* . ] العفو عن المُخطئ:
رغم قدرة العرب على معاقبة المُخطئ ، فقد كان العفو سيّد الموقف ، في حين اشتهرت بلاد العرب بعادة الدخيل الذي يقصد شيخاً أو وجيهاً من وجوه العشيرة ؛ ليحتمي به من شر ما فعل ، أو شرّ ما تم اتهامه به ، وعليه كان يحصل على العفو في أغلب المرات ، بسبب كفالته من أحد الأطراف ، وعفو الطرف الآخر عنه.
* . ] الصّدق[(115)]:
فالعربي الأصيل ... وحتّى قبل الجاهليّة كان يحرص على الصّدق حتّى لا يقال بين العرب أنّه كاذب ، فلقد اجتمع «أبو سفيان» وقت كان كافراً وقبيل إسلامه -يومًا- بـ «هرقل» عظيم الرّوم فسأله بعض الأسئلة عن الرّسول عليه الصّلاة والسلّام فصدقه القول ولم يكذب في ذلك على الرّغم من عدواته للإسلام حتّى لا يؤثر عنه الكذب بين العرب[(116)]... فتميَّز العرب قبلَ الإسلام بالصدق ، ونفورهم من الكذب ، وقد كانت هذه إحدى أهمّ الصفات التي تميَّز بها الرسول الأعظم -عليه الصلاة والسلام-، وصاحبه «أبا بكر» الصديق[(117)].
* . ] تجنب الغدر أو الخيانة:
من صفات العربي الأصيل أنّه لا يغدر حتى بعدوّه ، ولا يلجأ للخديعة ، بل يواجه الطرف الآخر بكلّ بسالة ، وإذا ما ناله ظلم وسُلب منه حق ، وما كان بالمقدور تحصيله باليد ، راعى أصول ذلك بالتشكي لدى رأس القبيلة ، أو قاضياً من قضاة البادية المعروفين بنزاهتهم وإنصافهم للمظلوم.
* . ] الفروسيّة والشّجاعة[(118)]:
فقد اتّسم العرب بصفات البطولة والشّجاعة حتّى إنّهم كانوا يعيبون على بعضهم الفرار من المعارك ويعتبرونها سُبَّة وبالتالي سبتة على المرء لا تزول بزوال الأيّام ، وقد كان الرّجل منهم يتمنّى الموت في خضم المعارك وفي ساحات الوغى حيث مظنّة التحام الصّفوف وضرب الأسنة والرّماح[(119)] ... فـكانت الشجاعة صِفة غريزيّة في كلّ عربيّ ، إذ كانَ العربيّ يمتلك قوّةً تدفعُه إلى القتالِ دون خوف ، ونصرة المظلومِ دونَ تردُّد، وقد ساعدَت ظروف حياتهم البدويّة على التأهُّب لأيّ خطرٍ قد يصيبهم ، فلمّا جاءَ الإسلام ، قوَّم هذه الصِّفة ؛ فأمرَ بكَفّ الأيدي عن الاعتداء على الآخرينَ دونَ وجودِ سببٍ للقتال[(120)].
* . ] عزة النفس والإباء وعدم قبول الضيم[(121)]:‏
وهذه الصفات نتيجة لفرط شجاعة العربي ، ولشدة غيرته ، وسرعة انفعاله[(122)].
* . ] تحدي المخاطر:
فها هو «الزير سالم» قد أرسلته الجليلة ، زوجة أخيه «كُليب وائل التغلبي»، إلى وادي السباع ، لإحضار حليب إناثها ، سعياً منها للتخلّص من الزير للأبد ، لكنه خيّب ظنها وعاد بالفعل ، مُحضراً حليب السباع ، بمساعدة أخيه «همام» وصديقه «امرؤ القيس».
* . ] صفات أخرى:
* . ] الذود عن الحمى:
حيثُ لا يقوى على غزو عشيرته أحد ، وإن حصل بالفعل لقي المُعتدين ردّاً قاسياً ، تحكي فيه القبائل ، وتتباهى فيه ألسن الشعراء.
* . ] حُسن الجِوار: كانَ العرب يُؤدّونَ حقّ الجار كجزءٍ من خِصالهم النبيلة التي كانوا يحرصونَ عليها، فكانوا يُقدِّمون الحماية ، والإغاثة لجيرانهم ، ويَعدّونه جزءاً من شَرَفهم[(123)].
* . ] الصَّبر:
تُعَدّ الظروف المعيشيّة للعرب في شبه الجزيرة العربيّة ظروفاً قاسيةً، وهذا ما وَلَّد فيهم قوّةً وصَبْراً على تحمُّلِ مختلفِ المصاعبِ التي قد يواجهونها، كالجوع، والسفرِ الطويل، وغيرها[(124)].
* . ] المضي في العزائم[(125)].
* . ] الحلم، والأناة، والتؤدة[(126)].
* . ] الصدق البدوي ، وعدم التلوث بملوثات الحضارة ومكائدها‏، فقد عُرف العربي بصدقه ونقائه[(127)]
* . ] الوفاء:
وهو عكس الغَدْر ، والكذب، حيث كانَ العرب يُحافظونَ على عهودهم، ويُثنونَ على الوفيّ، ويُشهِرونه، ويرفضون الغدر، وخيانة الوعود[(128)].
* . ] الوفاء بالعهود[(129)]:
عُرف العربي بوفائه بالعهود مهما كانت ، فقد كان العهد مثل الدين الذي يتمسكون به ، وهنالك العديد من القصص الشهيرة التي تناقلتها المصادر التاريخية[(130)]. فـ إذا ما قطع على نفسه عهداً التزم به ، وكان أعزّ عليه أنّ يُجزّ رأسه عوضاً عن عدم وفائه بها.
-*-*-*
* . ] أحوالھم الخُلقیة:
كان فیھم -العرب- من الدنايا والرذائل ما ينكره العقل السلیم ، لكنھم حافظوا على جملة من الأخلاق تمیزوا بھا عن سائر الأمم حینئذ والشعوب ، كالوفاء بالعھد وعزة النفس ومضاء العزيمة وإباء الضیم والنخوة والمروءة والشجاعة والكرم ، وحميد الصفات التي شاع الفخر بھا في أشعارھم.
والمتأمل لحالة العرب قبل الإسلام ، وحالة الأمم الأخرى من غیرھم يمكن أن يستنتج بعض الحكم التي كانت سببا في تشريفھم بحمل عبء الرسالة العامة ، وقیادة الأمة الإنسانیة والمجتمع البشري إلى أعظم الرشد وأبین الھدى.
- فمن حكمة اختیار العرب لھذه المھمة أنھم أقل الأمم حینئذ حضارة وأبعدھم عن المدنیة ، فھم قوم أمیون كما وصفھم الله: { ھُوَ الَّذِي بعَثَ فِي الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْھُم } [(131)].
إذ لو كانوا متحضرين كأھل المدنیات المجاورة من فرس وروم ويونان لربما قال قائل :« أنه انفعال حضاري وارتقاء مدني» ، بل شاء الله أيضاً ان يكون رسول ھذه الأمة أمیاً كذلك تأكیداً لذات المعنى { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِیَمِینِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[(132)].
لقد شاء الله أن تكون معجزة النبوة والشريعة واضحة في الأذھان لا لبس فیھا.
- ومن حكمة اختیار العرب لمھمة قیادة البشرية حفاظھم على الأخلاق التي لم تعرف لغیرھم على ھذا النحو ، خصوصاً : الوفاء بالعھد، وعزة النفس، ومضاء العزم، إذ لا يمكن لأي أمة بدون ھذه الصفات أن تحمل أمانة ، أو تتحمل مسؤولیة ولا يمكن قمع الشر والفساد ، وإقامة العدل والخیر إلا بھذه القوة القاھرة وبھذا العزم الصمیم والذي خلت منه الأمم الأخرى.
وقد ظھر ھذا البرھان العملي من خلال المواجھات التي ثبتوا فیھا أمام العالم أجمع وتحدوا فیھا أرقى الأمم حضارة ، وأكثرھا عددا وأمضاھا سلاحاً لذلك أظھر النبي صلى الله علیه وسلم اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبادئ الحق وإقرار مكارم الأخلاق .
وقد شھد النبي -صلى الله علیه وآله وسلم- حلف الفضول وكان في العشرين من عمره، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ»[(133)]. وقد كانت رجولته -صلى الله علیه وسلم- في القمة، بَیْدَ أن قواه الروحیة وصفاءه النفسي جعلا ھذه الرجولة تزداد بمحامد الأدب والاستقامة والقنوع ؛ فلم تُؤثرَ عنه شھوة عارضة ، أو نزوة خادشة ، ولم تحكَ عنه مغامرة لنیل جاه أو اصطیاد ثروة ، بل على العكس بدأت سیرته تومض في أنحاء مكة بما امتاز به عن أقرانه - إن صحت الإضافة؟- - من خِلالِ شمائلَ كريمةٍ، وفكرٍ راجحٍ، ومنطقٍ صادقٍ ونھجٍ أمینٍ ... وبعد زواج خديجة رضي الله عنھا تابع النبي صلى الله علیه وسلم حیاة العزلة وھجر ما كان علیه العرب من خمر ولغو وقمار وأوثان... وإن لم يقطعه ذلك عن إدارة تجارته وتدبیر معاشه والضرب في الأرض والمشي في الأسواق... وتأتي حادثة تجديد بناء الكعبة قبل البعثة بخمس سنین لتكشف عما وصل إلیه النبي صلى الله علیه وسلم من مكانة أدبیة بین قومه... فقد اختلفت قريش فیمن يستأثر بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه فاتفقوا على تحكیم أول داخل من بني شیبة ، فدخل رسول الله صلى الله علیه وسلم ، فلما دخل ھتفوا جمیعاً: ھذا الأمین ارتضیناه حكماً، فأمر بثوب فأخذ الحجر ووضعه في وسطه، ثم أمرھم برفعه جمیعاً، ثم أخذه بیده الشريفة فوضعه مكانه! ... وتتابعت إرھاصات نبوته صلى الله علیه وسلم ، وقد أخذ يقترب من الأربعین فكان يسمع تسلیم الحجر علیه ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد حُبب إلیه العزلة والتعبد في غار حراء... حتى جاء الیوم المشھود، أسعد يوم في تاريخ البشرية كلھا، لقد بُعث رسول الله صلى الله علیه وسلم .{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿ 1﴾ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿ 2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿ 3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿ 4﴾ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم (5) }[(134)].
-*-*-*-*-*
أقول ([(الرَّمَادِيُّ)]) : أكتفي بهذا القول عن حياة العرب قبل الإسلام .. وقبل البعثة المحمدية وقبل الرسالة الخاتمة لسيد ولد آدم أجمعين... ومِن يريد الزيادة فالرجاء العودة إلى كتب التخصص عن تاريخ العرب قبل الإسلام ؛ ولعل ما يحضرني الأن ما كتبه الأستاذ الدكتور: شوقي ضيف في موسوعته «العصر الجاهلي؛ تاريخ الأدب العربي»... على سبيل المثال وليس الحصر...
-*-*-*
سلسلة بحوث:
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
( يُتْبَعُ بإذنه تعالى )
نال شرف قراءة المصادر ومراجعتها وكتابة البحث:
د. مُحَمَّدُفَخْرُالدينِ الرَّمَادِيُّ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِمِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى
حُرِّرَ في يوم الأربعاء ٢٢ جماد آخر ١٤٤٠ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ~ الموافق ٢٧ من شهر فبراير عام ٢٠١٩ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء الزهراء البتول عليهما السلام.
-*-*-*-*

