السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
النمسـا اليـوممفكـــــرةخدمات & طوارئ النمسـا الوطـنإخترنـا لكإعلانــــــاتحـوار صـريحمجتمــــــعهيئة التحـريرمواقع إلكترونيةتواصـــل
 
 
 

السيرة النبوية الشريفة

تقديم : د. محمد الرمادى
فيينا / 2020

 

ما أطلقَ عليه: „ عَامُ الْحُزْنِ ”
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ:

أحداثٌ فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ الْعَهْدُ الْمَكِّيِّ. السنة العاشرة مِن البعثة !
[ ٧ ] الْبَابُ السَّابِعُ : العام: „ ٣ قبل.الهـجرة الشريفة ~ 619 بعد الميلاد العجيب: « „ عَامُ الْحُزْنِ ” » :
: « „ ” » :

الْمُقَدِّمَة:
الترتيب الزمني وتتابع سير الأحداث يلزماني حين التحدث عن تسلسل أحداث السيرة النبوية العطرة أن يكون الحديث عن ما سُميَّ عام الحزن أن يسبق الكلام عن: الــمَسِيرُ إِلَىٰ „الطَّائِفِ” إذ جعلتُه الباب الخامس مِن المجلد السابع الذي نقرأه الأن؛ ويعود هذا إلىٰ أنني أريد التركيز علىٰ مفاصل سيرة نبي وطريقة شرعية عملية للرسول دون سردها فقط متتالية.. لذا وجب التنبيه!..إذ أن التحقيق؛ والرجوع إلىٰ كتب السيرة المعتبرة يبين أنه :" لما تُوفي أبو طالب؛ خرج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلىٰ الطائف؛ ماشياً علىٰ قدميه يدعوهم إلىٰ الإسلام؛ يبتغي عندهم: « „النصر” »[(1)].. فيكون المسير إلىٰ الطائف تم بعد موت أبي طالب وليس قبله..
ومن خلال أحداث الهجرة الأولىٰ والثانية للحبشة تخرج خطوات سير الدعوة مِن ضيق المكان -مبدء الرسالة ومنشأها: مكة المكرمة- لتدخل مسيرة الدعوة إلىٰ فضاء تفاعلي جديد أوسع وأرحب.. مما يدعونا إلىٰ التأمل بعمق وإعادة النظر بوعي في العلاقات ليس فقط بين كيان إسلامي جديد ضعيف هَش لم تتماسك أركانه بعد ولم تتشكل صورته الكاملة وحياً مِن خالق الإنسان إلى كل إنسان علىٰ ظهر الأرض وبين كيان راسخ قائم بذاته يحمل مقومات البقاء والحياة : « „حكم النجاشي ونظامه” » -النصراني؛ وفق أدبيات الإسلام؛ والمسيحي وفق أدبيات بولس الرسول مؤسس المسيحية الحديثة- و: « „قساوسته” ».. بل والتأمل بعمق وإعادة النظر بوعي في العلاقات بين الأفراد مِن كلا الكيانين.. فقد قَالَ -عليه السلام- لَهُمْ -رضوان الله تعالىٰ عليهم- : « „لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ” » .. وهذا خروج من ضيق مكة وضيق افق رجالها...
ومن خلال المسير إلى الطائف تمر أحداث السيرة؛ بل الدقة الرسالة لإيجادها علىٰ أرض الواقع.. علىٰ أرض صلبة.. تمر بمفصلٍ جوهري -وهو الذي غاب عن الحركات والجماعات ذات الوشاح الإسلامي وليس المبدأ-؛ وهذا المفصل الجوهري هو طلب النصرة مِن أهل القوة والمنعة.. فَيَقُولُ: « „أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَىٰ قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي” » . وهذا خروج آخر..
.. وما فاتني حين الحديث عن المسير إلىٰ الطائف في الباب الخامس مِن هذا المجلد السابع؛ نشر موقع «آستروعرب نيوز» أن أثبتَ :" عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ؛ وَهُوَ الْعَدْوَانِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مشرق ثقيف، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا حِينَ أَتَاهُمْ، يبتغي عندهم : « „النصر” ».. قَالَ : فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، السورة.. حتىٰ ختمها.. فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ، فَدَعَتْنِي ثَقِيفُ !؟، فَقَالُوا: "مَا سَمِعْتَ مِنَ هَذَا الرَّجُلِ!"، فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ: "نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا يَقُولُ حَقٌّ لَتَابَعْنَاهُ"[(2)]

التَّمْهِيدُ :
نحن مازلنا نتعايش مع العهد المكي؛ بمراحله ومفاصله.. إذ علىٰ أعمدته الراسخة علىٰ أرضية الإيمان.. وباسقة وعالية في سماء الأحكام العملية الشرعية المنبثقة مِن مبدأ الإسلام سينتقل نبي الإسلام ورسول السلام إلىٰ العهد المدني بسلاسة ويسر وسيبنىٰ الكيان المحمدي الجديد.. الذي ليس له مثيل من قبله ولا يشبهه كيان آخر من بعده.. فَفِي طَوَالِ الْعَهْدِ الْمَكِّيِّ لَمْ يَتَنَزَّلْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ تَنْفِيذِيٌّ -وَإِنْ تَنَزَّلَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي عَنْ أَشْيَاءَ وَأَعْمَالٍ- وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ التَّنْفِيذِيَّةَ كَالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ وَالْكَفَّارَاتِ لَمْ تَتَنَزَّلْ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الدَّوْلَةِ الْمُسْلِمَةِ [الأولىٰ] الَّتِي تَتَوَلَّىٰ تَنْفِيذَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ[(3)].. وغياب التأسي بأفعاله -والتأسي حكم شرعي في حقنا؛ سواء مِن باب الواجب والفرض أو المندوب والمستحب-؛ خاصة افعاله التنظيمية الحركية الدعوية التكتلية والانتقال مِن مرحلة إلىٰ آخرىٰ ومن عهد إلىٰ آخر.. مع مراعاة نقاط الإلتقاء ومفاصل الإنتقال.. غياب هذا أوقع الكثير مِن الحركات الإسلامية والجماعات في خطأ فادح بإرتكاب افعال مِن عند أنفسهم لا دليل شرعي علمي نبوي رسولي عليها والقيام بتصرفات لا تتفق مع المرحلة بمفاصلها؛ أو بتعبير أدق ليست مِن سُنته -صلى الله عليه وآله وسلم- وبالتالي فليست مِن سيرته وطريقته ولا من اسلوبه ولا مِن هديه؛ وما اصاب تلك الحركات والجماعات في مَقتلٍ خروجهم عن التقييد بالسيرة المحمدية والخطوات العملية الشرعية والكيفية الرسولية واستحداث نماذج غريبة عن الطريقة الرسولية الشرعية العملية والتي سار عليها نبي الهدى والرحمة -صلوات الله تعالىٰ وسلامه وبركاته ورحماته وإنعامه عليه وآله واتباعه-.. ولعل -خاصةً- أحداث العشرين سَنة الماضية تثبت صحة ما ذهبتُ إليه مِن القول!

الْمُقَدِّمَة :
أتحدث عن تلك الفترة الزمنيَّة العصيبة المؤلمة الموجعة المقلقة -لولا ثبات إيمان نبي الهدى والرحمة -عليه اسلام- وعقيدة رجال ونساء معه؛ رضوان الله تعالى عليهم- والتي بدأت بالحصار في شِّعْب أبي طالب، واستغرق الحصار ثلاث سنوات.. ثم المحاولات الكثيفة والمفاوضات السخيفة البائسة مِن قريش لإغراء النبي لوقف الدعوة، ثم وفاة أبي طالب عم الرسول ومناصره في مكة، ثم كانت تلك المصيبة مِن الصدمات التي لم يَنسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طَوَال حياته، ألا وهي مصيبة موت زوجته الوفيَّة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها! [(4)] ..
مما يجعل المرء يتساءل : أين نساء اليوم منها -عليها الرضوان-!!؟..
فــ " عَامُ الْحُزْنِ : هو الْعَامُ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ خَدِيجَةُ(*)- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، وَأَبُو طَالِبٍ(*) فَسَمَّاهُ(!؟) رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْحُزْنِ(!!!)..
حَكَىٰ ذَلِكَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، قَالَ : " وَمَاتَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ "[(5)] وهذا ما اثبته صاحب لسان العرب في موسوعته.
وقبل مخرج النبي إلىٰ (يثرب) مدينته؛ والتي طيَّب الله تعالىٰ ثراها بمرقده وبجواريه صاحبيه بثلاث سنين- أي بعد البعثة بعشر سنوات- توفيت خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-[(8)].. وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ آمَنَتْ بِهِ[(9)]..
فــ:" عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:« خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ.. وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ »[(10)]. و
روى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعهلقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين» وهو حديث حسن الإسناد[(11)]؛ و
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- ، قَالَ : خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ وَقَالَ : « أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ » .
فَقَالُوا :" اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ "،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : « أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ » وَأَحْسَبُهُ قَالَ : « وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ »[(12)] و
جاء برواية عَنْ عُرْوَةَ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ لِفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : أَلَا أُبَشِّرُكِ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ : « سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ : مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَآسِيَةُ » ... و..
يتبقي مِن ولد خديجة أربع بنات وهن :
- رقية؛ وكانت تحت عتبة بن أبي لهب.. فطلقها ؛ فتزوجها عثمان بن عفان؛ و
- زينب وتزوجها أبو العاص بن الربيع من بني عبدشمس من بني أمية فأحسن مصاهرته. و
- أم كلثوم و
- فاطمة[(13)]..
أما مسألة زواج النبي بعد وفاة خديجة فسأذكرها في موضعها؛ وارجوه - سبحانه وتعالى - أن يعصمني مِن الغفلة أو النسيان..
أما مسألة مرض ابي طالب ووفاته ومصيره في الآخرة[(14)] .. فمن المسائل الشائكة ذات شجون !

تفصيل المسـألة:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمَّ إنَّخَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَتَتَابَعَتْ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَىٰ الْإِسْلَامِ، يَشْكُو إلَيْهَا.. وَبِهُلْكِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ، وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَىٰ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إلَىٰ الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ[(15)].

[ الْمُشْرِكُونَ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا ثَقُلَ بِهِ الْمَرَضُ، يَطْلُبُونَ عَهْدًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا اشْتَكَىٰ أَبُو طَالِبٍ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا ثِقَلُهُ.. قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضِ: " إنَّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلَى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَلْيُعْطِهِ مِنَّا، وَاَللَّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا أَمْرَنَا ".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ ( بْنِ عَبَّاسٍ ) عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ : " مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ؟ وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ:
- عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَ
- شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَ
- أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَ
- أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ،وَ
- أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ"،
فَقَالُوا :" يَا أَبَا طَالِبٍ، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَادْعُهُ، فَخُذْ لَهُ مِنَّا، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ، لِيَكُفَّ عَنَّا، وَنَكُفَّ عَنْهُ، وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا، وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ"..
فَبَعَثَ إلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَهُ.
فَقَالَ :" يَا ابْنَ أَخِي: هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِكَ، قَدْ اجْتَمَعُوا لَكَ، لِيُعْطُوكَ، وَلِيَأْخُذُوا مِنْكَ. قَالَ :
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « نَعَمْ ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونِيهَا تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ ».
قَالَ : فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ :" نَعَمْ وَأَبِيكَ، وَعَشْرَ كَلِمَاتٍ "،
قَالَ : « تَقُولُونَ : « „ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ” » ، وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ ».
قَالَ : فَصَفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ؛ ثُمَّ قَالُوا : " أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا، إنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ "، ( قَالَ ) :
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: " إنَّهُ وَاَللَّهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ " . قَالَ : ثُمَّ تَفَرَّقُوا[(16)].

[طَمَعُ الرَّسُولِ فِي إسْلَامِ أَبِي طَالِبٍ، وَحَدِيثُ ذَلِكَ ]
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : " وَاَللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي، مَا رَأَيْتُكَ سَأَلْتَهُمْ شَطَطًا"، قَالَ : فَلَمَّا قَالَهَا أَبُو طَالِبٍ طَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي إسْلَامِهِ،
فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: « أَيْ عَمِّ، فَأَنْتَ فَقُلْهَا أَسْتَحِلَّ لَكَ بِهَا الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
قَالَ : فَلَمَّا رَأَى حِرْصَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِ، قَالَ :" يَا ابْنَ أَخِي، وَاَللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ السُّبَّةِ عَلَيْكَ وَعَلَى بَنِي أَبِيكَ مِنْ بَعْدِي، وَأَنْ تَظُنَّ قُرَيْشٌ أَنِّي إنَّمَا قُلْتهَا جَزَعًا مِنْ الْمَوْتِ لَقُلْتهَا لَا أَقُولُهَا إلَّا لِأَسُرَّكَ بِهَا" . قَالَ :
فَلَمَّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَ : نَظَرَ الْعَبَّاسُ إلَيْهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، قَالَ : فَأَصْغَى إلَيْهِ بِأُذُنِهِ، قَالَ : فَقَالَ :" يَا ابْنَ أَخِي. وَاَللَّهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ الَّتِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا "، قَالَ :
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « لَمْ أَسْمَعْ ».

[ مَا نَزَلَ فِيمَنْ طَلَبُوا الْعَهْدَ عَلَى الرَّسُولِ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ ]
قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّهْطِ الَّذِينَ كَانُوا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ وَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا رَدُّوا: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر } * { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاق }[(17)] إلَىٰ قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب } * { وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَاد }* { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَق }[(18)]. ثُمَّ هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ ".[(19)].
فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْأَذَىٰ مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتَّىٰ اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَثَرَ عَلَىٰ رَأْسِهِ تُرَابًا..
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِيهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ : " لَمَّا نَثَرَ ذَلِكَ السَّفِيهُ عَلَىٰ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ التُّرَابَ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَىٰ رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إلَيْهِ إحْدَىٰ بَنَاتِهِ، فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التُّرَابَ وَهِيَ تَبْكِي، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لَهَا : « لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكَ ». قَالَ : وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ : « مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّىٰ مَاتَ أَبُو طَالِبٍ »[(20)].
اقول(الرمادي):" وحال رسول الله المؤيد من السماء يشبه حال أمته اليوم؛ ويفهم من الحديث أنه ما قام بعمل مادي.. من قتل أحد أو الإنتقام من الأبرياء ردا على ما فعله السفهاء به -عليه السلام- وهذا ما أردت تبيانه من مقدمة هذا الباب.. لذا فكل ما يحدث من افعال مادية وتصرفات عدوانية خطأ يخالف طريقته وسنته وهديه زمن العهد المكي؛ ونحن جميعاً اشبه ما نكون في هذه المرحلة!

ثُمَّ تُوُفِّيَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ
يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون }[(21)].. أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ.. وَ
نَزَلَ فِيهِ : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }[(22)] .
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ }[(23)] قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَنْأَى عَنْهُ .