أعلى الصفحة
فهرس

6 «„الجانب 《.. الاجتماعي ..》 في العصر الجاهلي ‟»

١ . ] كانت في عرب الجاهلية أوساطٌ متنوعة تختلف أحوال بعضها عن بعض ، كما في أي مجتمع في أي مكان من العالم.. فقد كانَ العرب يعيشونَ -بصفة عامة- كبَدوٍ في شبه الجزيرة العربيّة ، وكانوا يُقيمون فيها كقبائل تنقسمُ إلى ٣ طبقاتٍ[(66)]، وهي:
[ أ . ] أبناءِ القبيلة الذينَ ينتمونَ إلى أهلِها بالدَّم[(67)]، و
[ ب . ] الموالي الذين يُعَدّونَ أقلَّ منزلةً من أبناءِ القبيلة[(68)]، و
[ ج . ] العبيد الذينَ أَسَرَتهم القبيلة عن طريق الحروب ، علماً بأنّ البيئة الاجتماعيّة كانت تحملُ مختلفَ الصِّفاتِ الكريمة، والسيِّئة، كالشجاعة، والكَرَمِ، أو العَصَبيّة، والسَّلْب[(69)].
بيد أنه بدقة النظر في مظاهر الحياة في العصر الجاهلي؛ خاصة «„ الجانب 《.. الاجتماعي ..》 ‟» نجد أنه ينقسم العرب في الجاهليّة إلى قسمين رئيسيين[(70)] :
القسم الأول :
سكان البدو: وكانت هذه الفئة هي الفئة الغالبة ، واعتمد عيش هذه الفئة على التنقّل خلف مصادر الماء والعشب، كما أنهم اتخذوا الخيام مساكن لهم، وتميزوا بقدراتهم الشعرية الفريدة، وكان طعام أهل البادية عبارة عن الحليب والتمر، فقد كانت الإبل عماد حياتهم، فقد كانوا يأكلون لحومها، ويشربون حليبها، ويلبسون من وبرها، ويُحمّلونها أثقالهم، وكانوا أيضاً يفتدون بها أسراهم ويحررونهم، وكانوا أيضاً يُقوّمون بها الأشياء، فتُقدّر أثمان السلع بالإبل أو المواشي[(71)]. أما
القسم الثاني :
سكان الحضر: وهم مَن سكن المدن، وعاشوا في الدور والقصور، وأصبحوا أقل شجاعة ومروءة، كما أنهم عرفوا بحب المال، وتفاخروا بجمال الثياب، وأطباق الفضة والذهب التي يأكلون بها، وتزيين القصور والمنازل التي سكنوها، وقد عملوا في التجارة والزراعة، ومن أشهر الأمثلة على الحضر سكان الحجاز[(72)].
٢ . ] حال العرب قبل الإسلام ونظرتهم إلى المرأة[(73)] :
كانت في العرب أوساط متنوعة تختلف أحوال بعضها عن بعض، فكانت
٢ . ١ . ] علاقة الرجل مع أهله مِن الأشراف على درجة كبيرة من الرقى والتقدم، وكان لها من حرية الإرادة ونفاذ القول القسط الأوفر، وكانت محترمة مصونة ؛ وآتي بمثال :" هند بنت عتبة العبشمية القرشية الكنانية، أبوها عتبة بن ربيعة سيد من سادات قريش وبني كنانة، عرف بحكمته وسداد رأيه. وهي إحدى نساء العرب اللاتي كانت لهن شهرة عالية قبل الإسلام وبعده. زوجة أبي سفيان بن حرب، وأم الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان. وكانت امرأةً لها نَفسٌ وأنفة، ورأي وعقل. "... والمرأة تُسَلُّ دونها السيوف، وتراق الدماء، ولنراجع قصة :" مقتل ملك العرب عمرو بن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان اللخمي.. المشهور بـ عمرو ابن هند على يد عمرو بن كلثوم[(74)] فذكروا أن عمرو ابن هند، وأمه هند بنت الحارث بن حجر بن آكل المرار الكندي وأبوه المنذر بن ماء السماء اللخمي، هذا نسب أهل اليمن.
قال الملك عمرو ابن هند ذات يوم لجلسائه: "هل تعلمون أن أحداً من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟"
فقالوا: "لا ما خلا عمرو بن كلثوم فإن أمه ليلى بنت المهلهل أخي الملك كليب، وعمها الملك كليب، وهو وائل بن ربيعة وزوجها كلثوم". فسكت عمروعلى ما في نفسه. ثم بعث عمرو ابن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره وأن تزور ليلى هنداً. فقدم عمرو من البحرين في فرسان تغلب، ومعه أمه ليلى، فنزل شاطئ الفرات وبلغ عمرو ابن هند قدومه. فأمر بخيمة فضربت بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه مملكته فصنع لهم طعاماً ثم دعا الناس إليه فقرب إليهم الطعام على باب السرادق وهو وعمرو بن كلثوم وخواص من الناس في السرادق، ولأمه هند في جانب السرادق قبة وأم عمرو بن كلثوم معها في القبة. وقد قال عمرو ابن هند لأمه: "إذا فرغ الناس من الطعام فلم يبق إلا الطُرَف فنحّي خدمك عنك، فإذا دعوت بالطرف، فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء" يريد طرف الفواكه وغير ذلك من الطعام. ففعلت هند ما أمرها ابنها حتى إذا دعا بالطرف قالت هند لـليلى: "ناوليني ذلك الطبق". قالت: "لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها". فقالت: "ناوليني" وألحت عليها. فقالت ليلى: "واذلاه.... يا لتغلب". فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه والقوم يشربون. ونظر عمرو ابن هند إلى عمرو بن كلثوم، فعرف الشر في وجهه، وقد سمع قول أمه: "واذلاه يا لتغلب"، ونظر إلى سيف عمرو ابن هند ، وهو معلق بالسُّرادق ولم يكن بالسرادق سيفٍ غيره فثار إلى السيف مصلتاً فضرب به رأس عمرو ابن هند فقتله ثم خرج فنادى :"يا لتغلب". فانتهبوا ماله وخيله وسبوا النساء ولحقوا بالجزيرة. وقد كان المهلهل بن ربيعة وكلثوم بن عتاب أبو عمرو بن كلثوم اجتمعوا في بيت كلثوم على شراب، قال وعمرو يومئذ غلام وليلى أم عمرو تسقيهم فبدأت بأبيها مهلهل ثم سقت زوجها كلثوم بن عتاب ثم ردت الكأس على أبيها وابنها عمرو عن يمينها فغضب عمرو من صنيعها وقال:
صَبَنْتِ الكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو * وَكَانَ الكَأْسُ مَجْرَاهَا اليَمِيْنَا
وَمَا شَرُّ الثَّلاَثَةِ أُمَّ عَمْـرٍو * بِصَاحِبِكِ الذِي لاَ تَصْبَحِيْنَا
فلطمه أبوه وقال: "يا لكع (أي يا أحمق)، بلى والله شر الثلاثة. أتجتري أن تتكلم بهذا الكلام بين يديّ؟". فلما قتل عمرو ابن هند قالت له أمه: "بأبي أنت وأمي، أنت والله خيرُ الثلاثة اليوم ". [(75)] وكان الرجل إذا أراد أن يمتدح بما له في نظر العرب المقام السامي من الكرم والشجاعة لم يكن يخاطب في معظم أوقاته إلا المرأة، وربما كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، ومع هذا كله فقد كان الرجل يعتبر بلا نزاع رئيس الأسرة وصاحب الكلمة فيها، وكان ارتباط الرجل بالمرأة بعقد الزواج تحت إشراف أوليائها، ولم يكن من حقها أن تفتات عليهم‏.‏ بينما هذه حال الأشراف، كان هناك في
٢ . ٢ . ] الأوساط الأخرى : لم يحترم العرب المرأة في الجاهليّة بل عاملوها كما يعامل متاع الرّجل، فهي عندهم لا ترث، وإذا مات عنها زوجها أهملت نفسها ومرّغت نفسها بالتّراب[(76)]، وكان أولياء الرّجل أحقّ أحيانًا بها من أهلها[(77)]، وهناك أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة‏.‏
٢ . ٢ . ١. ] روى البخاري-في صحيحه- وغيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها‏. إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء‏:‏ فــ
٢ . ٢ . ١. ] نكاح منها نكاح الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر‏:‏
٢ . ٢ . ٢. ] كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرتْ من طمثها‏:‏ أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الـولد، فكان هـذا النكاح ‏‏يسمى‏‏ نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر‏:‏
٢ . ٢ . ٣. ] يجتمع الرهط دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت ومر‏‏ت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، ‏فـ‏تقول لهم‏:‏ قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان فـ‏تسمى من أحبت منهم‏ باسمه، فيلحق به ولدها‏.‏ لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل ونكاح رابع :‏
٢ . ٢ . ٤. ] يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها،وهن البغايا،كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطته به، ودعى ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث ‏الله‏ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق هدم نكاح أهل‏ الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم‏.‏ و
٢ . ٣ . ] كانت عندهم اجتماعات بين الرجل والمرأة تعقدها شفار السيوف، وأسنة الرماح، فكان المتغلب في حروب القبائل يسبي نساء المقهور فيستحلها، ولكن الأولاد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مدة حياتهم‏.‏ و
٢ . ٤ . ] كان من المعروف في أهل الجاهلية أنهم كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه، حتى حددها القرآن في أربع‏.‏ و
٢ . ٥ . ] كانوا يجمعون بين الأختين، وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا عنها حتى نهى عنهما القرآن ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏[(78)] ‏وكان الطلاق والرجعة بيد الرجال، ولم يكن لهما حد معين حتى حددهما الإسلام‏.
٢ . ٦ . ] وكانت علاقة الرجل مع أولاده على أنواع شتى، فمنهم من كان
٢ . ٦ . ١ . ] يئد البنات خشية العار والإنفاق، كما كان أحدهم يكره أن يرزقه الله ببنت، وإذا رزق ببنتٍ تشاءم لذلك واسودّ وجهه وسارع إلى وأدها ودفنها في التّراب وهي حيّة خوفًا من الفقر والعار [(79)]. و
٢ . ٦ . ٢ . ] يقتل الأولاد خشية الفقر والإملاق‏:‏‏ {‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ [(80)]‏ .
٢ . ٦ . ٢ . ١ .] ولكن لا يمكن لنا أن نعد هذا من الأخلاق المنتشرة السائدة، فقد كانوا أشد الناس احتياجًا إلى البنين ليتقوا بهم العدو‏.‏ أما
٢ . ٧ . ] معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيرته فقد كانت موطدة قوية، فقد كانوا يحيون للعصبية القبلية ويموتون لها، وكانت روح الاجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة تزيدها العصبية، وكان أساس النظام الاجتماعي هو العصبية الجنسية والرحم، وكانوا يسيرون على المثل السائر‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏ على المعنى الحقيقي من غير التعديل الذي جاء به الإسلام؛ من أن نصر الظالم كفه عن ظلمه، إلا أن التنافس في الشرف والسؤدد كثيرًا ما كان يفضى إلى الحروب بين القبائل التي كان يجمعها أب واحد، كما نرى ذلك بين الأوس والخزرج، وعَبْس وذُبْيان، وبَكْر وتَغْلِب وغيرها‏. أما العلاقة بين
٢ . ٨ . ] القبائل المختلفة فقد كانت مفككة الأوصال تمامًا وكانت الأشهر الحرم رحمة وعونًا لهم على حياتهم وحصول معايشهم‏.‏ فقد كانوا يأمنون فيها تمام الأمن؛ لشدة التزامهم بحرمتها ..
وقصارى الكلام أن الحالة الاجتماعية كانت في الحضيض من الضعف والعماية، فـ يُغیر بعضھم على بعض فیقتلون ويسبون، ويخوضون الحروب الطاحنة لأتفه الأسباب، والخرافات لها جولة وصولة، والجهل ضارب أطنابه ويستمرئونه ، ويُحَكِّمون العادات.، والناس يعيشون كالأنعام، والمرأة تباع وتشترى وتعامل كالجمادات أحيانا، والعلاقة بين الأمة واهية مبتوتة، وما كان من الحكومات فجُلُّ همتها ملء الخزائن من رعيتها أو جر الحروب على مناوئيها‏.
فلما جاء الإسلام بتباشير النّور ليبدّد ظلمات السّلوك الإنساني التي سادت لفتراتٍ طويلة، وليأصّل أخلاقيّات التّعامل الإنساني، وتسود شريعة كاملة شاملة تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم مع بعضهم البعض[(81)].
محمد الرمادي
18 فبراير 2019م
يتبع بإذنه تعالى

أعلى الصفحة
فهرس

٥ . ] 《 الحالة الدينية في بلاد العرب قبل الإسلام! 》[(41)]

٥ . ١ . ] « ديانات العـرب»:
في العصر الجاهلي كانت هناك العديد من الأديان التي يتبعها العرب وغيرهم، ولكن معظمهم كانوا من عبدة الأصنام والأوثان، فقَبلَ ظهورِ الإسلامِ كانَ العرب يعبدونَ الأوثان بشكلٍ رئيسيّ[(42)]، ومن أهم الأوثان التي عرفها العرب وعبدوها في الجاهليّة فأشهر أصنامهم التي عبدوها: اللّات، وهُبَل، والعُزّى[(43)]، ومناة، فقد كانوا يقدّمون الذبائح لها، وفي بعض المناطق كان العرب يعبدون القمر[(44)]، كما كانَ جزءٌ منهم يعبدُ الشمسَ[(45)]. إضافة إلى أنّ القليل منهم اعتنقَ الديانة اليهوديّة، والمسيحيّة[(46)]، إذ قد كانت هنالك ديانات أخرى في الجاهلية كاليهودية، والحنفية التي يعبد أتباعها الله وحده، وغيرها العديد من المذاهب والديانات المختلفة[(47)]، وقد وُجِد أنّ مِن العرب أيضاً مَن يتبعُ ديانة إبراهيم -عليه السَّلام-[(48)]. ويوجد رأي يقول بأنه كان معظم العرب يدينون بدين إبرهيم -عليه السلام- منذ أن نشأت ذريته في مكة وانتشرت في جزيرة العرب، فكانوا يعبدون الله -سبحانه وتعالى- ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف، حتى طال عليهم الأمد ونسوا حظًا مما ذكروا به، إلا أنهم بقى فيهم التوحيد وعدة شعائر من هذا الدين.
٥ . ٢ . ] إنَّ مما لا شك فيه أنَّ هاجر المصرية؛ أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل كانت مسلمة، وأن ولدها إسماعيل كان مسلماً كأبيه إبراهيم وأمه هاجر، وأن الله -تعالىٰ- نبّأه وأرسله رسولاً إلىٰ أهل بيته من زوجة وولد، وإلىٰ أخواله وجيرانه من قبيلة جُرهُم اليمانيَّة، وأن دين الله -وهو الإسلام بمفهومه الواسع- قد عَمَّهم وانتظمت حياتهم به زمناً طويلاً لا يُعُرف منتهاه. وكما هي سنة الله -سبحانه- في الناس إذا انقطع الوحي عليهم، جهلوا واصبحوا كالأرض إذا انقطع عنها الغيث –مطر السماء- أمحلت وأجدبت، وتحولت خضرتُها ونضارتُها إلىٰ فترة وظلام يجهل فيه الإنسان ذاته ويتنكر فيه لعقله[(49)].
٥ . ٣ . ] وأول ما بدأ الشركُ في العرب المستعربة من ولد إسماعيل أنهم كانوا إذا خرجوا من الحرم لطلب الرزق، أخذوا معهم حجارةً من الحرم، فإذا نزلوا منزلاً وضعوها عندهم، وطافوا بها طوافهم بالبيت، ودعوا الله عندها، وإذا رحلوا أخذوها معهم، وهكذا. وبموت من أحدث لهم هذا الحدث، ومع مرور الزمان، نشأ جيلٌ جاهلٌ ينظر إلىٰ تلك الأوثان من الحجارة أنها آلهة يتقرب بها إلىٰ الله -تعالى- رب البيت والحرم وخالق الناس والمخلوقات. فكان هذا مبدأ الوثنية في أولاد إسماعيل من العدنانيين[(50)].
٥ . ٤ . ] حتى جاء عمرو بن لُحَيٍّ رئيس خزاعة، وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس ودانوا له، ظنًا منهم أنه من أكابر. ".
٥ . ٤ . ١. ] بداية الخلل جاء عن طريق العلماء وأفاضل الأوليـاء‏:
ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقًا؛ لأن الشام محل الرسل والكتب، فقدم معه بـ « هُبَل » وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله فأجابوه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم‏.‏‏ ثم كثر فيهم الشرك، وكثرت الأوثان في كل بُقعة‏.‏"
٥ . ٤ . ٢. ] أما فكرة الشرك وعبادة الأصنام فقد نشأت فيهم على أساس أنهم لما رأوا الملائكة والرسل والنبيين وعباد الله الصالحين من الأولياء والأتقياء والقائمين بأعمال الخير ـ لما رأوهم أنهم أقرب خلق الله إليه، وأكرمهم درجة وأعظمهم منزلة عنده، وأنهم قد ظهرت على أيديهم بعض الخوارق(!!!) والكرامات، ظنوا أن الله أعطاهم شيئًا من القدرة والتصرف في بعض الأمور التي تختص بالله -سبحانه وتعالى-، وأنهم لأجل تصرفهم هذا ولأجل جاههم ومنزلتهم عند الله يستحقون أن يكونوا وسطاء بين الله -جلَّ وعلا- وبين عامة عباده، فلا ينبغى لأحد أن يعرض حاجته على الله إلا بواسطة هؤلاء؛ لأنهم يشفعون له عند الله، وأن الله لا يرد شفاعتهم لأجل جاههم، كذلك لا ينبغى القيام بعبادة الله إلا بواسطة هؤلاء؛ لأنهم بفضل مرتبتهم سوف يقربونه إلى الله زلفي‏.‏
٥ . ٤ . ٣. ] ولما تمكن منهم هذا الظن ورسخ فيهم هذا الاعتقاد اتخذوهم أولياء، وجعلوهم وسيلة فيما بينهم وبين الله -علا في سماه وتقدست اسماه-، وحاولوا التقرب إليهم بكل ما رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لمعظمهم صورًا وتماثيل وهذه الصور والتماثيل هي التي تسمى بالأصنام‏.‏
٥ . ٤ . ٤. ] وربما لم ينحتوا لهم صورًا ولا تماثيل، بل جعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض مقراتهم ومواضع نزولهم واستراحتهم أماكن مقدسة، وقدموا إليها النذور والقرابين، وأتوا لها بأعمال الخضوع والطاعات، وهذه الأضرحة والمقرات والمواضع هي التي تسمى بالأوثان‏.
٥ . ٥ . ] قلتُ: أن الأصنام والتماثيل أول من أتىٰ بها من الشام إلىٰ الديار الحجازية «عمرو بن لُحي الخُزاعيٌّ»[(51)]،
ونكمل هذه المسألة : إذ أنه سافر ذات مرة من مكة إلىٰ الشام فرأى أهلَ الشام يعبدون الأصنام، فسألهم قائلاً: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ ،
قالوا: نعبدها نستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا.
فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً فأذهب به إلىٰ بلاد العرب فيعبدوه؟
فأعطوه صنماً يقال له: «هُبل»[(52)]، وهو الذي نصبوه حول الكعبة وبقي حولها إلىٰ يوم الفتح الإسلامي حيث حُطَّم مع ثلاثمائة وستين [360] صنماً، وأبعدت، فطُهِّر البيت الحرام، وطهرت مكة والحرم منها، والحمد لله رب العالمين. وكان «عمرو بن لُحي» محترماً في مكة عند أهلها، يشرع لهم فيقبلون شرعه، ويبتدع لهم فيُحَسِّنون بدعتَهُ، فكان أول من بدَّل دينَ إبراهيمَ وإسماعيلَ في الحجاز، ويشهد لهذا قولُ النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وسَلَّمَ- في حديثه الصَّحيح: " رأيت عمرو بن لُحي يجرٌّ قُصبَهُ في النار .. إنه كان أول من غَيَّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحَّر البحيرة، وسيَّب السَّائبة، ووصل الوصيلة، وحمىٰ الحامي [(53)]، [(54)].