وَقَالَ مَعْمَرٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: « „ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ،
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « [أَيْ] يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [ كلمةً] أُحَاجُّ[(24)] لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ » .
فَقَالَا [أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.] :" أَيْ [يَا] أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ! ".. قَالَ : [ فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ ]..
فَكَانَ آخَرَ كَلِمَةٍ أَنْ قَالَ : "عَلَى مِلَّةِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ "،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:« لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ [عَنْهُ] »، فَنَزَلَتْ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم }[(25)] الْآيَتَيْنِ ، وَنَزَلَتْ : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }[(26)] رواية مسلم .. وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ .
و
أبو طالب.. عمه كان السند الاجتماعي المهم.. والسند السياسي لرسول الله[(27)]
وعليه فإن أبا طالب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات كافراً، لا يوجد في ذلك خلاف معتبر بين أهل العلم، وقد روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه[(28)] ما أثبته.
و
تتبقىٰ مسألة:
.. زوجته « فاطمة بنت أسد » مِن أوائل الداخلين في الإسلام، وكيف سمح الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببقائها علىٰ ذمته لحين وفاته؟".
والإجابة عن هذه المسألة :
أما سَمَاحُه -صلى الله عليه وسلم- ببقاء «فاطمة بنت أسد» في عصمة أبي طالب، فإن ذلك كان قبل تحريم بقاء المؤمنات تحت الكفار، لأن أبا طالب مات عام الحزن(!)، وهو قبل الهجرة بثلاث سنين، وتحريم بقاء المؤمنات في عصم الكفار نزل في صلح الحديبية عام ستة من الهجرة.
أخرج الشيخان عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءت نساء من المؤمنات، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ }... إلىٰ قوله تعالىٰ: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ }[(29)]
وأخرج الواحدي عن ابن عباس قال: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية علىٰ أن مَن أتاه مِن أهل مكة رده إليهم.. ومَن أتىٰ مِن أهل مكة مِن أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك كتاباً وختموه، فجاءت : « „سبيعة بنت الحارث الأسلمية” » بعد الفراغ من الكتاب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافراً، فقال: "يا محمد رد علي امرأتي، فإنك قد شرطت علينا أن ترد علينا مَن أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد"، فأنزل الله هذه الآية... ومن بعد إذنه تعالىٰ سابحث صُلح الحديبية في قابل الأيام.. إن شاء الله!
فوفاةُ أبي طالب، ونزول تحريم بقاء المؤمنات في عصم الكفار بينهما تسع سنين. والله أعلم.".[(30)]
وَقَدْ حَكَى عَنْ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُمَنَافٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ، قَالَ :" كُنْتُ بِذِي الْمَجَازِ مَعَ ابْنِ أَخِي، فَعَطِشْتُ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ، فَأَهْوَىٰ بِعَقِبِهِ إِلَىٰ الْأَرْضِ ، فَنَبَعَ الْمَاءُ فَشَرِبْتُ ".
وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، قَالَ: " لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَسُودُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بِمَالٍ، إِلَّا:
- أَبُو طَالِبٍ وَ
- عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ".
وَلِأَبِي طَالِبٍ شِعْرٌ جَيِّدٌ مُدَوَّنٌ فِي السِّيرَةِ وَغَيْرِهَا .
وَفِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ ، قَالَ : " رَأَيْتُ عَلِيًّا ضَحِكَ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ حَتَّىٰ بَدَتْ نَوَاجِذُهُ "، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ: " ظَهَرَ عَلَيْنَا أَبُو طَالِبٍ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُصَلِّي بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَقَالَ : "مَاذَا تَصْنَعَانِ يَا ابْنَ أَخِي ؟ "، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: "مَا بِالَّذِي تَصْنَعَانِ مِنْ بَأْسٍ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَعْلُونِي اسْتِي أَبَدًا"، فَضَحِكْتُ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِ أَبِي.
وَرَوَى مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قُرَيْشًا أَظْهَرُوا لِبَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ الْعَدَاوَةَ وَالشَّتْمَ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ رَهْطَهُ، فَقَامُوا بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَدْعُونَ اللَّهَ عَلَىٰ مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: " إِنْ أَبَى قَوْمُنَا إِلَّا الْبَغْيَ عَلَيْنَا فَعَجِّلْ نَصْرَنَا، وَحُلْ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الَّذِي يُرِيدُونَ مِنْ قَتْلِ ابْنِ أَخِي، ثُمَّ دَخَلَ بِآلِهِ الشِّعْبَ" .
عَنِ الْعَبَّاسِ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:" مَا تَرْجُو لِأَبِي طَالِبٍ ؟ ". قَالَ :« كُلَّ الْخَيْرِ مِنْ رَبِّي » .

قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَّةٌ عَنِّي حَتَّى مَاتَ عَمِّي » .
كَاعَّةٌ : جَمْعٌ كَائِعٍ، وَهُوَ الْجَبَانُ، يُقَالُ : كَعَّ : إِذَا جَبُنَ وَانْقَبَضَ .
وَعَنْأَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: « „ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَمِّهِ : « قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ » فَقَالَ :" لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ : إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْجَزَعُ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }[(32)].
عَنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: « „ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ (!؟)، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ ؟ ". قَالَ : « نَعَمْ . هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ »[(33)]
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : يَقُولُ: وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: « لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَجُعِلَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ »[(34)].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « „ أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ” » [(35)].
وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: « „ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ : " إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ ". قَالَ : « اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي » . فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ ، ثُمَّ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهِنَّ مَا عَلَىٰ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ ” »[(36)] .. عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَزَادَ بَعْدَ اذْهَبْ فَوَارِهِ : فَقُلْتُ : إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا .
قَالَ : « اذْهَبْ فَوَارِهِ »، وَفِي حَدِيثِ تَصْرِيحِ السَّمَاعِ مِنْ نَاجِيَةَ قَالَ : شَهِدْتُ عَلِيًّا يَقُولُ . وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ مُتَّصِلٌ .
وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ : لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَفِيهٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا ، فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ ، فَأَتَتْ بِنْتُهُ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَتَبْكِي فَجَعَلَ يَقُولُ : " أَيْ بُنَيَّةُ لَا تَبْكِينَ ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ " ، وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ : " مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ . [(37)]غَرِيبٌ مُرْسَلٌ .
وَرُوِيَ عَنِابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَارَضَ جِنَازَةَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ : " وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يَا عَمِّ وَجُزِيتَ خَيْرًا " . تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الْخُوَارِزْمِيُّ. وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَرْوِي عَنْهُ عِيسَى غُنْجَارٌ، وَالْفَضْلُ السِّينَانِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : ثُمَّ إِنَّخَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَبَا طَالِبٍ مَاتَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَصَائِبُ بِهَلَاكِهِمَا .
وَكَانَتْ خَدِيجَةُ وَزِيرَةُ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ ، كَانَ يَسْكُنُ إِلَيْهَا .
وكانت :" السند العاطفي والقلبي المهم جدًّا لرسول الله ".. ؛ بل المالي له؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ[(38)]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمراء الشِّدق: الشدق جانب الفم ممَّا تحت الخد؛ والمعنى: أنها عجوز كبيرة جدًّا حتى قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبقَ لشدقها بياض شيء من الأسنان إنما بقي فيه حمرة لثاتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ -عز وجل- بِهَا خَيْرًا مِنْهَا. قَالَ: « مَا أَبْدَلَنِي اللهُ -عز وجل- خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ -عَزَّ وجلَّ- وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ»[(39)]
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَنَّهُمَا تُوُفِّيَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَتُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَبِي طَالِبٍ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا .
روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -رحمه الله- قال: ( تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ )[(40)]
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ الْحَاكِمُ أَنَّ مَوْتَهَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أَيَّامِ ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ .
وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ الْأَسْدِيَةُ .
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : كَانَتْ تُدْعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الطَّاهِرَةَ، وَأُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمِّ الْعَامِرِيَّةُ. وَكَانَتْ خَدِيجَةُ تَحْتَ أَبِي هَالَةَ بْنِ زُرَارَةَ التَّمِيمِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِي هَالَةَ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ عَتِيقُ بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، ثُمَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : بَلْ تَزَوَّجَهَا أَبُو هَالَةَ بَعْدَ عَتِيقٍ . وَكَانَتْ وَزِيرَةَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ : تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، وَقِيلَ : كَانَ مَوْتُهَا فِي رَمَضَانَ، وَدُفِنَتْ بِالْحَجُونِ، وَقِيلَ : إِنَّهَا عَاشَتْ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً .
وَقَالَ الزُّبَيْرُ : تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَقَامَتْ مَعَهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً .
قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ لَمْ يَكَدْ يَسْأَمُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهَا، وَاسْتِغْفَارٍ لَهَا، فَذَكَرَهَا يَوْمًا، فَاحْتَمَلَتْنِي الْغَيْرَةُ، فَقُلْتُ : لَقَدْ عَوَّضَكَ اللَّهُ مِنْ كَبِيرَةِ السِّنِّ، فَرَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَبًا أَسْقَطْتُ فِي خَلَدِي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ أَذْهَبْتَ غَضَبَ رَسُولِكَ عَنِّي لَمْ أَعُدْ إِلَى ذِكْرِهَا بِسُوءٍ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لَقِيتُ قَالَ : « كَيْفَ قُلْتِ، وَاللَّهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِيَ النَّاسُ، وَآوَتْنِي إِذْ رَفَضَنِي النَّاسُ، وَصَدَقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَرُزِقْتُ مِنْهَا الْوَلَدُ، وَحُرِمْتُمُوهُ مِنِّي»، قَالَتْ : فَغَدَا وَرَاحَ عَلَيَّ بِهَا شَهْرًا .
عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ مِنْ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا، وَمَا تَزَوَّجَنِي إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ[(41)] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ .
وَعَنْ أَبِي زُرْعَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: « „ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : " هَذِهِ خَدِيجَةُ، أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ ” »[(42)]
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ : سَمِعْتُ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: « „ خَيْرُ نِسَائِهَا : خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ” »[(43)].
ومن الدقة العلمية في كتابة السيرة؛ ومن حسن وإحسان عرضها؛ فقد أخطأتُ في سرد أحدثها-كما سبق ونوهت- إذ بعد هلاك أبي طالب؛ عبدمناف بن عبدالمطلب كان ينبغي أن أتحدث عن :

:" سَعْيُ الرَّسُولِ إلَىٰ ثَقِيفٍ يَطْلُبُ النُّصْرَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْأَذَىٰ مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَىٰ الطَّائِفِ، يَلْتَمِسُ النُّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) شرح الغريب:"
قَوْلُهُ : (أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْغَرْغَرَةِ
قَوْلُهُ : ( أُحَاجُّ ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَأَصْلُهُ أُحَاجِجُ، وفِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ جاء بِلَفْظِ:" أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ". وَكَأَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهِمَ مِنَ امْتِنَاعِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ لِوُقُوعِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ لَهُ الْمُحَاجَجَةَ. وَأَمَّا لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ إِذْ لَمْ يَحْضُرْهُ حِينَئِذٍ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَيَّبَ قَلْبَهُ بِأَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِهَا فَيَنْفَعَهُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ : فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : " لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ ... يَقُولُونَ : " مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ".. لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ " وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ .
قَوْلُهُ : فَنَزَلَتْ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم } . وَنَزَلَتْ { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }
أَمَّا نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَوَاضِحٌ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ ، وَ
أَمَّا
نُزُولُ الَّتِي قَبْلَهَا فَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ نَزَلَتْ بَعْدَ أَبِي طَالِبٍ بِمُدَّةٍ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ..} الْآيَةَ . وَأَنْزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ " قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } وَ
هَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ. وَيُضَعِّفُ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَسْعُودِيِّ [ الْمَسْعُودِيُّ الْمُؤَرِّخُ شِيعِيٌّ قُحٌّ مِنْ دُعَاتِهِمْ] أَنَّهُ أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحِ . ".
:" ولقد اختلف المؤرِّخون في تحديد الذي مات أولًا؛
هل هو أبو طالب، أم خديجة -رضي الله عنها-؟
فمنهم مَنْ قدَّم موت أبي طالب لأنَّه حدث بعد الخروج من الشِّعْب بستَّة أشهر؛ أي أنَّه حدث في رجب من السنة العاشرة، ثمَّ كانت وفاة خديجة رضي الله عنها؛ لأنَّه اشتُهر أنَّه حدث في رمضان من السنة العاشرة للنبوَّة. ومنهم مَنْ قدَّم وفاة خديجة -رضي الله عنها-، وجعل موت أبي طالب في شوال بعد خديجة بخمسة وثلاثين يومًا كما جاء في بعض الروايات، والمسألة فيها تفصيل وبحوث وإن كانت لا تهمُّ كثيرًا؛ لأنَّ المصيبتين حدثتا في وقتٍ قريبٍ جدًّا من بعضهما البعض، وكانت آثارهما مشتركة.
والموت بصفةٍ عامَّةٍ مصيبةٌ كما سمَّاه الله -عزَّ وجلَّ- في كتابه العزيز؛ حيث نطق القرآن الكريم فقال: ﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ﴾ ولكن إن كان الموت بصفة عامة مصيبة فموت السيدة خديجة وأبي طالب كان مصيبة كبيرة جدًّا، وخاصة لقربهما -زمنياً- مِن بعضهما البعض، مما جعل(!؟) رسول الله -وهو الذي اشتهر بالتفاؤل والتخفيف عن أصحابه- يطلق علىٰ هذا العام الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة وهو العام العاشر مِن النبوة، يطلق عليه عام الحزن(!!).[(7)]
ولكن موت هذين السندين الكبيرين جعل المصيبة أعظم؛ خاصَّةً لقرب موتهما من بعضهما البعض؛ ممَّا جعل المؤرخين يُطلقون على العام العاشر من النبوَّة: «عامَ الحزن»، وذكر بعضهم؛ قال ثعلب: «مات أبو طالب وخديجة في عامٍ واحد وهو عام الهجرة، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن». وقال ابن سيده: «وعام الحزن: العام الذي ماتت فيه خديجة وأبو طالب فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن حكى ذلك ثعلب عن ابن الأعرابي». وقال القسطلاني: «وكان صلى الله عليه وسلم يُسمِّي ذلك العام عام الحزن، فيما ذكر صاعد». أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أطلق هذه التسمية، ولكنِّي لم أجد دليلًا بسندٍ صحيحٍ يُؤَكِّد ذلك.".
فإنّ تسمية هذا العام بـ( عام الحزن ) إنّما هي تسمية أهل العلم له، ولم ترِد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، ولا وجود لها في شيء من مصادر السنّة الموثوقة، فلا يجوز نسبتها إليه كما فعله كثير من المصنِّفين.
والمصدر الوحيد الّذي ذكر أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أطلق على هذا العام بأنّه عام الحزن هو " المواهب اللّدنيّة " للقسطلاني -رحمه الله-، وحين روى ذلك لم يزد على أن قال:" فيما ذكره صاعد "!
وصاعد هذا هو ابن عبيد البجليّ - كما قال الزّرقاني -رحمه الله- في "شرحه" عليه (1/244) -، وهو مجهول لا يُعرف، ولم يوثّقه أحد، ولو سلّمنا أنّه ثقة حافظ - وهو ليس كذلك - فيكون الإسناد معضلا.
فلماذا أطلق أهل العلم هذه التّسمية على هذا العام ؟
كان ذلك في السّنة العاشرة من البعثة ..
إنّه العام الّذي تُوُفِّيت فيه خديجة -رضي الله عنها-، وأبو طالب، وكان بين وفاة خديجة وأبي طالب شهر وخمسة أيّام[(44)]. ".