وبمقتضىٰ بدعة «عمرو بن لُحي» في جَلبِ الأصنام إلىٰ الحجاز من الشام انتشرت الأصنامُ في بلاد العرب، وهذا بيانُ أسمائها ومواقعها، والقبائل التي كانت تعبدها، كما ذكر ذلك ابنُ إسحاق وغيرُه من المؤرِّخين:
١ . ] سُواع: بِـ:" رُهَاط بساحل ينبع، تعبده قبيلةُ هذيل المُضرية" .
٢ . ] ود: بـ:" دُومة الجندل شمال المدينة قريباً من الشام، تعبده كَلبٌ القضاعيةُ".
٣ . ] يغوث: بـ :"جُر ". [(55)].
٥ . ٥ . ١ . ] تحقيق هذه المسألة :" جاء تحت عنوان :« أَوَّلُ عِبَادَةِ الْحِجَارَةِ كَانَتْ فِي بَنِي إسْمَاعِيلَ » فـ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: -وَيَزْعُمُونَ- أَنَّ أَوَّلَ مَا كَانَتْ عِبَادَةُ الْحِجَارَةِ فِي بَنِي إسْمَاعِيلَ ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَظْعَنُ مِنْ مَكَّةَ ظَاعِنٌ مِنْهُمْ ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ ، وَالْتَمَسُوا الفَسَحَ فِي الْبِلَادِ ، إلَّا حَمَلَ مَعَهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ ، فَحَيْثُمَا نَزَلُوا وَضَعُوهُ فَطَافُوا بِهِ كَطَوَافِهِمْ بِالْكَعْبَةِ ، حَتَّى سَلَخَ ذَلِكَ بِهِمْ إلَى أَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا اسْتَحْسَنُوا مِنْ الْحِجَارَةِ ، وَأَعْجَبَهُمْ ؛ حَتَّى خَلَفَ الْخُلُوفُ ، وَنَسُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ ، وَاسْتَبْدَلُوا بِدِينِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ غَيْرَهُ ، فَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ ، وَصَارُوا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ مِنْ الضَّلَالَاتِ ؛ وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا ، مِنْ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ ، وَالطَّوَافِ بِهِ ، وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَالْوُقُوفِ عَلَى عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ ، وَهَدْيِ الْبُدْنِ ، وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، مَعَ إدْخَالِهِمْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . فَكَانَتْ كِنَانَةُ وَقُرَيْشٌ إذَا أَهَلُّوا قَالُوا : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، إلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ . فَيُوَحِّدُونَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ، ثُمَّ يُدْخِلُونَ مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ ، وَيَجْعَلُونَ مِلْكَهَا بِيَدِهِ . يَقُولُ الحقُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنبيه ورسوله وخاتم رسله مُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [(56)]، أَيْ مَا يُوَحِّدُونَنِي لِمَعْرِفَةِ حَقِّي إلَّا جَعَلُوا مَعِي شَرِيكًا مِنْ خَلْقِي.[(57)].
٥ . ٥ . ٢ . ] « جَلَبُ الْأَصْنَامِ مِنْ الشَّامِ إلَى مَكَّةَ » قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الشَّامِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ- وَهُمْ وَلَدُ عِمْلَاقٍ . وَيُقَالُ عِمْلِيقُ بْنُ لَاوِذْ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ- رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا لَهُ : هَذِهِ أَصْنَامٌ نَعْبُدُهَا ، فَنَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا ، ونَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَلَا تُعْطُونَنِي مِنْهَا صَنَمًا ، فَأَسِيرَ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ ، فَيَعْبُدُوهُ ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ ، فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ ، فَنَصَبَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ.[(58)].
٥ . ٥ . ٣ . ] « قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَذِكْرُ أَصْنَامِ الْعَرَبِ » ؛ « رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ »[(59)] " قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « „ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ النَّاسِ ، فَقَالَ : هَلَكُوا‟» [(60)].
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَامِرٍ ، وَيُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيِّ: «„ يَا أَكْثَمُ ، رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ ، وَلَا بِكَ مِنْهُ : فَقَالَ أَكْثَمُ: عَسَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا ، إنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ ، إنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ ، فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ[(61)] ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ[(62)] ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ[(63)] ، وَحَمَى الْحَامِي[(64)] ‟» [(65)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بإذْنِهِ تَعَالىٰ)
﴿ سُنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء﴾
بحوث السيرة النبوية؛ على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام.
المجلد الثالث :" حصوله -صلىٰ الله عليه وآله وسلم- علىٰ بعثة خاتم الأنبياء.. وتكليفه برسالة آخر المرسلين.. وارتقاءه منصب نبوة متمم المبتعثين".
نال شرف قراءة المراجع ومراجعة المصادر وكتابة هذا البحث:
مُحَمَّدُفَخْرُالدينِ الرَّمَادِيُّ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِمِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى
حُرِّرَ في يوم الإربعاء ١ جماد آخر ١٤٤٠ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ومتمم المبتعثين ~ الموافق ٦ من شهر فبراير عام ٢٠١٩ من الميلاد العجيب للسيد الجليل والنبي النبيل المسيح عيسى ابن مريم النذيرة العذراء الزهراء البتول عليهما السلام.هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ومتمم المبتعثين ~ الموافق ٦ من شهر فبراير عام ٢٠١٩ من الميلاد العجيب للسيد الجليل والنبي النبيل المسيح عيسى ابن مريم النذيرة العذراء الزهراء البتول عليهما السلام.

أعلى الصفحة
فهرس

«العالم قبل البعثة الرسولية المحمدية»

[ ٤. ] المدخل للمجلد الثالث:
[ ٤. ١. ] العالم قبل مبعث الرسول «محمد بن عبدالله»-صلى الله عليه وآله وسلم-:
رسول الله -صلى الله علیه وآله وسلم- بُعثَ والناس في ضلالة عمیاء، وجاھلیة جھلاء، والعالم يموج بألوان مختلفة من الشرك والظلم، والتخلف والانحدار والبعد عن الفطرة التي فطر الله -تعالى في سماه وتقدست اسماه وعلا في علاه- الناس علیھا.
وفي صدارة العالم دولتان فقدتا مقومات البقاء، وانحدرتا إلى مستوى البھائم العجماء، فالفرس مجوس يعبدون النار، ويُحِلُّون نكاح المحارم، ويغرقون في لُجِّيٍّ من الخرافات، والروم حرفت المسیحیة، واعتنقت خرافة الثالوث، وعقیدة الصلب والفداء، وباتت مُخترقة من عدة وثنیات أفلحت في إضلالھا، ومن وراء ھؤلاء يھود غضب الله علیھم لضیاع الدين بینھم، واتخاذھم أحبارھم أرباباً من دون الله ، يحلون لھم ما حرم ويحرمون ما أحل، وھنود يُطبقون على عبادة العجول والأبقار، ويونان قد مسختھم الأساطیر الكلامیة والفلسفات المنطقیة، وصدتھم عن سبیل الھدى، وديانات أخرى كثیرة تنتشر ھنا وھناك في أرجاء المعمورة، وتتشابه في أوصاف التخبط والانحلال والاضطراب والحیرة.
وكان سبب شقاء ھذه الحضارات المزعومة، والمدنیات المحرومة قیامھا على أسس مادية فقط دون أن يكون لھا أي تعلق بنور الوحي الإلھي، لا جرم أَنْ نظر الله لأي أھل الأرض فمقتھم، عربھم وعجمھم إلا بقايا أھل الكتاب، كما قال النبي صلى الله علیه وسلم، فقد جاء عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: " ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان وإن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق........" [(34)].
وھذه البقايا تتمثل في أفراد أبت أن تنزلق في أوحال الشرك، وظلت ثابتة على منھج التوحید منتظرة خروج نبي جديد بشرت به أنبیاؤھم، وتعلقت به أحلامھم.
[ ٤. ١. ١. ] الحياة «الإنسانية»
كانت الحياة «الإنسانيّة» قبل مجيء الإسلام حياةَ يتخبّط أفرادها في غياهب الضّلالات وظلمات الشّرك، وقد كان منطق القوة والقبليّة يحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم مع بعضهم البعض، فلقد كانت القبائل العربيّة وغيرها تتناحر فيما بينها وتتقاتل لأهونِ الأسباب، فحرب «البسوس»[(35)] مثلاً التي استمرت ما يقارب أربعين سنة كان سببها أنّ ناقةً داست بأقدامها بيضة لطير القبّرة، وكذلك كانت حرب «داحس» و «الغبراء»[(36)]. ولقد ساهمت «البداوة» وظروفها الصّعبة أحيانًا كثيرة في إكساب النّاس صفات الهمجيّة وعدم الرّحمة، فقد كان همّ كثيرٍ من القبائل أن تعيش في مأمن وعيش كريم؛ حيث يتوفّر الماء والكلأ بدون التّفكير في بناء علاقات حسنة مع القبائل الأخرى، ويمكن القول أنّ جميع جوانب الحياة «الفكريّة» و«الإجتماعيّة» و«الإنسانيّة» و«العلميّة» كانت سوداء قاتمة، باستثناء قلّة من النّاس الذين تمسّكوا في عقيدتهم بدين «الحنيفيّة» السّمحة، وهو دين خليل الرحمن «إبراهيم» عليه السّلام..
- فما هي أبرز جوانب الحياة ما قبل الإسلام ؟.
الحياة ما قبل الإسلام
[ ٤. ٢. ] العرب قبل الإسلام :
لم يكن حال العرب قبل الإسلام في جميع نواحي حياتهم إلاّ مثالاً على التخلّف والجهل والضّلال، فعلى الرّغم من وجود بعض الإيجابيّات وتوافر بعض الأخلاق عند العرب في الجاهليّة، إلاّ أنّ معظم أفكارهم ومعتقداتهم كانت مبنيّةً على الباطل والعرف الخاطىء، وقد أتى الإسلام بنوره حينما بعث النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- في جزيرة العرب ليبدّد هذا الظّلام القاتم وليضع للنّاس منهجًا ربانيًّا واضحًا في الحياة وكيفية معينة من العيش وطرازاً خاصاً من الحياة يضمن للنّاس حياة السّعادة والطّمأنينة التي ينشدون في الحياة الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة.
- فما هي أبرز مظاهر أحوال العرب قبل مجيء الإسلام؟ [(37)].
كانت القبائل في فترة ما قبل الإسلام يغزو بعضها بعضاً، وقد كانت الحرب بدون ضوابط أخلاقيّة، فقد كانت تسمح للمتغلّب أن يقتل وأن يسرق وأن يسبي النّساء والذّراري بمنطق متوحّش، بعيد عن أيّ معنى من معاني الإنسانيّة.
أمّا بالنّسبة لأعمال النّاس وتكسبهم فقد كان كثيرٌ منهم يرعى الإبل والأغنام، كما اشتغل عددٌ منهم بالتّجارة، وعلى الصّعيد الفكري والعقدي فقد مثّل أظلم جوانب الحياة الإنسانيّة حيث كانت القبائل تتخذ أصنامًا تصنعها بيدها وتعبدها من دون الله -سبحانه وتعالى-، حتّى وصل عدد الأصنام حول الكعبة المشرفة بمكة المكرمة إلى ما يقارب من ثلاثمائة صنم.
وقد كان النّاس قبل الإسلام يتطيّرون ويتشاءمون، فعندما كان يهمّ أحدهم بسفرٍ أو عمل معيّن كان يضع طيراً ثمّ يحرّش بينها فتطير، فإذا طارت باتجاه اليمين تفاءل بذلك واستبشر ومضى في أمره، وإن طارت باتجاه الشّمال تشاءم بذلك ونكص على عقبيه فلم يعزم، كما أنّهم كانوا يتشاءمون من صوت الغراب والبومة.
**
ولم يكن العرب أحسن حالاً من ھذه الأمم، فقد بدّل لھم عمرو بن لُحِي الخزاعي[(38)] ديانة إبراھیم الخلیل التي كانوا يدينون بھا، ومن ثم انتشر الشرك بین أھل مكة وخارجھا، حیث كان أھل الحجاز أتباعاً لمكة لأنھم ولاة البیت وأھل الحرم.
وبانتشار الوثنیة بین العرب كثرت الخرافات الدينیة التي أثرت بدورھا في الحیاة السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادية تأثیراً بالغاً.
" العالم قبل مبعث الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يستعد لتحول عام في جميع الكيان البشري. وقد كان الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى وبعض الكهنة يُنبئ بمقدم مثل هذا الرسول، لما وجدوه في كتبهم من صفته وزمانه.
وكانت يهود (يثرب) إذا حدثت بينهم وبين العرب (المشركين) منازعات، يتوعدونهم بظهور النبي وانهم ينصرونه، فينتقمون من أعدائهم.
قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستفتحون على (الأوس) و(الخزرج) برسول الله، قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. [(39)].
وإلى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِين ﴾ [البقرة:89] [(40)]. وقد كان الكهان من العرب تأتيهم الشياطين من الجن، فتذكر بعض أمر الرسول، مما كانت تسترق السمع، فلما تقارب زمانه -صلى الله عليه وآله وسلم-، حيل ـ في السماء ـ بين الشياطين وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها وتسترق الأنباء، وكانت إذا أرادت أن تستمع إلى الملأ الأعلى ترمى بالشظايا والشهب.
وإلى هذا تشير الآية الكريمة ـ عن لسان الشياطين ـ ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ﴾ [*] ﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ﴾ [*] ﴿ وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾[(41)].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع بإذنه تعالى
محمد الرمادي