(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) يتفق الجميع -سُنة وشيعة.. مسلمون ومستشرقون- على أن في سيرة نبي آخر الزمان والرسول الخاتم للمرسلين ومتمم الأنبياء وفي حياة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم شخصيات محورية لعبت دوراً هاماً وجوهرياً.. مفصلياً محورياً.. مما يستلزم مني تخصيص في نهاية البحوث مقالات عن تلك الشخصيات المحورية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بُحُوثٌ ﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء؛ وإدراك مع فهم أحاديث الأحكام لسيد ولد آدم وآخر المرسلين ومتمم الأنبياء والمبتعثين ﴾
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ... أحداثُ » بعثة النبي - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - والدعوة في مكة« : [عَهْدِ النُّبُوَّةِ: الْعَهْدُ الْمَكِّيِّ]
[ ٧ ] الْبَابُ السَّابِعُ : „ ما أطلق عليه: عَامُ الْحُزْنِ ” .
قَرَاءَها وَرَاجَعَها ثمَّ جَمَعَهَا فَكَتَبَهَا: د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِـ مِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَىٰ - غَفَرَ اللَّهُ - سبحانه وتعالىٰ - لِوَالِدَيْهِ وَلَهُ وَمُعَلِمِيهِ وَمَشَايخِهِ وكلِ مَن له فضلٌ عليه وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
حُرِّرَ في يوم الجمعة: ٤ مِن الربيع الثاني ١٤٤٢ مِن هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ومتمم المبتعثين ~ الموافق ٢٠ مِن شهر نوفمبر عام ٢٠٢٠ مِن الميلاد العجيب للسيد المسيح؛ الرسول ابن مريم العذراء البتول - عليهما السلام - والذي بشر بمبعث النبي والرسول أحمد.

أعلى الصفحة
فهرس

[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ:
أحداثٌ فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ الْعَهْدُ الْمَكِّيِّ(*):
[ ٦ ] الْبَابُ السَّادِسُ :العام: „ 4 ق.هـ ~ 618 م ”
„ وفود نجران ” [(1)]
أولُ وفدٍ إلىٰ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-

أَمْرُ وَفْدِ النَّصَارَىٰ الَّذِينَ أَسْلَمُوا[(2)].. وقد كان أهل مكة حينما عجزوا عن أمرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يتمكنوا مِن مقارعة الحجة بالحجة؛ رموه بالسحر مرةً، وبالكذب أخرىٰ، وبالجنون طوراً، وبالكهانة تارة. كل ذلك شأن العاجز المُعاند الذي لا يستحي لمزيد عِناده أن يقول: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم} [(3)]
:" أولُ وفدٍ إلىٰ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-[(4)] "... أَمْرُ وَفْدِ النَّصَارَىٰ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [(5)]
وفي غمرة ما كان يلاقيه النبي -صلّى الله عليه وسلم- وأصحابه مِن العذاب والإيذاء.. وفدَ إلىٰ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- أولُ وفدٍ مِن خارج مكة لفهم شيء عن الإسلام. وكانوا بضعة وثلاثين(!) رجلا مِن نصارىٰ الحبشة جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب لدىٰ عودته إلىٰ مكة. فلما جلسوا إلىٰ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- واطّلعوا علىٰ صفاته وأحواله وسمعوا ما تُلي عليهم مِن القرآن، آمنوا كلهم،[(6)]
هذه رواية .. وأما الآخرىٰ..بعد الخروج مِن الشِّعب وفدَ من نصارىٰ نجران(**) وفدٌ علىٰ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلغهم خبرُهُ مِن مهاجري الحبشة، فسارعوا بالقدوم عليه حتىٰ يروا صفاته مع ما ذكر منها في كتبهم[(7)]، فَـ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِمَكَّةَ ، عِشْرُونَ(!) رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ النَّصَارَىٰ، حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنْ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ(***) حَوْلَ الْكَعْبَةِ؛ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ.
فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعَيْنُهُمْ مِنْ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ، وَآمَنُوا بِهِ[(8)] [كلهم[(9)]] وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ[(10)].
ولعل هذا الوفد الأول.. إذاً هم :" ... وَفْدٌ مِنْ نَصَارَىٰ الْحَبَشَةِ اثْنَا عَشَرَ (!) رَجُلًا بَعْثَهُمُ النَّجَاشِيُّ لِاسْتِعْلَامِ أَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ فَجَلَسُوا إِلَىٰ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآمَنُوا بِهِ[(11)] ".
-**-
[ مُحَاوَلَةُ أَبِي جَهْلٍ رَدَّهَمُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَإِخْفَاقِهِ ] [(12)]
فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [ وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ قَرِيبًا مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُولُونَ..
[فــ] تَبِعَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ.. [(13)]]
[و] اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ [عَمْرو] بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُمْ : „ خَيَّبَكُمْ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ [ وَقَبَّحَكُمْ مِنْ وَفْدٍ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ صَدَّقْتُمُوهُ[(14)] ] بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ [فصبأتم[(15)]]، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ(****) مِنْكُمْ ”. -أَوْ كَمَا قَالُوا- .
فَقَالُوا لَهُمْ: „ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ[(16)] [وما اخترناه[(17)]] ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ، لَمْ نَأْلُ(*****) أَنْفُسَنَا خَيْرًا [رُشْدًا ] ”.[(18)] [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.
.. وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا أَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ، وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْضُ نَصَارَىٰ الْحَبَشَةِ لَمَّا وَفَدَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ، وَقَرَءُوا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَأَفْهَمُوهُمُ الدِّينَ[(19)] .
-**-
وَفْدُ نَصَارَىٰ الْحَبَشَةِ:
وَذَكَرَ قُدُومَ وَفْدِ النّصَارَىٰ مِنْ الْحَبَشَةِ وَإِيمَانَهُمْ وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: { الّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ } [(20)] وَلَمْ يَقُلْ مِنْ النّصَارَىٰ، وَلَا سَمّاهُمْ هُوَ -سُبْحَانَهُ- بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنّمَا حَكَىٰ قَوْلَهُمْ الّذِي قَالُوهُ حِينَ عَرَفُوا بِأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنّا بِهِ إِنّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} إلَىٰ قَوْلِهِ: { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ }[(21)]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِيمَنْ أُنْزِلْنَ فَقَالَ لِي: " مَا أَسْمَعُ مِنْ عُلَمَائِنَا أَنَّهُنَّ أُنْزِلْنَ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ.
وَالْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ : {.. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون }.. إلَى قَوْلِهِ {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين}[(22)]
-**-
[ مَوَاطِنُهُمْ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ ]
وَيُقَالُ : إنَّ النَّفَرَ مِنْ النَّصَارَىٰ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ.
فَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ .
فَيُقَالُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُون}* {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين} * {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} * {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين} [(23)] [(24)]
-**-
(*) اقول(الرمادي):" تعددت الروايات في هذه المسألة مما يلزمني إلىٰ إعادة نظر مع مراجعة وتحقيق وتدقيق؛ وسابحثها مِن بعد إذنه-عز وجل- في مسائل العهد المدني من سيرته العطرة عليه السلام -إن شاء الله تعالىٰ".
-**-
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير الغريب :
(**) نَجْران: بفتح النون وإسكان الجيم: بلدة معروفة، كانت منزلا للنصارىٰ، وهي بين مكة واليمن علىٰ نحو سبع مراحل من مكة. قال الجوهري في صحاحه: نجران بلدة من اليمن (انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3/ 176) ؛ وانظر ايضا: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيد الناس، اليعمري الربعي، أبو الفتح، فتح الدين (المتوفى: 734هـ)؛ عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير؛ تعليق: إبراهيم محمد رمضان).
(***) الأندية: جمع ناد وهو متحدث القوم. يرتادون لهم: يطلبون لهم الأخبار.
(****) الحمْق: بإسكان الميم وضمها: قلة العقل.
(*****) لم نأل أنفسنا خيرا: أي لم نقتصر بها عن بلوغ الخير، يقال ما ألوت، أي ما فعلت كذا وكذا، أي ما قصرت. [(25)]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بُحُوثٌ ﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء؛ وإدراك مع فهم أحاديث الأحكام لسيد ولد آدم وآخر المرسلين ومتمم الأنبياء ﴾
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ... أحداثُ » بعثة النبي - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - والدعوة في مكة« : [عَهْدِ النُّبُوَّةِ: الْعَهْدُ الْمَكِّيِّ]
[ ٦ ] الْبَابُ السَّادِسُ : „ وفود نجران ” . أَمْرُ وَفْدِ النَّصَارَىٰ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.
قَرَاءَها وَرَاجَعَها ثمَّ جَمَعَهَا فَكَتَبَهَا: د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِـ مِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - غَفَرَ اللَّهُ - سبحانه وتعالىٰ - لِوَالِدَيْهِ وَلَهُ وَمُعَلِمِيهِ وَمَشَايخِهِ وكلِ مَن له فضلٌ عليه وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
حُرِّرَ في يوم الثلاثاء: ٢٤ من الربيع الأول ١٤٤٢ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ومتمم المبتعثين ~ الموافق ١٠ من شهر نوفمبر عام ٢٠٢٠ من الميلاد العجيب للسيد المسيح؛ الرسول ابن مريم العذراء البتول - عليهما السلام -.الذي بشر بمبعث النبي والرسول أحمد.