أعلى الصفحة
فهرس

[ ٣ . ] تمهيد المجلد الثالث:
« .. وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشْيَاءُ »

[(23)]

[ ٣ . ١ . ] قد يتعَّجب البعض .. وقد يستنكر من اهتمامي -في هذا التمهيد للمجلد الثالث- بالحديث عن العالم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم عموماً؛ والحديث عن حالة العرب خصوصاً علىٰ الرغم من أنهما ضرورة من ضرورات التعمُّق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لفهمها وإدراك حتمية البعثة؛ والمدخل الطبيعي لرسالة السماء الخاتمة؛ وليس ذلك ترفًا فكريا أو إضافة من القول أُبيضُ به فازيد عدد صفحات المجلد، وإنما هو مقدِّمة تمهيدية لازمة ومدخل علمي لاكتمال فهم السيرة النبوية فهمًا دقيقاً كاملاً.. والإدراك الصحيح والفهم الواعي لضرورة وجود المنهجية القرآنية والكيفية العملية والقولية لسيد الجليل والنبي النبيل الخليل خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين.
وذلك لأنه كما قال الأولون: «بضدها تتبيَّن الأشياء»[(23)] . فلا يمكن لمتابع مدقق واع ومن ثم مؤمن عن قناعة وفهم أن يستوعب جمال السيرة المحمدية وبالتالي يدرك بفهم ووعي السنة النبوية وكمال صاحبها صلى الله عليه وسلم، ولا أن يُدرك سموَّ مبادئ الإسلام وعظمة تشريعاته ودقة منهجه في الحياة إدراكًا تامًّا، إلاَّ إذا رأى مدىٰ الانحطاط الذي وصل إليه العالم قبل مجئ البعثة المحمدية والرسالة المصطفوية -رسالة الإسلام- في كل مجالات الفرد والمجتمع والحياة ؛ خاصَّة في المجالات الفكرية والإنسانية، كالعقائد والتشريعات الإجتماعية والإقتصادية والقانونية والنظم الداخلية والمبادئ العامة والأخلاق التي يجب ان تسود الأفراد والمجتمع والأسرة والعلاقات السياسية بين الدول والنظم الخارجية.
فقد انحدرت كل القيم الإنسانية في طول الأرض وعرضها، ولم يبقَ علىٰ الكوكب أحد يتمسَّك بالدين والأخلاق إلا أفراد قلائل من أهل الكتاب.
**
[ ٣ . ٢ . ] العالم قبل الإسلام:"
كان العالم قبل مجيء الإسلام في ضلالٍ عقدي ، وتيهٍ فكريّ ، وظلمةٍ أخلاقيّة ؛ وفساد إجتماعي.. ففي الحديث النّبوي الشّريف يذكر أنّ الله -سبحانه وتعالىٰ- اطّلع علىٰ أهل الأرض قبل نزول رسالة الإسلام فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقيّةٌ من أهل الكتاب.
ولا شكّ أنّ المقت مِن الله -تعالىٰ ذكره وجل قدره- يتضمّن كراهية حال النّاس التي كانوا عليها بابتعادهم عن منهج الله -تعالىٰ- وشريعته التي أنزلها علىٰ أنبيائه وبعث بها رسله.
فعن عياض بن حمار المُجاشعيِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته فيما يرويه عن ربِّ العزَّة -عز وجل-: "... وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ[(24)] ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ [(25)] ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ[(26)] عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [(27)]. [(28)] .
لقد استحقَّ مَنْ علىٰ الأرض جميعًا مقت الله تعالىٰ لهم ؛ وذلك بسبب الانهيار القيمي والفساد الأخلاقي اللذين حدثا بوازع من وساوس الشياطين وأمانيهم ، التي ظلَّت تلعب بنفوس الناس علىٰ مدار قرون، حتى "اجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
**
[ ٣ . ٣ . ] العصر الجاهلي :"
عُرف العصر الجاهليّ بكونه ضحلاً علىٰ مستوىٰ الفكر والثقافة عند مقارنته بالعصور الأخرىٰ كعصر الرومان، واليونان، والفرس، والهنود، فقد تميّزت هذه العصور بازدهار العلوم والآداب والفلسفة ، وربما كان الشعر والقصص والأمثال ما ميّز العرب في الجاهلية ، إضافة إلىٰ معرفتهم بالأنساب وبعض طرق العلاج والطبّ التي توارثوها، وبالرغم من وجود هذه المعرفة إلّا أنّها لا ترقىٰ لمرتبة العلوم؛ كونها غير منظّمة، ولم يوجد علماء ومختصون يدوّنونها ويثبتونها، ولكن في أطراف الجزيرة العربية في العصر الجاهليّ برزت بعض أشكال العلوم والفنون مثل إرواء الأرض ، وهندسة البناء المميزة والفريدة من نوعها وخاصة بناء القصور وزخرفتها، وفي مجال الطب أيضاً ، وفي الزراعة ، وفي بيطرة الدواب والمواشي ، وربما يعود سبب وجود هذه العلوم إلىٰ الاتصال المباشر مع الحضارات الأخرىٰ كالرومان، والفرس، والحبشة نظراً لقربهم من هذه المناطق. [(29)].
[ ٣ . ١ . ١. ] شرعية تذاكر أحوال الجاهلية:"
وليس في الحديث عن أمر الجاهلية شيء؛ فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- يتذاكرون أمر الجاهلية في أحاديثهم ليعرفوا نعمة الله -تعالىٰ- عليهم بالإسلام، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن ذلك؛ بل كان -عليه الصلاة والسلام- يبتسم، فكان ذلك منه إقرارًا لهم علىٰ فعلهم؛ فعن سِمَاكِ بن حرب قال: قلتُ لجابر بن سَمُرَةَ رضي الله عنه: أكنتَ تُجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "نَعَمْ، كَثِيرًا كَانَ لاَ يَقُومُ مِنْ مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوِ الْغَدَاةَ حَتَّىٰ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ "[(30)]

وقال النووي في شرحه علىٰ صحيح مسلم :« وَفِيهِ جَوَازُ الْحَدِيثِ بِأَخْبَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ ». [(31)]
وإذ أتناول هذه الفترة لن أكتفي بالحديث عن جزيرتهم العربية وحدها، وإنما سأتحدَّث عن العالم كله قبل الإسلام؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بُعِث للعالمين كافَّة رحمة ونورًا وهداية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [(32)] ؛ فميدان عمل دعوته -صلى الله عليه وسلم- هو الأرض بكاملها بمَن عليها.. وفي الزمان بأكمله منذ بُعث إلىٰ أن يرث الله تعالىٰ الأرض ومن عليها.
كما أن الدعوة والدولة الإسلامية كليهما لهما تقاطعات مع هذه الحضارات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكان هناك مؤيِّدون للدعوة من هذه الحضارات، وكان هناك معارضون، وكذلك كان هناك محايدون، ولن يمكن أن نفهم ردود فعلهم إلا بدراسة أحوالهم ودوافعهم لاتخاذ المواقف التي سجلتها السيرة المحمدية العطرة وسطرتها السنة النبوية الزكية البهية.
[ ٣ . ١ . ٢. ] خصائص الحضارات قبل الإسلام:"
وسنجد أن كل الحضارات الموجودة قبل الإسلام امتازت بخصائص كثيرة متشابهة ؛ لعلَّ من أبرزها ثلاثًا:
[ ١ . ] أولها فهو الانحراف العقائدي الكامل؛ حيث فسدت العقائد، وعبدَ الناس آلهةً شتىٰ من دون الله -جلَّ في علاه وتقدست اسماه وسما وعلا في سماه؛ سبحانه وتعالى عما يشركون- لا تملك لأنفسها -فضلاً عن أن تملك لهم- ضرًّا ولا نفعًا؛ فعبد العرب الأصنام، وعبد الصينيون بوذا، وعبد الفُرْس النار، وتخبَّط الرومان بين الوثنية والمسيحية المحرَّفة التي ابتدعوها؛ بينما عَبَدَ المصريون القدماء آلهة متنوعة من الشمس إلىٰ أوهام أخرىٰ كحورس وبتاح وآمون. و
[ ٢ . ] ثانية الخصائص هي الانهيار الأخلاقي التام؛ والفساد الإجتماعي.. حيث انتشرت الفواحش، ولم يعد الناس يعرفون معروفًا أو يُنكرون منكرًا؛ بل انقلبت الأحوال حيث أصبح المنكر معروفًا يتداوله الناس جهرًا دون خشية ، وصار المعروف بينهم منكرأ.. كـ إنتشار الزنا والمخادنة وتفشي الدعارة مثلاً؛ فصارت الداعرات ذوات بيوت مُشْهَرَة ، وعلامات مرفوعة ؛ وآلوية منصوبة.. كما صارت نسبة أولاد الزنا للزناة أمرًا شائعًا مشروعًا لا ينفيه أحد ، ولا تُصيبه معرَّة بسببه.
وأما الخاصية [ ٣ . ] الثالثة فهي التعاظم الشديد في القوة المادية؛ فقد كانت هذه الحضارات دنيوية صِرْفة، لا يهتم ملوكها وحكامها إلا بالقوة المادية التي تزيد في ملكهم؛ لذا فقد اهتمُّوا بزيادة قوتهم؛ وتكوين جيوش ضخمة يحاولون بها السيطرة علىٰ العالم واستعباد البشر.
ومن هنا تعلم -أيها القارئ الكريم- أن المسلمين حينما انطلقوا للدعوىٰ لـ عبادة الرب الواحد الأحد الفرد الصمد ؛ الذي لا تصح أن تكون له صاحبة ولا يجوز أن يكون له ولد ، وواجهوا تلك الحضارات في صراعات عسكرية ، كانوا يُواجهون في الواقع قوىٰ عظمىٰ تملك قدرات عسكرية وآلة تدمير جهنمية -حسب وقتها- ومادية هائلة ؛ ولكن نجح المسلمون –بفضل من الله تعالىٰ- في الانتصار علىٰ هذه القوىٰ بالفرق الواضح بينهم في الجانب العقائدي والجانب الأخلاقي ؛ علىٰ الرغم من التفاوت الهائل في القوى المادية. [(33)].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بإذنه تعالى)
نال شرف قراءة المصادر وتكحلت عيناه باعداد البحث وكتابته :
د. مُحَمَّدُفَخْرُالدينِ الرَّمَادِيُّ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِمِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى
حُرِّرَ في يوم الإثنين ١٤ جماد أول ١٤٤٠ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ~ الموافق ٢٠ من شهر يناير عام ٢٠١٩ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم النذيرة الزهراء العذراء البتول عليهما السلام.