أعلى الصفحة
فهرس

[ ٥ ] الْبَابُ الْخَامِسُ: الــمَسِيرُ إِلَىٰ „الطَّائِفُ‟

التَّمْهِيدُ :
قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ }[( )] يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ. وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ .. وَالْمَعْنَىٰ أَعْطَيْنَاهُمْ أَمْوَالًا لِيَشْكُرُوا لَا لِيَبْطَرُوا؛ فَلَمَّا بَطِرُوا وَعَادَوْا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ كَمَا بَلَوْنَا أَهْلَ الْجَنَّةِ الْمَعْرُوفِ خَبَرُهَا عِنْدَهُمْ. وَ
ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ عَلَىٰ فَرَاسِخَ [الفرسخ الواحد يعادل: 079 ,5 كيلومتر] مِنْ صَنْعَاءَ - وَيُقَالُ بِفَرْسَخَيْنِ - وَكَانَتْ لِرَجُلٍ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ -تَعَالَى- مِنْهَا؛ فَلَمَّا مَاتَ صَارَتْ إِلَىٰ وَلَدِهِ، فَمَنَعُوا النَّاسَ خَيْرَهَا وَبَخِلُوا بِحَقِّ اللَّهِ فِيهَا؛ فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُ مَا حَلَّ بِهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: „ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَنْعَاءَ فَرْسَخَانِ ؛ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ أَحْرَقَ جَنَّتَهُمْ ‟. وَ
قِيلَ : هِيَ جَنَّةٌ بِــ„ ضَوْرَانَ ‟ ، وَ „ ضَوْرَانُ ‟ عَلَىٰ فَرْسَخٍ مِنْ صَنْعَاءَ ، وَكَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْجَنَّةِ بَعْدَ رَفْعِ „ عِيسَىٰ ‟ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِيَسِيرٍ - وَكَانُوا بُخَلَاءَ - فَكَانُوا يَجُدُّونَ التَّمْرَ لَيْلًا مِنْ أَجْلِ الْمَسَاكِينِ، وَكَانُوا أَرَادُوا حَصَادَ زَرْعِهَا وَقَالُوا: لَا يَدْخُلُهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، فَغَدَوْا عَلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدِ اقْتُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ؛ أَيْ كَاللَّيْلِ. وَ
يُقَالُ أَيْضًا لِلنَّهَارِ صَرِيمٌ. فَإِنْ كَانَ أَرَادَ اللَّيْلَ فَلِاسْوِادِ مَوْضِعِهَا. وَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَوْضِعَهَا حَمْأَةً. وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالصَّرِيمِ النَّهَارَ فَلِذَهَابِ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَنَقَاءِ الْأَرْضِ مِنْهُ. وَكَانَ „ الطَّائِفُ ‟ الَّذِي طَافَ عَلَيْهَا „ جِبْرِيلُ ‟ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَاقْتَلَعَهَا. فَيُقَالُ : إِنَّهُ طَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ ثُمَّ وَضَعَهَا حَيْثُ مَدِينَةَ „ الطَّائِفِ ‟ الْيَوْمَ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الطَّائِفُ . وَلَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ بَلْدَةٌ فِيهَا الشَّجَرُ وَالْأَعْنَابُ وَالْمَاءُ غَيْرَهَا . وَ
قَالَ الْبَكْرِيُّ فِي الْمُعْجَمِ : „ سُمِّيَتِ الطَّائِفُ لِأَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّدِفِ يُقَالُ لَهُ الدَّمُونُ، بَنَى حَائِطًا وَقَالَ: „ قَدْ بَنَيْتُ لَكُمْ طَائِفًا حَوْلَ بَلَدِكُمْ ‟؛ فَسُمِّيَتِ الطَّائِفُ ‟. وَاللَّهُ أَعْلَمُ . [( )]
أبدءُ مع حضراتكم تمهيد بحوث خروج نبي آخر الزمان مِن مكة -مسقط رأسه وموطنه- المكرمة مهاجراً.. أحداث ما قبل الهجرة النبوية؛ وتحقيق ما قاله القس ورقة بن نوفل في اللحظات الأولىٰ من بعثته -عليه السلام- فَقد: " قَالَ وَرَقَةُ[( )] „ هَذَا –عن أول خمس آيات نزلت علىٰ قلب محمد في غار حراء من سورة الفلق- النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَىٰ مُوسَىٰ .. يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ „ يُخْرِجُكَ ‟ قَوْمُكَ.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- „ أَوَمُخْرِجِيَّ ‟ هُمْ !؟.. فَقَالَ وَرَقَةُ „ نَعَمْ.. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ.. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا[( )] ‟ ". [هذه رواية الإمام البخاري في صحيحه؛ كتاب التعبير » باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة؛ جزء: (6)؛ صفحة: (2561)؛ من رواية أم المؤمنين أم عبدالله عائشة بنت أبي بكر -رضي الله تعالى عنهما]
[ ٥ . ١ . ] سنة الخروج :
لم يتفق علماءالسيرة علىٰ تحديد بدقة خُرُوج النَّبِي -صلىٰ الله عَلَيْهِ وَسلم- إِلَىٰ الطَّائِف؛ فمنهم مَن قال :
[ ١ . ] القول الأول : قبل الهجرة بقليل - 0 ق. هـ .~ 621 م. سنة عشر مِن النُّبُوَّة[( )]
[ ٢ . ] القول الثاني : ومنهم مَن قال في العام الثالث قبل الهجرة [ 3 ق. هـ. ]؛ وهنا يمكن القول عن الشهر القمري: أنه شوال؛ ما يقابل العام الميلادي: 620 م[( )]
ويتفق الجميع علىٰ الخروج إلىٰ الطائف كان بعد موت عمه وزوجه خديجة-رضي الله تعالى عنها-:
[ ٣ . ] القول الثالث :" وَخُرُوجُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَىٰ الطَّائِفِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ ، كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] [( )]
[ ٥ . ٢ . ] سبب الخروج:
[خَبَرُ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَىٰ الطَّائِفِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ إِلَىٰ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ..
[ ١ . ] السبب العام الأول : عَرْض نَفْسَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزكية عَلَىٰ الْقَبَائِلِ[( )]
[ ٢ . ] يَلْتَمِسُ النُّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، والمنعة بهم مِن قومه، ورجاءَ أن يقبلوا منه ما جاءهم به مِن اللهّٰ -تعالى-. [( )]
وذلك بعد :
[ أ . ] اشْتِدَادِ الْأَذَىٰ عَلَيْهِ؛ وَ
[ ب . ] عَلَىٰ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ[( )]...
لما مَاتَ عَمه أَبُو طَالب وَزَوجته خَدِيجَة وذوت مِن شَجَرَة إعانتهما لَهُ أوراقها البهيجة.. لزم الْبَيْت.. وَأَقل الْخُرُوج.. وأسف عَلَيْهِمَا أسفاً يضطرب بحره ويموج.. ونالت مِنْهُ قُرَيْش وقابلوه بالخفة والطيش[( )]. فــ
« لَمَّا رَأَى عَلِيْهِ -الصَّلاَةُ وَالسّلامُ- اِسْتِهانَةَ قُرَيْشٍ بِهِ؛ أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَىٰ ثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ يَرْجُو مِنْهُمْ:
[ أ . ] نُصْرَتَهُ عَلَىٰ قَوْمِهِ وَ
[ ب . ] مُسَاعَدَتَهُ حَتَّىٰ يُتَمِّمَ أَمْرَ رَبِّهِ، لِأَنَّهُمْ أقْرَبُ النَّاسِ إِلَىٰ مَكَّةَ، وَلَهُ فِيهِمْ خُؤُولَةٌ. فَــ
لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ مَوْلَاهُ زَيْدٌ بْنُ حارِثَةَ، قَابَلَ رُؤَسَاءَهُمْ وَكَانُوا ثَلاثَةً.. فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نُصْرَتَهُ حَتَّىٰ يُؤَدِّيَ دَعْوَتَهُ. فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَدَّا قَبِيحًا، وَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ خَيْرًا[( )].
[ ٥ . ٣ . ] تعرضه -الصَّلاَةُ وَالسّلامُ- لإيذائهم[( )]
فقام رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم فيما ذكر: “ إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي“.[( )]
وكره رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- أن يبلغ قومه عنه، فيذئرِهُم ذلك عليه، فلم يفعلوا[( )]، وَحِينَذاكَ طَلَبَ مِنْهُمْ أَلَّا يُشِيعُوا ذَلِكَ عَنْه، كَيْلَا تَعْلَمَ قُرَيْشٌ فَيَشْتَدَّ أَذَاهُمْ، لِأَنَّهُ اِسْتَعَانَ عَلَيهِمْ بِأَعْدَائِهِمْ. فَلَمْ تَفْعَلْ ثَقِيفُ مَا رَجَاهُ مِنْهُمْ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسّلامُ-، بَلْ أَرْسَلُوا سُفَهَاءَهُمْ وَغِلْمَانَهُمْ [وعبيدهم] يسبونه و يصيحون به، حتىٰ اجتمع عليه الناس[( )]،يَقِفُونَ فِي وَجْهِهِ فِي الطَّرِيقِ وَيَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّىٰ أَدْمَوْا عَقِبَهُ »[( )].
[ ٥ . ٣ . ] رميه بالحجارة[( )]
قال موسى بن عقبة: قعدوا له صفين علىٰ طريقه، فلما مر رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتىٰ أدموا رجليه...
زاد سليمان التيمي: أنه -صلى اللهّٰ عليه وسلم- كان إذا أذلقته الحجارة، قعد إلىٰ الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشىٰ رجموه وهم يضحكون. [( )]
[ ٥ . ٤ . ] تفصيل الحادثة :
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَىٰ الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَىٰ قَدَمَيْهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ الْإِسْلَامِ، فَخرج مَعَه زيد بن حَارِثَة إِلَىٰ الطَّائِف وصدع بالدعوة غير وَجل وَلَا خَائِف فَلم يجبهُ مِنْهُم أحد[( )].. والطَّائفِ تَبعُد عن مكَّة نحوَ سِتِّينَ مِيلًا [ ٥٥٨,٩٦ كيلومترا]، سارها ماشِيًا علىٰ قَدميهِ جِيئةً وذِهابًا، ومعه مولاهُ زيدُ بنُ حارثةَ، وكان كُلَّما مَرَّ علىٰ قَبيلةٍ في الطَّريقِ دعاهُم إلىٰ الإسلامِ، فلمْ تُجبْ إليهِ واحدةٌ منها، فلمَّا انتهىٰ إلىٰ الطَّائفِ عَمَدَ إلىٰ رُؤسائِها فدعاهُم فلمْ يَستجيبوا له،
[ ٥ . ٥ . ] لقائه بكبراء ثقيف[( )]
فلما انتهىٰ إلىٰ الطائف عمد إلىٰ نفر من ثقيف وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم أخوة ثلاثة:
- عبد ياليل ، و
- مسعود ، و
- حبيب، بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- وكلمهم ما جاءهم له من نصرته علىٰ الإسلام والقيام معه علىٰ من خالف من قومه[( )].
[ ٥ . ٦ . ] ردهم عليه -صلى اللهّٰ عليه وسلم-[( )]
فقال له أحدهم وهو يمرط ثياب الكعبة: إن كان اللهّٰ أرسلك[( )]، و
قال الآخر: أما وجد اللهّٰ أحدًا يرسله غيرك؟[( )] و
قال الثالث: واللهّٰ لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا مِن اللهّٰ كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أراد عليك الكلام(!)، ولئن كنت تكذب علىٰ اللهّٰ ما ينبغي أن أكلمك(!)[( )].
[ ٥ . ٧ . ] المرأة مِن قريش مِن بني جمح!
وَعَنْ رَقِيقَةَ قَالَتْ : لَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْتَغِي النَّصْرَ بِالطَّائِفِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَأَمَرَتْ لَهُ بِشَرَابٍ مِنْ سَوِيقٍ ، فَشَرِبَ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :„ لَا تَعْبُدِي طَاغِيَتَهُمْ ، وَلَا تَصَلِّي إِلَيْهَا ‟ .
قُلْتُ : " إِذًا يَقْتُلُونِي "!
قَالَ : „ فَإِذَا قَالُوا لَكِ ذَلِكَ ، فَقُولِي : " رَبُّ هَذِهِ الطَّاغِيَةِ ، فَإِذَا صَلَّيْتِ فَوَلِّيهَا ظَهْرَكِ ‟ .
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِمْ ، قَالَتْ بِنْتُ رَقِيقَةَ : " فَأَخْبَرَنِي أَخَوَايَ سُفْيَانُ وَوَهَبُ ابْنَيْ قَيْسِ بْنِ أَبَانَ ، قَالَا : لَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ خَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : „ مَا فَعَلَتْ أُمُّكُمَا ‟؟ . قُلْنَا : " هَلَكَتْ عَلَىٰ الْحَالِ الَّتِي تَرَكْتَهَا قَالَ : " لَقَدْ أَسْلَمَتْ أُمُّكُمَا إِذًا "[( )] .
فأقام بين أهلِ الطَّائفِ عشرةَ أيَّامٍ، لا يَدَعُ أحدًا مِنْ أشرافهِم إلا جاءهُ وكَلَّمهُ، فقالوا : „ اخرُجْ مِن بلادِنا ” [( )].
وأَغْرَوْا به سُفهاءَهُم[( )]، وتشاءموا بقدوم طَائِره الميمون، فلمَّا أراد الخُروجَ تَبِعَهُ سُفهاؤهُم وعَبيدهُم يُسِبُّونَهُ ويُصيحونَ بهِ، حتَّىٰ اجتمع عَليهِ النَّاسُ، فوقَفوا له سِمَاطَيْنِ [أي صَفَّيْنِ] وجعلوا يَرمونهُ بالحِجارةِ، وبكِلماتٍ مِنَ السَّفَهِ، ورَجموا عَراقيبَهُ، حتَّىٰ اخْتَضَبَ نَعلاهُ بالدِّماءِ.
[ ٥ . ٨ . ] تحمل زيد بن حارثة[( )]
وقال ابن سعد: وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتىٰ لقد شج في رأسه شجاجًا.
وكان زيدُ بنُ حارثةَ يَقِيهِ بِنفسهِ حتَّىٰ أصابهُ شِجَاجٌ في رَأسهِ، ولم يزلْ بهِ السُّفهاءُ كذلك حتَّىٰ أَلجأوهُ إلىٰ حائطٍ [ بستان ] لــ :„ عُتبةَ ” ؛ و : „ شَيبةَ ابنيْ رَبيعةَ ” علىٰ ثلاثةِ أميالٍ [ ٨٢٧٩,٤ كيلومتر] مِنَ الطَّائفِ[( )].
[ ٥ . ٩ . ] استناده إلىٰ بستان[( )]
قال ابن عقبة: فخلص منهم ورِجْلَاهُ تسيلان دمًا، فعمد إلىٰ حائط من حوائطهم، فاستظل في ظل حَبلَة منه وهو مكروب موجع.
[ ٥ . ١٠ . ] صاحبا البستان[( )]
وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما للهّٰ ورسوله.
[ ٥ . ١١ . ] إفادته بقطف عنب[( )]
فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانًياّ يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلىٰ ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس.
[ ٥ . ١٢ . ] إقبال عداس بالقطف[( )]
ثم أقبل به حتىٰ وضعه بين يدي رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- ثم قال له: كل، فلما وضع رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- يده قال: “بسم اللهّٰ“، ثم أكل.
[ ٥ . ١٣ . ] استغراب عداس[( )]
فنظر عداس في وجهه، ثم قال: واللهّٰ إن هذا لكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
[ ٥ . ١٤ . ] محادثة الرسول لعداس[( )]
فقال له رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم-: „ ومن أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟ ‟ قال: " نصراني، وأنا من أهل نينوى"،
فقال له رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم-: „ من أهل قرية الرجل الصالح يونس بن متىٰ ‟،
قال له عداس: " وما يدريك ما يونس بن متىٰ؟! "
قال رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم-: „ ذاك أخي كان نبيًاّ، وأنا نبي ‟.
[ ٥ . ١٥ . ] تقبيل عداس للنبي -صلى اللهّٰ عليه وسلم-[( )]
فأكب عداس على رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم-يقبل رأسه ويديه وقدميه.
[ ٥ . ١٦ . ] محادثة عداس مع صاحبا البستان[( )]
فلما جاءهما عداس، قالا له: " ويلك ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه!؟"،
قال:" يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي"،
قالا:" ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه".
[ ٥ . ١٧ . ] رحمته -صلى اللهّٰ عليه وسلم- بهم[( )]
ورجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طريقِ مكَّة بعدَ خُروجهِ مِنَ الحائطِ كَئيبًا مَحزونًا، كَسيرَ القلبِ، فلمَّا بلغ قَرْنَ المنازلِ بعث الله إليه جبريلَ ومعه مَلَكُ الجبالِ، يَسْتَأْمِرُهُ أنْ يُطْبِقَ الأَخْشَبَيْنِ علىٰ أهلِ مكَّة، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: « „ بل أرجو أنْ يُخرجَ الله - عزَّ وجلَّ - من أصلابهِم مَنْ يَعبدُ الله - عزَّ وجلَّ - وحدَه لا يُشركُ بهِ شيئًا ” » .
وفي هذا الجوابِ الذي أَدلىٰ بهِ الرَّسولُ - صلىٰ الله عليه وسلم تَتجلَّىٰ شَخصيَّتُه الفَذَّةُ، وما كان عَليهِ من خُلُقٍ عَظيمٍ.
وجاء في الصحيح من حديث عائشة -رضي اللهّٰ عنها-، أنها قالت للنبي -صلى اللهّٰ عليه وسلم-: " هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ "،
فقال: „ لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي علىٰ ابن عبد ياَليِل بن عبد كلال فلم يجبني إلىٰ ما أردت، فانطلقت علىٰ وجهي وأنا مهموم، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني ‟، فقال: إن اللهّٰ قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، فقال: يا محمد ذلك لك فما شئت، وإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى اللهّٰ عليه وسلم-: „ بل أرجو أن يخرج اللهّٰ من أصلابهم من يعبد اللهّٰ لا يشرك به شيئاً ‟.[( )]،
.. فَلَمْ يُجِيبُوهُ ،
فَانْصَرَفَ فَأَتَىٰ ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّىٰ رَكْعَتَيْنِ بعد رَدِّ ثَقِيفٍ لَهُ رَدًّا قَبِيحًا، وَإِغْرَائِهِمُ السُّفَهَاءَ وَالْأَطْفَالَ بِهِ، حَتَّىٰ أَدْمَوْا قَدَمَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِجَارَةِ. فَتَوَجَّهَ إِلَىٰ رَبِّهِ بِذَلِكَ الِابْتِهَالِ الْمُؤَثِّرِ الْعَمِيقِ الْكَرِيمِ: "
* . ] " الدُّعَاءُ الْحَسَنُ[( )] ".
[وَمِنْ دُعَائِهِ يَوْمَ الطَّائِفِ: „ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ‟ ] .
ثُمَّ قَالَ : „ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي. أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى عَدُوٍّ [ بِعِيدٍ ] يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَمْ إِلَى قَرِيبٍ [عَدُوٍّ ] مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أُعُوذُ [بِنُورِ ] بِوَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ [ عَلَيَّ ] بِي سَخَطُكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [بِكَ ] ‟.
قَالَ عِنْد مَا لَقِي من أهل الطَّائِف من شدَّة الْبلَاء وَالْكرب مَا لَقِي: رب إِن لم يكن بك غضب على فَلَا أبالى. إِلَى آخر الدُّعَاء، فَكَانَ مَطْلُوبَة رضَا ربه، وَبِه كَانَت تهون عَلَيْهِ الشدائد ».
[ ٥ . ١٨ . ] إجارة الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ [( )]،
وذكر ابن هشام أن رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه لما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلىٰ حراء، ثم بعث إلىٰ الأخنس بن شر يق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير، فبعث إلىٰ سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامر لا تجير علىٰ بني كعب، فبعث إلىٰ المطعم بن عدي فأجابه إلىٰ ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتىٰ أتوا المسجد، ثم بعث إلىٰ رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- أن ادخل، فدخل رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- فطاف بالبيت وصلىٰ عنده، ثم انصرف إلىٰ منزله. ولأجل هذه السابقة التي سلفت للمطعم بن عدي، قال رسول اللهّٰ -صلى اللهّٰ عليه وسلم- في أسارى بدر: „ لو كان المطعم بن عدي حيًاّ ثم كلمني في هؤلاء النتنىٰ لتركتهم له ‟.[( )]،
حِينَ رَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الطَّائِفِ وَدَخَلَ فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْقِصَّةَ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطَةً ، وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهَا الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مُرْسَلٍ وَفِيهِ " أَنَّ الْمُطْعِمَ أَمَرَ أَرْبَعَةً مِنْ أَوْلَادِهِ فَلَبِسُوا السِّلَاحَ ، وَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ رُكْنٍ مِنَ الْكَعْبَةِ . فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَقَالُوا لَهُ : أَنْتَ الرَّجُلُ الَّذِي لَا تُخْفَرُ ذِمَّتُكَ ".«
وَأَقَامَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-) بِنَخْلَةٍ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ - يَعْنِي قُرَيْشًا - وَهُمْ أَخْرَجُوكَ؟ فَــ
قَالَ: « يَازَيْدُ إِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ ». ثُمَّ انْتَهَىٰ إِلَى حِرَاءَ فَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ إِلَىٰ مُطْعِمٍ بْنِ عَدِيٍّ: « أَدْخُلُ فِي جِوَارِكَ؟ » فَقَالَ: نَعَمْ، وَدَعَا بَنِيهِ وَقَوْمَهُ فَقَالَ: تَلَبَّسُوا السِّلَاحَ، وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ فَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ».
:" وَفِي مطعم يَقُول حسان بن ثَابت من أَبْيَات
أجرت رَسُول الله مِنْهُم فَأَصْبحُوا * عبيدك مَا لبّى مهل وأحرما
فَلَو كَانَ مجدا يخلد الدَّهْر وَاحِدًا * مِن النَّاس أبقى مجده الدَّهْر مطعما[( )]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بُحُوثٌ ﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء؛ وإدراك مع فهم أحاديث الأحكام لسيد ولد آدم وآخر المرسلين ومتمم الأنبياء ﴾
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ... أحداث العهد المكي!
قَرَاءَها وَرَاجَعَها ثمَّ جَمَعَهَا فَكَتَبَهَا: د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِـ مِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - غَفَرَ اللَّهُ - سبحانه وتعالىٰ - لِوَالِدَيْهِ وَلَهُ وَمُعَلِمِيهِ وَمَشَايخِهِ وكلِ مَن له فضلٌ عليه وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
»ذكر بعثة النبي - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - والدعوة في مكة«
المرحلة المكية: أحداث السَنَةَ الثَالِث قبل الهجرة.
[ ٥ ] الْبَابُ الْخَامِسُ: الــ مَسِيرُ إِلَىٰ الطَّائِفِ...
خُروجُ رسولِ الله -صلَّى الله عَليهِ وسلَّم- إلىٰ الطَّائفِ .
حُرِّرَ في يوم الأحد: ٨ من الربيع الأول ١٤٤٢ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ومتمم المبتعثين ~ الموافق ٢٥ من شهر أكتوبر عام ٢٠٢٠ من الميلاد العجيب للسيد المسيح؛ الرسول ابن مريم العذراء البتول - عليهما السلام -.الذي بشر بمبعث النبي والرسول أحمد

أعلى الصفحة
فهرس

الْمُقَاطَعَةِ
[ ٤ ] الْبَابُ الرَّابِعُ : [ مُقَاطَعَةُ قُرَيْشٍ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ: ]
أحداث سَنَةَ سَبْعٍ[(1)] مِنْ الْبَعْثَةِ

التَّمْهِيدُ لِــ الْمُقَاطَعَةِ :
صحيفة مقاطعة قريش لبني هاشم:
أ . ) المقاطعة القُرشية لبني هاشم ؛ وبني عبدالمطلب في شِعبِ أبي طالب حدثتْ في مرحلةٍ مهمةٍ مِن مراحل الدعوة وفق التسلسلِ الزمني بين مفاصل وروابط أحداث السيرة النبوية ، إذ أن هناك سيرة محمديّة تبدء من عهد أبي البشر آدم -عليه السلام- وتكلمتُ عنها ... وآخرىٰ سيرة نبويّة تبدء من لحظة إثبات النبوة ووقت تبليغه بالرسالة ... وتحتاجان منا لدراسة تفصيلية كي لا نقع في أخطاء كما يحدث الأن ومنذ زمن ... والأحداث المتوالية والمتلاحقة والمتشابكة إثناء فترة بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- تُظهر للمتتبع الفاحص الدارس بوضوح مدىٰ الجهد والصبر والبذل والعطاء الذي قدمه النبي الكريم –عليه السلام- والثلة الصالحة من صحابته -رضوان الله تعالى عليهم- كما أنها أحكام شرعية عملية ودروس وعبر مستفادة يحتاجها حامل الدعوة [ لا استخدم لفظ "الداعية" ؛ إذ أن الآية القرآنية تخبر عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- فتقول: { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ... } [(2)] ؛ ومَن يأتي مِن بعده -عليه السلام- فهو يحمل ما دعا إليه المصطفى المجتبى المحتبى المرتضى] ... إذ شكلت هذه المقاطعة حدثاً مفصلياً في :" التاريخ(!) الإسلامي " لتوثيق فترة بدايات الدعوة الإسلامية ، وذلك لإظهار دين الله -تعالى- على يد نبيه -عليه السلام- ، وذلك لما احتوته مِن إظهار التعنت القُرشي في البقاء علىٰ الجاهلية ؛ والتمسك بتقاليد الأباء وعادات الأجداد وما توارثوه عبر الأجيال -وهذا مازال يحدث في بعض الأماكن بصور متعددة أو مختلفة- ؛ فقد كان سبب وجود تلك المقاطعة في الأساس :
- هدم الدين الجديد الذي بعثه الله -تعالى- لهداية البشرية جمعاء ، و
الضغط على أوائل المسلمين لتسليم نبيهم :
- للقتل . و
وما نجم عن المقاطعة مِن أحداث وحيثيات صبَّت في إعداد وبناء وتخريج الفئة الصادقة والمؤمنة الصابرة علىٰ الأذىٰ في سبيل نشر الدين ... وهذا لم تتوقعه أو تفهمه قُريش.
و
* . ] قبل الخوض في أسباب المقاطعة القُرشية لابد من البحث في الظروف التي تطلبت واستدعت أو فرضت وحتمت علىٰ قريش الاتفاق لــ إقرار مقاطعة بني هاشم ؛ وذلك لأن أي فعلٍ ذي نتائج سلبية وقوية في طبيعتها لا تصدر عفواً لمجرد أمر بسيط ؛ أي لابد من إيراد المقدمات التي قدمتها قُريش للرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي في نظرهم كانت عروضاً مجزية ومغرية-حسب تصورهم الضيق - إلا أن الرفض الذي كان يقابلهم أدىٰ إلىٰ عجزهم عن استحداث عرض جديد مغري يقبله النبي المرسل مِن قِبل السماء -وهذا في حقيقة أمره- أو أنه مثل أي رجل منهم يقبل ما يقدمونه مع ما تبدل وتعدل من وُصفه بالصادق الأمين ... وكذبا وزوراً في زعمهم بعد التبليغ ، فاضطروا إلىٰ أسلوب الحصار أو المقاطعة للإجبار بالقوة حتىٰ يترك نبي الدين الجديد -صلى الله عليه وسلم- رسول الإسلام - الذي كُلف أن ينشره من فوق سبع سماوات.
ب . ) أما المقدمات المغرية التي قدمتها قريش للرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي في نظرهم كانت عروضاً مجزية إلا أن الرفض الذي كان يقابلهم أدىٰ إلىٰ عجزهم عن تقديم المزيد أو ما يجعله -عليه السلام- في ظنهم يَقبل بتلك العروض ، فاضطروا إلىٰ أسلوب الحصار أو المقاطعة للإجبار بالقوة حتىٰ يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته التي كلف أن ينشره من فوق سبع سماوات ... عرضَ كفارُ قريش علىٰ الرسول الكريم أن :
[ أ . ] يزوجوه أفضل النساء، و
[ ب . ] ينصبوه عليهم ؛ فيصير ملكاً، وأن :
[ ج . ] يعطوه ما شاء من المال حتىٰ يترك سب آلهتهم ...
إلا أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- رفض تلك العروض وامتنع عن قبولها، فحاولوا منعه بطريقة آخرىٰ ...و
الجدير بالذكر أنهم -قريش- اتخذوا عدة وسائل وأساليب وطرق ؛ فــ
[ * . ] شكوه إلىٰ أبي طالب ؛ عمه الشفيق عليه والشقيق لأبيه عبدالله بن عبدالمطلب، و
[ * . ] عرضوا علىٰ أبي طالب إن هو أعطاهم ابن أخيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يعطوه أنهد فتىٰ في قريش : عمارة بن الوليد، ويقوموا بــ
[ * . ] قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعويضه بعمارة ... إلا أن قُريش لم تدرك الحقيقة الكامنة في نفس الرسول الكريم وما يستحوذ على عقله وفؤاده ولبه وقلبه وفهمه وإدراكه ووعيه ألا وهو :" تبليغ رسالة السماء " الأخيرة والخالدة التي بُعث لينشرها للعالم اجمع ، بشكل : «„ ملفتٍ للنظر ». وهذا العرض الملفت للنظر هو ما اثار حفيظتهم وأغضبهم ... لذا استمرت العروض القُرشية للنيل من محمد -صلى الله عليه وسلم- [(3)]. ولعل ما أفشل الكثير من الحركات الإسلامية بغض النظر عن ثوبها أو دثارها أو شاحها أنها -الحركات الإسلامية- لم تستطع أن تقدم الإسلام في القرن الواحد والعشرين بشكل ملفت للنظر... أو ما يسميه البعض-تجاوزا من طرفي- تجديد الخطاب الديني .
إلا أن مساعيهم -صناديد قريش- جميعها باءت بالفشل. وقد كان موقف أبي طالب [آحدىٰ الشخصيات المحورية في حياة النبي-عليه السلام-؛ ستوجد في نهاية البحوث -بمشيئته -تعالى- ومن بعد إذنه وبفضله وكرمه ملاحق - ] في وجه المشركين من قُريش موقفاً محموداً مشكوراً، فقد منع الرسول الكريم، -صلى الله عليه وسلم- من أن تطاله قُريش بأذىٰ ... فزاد ذلك من قوة محمد -صلى الله عليه وسلم- للمضي فيما بعث من أجله، عند ذلك
[ * . ] اجتمعت قُريش ورأت أنه لابد مِن الضغط الفعلي والمؤثر ، إذ إن ما سبق كان مجرد محاولات مادية بالمال والتأثير باللسان ، ولابد من القوة لتغيير الواقع الذي كان الرسول سائراً فيه من الدعوة إلىٰ الله -تعالى-.
زادت حدة المواجهة بين قُريش والرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن وقف معه فــ قد أورد ابن إسحاق في أسباب المقاطعة :"... فلما سمعت قريش بذلك ورأوا منه الجد وأيسوا منه، فأبدوا لبني عبدالمطلب الجفا.
فــ قَالَمُوسَىٰ بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ :" ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ اشْتَدُّوا عَلَىٰ[(4)]الْمُسْلِمِينَ كَأَشَدِّ مَا كَانُوا ، حَتَّى بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الْجُهْدُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ ، وَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي مَكْرِهَا أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَانِيَةً ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ عَمَلَ الْقَوْمِ جَمَعَ بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِعْبَهُمْ ، وَأَمَرَهَمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ أَرَادُوا قَتْلَهُ ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ ، مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ حَمِيَّةً(!) ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ إِيمَانًا وَيَقِينًا ، فَلَمَّا عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ مَنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ ، اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ ، أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدُوا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَبَنِي عَبْدِمَنَافٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ ، وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُكَلّمُوهُمْ وَلَا يُجَالِسُوهُمْ ، وَلَا يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمْ ، حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لِلْقَتْلِ ، وَكَتَبُوا -فِي مَكْرِهِمْ- بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَعُهُودًا وَمَوَاثِيقَ ، لَا يَقْبَلُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبَدًا صُلْحًا ، وَلَا تَأْخُذُهُمْ بِهِمْ رَأْفَةٌ ، حَتَّى يُسْلِمُوهُ لِلْقَتْلِ . وَعَلّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ [(5)]