أعلى الصفحة
فهرس

مقدمة المجلد الثالث

﴿ سُنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء﴾
[ ١ . ] مقدمة المجلد الثالث
العنوان العريض للمجلد : حصوله -صلىٰ الله عليه وآله وسلم- علىٰ بعثة خاتم الأنبياء.. وتكليفه برسالة آخر المرسلين.. وارتقاءه منصب نبوة متمم المبتعثين
[ أ. ] السلسلة الأولىٰ:« خاتم الأنبياء » صلى الله عليه وآله وسلم
« الرسالة النبوية؛ والدعوة الإبراهيمية؛ والبشرىٰ العيساوية؛ والشمائل المصطفوية؛ والخصائل الرسولية؛ والدلائل الإعجازية؛ والصفات الأحمدية؛ والأخلاق المحمدية لـسيدنا محمد بن عبدالله خير البرية صلىٰ الله عليه وآله وسلم « .. سلسلة بُحُوث السِيرَةِ النَّبوية -علىٰ صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام وكامل البركات.. „أبحاث تمهيدية لمستقبل أمة زاهرة.. ذات حضارة ‟
**
حضرات السيدات القارئات المربيات.. والسادة المتابعين القوامين.. وطلاب العلم.. !
عشنا ما يزيد عن عامين سواء وفق التقويم الهجري الإسلامي [ فبداية نشر هذه السلسلة الطيبة علىٰ موقع „ استروعرب نيوز ” كان يوم الإثنين ٢١ صفر ١٤٣٨ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ] أو ميلادياً حسب واضع عدَّ السنين الراهب الأرمني دنيسيوس الصغير؛ أو وفقاً للتقويم الغريغوري نسبة إلىٰ غريغوريوس الثالث عشر بابا روما في القرن السادس عشر الذي قام بتعديل نظام الكبس في التقويم اليولياني ليصبح علىٰ النظام المتعارف عليه حاليًا مع فارق اربع سنوات لم تحسب [ بدءً من ٢١ من شهر نوفمبر عام ٢٠١٦ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن „ النذيرة مريم” العذراء الزهراء البتول عليهما السلام]..
اقولُ: عشنا ما يزيد عن عامين مع تمهيدات بعثة السيد الجليل؛ والنبي النبيل؛ وتعايشنا ارهاصات رسالة خاتم الأنبياء الكريم ومقدمات آخر المرسلين الموثقين ومداخلات عامة لمتمم المبتعثين من رب الأولين وإله الآخرين لكافة العالمين.. ولعل ما أطال الفترة مع هذه المقدمة التمهيدية والمدخل إلىٰ سيرته العطرة -صلىٰ الله عليه وآله وسلم- والتي استوعبت مجلدين [لهما استدراكات وزيادات]؛ استعرضتُ فيهما بشارات مجيئه -صلىٰ الله عليه وآله وسلم- منذ عهد أبي البشر آدم؛ ومروراً بأبي الأنبياء إبراهيم الخليل؛ وما ذكر من بشارات في العهد العتيق [توارة سيدنا موسى الكليم -عليه السلام-] فالعهد الجديد [انجيل كلمة الله وروح منه؛ المعجزة في ولادته؛ والمعجزة في حياته.. عبد الله ونبيه ورسوله عيسى ابن مريم بنت عمران النذيرة العذراء الزهراء البتول -عليهما السلام-] فالعهد الحديث [كتاب الله (سما في علاه وعلا في سماه وتقدست اسماه): القرآن المجيد والذكر الحكيم والمصحف الشريف]..
اقولُ: استعرضتُ بشارات مجيئه؛ وأوضحها بشرى كلمة الله وروح منه السيد الجليل صاحب المعجزات بإذن ربه العلي القدير : المسيح عيسى ابن مريم العذراء البتول -صلى الله عليه وآله وسلم- فـ نسبه وعائلته وتنشأته والأحداث الهامة التي جرت قبل بعثته فزواجه من أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد -رضي الله تعالى عنها-..
وقد تبقت مكملات بحوث واستدركات فصول سأضعها -مِن بعد إذنه تعالىٰ وكامل توفيقه وحسن رعايته وتمام هدايته- في نهاية المجلدات والتي توقعتُ حسب خطة البحث أنها ستصل إلى عشرة مجلدات؛ اضف الهوامش والتعليقات والترجمات للشخصيات التي ورد ذكرها إثناء البحث.. وفهرس للآيات القرآنية وموضعها من الكتاب الكريم؛ وإن تيسر ما افهمه من التفسير أو التأويل، والأحاديث الشريفة مع تخريجها ودرجتها.. ولعل ما أطال الفترة الزمنية في النشر الأسباب الآتية:
١ . ) وفرة المصادر والمراجع التي تتكلم وتبحث عن الفكرة الواحدة؛ فوجب قراءتها ومن ثم مراجعتها بتمعن وإدراك وفهم ومحاولة استخلاص المفيد منها والتوفيق بينها إذا استلزم الأمر.
٢ . ) إنشغالي ببحوث آخرىٰ بعيدة عن موضوعات ومسائل وقضايا السيرة النبوية.
٣ . ) التزامات يجب أن اقوم بها..
وقد ألزمت نفسي من البداية تقديم ما اطمئن إليه علمياً من حيث التدقيق والتحقيق والتوثيق.
*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
[ ٢ . ] توثيق البعثة المحمدية وتحقيق الرسالة النبوية الأحمدية من خلال النصوص القطعية الثبوت والقطعية الدلالة:
[ ٢ . ١ . ] واللهُ تعالى كَامِلُ الْقُدْرَةِ.. كَامِلُ الرَّحْمَةِ فَــ أَرْسِلَ رَسُولًا رَحْمَةً مِنْهُ.. كَمَا قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا «„ رَحْمَةً ” » لِلْعَالَمِينَ ﴾[(1)] ..
فقال الطبري:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَىٰ خَلْقِنَا إِلَّا رَحْمَةً.. "..
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَىٰ هَذِهِ الْآيَةِ ، وتأويل الآية فيه تفصيل ؛ يرجع إليه في مواضعه . وَأَوْلَىٰ الْأقْوْالَ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ .. الْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله تعالى عنهما- ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِجَمِيعِ الْعَالَمِ . [(2)]
[ ٢ . ٢ . ] وكونُه مبعوثاً إِلَى كافة الورىٰ، اثبت القرآن المجيد قوله تعالى: ﴿ „ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ” ﴾ [(3)] و
[ ٢ . ٣ . ] قال تعالى: ﴿ „ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ” ﴾ [(4)] و
[ ٢ . ٤ . ] قال تعالى: ﴿ „ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ” ﴾ [(5)] أي: وأُنْذِرُ مَنْ بِلَغَه، و
[ ٢ . ٥ . ] قال تعالى: ﴿ „ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ” ﴾ [(6)] و
[ ٢ . ٦ . ] قال تعالى: ﴿ „ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ” ﴾ [(7)]، و
[ ٢ . ٧ . ] قال تعالى: ﴿ „ تَبَارَكَ الَّذِي نـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ” ﴾ [(8)] و
[ ٢ . ٨ . ] قال تعالى: ﴿ „ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ ” ﴾ [(9)].
هذا من حيث النصوص القرآنية ... أما حيث السنة النبوية المحمدية فــ
[ ٢ . ٩ . ] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - « „ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ” » . [(10)]. و
جاء من طريق آخر: عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: « „ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ” ».[(11)] . و
[ ٢ . ١٠ . ] يأتي جزء من حديث [(12)] يقول فيه عليه السلام: « „ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَىٰ قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَىٰ النَّاسِ عَامَّةً ” » و
[ ٢ . ١١ . ] يأتي جزء آخر من حديثه". [(13)] عليه السلام:" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « „ أُعْطِيت خَمْسًا وَلَا أَقُولُهُ فَخْرًا ” » :-منها- « „ بُعِثْت إلَىٰ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ ” » . [(14)].