وانطلق بهم - بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ - أبو طالب...
رَوَى مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قُرَيْشًا أَظْهَرُوا لِبَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ الْعَدَاوَةَ وَالشَّتْمَ ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ رَهْطَهُ ، فَقَامُوا بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَدْعُونَ اللَّهَ عَلَىٰ مَنْ ظَلَمَهُمْ مِن قومهم لهم وفي قطيعتهم أرحامهم ، واجتماعهم على محاربتهم ، وتناولهم بسفك دمائهم... وَ
قَالَ أَبُو طَالِبٍ : " اللهم إِنْ أَبَىٰ قَوْمُنَا إِلَّا الْبَغْيَ عَلَيْنَا فَعَجِّلْ نَصْرَنَا ، وَحُلْ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ الَّذِي يُرِيدُونَ مِنْ قَتْلِ ابْنِ أَخِي ، ثُمَّ دَخَلَ بِآلِهِ الشِّعْبَ [(6)].
ثم أقبل إلىٰ جمع قُريش وهم ينظرون إليه وإلىٰ أصحابه، فقال أبو طالب:" ندعو برب هذا البيت علىٰ القاطع المنتهك للمحارم ... والله لتنتهين عن الذي تريدون أو لينزلنَّ اللهُ بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون ". فــ
أجابوه:" إنكم يا بني عبدالمطلب، لا صلح بيننا ولا رحم إلا علىٰ قتل هذا الصبي السفيه"[(7)].
كانت قُريش مصرة علىٰ قتل [التصفية الجسدية بعد أن فشلوا في التشوية المعنوي] الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الرغم من محاولة أبي طالب السابقة بمنعهم.
*.] ويقول ابن إسحاق في روايةٍ :" فلما قدم عمرو بن العاص، وعبدالله بن أبي ربيعة إلىٰ قُريش وأخبراهم بالذي قاله النجاشي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه اشتد وجدهم، وآذوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أذى شديداً، وضربوهم في كل طريق، وحصروهم في شعبهم"[(8)] ، إلا أن ابن هشام قد أورد عدة أسباب للمقاطعة القرشية في روايته عن ابن إسحاق، حيث جاء في الرواية أنه لما :" رأت قُريش أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذهبوا إلى الحبشة وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه... و
هنا اعتمد ما :" قَالَه ابْنُ هِشَامٍ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ :" فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا مِنْهُ أَمْنًا وَقَرَارًا ، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ[(9)]، وَعَادَ إِلَيْهِمْعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ مِنَ عند النَّجَاشِيِّ بِمَا يَكْرَهُونَ مِنْ مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ وَأَمْنِهِمْ عِنْدَهُ[(10)] ... وَ
أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَمّهُ ... وَ
أَنَّ عُمَرَ بن الخطاب قَدْ أَسْلَمَ من بعده ، فَــ
كَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ -رضي الله تعالى عنهما- مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ ... وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَوُوا بِإِسْلَامِ حَمْزَةَ وَعُمَرَ[(11)] ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ[(12)] ، وَيَزِيدُ[(13)] ، أجمعوا علىٰ قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [(14)] . ولعلها تكون خطوة أخيرة ... وسبقتها آخرى : فَاجْتَمَعُوا وَأْتَمَرُوا فِي أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ[(15)].
*.] وأورد مضمون روايتا ابن إسحاق وابن هشام العديد من المصادر التاريخية ، فقد اجتمعت في جميع الروايات أسباب المقاطعة القرشية لبني هاشم كما جاءت عند ابن إسحاق وابن هشام لكن مع أختلاف الرواة كموسى ابن عقبة والزهري وابن إسحاق[(16)] .
*. ] المقاطعة القُرشية وقعت لسبب مباشر ... و
لــ أسباب غير مباشرة.
أما
*. ] السبب المباشر فيقع في سعي قُريش الدائم لــ :
- « قَتل الرسول » -صلى الله عليه وسلم- و :
- « التخلص منه نهائياً »؛ و
هذا ما تم بالفعل الإتفاق عليه -لاحقاً- وسأتعرض لهذه المفصلية من سيرته العطرة في قابل البحوث - إن شاء الله تعالى ويسر لي البحث -
فـ...
كانت المقاطعة لكي يعاني القوم من التعب والأذىٰ فبذلك يتخلوا عن نصرة النبي الكريم فيقوموا بقتله .
أما :
*. ] الأسباب غير المباشرة للمقاطعة فتتلخص بما يلي :
*. ] إدراك قُريش أن ما تقوم به من أذىٰ للمسلمين لن يحول دون إقبال الناس علىٰ الإسلام... إذ رأت أن بني هاشم يقومون بحماية النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا تستطيع أن تصل لما تريد ، لذلك قررت أن توقع علىٰ بني هاشم عقوبة قاسية لتجبر بني هاشم علىٰ التخلي عن موقفهم في حماية النبي -صلى الله عليه وسلم- وتضطرهم إلىٰ تسليمه أو الكف عن نصرته[(17)] ، ولأن قريش شعرت بخطورة الموقف الذي ينتظرها نتيجة فشلها في منع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من مواصلة الدعوة[(18)] .
أضف ما هو مهم للغاية نتيجة تسلسل الأحداث بشكل لم تتوقعه قريش مثل :
١ . ] إسلام عمر بن الخطاب ... وحمزة بن عبدالمطلب. فــ
قد قال أبو جعفر الطبري : „ وأسلم عمر بن الخطاب - رحمه الله -، فلما أسلم وكان رجلا : جلداً ؛ جليداً ؛ منيعاً، وكان قد أسلم قبل ذلك حمزة بن عبدالمطلب ” [(19)] ، وكان لإسلامهما الأثر الكبير في وهن ألم بنفوس قُريش ، وايضاً في إرتفاع نفسية مَن أسلم قبلهما ، إذ كانت لهما منزلة مرموقة ومكانة مهيبة في صفوف قريش ، وبإسلامهما قويت شوكة الإسلام ، وبإسلامهما سوف يتشجع مَن هو خائف في إعلان إسلامه.
٢ . ] حماية النجاشي للمسلمين الذين ذهبوا إليه ، وما تبع ذلك من فشل „ السفارة ” القُرشية في تسليم من عنده من المسلمين. فــ
كان لهذا الأثر الكبير في تدعيم القوة الإسلامية ... أي أنه أصبح للإسلام يدٌ قوية خارج شبه جزيرة العرب في الحبشة ، عند النجاشي الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد كما وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
٣ . ] أرادت قُريش محاصرة بني هاشم في الشِّعب ومقاطعتهم من أجل التضييق عليهم، مما يدفعهم إلىٰ تسليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا من وجهة رأي قُريش- حتىٰ يظهروا أن أقارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم من خذلوه ودفعوه إليهم لقتله أي أن الرفض للرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بدأ منهم -أتباعه-(!) للخلاص من الأذى والإرهاق بسببه.
٤ . ] تغيير ميزان القوىٰ في قُريش حيث أن هذا الدين الجديد إذا ما نجح فسوف يسيطر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- علىٰ زمام الأمور، وسوف تكون الامتيازات لبني هاشم لانتماء النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها وإبعاد سواهم وهذا ما كان يخشاه مشركو قُريش.
إذ أن سلطة الجاة والسلطان والقوة المادية والمالية لقُريش ستزول وستآؤل لبني هاشم ولمحمد -الرجل- ولأتباعه دونهم.
٥ . ] انتشار الإسلام في القبائل[(20)] لكن الإسلام كان لا يزال في تلك المرحلة في مراحله „ المبكرة ” ، لكن ما أراد أن يوصله الطبري وابن كثير ومن قبلهم ابن إسحاق وأيضا ابن عبدالبر ، عندما أوردوا أن الإسلام أخذ يفشو في القبائل ، وقامت قريش وكتبت صحيفة أو اتفقوا على مقاطعة بني هاشم ، ولعل المقصود بذلك هو : „ الجهر ” بالقرآن، خاصة أن قبل تلك الفترة كانوا يتذاكرون القرآن وأمور الدين : „ سراً ”و : „ خفية ” ، ويؤيد ذلك ما جاءت به رواية تقي الدين المقريزي الذي قال : " فلما أسلم عمر -رضي الله عنه- قاتل قريشاً حتىٰ صلىٰ عندها ، وصلىٰ معه المسلمون ، وقد قووا بإسلامه وإسلام حمزة -رضي الله عنهما-، و: „ جهروا ” بالقرآن ولم يكونوا قبل ذلك يقدرون أن يجهروا به ، ففشا الإسلام وكثر المسلمون ". [(21)]
تَذْكرُ لنا المصادر المعتمدة عن السيرة النبوية[(22)] : " أَسْلَمَ حمزة عَمُّهُ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ ، وَفَشَا الْإِسْلَامُ فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْلُو وَالْأُمُورُ تَتَزَايَدُ ، أَجْمَعُوا عَلَىٰ أَنْ يَتَعَاقَدُوا عَلَىٰ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِمَنَافٍ :
- أَنْ : „ لَا يُبَايِعُوهُمْ ” شَيْئًا ، وَ
- : „ لَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ ” ،
- : „ لَا يَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ ” وَ
- : „ لَا يُنْكِحُوهُمْ ” [لَا يُنْكِحُوا : „ الزواج” بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ] ، وَ
- : „ لَا يُكَلِّمُوهُمْ ” ، وَ
- : „ لَا يُجَالِسُوهُمْ ” ...
حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً [(23)]
„ مكان صحيفة المقاطعة ”
وَعَلَّقُوهَا فِي :
- : „ سَقْفِ الْكَعْبَةِ ” فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوا فِي صَحِيفَةٍ ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي :
- „ جَوْفِ الْكَعْبَةِ ” (قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ مُعَلَّقَةً فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ) ؛ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ[(24)] .
ولإتمام هذه الجزئية من البحث :
ذهبت بعض المصادر إلىٰ أن الصحيفة لم تكن معلقة في الكعبة ، وإنها كانت عند
- „ أم الجلاس بنت مخربة الحنظلية ” ؛ خالة أبي جهل [(25)] . وقد ذكر أنها عند
- „ أختها ” „ أم أبي جهل ” ؛ وهي „ أسماء ابنة مخربة التميمية ” ؛ أو
- „ طعيمة بن عدي ”[(26)] . والأقرب للصحة فإن مكانها في الكعبة؛ وذلك لأنه عندما تم نقض الصحيفة أمام الناس وجد أنها في الكعبة[(27)]
" كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ "
يُقَالُ : كَتَبَهَا :
" مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِمَنَافِ بْنِ عَبْدِالدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ[(28)]، وَيُقَالُ بل :
" النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، ويزعمون : فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَشُلَّ بَعْضُ أَصَابِعِهِ . وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ : كَانَ الَّذِي كَتَبَ الصَّحِيفَةَ :
" طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ .
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ :
" مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ الَّذِي شُلَّتْ يَدُهُ ، فَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ بَيْنَهَا : انْظُرُوا إِلَى مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ . وَ
الصّحِيحُ أَنَّهُ :
" بَغِيضُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشُلّتْ يَدُهُ[(29)].
- „ ما آل إليه مصير كاتب الصحيفة ” :
هناك „ زعم ” كما ورد في النصوص السابقة أنه شُلت يده بعد دعاء النبي عليه ؛ وكنتُ قد تكلمتُ سابقاً كثيراً بأن الزعم الوارد في تلك النصوص لا يرتفع لدرجة التأكيد !.. فيبقىٰ كما هو : „أنهم يزعمون ”
فَــ انْحَازَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إِلَّا أبا لهب -لعنه الله- ، فَإِنَّهُ ظَاهَرَ قُرَيْشًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ [(30)].