[ ٢ . ١١ . ١. ] وجاء من طريق آخر :" عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَىٰ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « „ وَأُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ كَانَ قَبْلِي.. ” » :-منها- « „ بُعِثْت إلَىٰ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ ” » [(15)].
[ ٢ . ١١ . ٢. ]عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : خَرَجْت فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْته يُصَلِّي ، فَانْتَظَرْته حَتَّىٰ صَلَّىٰ ، فَقَالَ: « „ أُوتِيت اللَّيْلَةَ خَمْسًا لَمْ يُؤْتَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي.. ”.. -منها- : «„ وَأُرْسِلْت إلَىٰ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ ” » [(16)].
**
والحاصل : أَنَّ إرْسَالَ الرَّسُولِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَةِ عَلَىٰ كَمَالِ قُدْرَتِهِ- سبحانه وتعالى- وَإِحْسَانِهِ . [(17)]
-*-*
وينبغي لي أن أتحدث في تمهيدٍ عن ثلاثة محاور:
١. ] الأول: الغاية من بعثة الرسل.
أما المحور الثاني :
٢. ] حاجة الناس إلى الرسل.
أما الثالث:
٣. ] الغاية من بعثة خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين النبي العربي الأمي الأمين صلىٰ الله عليه وآله أجمعين.
كما ينبغي لــ كل إنسان الإجابة عن تلكم الأسئلة:"
١ .] ما هي الغاية من الخلق والإنشاء والإبداع والتقويم للإنسان؛
٢ .] ما هي الغاية من وجود الإنسان علىٰ الأرض؛
٣ .] ماذا بعد إنتهاء الحياة لكل إنسان علىٰ الأرض؛ أموتٌ بعده فناء وعدم!!؟.. بمعنىٰ أنه : لا حساب ولا مسائلة ولا جزاء!!..
أم نعيم مقيم دائم!!
أو تلك الآخرىٰ..
١ .] فإذا كان الأمر فيه محاسبة علىٰ أفعال قمنا بها؛ وأقوال تكلمنا بها، وجزاء علىٰ تصرفات في الحياة الدنيا سنحاسب عليها في الحياة الآخرة .. هنا حق لنا أن نعلم جيداً وبالتفصيل كيف نعيش وفق منهاج خالق.. وكيف نحيا وفق طريقة رازق.. وكيف نعمل ونقول وفق شريعة رب غفور رحيم.. فوجب إرسال الرسل وبعث الكتب..
فنطق القرآن الكريم بالقول الصادق: ﴿ „ وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ „ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ” وَجَعَلَ لَكُمُ „ السَّمْعَ ” وَ „ الْأَبْصَارَ ” وَ „ الْأَفْئِدَةَ ” لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ” ﴾ [(18)]
فأعطىٰ سبحانه وتعالىٰ الجميع دون استثناء أدوات التعلم .. ثم جاء الأمر بتعلم أمرين؛ أو بتعبير أدق بتعلم كتابين..
الأول منهما : ﴿ „ اقْرَأْ ” بِــ „ اسْمِ رَبِّكَ ” ﴾ وهذا قُصد به الكتاب المحفوظ في الصدور؛ القرآن الكريم والذكر الحكيم والمصحف الشريف..
وأما قراءة الكتاب الثاني فقال : ﴿ الَّذِي „ خَلَقَ ” ﴾.
ثم جاء بمثال عن كيفية خلقه -سبحانه- لآحدى مخلوقاته ... وهو أرقاه : ﴿ خَلَقَ „ الْإِنسَانَ ” مِنْ عَلَقٍ ﴾ [(19)] وهذا قصد به قراءة الكتاب الذي هو في الكون منشور..
لذا فقد وجب قراءة كتاب نزل من خالق الإنسان في أحسن تقويم وواجد الكون ومنشأ الحياة.. وجب قراءة كتاب نزل بواسطة أمين السماء جبريل -عليه السلام- علىٰ قلب أمين السماء والأرض محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صلى الله عليه وآله وسلم وهذا هو الكتاب الأول.. القرآن المجيد والذكر الحكيم والهدي الكريم والنور المبين... قراءة تطبيقية.. منهجية.. تشريعية.. وليس قراءة قراء المقابر...
أما الكتاب الثاني فقراءة الكتاب المنشور في كينونة الإنسان وتركيبته النفسية والخَلقية ؛ وما هو منشور في الكون والحياة.. ثم يبين سبحانه : ﴿ „ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ” ﴾ ﴿ „ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ” ﴾ [(20)]
وهذه هي الآيات الخمس والتي هي أول ما نزل علىٰ قلب أمين السماء والأرض بواسطة أمين السماء جبريل -عليهما السلام- مِن مَن خلقهما -سبحانه وتعالى-..
وكي تتضح لنا غاية إرسال خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين نقرأ معاً ما سيقوم به معنا الرسول من دور نبوي ووظيفة رسولية..
فكان الدور الأول متعلق بـ الآيات والعلامات العقلية والذهنية والإستدراكية في الكون والحياة والإنسان ؛ فقال :
١ . ] ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ „ آيَاتِكَ ” ﴾ وَ
٢ . ] ﴿ يُعَلِّمُهُمُ „ الْكِتَابَ ” ﴾ وقصد هنا القرآن الكريم وَ
٣ . ] ﴿ „ الْحِكْمَةَ ” ﴾ وقصد هنا السنة النبوية وَ
٤. ] ﴿ „ يُزَكِّيهِمْ ” ﴾ [(21)] .. بمعنىٰ يطهرهم طهارة قلبية ونفسية وعقلية وجسدية وما فوق الجسد من ملابس ثم طهارة مكانية ..
ثم تأتي قضية هامة وجوهرية فنطق القرآن المجيد والذكر الحكيم يقول:
٥. ] ﴿ „ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ” ﴾ [(22)]...
ونعيد صياغة الأسئلة؛ فما هي :
١ . ] الغاية من بعثة الرسل.!!
٢ . ] ما هي صفات الأنبياء والرسل..!!
٣ . ] ما هي وظيفة الرسل وما هو دور الأنبياء ..!!
٤ . ] ما هي صفات الرسل ومميزات الأنبياء..!!
٥ . ] ما هي الكتب السماوية.. وعما تتحدث ..!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بإذْنِهِ تَعَالىٰ)
نال شرف قراءة المراجع ومراجعة المصادر وكتابة هذا البحث:
مُحَمَّدُفَخْرُالدينِ الرَّمَادِيُّ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِمِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى
حُرِّرَ في يوم الإربعاء ٣ جماد أول ١٤٤٠ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ومتمم المبتعثين ~ الموافق ٩ من شهر يناير عام ٢٠١٩ من الميلاد العجيب للسيد الجليل والنبي النبيل المسيح عيسى ابن مريم النذيرة العذراء الزهراء البتول عليهما السلام.

أعلى الصفحة
فهرس

شروط نشر الأعمال الفنية و الأدبية (المؤلفة أو المنقولة) فى أوسترو عرب نيوز :

عدم التعرض إلى (الذات الإلهية) .. الأديان السماوية .. المذاهب الدينية .. القوميات .

عدم التعرض بالسب أو الانتقاص من شخصية خاصة أو اعتبارية  .. بشكل مباشر أو بالتورية حال النقد .

أن لا ينشر فى أي وسيلة إعلامية صادرة بالعربية من النمسا .. خلال فترة النشر بـ أوسترو عرب نيوز .

أن يضمن المؤلف أو المراسل نشره فى النمسا مذيلا بعبارة : منقول عن أوسترو عرب نيوز (كلمة شرف)

ما ينشر في أوسترو عرب نيوز .. يعبر عن رأي كاتبه أو ناقله أو راسله ..
أوسترو عرب نيوز .. لا تتحمل المسئولية الأدبية أو القانونية .

أوسترو عرب نيوز .. تهيب بحضراتكم الإبلاغ عن أي تجاوز .. لعمل الإجراء المناسب على الفور .. بالحذف مع الاعتذار .

أعلى الصفحة


الموقع غير مسئول عن تصحيح الأخطاء الإملائية و النحوية

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رئيس التحرير : أيمن وهدان




أخبار عرب النمسا