" الحُبِسُ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ" :
وَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ مَعَهُ فِي الشِّعْبِ: شِعْبِ أبي طالب لَيْلَةَ هِلَالِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ ؛ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ[(31)] فَلَبِثَ بَنُو هَاشِمٍ فِي شِعْبِهِمْ ثَلَاثَ سِنِينَ[(32)] ، وَبَقُوا مَحْبُوسِينَ وَمَحْصُورِينَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِمْ جِدًّا مَقْطُوعًا عَنْهُمُ الْمِيرَةُ وَالْمَادَّةُ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ ، حَتَّى بَلَغَهُمُ الْجَهْدُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ ، وَقَطَعُوا عَنْهُمُ الْأَسْوَاقَ ، فَلَا يَتْرُكُوا لَهُمْ طَعَامًا يَقَدَمُ مَكَّةَ وَلَا بَيْعًا إِلَّا بَادَرُوهُمْ إِلَيْهِ فَاشْتَرَوْهُ ؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكُوا سَفْكَ دَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ... وَ
سُمِعَ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ بِالْبُكَاءِ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ[(33)].
وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ إِذَا أَخَذَ النَّاسُ مَضَاجِعَهُمْ ، أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِهِ ؛ حَتَّى يَرَى ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ بِهِ مَكْرًا وَاغْتِيَالًا لَهُ ، فَإِذَا نَوَّمَ النَّاسُ ، أَمَرَ أَحَدَ بَنِيهِ أَوْ إِخْوَتِهِ أَوْ بَنِي عَمِّهِ فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ فُرُشِهِمْ فَيَنَامَ عَلَيْهِ[(34)]، وَ
هُنَاكَ عَمِلَ أبو طالب قَصِيدَتَهُ اللَّامِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ ، وَأَوَّلُهَا :
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ[(35)]
" نَقْضُ الصّحِيفَةِ ":
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رَاضٍ وَكَارِهٍ[(36)]...
عن عروة بن الزبير قال: فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ ثَلَاثِ سِنِينَ ، تَلَاوَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِمَنَافٍ ، وَمِنْ بني قُصَيٍّ ، وَرِجَالٌ مِنْ سِوَاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ وَلَدَتْهُمْ نِسَاءٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا الرَّحِمَ ، وَاسْتَخَفُّوا بِالْحَقِّ ، وَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ مِنْ لَيْلَتِهِمْ عَلَى نَقْضِ مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ مِنْ[(37)] الْغَدْرِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ[(38)] .
فَسَعَى فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ أقوام من قريش - مَنْ كَانَ كَارِهًا لَهَا ، وَكَانَ الْقَائِمُ في أمر ذَلِكَ هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بن ربيعة بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بن جذيمة بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ بن حسل بن عامر بن لؤي ، مَشَى فِي ذَلِكَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ(*) ، ثُمَّ أَطْلَعَ اللَّهُ -تعالى- رَسُولَهُ -عليه السلام-عَلَى أَمْرِ صَحِيفَتِهِمْ ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهَا " الْأَرَضَةَ " فَأَكَلَتْ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَظُلْمٍ إِلَّا ذِكْرَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَمَّهُ ، فَخَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ قَدْ قَالَ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا خَلَّيْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا رَجَعْتُمْ عَنْ قَطِيعَتِنَا وَظُلِمْنَا ..
قَالُوا : قَدْ أَنْصَفْتَ ، فَأَنْزَلُوا الصَّحِيفَةَ ، فَلَمَّا رَأَوُا الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ازْدَادُوا كُفْرًا إِلَى[(39)] كُفْرِهِمْ ، فَــ
قَالَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ : إِنَّ أَوْلَى بِالْكَذِبِ وَالسِّحْرِ غَيْرَنَا ، فَكَيْفَ تَرَوْنَ ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَطِيعَتِنَا أَقْرَبُ إِلَى الْجِبْتِ وَالسِّحْرِ مِنْ أَمْرِنَا ، وَلَوْلَا أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى السِّحْرِ ، لَمْ تَفْسَدْ صَحِيفَتُكُمْ وَهِيَ فِي أَيْدِيكُمْ ؛ طَمَسَ اللَّهُ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ اسْمِهِ ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ بَغْيٍ تَرَكَهُ ، أَفَنَحْنُ السَّحَرَةُ أَمْ أَنْتُمْ ؟ ! فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي عَبْدِمَنَافٍ ، وَبَنِي قُصَيٍّ ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَلَدَتْهُمْ نِسَاءٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ؛ مِنْهُمْ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِوَهُشَامُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ عِنْدَهُ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ : نَحْنُ بُرَآءُ مِمَّا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ : هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ . وَ
أَنْشَأَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ الشِّعْرَ فِي شَأْنِ صَحِيفَتِهِمْ ، وَيَمْتَدِحُ النَّفَرَ الَّذِينَ تَبَرَّؤُوا مِنْهَا ، وَنَقَضُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَهْدٍ ، وَيَمْتَدِحُ النَّجَاشِيَّ[(40)]
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : إِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَةُ الْحَبَشَةِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ إِلَى الشِّعْبِ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ فِي ذَلِكَ[(41)] . فَاللَّهُ أَعْلَمُ .
" معجزة النبي " :
وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَىٰ صَحِيفَتِهِمُ " الْأَرَضَةَ " ، فَلَحَسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، وَيُقَالُ : كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي سَقْفِ الْبَيْتِ فَلَمْ تَتْرُكِ اسْمًا لِلَّهِ فِيهَا إِلَّا لَحَسَتْهُ ، وَبَقِيَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ شِرْكٍ وَظُلْمٍ وَقَطِيعَةِ رَحِمٍ . ثُمّ أَطْلَعَ اللّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- رَسُولَهُ عَلَىٰ أَمْرِ وَالَّذِي صَنَعَ بِصَحِيفَتِهِمْ وَأَنّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهَا الْأَرَضَةَ[(42)] ... و
هناك رواية آخرى : فَأَكَلَتْ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَظُلْمٍ إلّا ذِكْرَ اللّهِ -عَزّ وَجَلّ- فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَمّهُ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي طَالِبٍ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : لَا وَالثَّوَاقِبِ ، مَا كَذَبَنِي . فَانْطَلَقَ يَمْشِي بِعِصَابَتِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَهُوَ حَافِلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ عَامِدِينَ لِجَمَاعَتِهِمْ ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ فَأَتَوْهُمْ لِيُعْطُوهُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَكَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ : قَدْ حَدَثَتْ أُمُورٌ بَيْنَكُمْ لَمْ نَذْكُرْهَا لَكُمْ ، فَأْتُوا بِصَحِيفَتِكُمُ الَّتِي تَعَاهَدْتُمْ عَلَيْهَا ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ صُلْحٌ . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الصَّحِيفَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِهَا ، فَأَتَوْا بِصَحِيفَتِهِمْ مُعْجَبِينَ بِهَا ، لَا يَشُكُّونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَدْفُوعٌ إِلَيْهِمْ ، فَوَضَعُوهَا بَيْنَهُمْ ، وَقَالُوا : قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا ، وَتَرْجِعُوا إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ قَوْمَكُمْ ، فَإِنَّمَا قَطَعَ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ ، جَعَلْتُمُوهُ خَطَرًا لِهَلَكَةِ قَوْمِكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ وَفَسَادِهُمْ . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ لِأُعْطِيَكُمْ أَمْرًا لَكُمْ فِيهِ نَصَفٌ ؛ إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ أَخْبَرَنِي وَلَمْ يَكَذِبْنِي ، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ ، وَمَحَا كُلَّ اسْمٍ هُوَ لَهُ فِيهَا ، وَتَرَكَ فِيهَا غَدْرَكُمْ وَقَطِيعَتَكُمْ إِيَّانَا ، وَتَظَاهُرَكُمْ عَلَيْنَا بِالظُّلْمِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ ابْنُ أَخِي [(43)] كَمَا قَالَ ، فَأَفِيقُوا ، فَوَاللَّهِ لَا نُسْلِمُهُ أَبَدًا حَتَّى نَمُوتَ مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ بَاطِلًا ، دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ ، فَقَتَلْتُمُوهُ أَوِ اسْتَحْيَيْتُمْ . قَالُوا : قَدْ رَضِينَا بِالَّذِي تَقُولُ . فَفَتَحُوا الصَّحِيفَةَ ، فَوَجَدُوا الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَخْبَرَ خَبَرَهَا ، فَلَمَّا رَأَتْهَا قُرَيْشٌ كَالَّذِي قَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا : وَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا قَطُّ إِلَّا سِحْرٌ مِنْ صَاحَبِكُمْ ، فَارْتَكَسُوا ، وَعَادُوا بِشَرِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ ، وَالشِّدَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى رَهْطِهِ ، ازْدَادُوا كُفْرًا إلَىٰ كُفْرِهِمْ[(44)].
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، حَتَّى جَهِدُوا ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إِلَّا سِرًّا ، مُسْتَخْفِيًا بِهِ مَنْ أَرَادَ صِلَتَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِيمَا يَذْكُرُونَ لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ مَعَهُ[(45)] غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا ، يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ فِي الشِّعْبِ ، فَتَعَلَّقَ بِهِ ، وَقَالَ : أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ ؟ ! وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أَفْضَحَكَ بِمَكَّةَ . فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَقَالَ : مَا لَكَ وَلَهُ ؟ فَقَالَ : يَحْمِلُ الطَّعَامَ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ . فَقَالَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ : طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ ، أَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا ؟ ! خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ . قَالَ : فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ- حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ، فَأَخَذَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَحْيَ بِعِيرٍ ، فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجَّهُ ، وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِهِمْ [(46)]...
- „ الدعوة إلى الإسلام في مرحلة المقاطعة والحصار ” :
وَفي ضوء تأزم الأوضاع على المقاطعين داخل الشعب استمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله علىٰ الرغم من الأذى والجهد الذي أصاب بني هاشم وبني عبدالمطلب عامة والمسلمين خاصة...
قال ابن إسحاق: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَىٰ ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَسِرًّا وَجِهَارًا ، مُنَادِيًا بِأَمْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- ، لَا يَتَّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ[(47)] .
وهذا دليل على الجانب الذي مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، ويعطي درساً لــ " حملة الدعوة " إلى الله كي يستمر في دعوته مهما كانت الصعوبات والعقبات، لأن ذلك قمة الصبر والجهاد في سبيل الله[(48)].
إلا أن قريشاً في ظل ذلك أخذوا يهمزون ويلمزون النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق فقد تتابع نزول الوحي[(49)] على النبي -صلى الله عليه وسلم- داخل الشعب ... قال ابن إسحاق:...فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهَا ، وَقَامَ عَمُّهُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ دُونَهُ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا مِنَ الْبَطْشِ بِهِ يَهْمِزُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُخَاصِمُونَهُ ، وَجَعَلَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ فِي قُرَيْشٍ بِأَحْدَاثِهِمْ ، وَفِيمَنْ نَصَبَ لِعَدَاوَتِهِ ، مِنْهُمْ مَنْ سَمَّى لَنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي عَامَّةٍ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ[(50)] . فَــ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَبَا لَهَبٍ وَنُزُولَ السُّورَةِ فِيهِ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ بن وهب بن حذافة بن جمح إذا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- همزه ولمزه، وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى يفضحه[(51)] وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ }[(52)] السُّورَةِ بِكَمَالِهَا فِيهِ وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا }[(53)] فِيهِ ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَقَوْلَهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : لَتَتْرُكَنَّ سَبَّ آلِهَتِنَا ، أَوْ لَنَسُبُّنَّ إِلَهَكَ . وَنُزُولَ قَوْلِ اللَّهِ فِيهِ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }[(54)] وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : عَلْقَمَةُ بْنُ كَلَدَةَ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَجُلُوسَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَجَالِسِهِ ، حَيْثُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ ، فَيَتْلُو عَلَيْهِمُ النَّضْرُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ رُسْتُمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُرُوبِ فِي زَمَنِ الْفُرْسِ ، ثُمَّ يَقُولُ : وَاللَّهِ ، مَا مُحَمَّدٌ بِأَحْسَنَ حَدِيثًا مِنِّي ، وَمَا حَدِيثُهُ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبْتُهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }[(55)] وَقَوْلَهُ[(56)] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [(57)].
ثم :" رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، وحصل الصلح برغم من أبي جهل عمرو بن هشام.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّعْبِ . قَالَ ابْنُ عَبْدِالْبَرِّ : بَعْدَ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ مِنَ الْمَبْعَثِ ، وَمَاتَ أبو طالب بَعْدَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَمَاتَتْ خديجة بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ [(58)] .
ذكرتُ في مطلع هذا البحث أن المقاطعة تمت في السنة السابعة مِن البعثة المحمدية ؛ وإتماماً لهذه الجزئية أكمل البحث والمراجعة تحت أضواء بحث للدكتور سعادة إذ يقول تحت عنوان :
„ زمن المقاطعة ” :
عند الحديث عن زمن المقاطعة القُرشية خلصت الدراسة [لــ د. علاء الدين كامل سعادة] إلىٰ ثلاث : „ 3 ” آراء حول تاريخ وقوعها . فــ
قد جاء عند ابن سعد أن :
[ 1 ] المقاطعة حدثت سنة 7 للبعثة (... حصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع [ 7 ] من حين تنبئ رسول الله، صلى الله عليه وسلم) [(59)] ووافقه في ذلك كل من البيهقي وابن عبدالبر وابن سيد الناس والمقريزي وعمر بن فهد.
وجاء :
[ 2 ] الرأي الثاني يقول بأن المقاطعة حدثت سنة [ 6 ] للبعثة. فقد أورد اليعقوبي (ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبدمناف في الشعب الذي يقال له شعب بني هاشم بعد ست [ 6 ] سنين من مبعثه) [(60)] . أما :
[ 3 ] الرأي الثالث فقد جاء في رواية واحدة أوردها المسعودي، فقال عما حدث في سنة [ ٤٦ ] لعمر النبي (وفي سنة ست وأربعين كان حصار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم للنبي وبني عبدالمطلب في الشعب) [(61)] ، وبما أن المسعودي أورد أنه في سنة [ ٤١ ] لعمر النبي الكريم بعث نبياً فتكون المقاطعة حدثت سنة [ ٥ ] للبعثة.
إن التباين في الروايات الثلاثة السابقة :
- بين الأولى والثانية سنة واحدة
أما
- الثالثة فتتباين عن الثانية بسنة واحدة وعن الأولى بسنتين، و
- بتدقيق الملاحظة يُرى أن رواية ابن سعد جاءت بسند في حين أن روايتي اليعقوبي والمسعودي لم توردا سنداً، لهذا بالإضافة إلى موافقة عدد من المؤرخين السابقين لرواية ابن سعد وإيرادها في كتبهم، و
- زيادة في التوضيح فإن هناك حادثة تاريخية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمقاطعة القرشية، ولها تأثير كبير وفعال في مجريات المقاطعة ألا وهي :
„ الهجرة إلى الحبشة ” : فــ
قد تباينت الآراء كذلك في وقتها :
- أهي معاصرة للمقاطعة
أم :
- هي قبلها :
- أو بعدها، فــ
قد جاء عدد من المؤرخين وأوردوا أن :
„ الهجرة إلى الحبشة ” ؛ كانت قبل „ المقاطعة القرشية ” :
„ أخبرنا محمد بن عمر، أخبرنا يونس بن محمد الظفري عن أبيه عن رجل من قومه قال: وأخبرنا عبيدالله بن العباس الهذلي عن الحارث بن الفضيل قالا:.. وكان مخرجهم -إلى الحبشة- في: [ رجب من السنة الخامسة ] من حين نبأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم ” ؛ [(62)] و
بناء على رواية ابن سعد هذه تكون : „ المقاطعة ” ؛ حدثت بعد سنتين [ ٢ ] من „ الهجرة إلى الحبشة ” ؛ وكذلك أورد اليعقوبي الهجرة إلى الحبشة قبل المقاطعة لكن [ دون ذكر تاريخ ] سنة الهجرة إلى الحبشة، وكذلك فعل الطبري والبيهقي وابن عبدالبر، (وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية كانت سنة خمس من المبعث) [(63)] .
وأورد ابن هشام حديثه عن الهجرة إلى الحبشة بعد أن انتهى من عرض المقاطعة القرشية، أي أنه استناداً لابن هشام تكون الهجرة إلى الحبشة حدثت بعد المقاطعة القرشية إلا أن البلاذري وازن بين ما سبق (قالوا: ولما رد النجاشي عَمْرَا وعبدالله بن أبي ربيعة المخزومي إلى قريش بغير ما أرادوا وحقق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه وأسلم، ازدادوا على من بالشعب غيظاً وحنقاً) [(64)] يستفاد من هذه الرواية للبلاذري أن الحصار والمقاطعة كانتا واقعتين على الرسول وبني هاشم وبني عبدالمطلب، إلا أنهما ازدادتا فعلياً عندما رجع عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة وذلك إثر فشل : „ السفارة ” ؛ القرشية للنجاشي، وجاء في إمتاع الأسماع للمقريزي أن الهجرة الأولى كانت قبل المقاطعة، وأن الثانية كانت أثناء المقاطعة ورجعت بعد خروج المسلمين من الشِّعب[(64)] لكن الحلبي صاحب السيرة الحلبية وافق بين ذلك كله بشأن زمن المقاطعة في أنها السنة السابعة للبعثة ثم يذهب الحلبي ويحلل أن ذهاب عمرو بن العاص كان بعد الهجرة الثانية أي بعد دخول بني هاشم وبني عبدالمطلب إلى الشعب[(65)] ، ولعل رواية ابن سعد أقرب للصحة أن الهجرة كانت السنة الخامسة للبعثة واشتدت المقاطعة التي بدأت في السنة السابعة للبعثة على المقاطَعين[(66)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أما بشأن حركة المعارضين للمقاطعة القرشية من حيث بدايتها، ونموها، وتطورها أيضا، فقد جاء ابن إسحاق برواية مفصلة لذلك الأمر من جوانب الحركة وتفاصيلها وأورد هذه الرواية عن ابن إسحاق السهيلي والأصبهاني والطبري في حين جاء عمر بن فهد وابن شاكر الكتبي وابن الأثير برواية مشابهة لرواية ابن إسحاق في مضمونها، وأما رواية ابن إسحاق فيقول فيها: (ثم أنه قام في نقض الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش، ولم يبل أحد فيها بلاء أحسن ببلاء من هشام ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن خبيب بن خزيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي. وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبدمناف لأمه. وكان عمرو ونضلة أخوين لأم. وكان هشام لبني هاشم واصلا. وكان ذا شرف في قومه...ثم أنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب، فقال لزهير: "قد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يباعون ولا يباع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، ولا يأمنون ولا يؤمن عليهم.أما أني أحلف بالله، لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا". قال:"ويحك، فما أصنع؟ أنا رجل واحد". قال، فقال: "قد وجدت ثانيا". قال: "ومن هو؟" قال: "أنا أقوم معك".فقال له زهير: "أبغنا ثالثا". قال: فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقال له:"يا مطعم، قد رضيت أن تهلك بطن من بني عبد مناف،وأنت شاهد على ذلك، موافق عليه؟ أما والله، لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها سراعا منكم" فقال: "ويحك، فما أصنع؟ إنما أنا رجل". فقال: "قد وجدت ثانيا". قال:"فمن هو؟" قال:"أنا". فقال:"أبغنا ثالثا". قال: "قد فعلت". قال:"ومن هو؟" قال: "زهير بن أبي أمية". قال: "فأبغنا رابعا، يتكلم معنا". قال: فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فذكر قرابتهم وحقهم، فقال:"وهل معك من أحد يعين على هذا؟" قال: "نعم المطعم بن عدي وزهير ابن أبي أمية"، فقال: "أبغنا خامسا"، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب ابن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم فقال له زمعة: "هل معك على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد" فقال: نعم، ثم سمى له القوم. فتواعدوا عند حطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها. فقال زهير: "أنا أبدؤكم. فأكون أولكم". فلما أصبحوا، غدوا على أنديتهم. وغدا زهير بن أبي أمية في حلة له، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، نأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم وبنو المطلب هلكى لا يباعون ولا يباع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ والله لا أذق طعاما ولا شرابا حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة: فقال أبو جهل: كذبت والله،- وهو في ناحية المسجد،- لا تشق هذه الصحيفة: فقال زمعة بن الأسود: بل أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت: فقال أبو البختري: صدق زمعة بن الأسود، لا نرضى بما كتب فيها، ولا نعرفه: فقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله عز وجل منها، ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرومثل ما قالوا في نقضها وردها: فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل تشور فيه، يعنى بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد يرى ما يصنع القوم...) [(67)].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ قَرَاءَها وَرَاجَعَها ثمَّ جَمَعَهَا فَكَتَبَهَا : د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ غَفَرَ اللَّهُ - سبحانه وتعالىٰ - لِوَالِدَيْهِ وَلَهُ وَمُعَلِمِيهِ وَمَشَايخِهِ وكلِ مَن له فضلٌ عليه وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
« ذكر بعثة النبي - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - والدعوة في مكة » ".
" أحداث سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْبَعْثَةِ ".
[ ٤ ] الْبَابُ الرَّابِعُ : [ مُقَاطَعَةُ قُرَيْشٍ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ ]
بُحُوثٌ ﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾

أعلى الصفحة
فهرس

 الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ

[ ٣ . ] الْبَابُ الثَّالِثُ: ﴿ ذِكْرُ الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةُ إلَىٰ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ﴾
أحداث : العام: 6 قبل الهـجرة الشريفة ~ 616 بعد الميلاد العجيب :
اليوم .. الأمةُ الإسلاميةُ ؛ وهم الذين يعلنون إسلامهم ولا يتقيدون بأوامر الله - تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه - ونواهيه ؛ ولا يتبعون النبي الرسول - صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وآله ومَن التزم القرآن منهاجاً والسنة المحمدية نبراساً - وهي - هذه الأمة - تزيد علىٰ المليار و 700 مليون - بمجموعها - وليس بافرادها ؛ فهناك ثلة تعلم أوامره وتنفذها وتخشى عقابه فتبتعد عن ما نهى على قدر الطاقة وفيما فيهم من استطاعة - تحتاج الأمة بمجموعها إلىٰ إعادة النظر بعمق مع التأني بـ قراءة صحيحةٍ وبوعي واستنارة لتلك النصوص الشرعية - ونكتفي كمرحلة أولى بآيات الأحكام وهي لا تزيد عن خمس مائة آية كريمة - من الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ لقوله تعالىٰ: { .. وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز } [*] { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد }[( ) ] ؛ مع إعادة الربط المحكم بين الكتاب العزيز - وخاصة آيات الأحكام - وبين السنة النبوية المحمدية ؛ ويرافقهما السيرة العطرة - وخاصة أحاديث الأحكام - باعتبارها الطريقة المثلىٰ لأحداث النبوة وتسلسل أحكام الرسالة ؛ ويجاور هذا الاهتداء بسيرته العطرة باعتبارها الكيفية العملية لأحداث الرسالة ؛ يرافق هذا سيرة الشخصيات المحورية التي كانت مع وحول الرسول الكريم - رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين - ... كي تَخْرُج الأمةُ الإسلامية مِن كبوتها وتفيق من غيبوبتها ؛ وتعود كــ خير أمة أخرجت للناس .. وَنِعْمَ مَا قَالُوا : „ لِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ ”» ، وَ : „ لِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَةٌ ” ، وَلَا غَرْوَ فَــ : „ لِكُلِّ عَالِمٍ هَفْوَةٌ ”» ... والخروج منهما - أعني الكبوة؛ وهي الْكَبْوَةُ : أي الْوَقْفَةُ كَوَقْفَةِ الْعَاثِرِ ، أَوِ الْوَقْفَةُ عِنْدَ الشَّيْءِ يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ [( ) ] ؛ والغيبوبة - والخروج مِن هذا المأزق نحتاج لدراسة واعية لمثل تلك الشخصية المحورية: أمثال: ﴿ „ جعفر بن أبي طالب ”﴾ رضوان الله تعالى عليه .. فلنستمع إليه :
الرواية من بدايتها :
[ إرْسَالُ قُرَيْشٍ إلَىٰ الْحَبَشَةِ فِي طَلَبِ الْمُهَاجِرِينَ إليها ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَمِنُوا ، وَاطْمَأَنّوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَأَنّهُمْ قَدْ أَصَابُوا بِهَا دَارًا وَقَرَارًا ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنّ يَبْعَثُوا فِيهِمْ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ جَلْدَيْنِ إلَىٰ النّجَاشِيّ، فَيَرُدّهُمْ عَلَيْهِمْ ؛ لِيَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ ، وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دَارِهِمْ ، الّتِي اطْمَأَنّوا بِهَا وَأَمِنُوا فِيهَا ، فَبَعَثُوا :
„ ١ ” عَبْدَاللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَ
„ ٢ ” عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَجَمَعُوا لَهُمَا : « أ » هَدَايَا لِلــ :
﴿ ١ ﴾: نّجَاشِيّ وَلِــ :
﴿ ٢ ﴾: بَطَارِقَتِهِ، ثُمّ بَعَثُوهُمَا إلَيْهِ فِيهِمْ.
﴿ « „ أَبُو طَالِبٍ يَحُضّ النّجَاشِيّ على حسن جوارهم، والدّفع عنهم ” » ﴾
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ - حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ وَمَا بَعَثُوهُمَا فِيهِ - أَبْيَاتًا لِلنّجَاشِيّ يَحُضّهُ على حسن جوارهم، والدّفع عنهم:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النّأْيِ جَعْفَرٌ * وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوّ الْأَقَارِبُ
وَهَلْ نَالَتْ أَفْعَالُ النّجَاشِيّ جَعْفَرًا ... وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ ذَلِكَ شَاغِبُ
تَعَلّمْ- أَبَيْتَ اللّعْنَ- أَنّك مَاجِدٌ ... كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى لَدَيْك الْمُجَانِبُ
تَعَلّمْ بِأَنّ اللهَ زَادَك بَسْطَةً ... وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلّهَا بِك لَازِبُ
وَأَنّك فَيْضٌ ذُو سِجَالٍ غَزِيرَةٍ ... يَنَالُ الْأَعَادِي نَفْعَهَا والأقارب
- * * * *
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِالرّحْمَنِ ابن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيّ ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ،
قَالَتْ: « „ لَمّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ : ﴿ « „ النّجَاشِيّ ” » ﴾ :
« أ » : أَمِنّا عَلَى دِينِنَا ، وَ :
« ب : عَبَدْنَا اللهَ - تَعَالَىٰ - ،
« „ ج : لَا نُؤْذَىٰ، وَ
« „ د » : لَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ ،
فَــ
لَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَىٰ النّجَاشِيّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنّجَاشِيّ هَدَايَا مِمّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأُدْمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيّةً،
ثُمّ
بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَاللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ابن الْمُغِيرَةِ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ، وَ
قَالُوا لَهُمَا :„ ادْفَعَا إلَىٰ كُلّ بِطْرِيقٍ هَدِيّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلّمَا النّجَاشِيّ فِيهِمْ، ثُمّ قَدّمَا إلَىٰ النّجَاشِيّ هَدَايَاهُ، ثُمّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْل أَنْ يُكَلّمَهُمْ ” .
قَالَتْ: « „ فَخَرَجَا حَتّىٰ قَدِمَا علىٰ النجاشى ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيّتَهُ قَبْل أَنْ يُكَلّمَا النّجَاشِيّ، وَ
﴿ « „ إحكام المقالة ضد المهاجرين المسلمين ” » ﴾ :
قَالَا لِكُلّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: „ إنّهُ قَدْ :
„ * ” :ضَوَى إلَىٰ بلد الملك مِنّا :
„ ١ ” : غِلْمَانٌ
„ ٢ ” : سُفَهَاءُ،
„ ٣ ” : فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَ
„ ٤ ” : لَمْ يدخلوا فى دينكم، و
„ ٥ ” : جاؤا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ
„ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ، لِيَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ ” ؛ فَــ :
„ أَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْنَا، وَلَا يُكَلّمَهُمْ ” : فَإِنّ : „ قومهم أعلىٰ بهم عينا، وأعلم بما عابوا عَلَيْهِمْ ” ،
فَقَالُوا لَهُمَا: „ نَعَمْ ” .
ثُمّ إنّهُمَا قَدّمَا هَدَايَاهُمَا إلَىٰ النّجَاشِيّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمّ كَلّمَاهُ، فَــ
قَالَا لَهُ : „ أَيّهَا الْمَلِكُ، إنّهُ قَدْ ضَوَىٰ إلَىٰ بَلَدِك مِنّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، وجاؤا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ، وَلَا أَنْت، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْك فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ: لِتَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَىٰ بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ ” .
قَالَتْ: « „ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَىٰ عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النّجَاشِيّ ” » .
قَالَتْ: فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: „ صَدَقَا أَيّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَىٰ بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ ، فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا، فَلْيَرُدّاهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ ” .
قَالَتْ: فَغَضِبَ النّجَاشِيّ،
ثُمّ قَالَ: « لَاهَا اللهِ ،
﴿ « „ قول النجاشي الملك العادل ” » ﴾ :
﴿ ١ ﴾ إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا ، وَ
﴿ ٢ ﴾ لَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي ، وَ
﴿ ٣ ﴾ نَزَلُوا بِلَادِي، وَ
﴿ ٤ ﴾ اخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ ،
حَتّى أَدْعُوَهُمْ ، فَــ
﴿ ٥ ﴾ أَسْأَلَهُمْ عَمّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ ، فَــ
إِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ ،
أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا ، وَ
رَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى.
﴿ « „ حوار بين النجاشى وبين المهاجرين ” » ﴾
إحْضَارُ النَّجَاشِيِّ الْمُهَاجِرِينَ ، وَسُؤَالُهُ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَجَوَابُهُمْ عَنْ ذَلِكَ:
« ١ . » المقطع الأول : إحْضَارُ النَّجَاشِيِّ الْمُهَاجِرِينَ ، وَسُؤَالُهُ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَجَوَابُهُمْ عَنْ ذَلِكَ
« ١ . ١ . » المشهد الأول : ثُمَّ أَرْسَلَ إلَىٰ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُمْ ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ،
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:« مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إذَا جِئْتُمُوهُ »
« ١ . ٢ . » المشهد الثاني: قَالُوا : نَقُولُ: « وَاَللَّهِ مَا عَلِمْنَا ، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ ».
فَلَمَّا جَاءُوا ، وَقَدْ
« ١ . ٣ . » المشهد الثالث: دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ ، فَــ نَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ :
« ١ . ٤. » المشهد الرابع : مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ ، وَلَمْ تَدْخُلُوا ( بِهِ ) فِي دِينِي ، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ ؟
قَالَتْ : فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ( رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) ، فَقَالَ لَهُ
« ١ . ٥. » المشهد الخامس: أَيُّهَا الْمَلِكُ ،
لم يقل له يا صاحب السمو والرفعة ولم يقل له يا جلالة الملك المعظم .. ولكن ناداه بصفته ...
المشهد الخامس اقسمه إلى عناوين؛ استمع إلى قول جعفر بقلبك وعقلك وليس بأذنيك
« ١ .» العنوان الأول : كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ
كيف يا سيدنا جعفر!:
ألستم أهل الحرم !
ألستم أصحاب رحلة الشتاء والصيف !
ألستم الذي أطعمكم ربكم من جوع وأمنكم من خوف ! .. أستمع إليه :
كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ :
« ١ . » نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَ
« ٢ . » نَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَ
« ٣ . » نَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَ
« ٤ . » نَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَ
« ٥ . » نُسِيءُ الْجِوَارَ ، وَ
« ٦ . » يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَــ
كُنَّا عَلَىٰ ذَلِكَ ، حَتَّىٰ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا :
صِفه لنا يا سيدنا جعفر :
« ١ . » نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَ
« ٢ . » صِدْقَهُ وَ
« ٣ . » أَمَانَتَهُ وَ
« ٤ . » عَفَافَهُ ، فَــ
إلى ما يدعوكم يا جعفر:
دَعَانَا إلَىٰ اللَّهِ لِــ
« ١ . » نُوَحِّدَهُ وَ
« ٢ . » نَعْبُدَهُ ، وَ
« ٣ . » نَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَ
بناءً على التوحيد والعبادة والخلع بما يأمركم يا جعفر !:
« * » أَمَرَنَا بِــ
« ١ . » صِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَ
« ٢ . » أَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَ
« ٣ . » صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَ
« ٤ . » حُسْنِ الْجِوَارِ ، وَ
« ٥ . » الْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَ
وبما ينهاكم يا جعفر !:
« ١ . » نَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ ، وَ
« ٢ . » قَوْلِ الزُّورِ ، وَ
« ٣ . » أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَ
« ٤ . » قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ ؛ وَ
ثم بماذا أمركم :
« * » أَمَرَنَا أَنْ :
« ١ . » نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ،
« ٢ . » لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَ
« * » أَمَرَنَا بِـ
« ٣ . » الصَّلَاةِ وَ
« ٤ . » الزَّكَاةِ وَ
« ٥ . » الصِّيَامِ –
قَالَتْ ( أم سلمة ) : فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ –
فَــ
فكيف كان تصرفكم - يا جعفر - تجاه حزمة هذه المفاهيم ؛ وكتلة تلك المقاييس ومجموع تلك القناعات ؛ وهذه القيم العالية :
« ١ . » صَدَّقْنَاهُ وَ
« ٢ . » آمَنَّا بِهِ ، وَ
« ٣ . » اتَّبَعْنَاهُ عَلَىٰ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّهِ ،
فَــ
« ٤ . » عَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ ، فَــ
« ٤ . ١ . » لَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ، وَ :
« ٥ . » حَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا ، وَ
« ٦ . » أَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا ،
فماذا كان رد فعل قومكم يا سيدنا جعفر!:
فَــ
« * » عَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا ،
فَــ
ماذا فعلوا بكم يا جعفر ! :
« ١ . » عَذَّبُونَا ، وَ
« ٢ . » فَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا ، لِــ
« ٣ . » يَرُدُّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَىٰ ، وَ
« ٤ . » أَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ ، فَــ
ماذا ستفعلون يا جعفر !:
« ١ . » لَمَّا قَهَرُونَا وَ
« ٢ . » ظَلَمُونَا وَ
« ٣ . » ضَيَّقُوا عَلَيْنَا ، وَ
« ٤ . » حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا ،
ماذا ستفعلون يا جعفر !:
« ١ . » خَرَجْنَا إلَىٰ بِلَادِكَ ، وَ
« ٢ . » اخْتَرْنَاكَ عَلَىٰ مَنْ سِوَاكَ ؛ وَ
« ٣ . » رَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ ، وَ
« ٤ . » رَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ .
********
بلاغة الفصحاء وحكمة الحكماء .. وبرهان الأذكياء .. وحجة النبهاء .. وفصاحة العلماء :
قَالَتْ ( أم سلمة ) : فَــ
ماذا فعل اصحمة النجاشي الحبشي أمام تلك البلاغة والحكمة والبرهان والحجة والفصاحة :
قَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ :
« هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ؟ »
قَالَتْ : فَــ
قَالَ لَهُ جَعْفَرٌ :« نَعَمْ »؛ فَــ
قَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ « فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ » ،
قَالَتْ : فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ سورة مريم:{ كهيعص }
ماذا كان رد فعل الملك النصراني النجاشي!:
قَالَتْ : فَــ :
« ١ . » بَكَىٰ وَاَللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّىٰ اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ، وَ
« ٢ . » بَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّىٰ أَخْضَلُّوا مَصَاحِفَهُمْ ، حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ .
ثُمَّ قَالَ ( لَهُمْ ) النَّجَاشِيُّ : « إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ ، انْطَلِقَا ،فَلَا وَاَللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا ، وَلَا يُكَادُونَ . ".
[ * . ] الْوِشَايَةُ .. وَالسِّعَايَةُ:
قَالَتْ ( السيدة الجليلة أم سلمة :" هند " راوية الحديث وشاهدة المواقف كلها ) : فَلَمّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ :" وَاَللهِ لَآتِيَنّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ ".
قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ- وَكَانَ أَتْقَى الرّجُلَيْنِ فِينَا :" لَا نَفْعَلُ؛ فَإِنّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا ".
قَالَ :" وَاَللهِ لَأُخْبِرَنّهُ أَنّهُمْ يزعمون أن عيسىٰ بن مَرْيَمَ عَبْدٌ " ،
قَالَتْ: ثُمّ غَدًا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ، فَــ
قَالَ لَهُ :" أَيّهَا الْمَلِكُ، إنّهُمْ يَقُولُونَ فى عيسىٰ بن مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمّا يَقُولُونَ فِيهِ " .
قَالَتْ: «„ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ، لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ ”» .
قَالَتْ: «„ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قَطّ ”» . فَــ
اجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: «„ مَاذَا تَقُولُونَ فى عيسىٰ بن مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ ”» .
قَالُوا: «„ نَقُولُ - وَاَللهِ - [فيه] مَا قَالَ اللهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ ”» .
قَالَتْ: «„ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ”» ،
قَالَ لَهُمْ: „ مَاذَا تَقُولُونَ فى عيسىٰ ابن مريم؟ ” .
قالت: «„ فقال [له] جعفر ابن أَبِي طَالِبٍ: «„ نَقُولُ فِيهِ الّذِي جَاءَنَا بِهِ نبيّنا - صلّى الله عليه وسلم - : هُوَ :
«„ ١ ”» عَبْدُ اللهِ ؛
وَ :
«„ ٢ ”» رَسُولُهُ،
وَ :
«„ ٣ ”» رُوحُهُ،
وَ :
«„ ٤ ”» كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَىٰ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
قَالَتْ: «„ فَضَرَبَ النّجَاشِيّ بِيَدِهِ إلَىٰ الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ”» ،
ثُمّ
قَالَ: „ وَاَللهِ مَا عَدَا عِيسَىٰ ابْنَ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ ” ،
ثم اصدر النجاشي أوامره :
« „ ١. “» الأمر الأول : وجه كلامه إلىٰ بطارقته واساقفته
قَالَتْ: «„ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ ”» ، فَــ
قَالَ: „ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللهِ،
« „ ٢. “» الأمر الثاني لـلنجاشي :
اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي ‟ -
وَالشّيُومُ: الْآمِنُونَ-
« „ ٣. “» الأمر الثالث لــلنجاشي : مَنْ سَبّكُمْ غرم، ثم قال: مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ،
ثُمّ قَالَ:
« „ ٤. “» الأمر الرابع لــلنجاشي : مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ مَا أُحِبّ أَنّ لِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنّي آذَيْت رَجُلًا مِنْكُمْ- ‟.
قَالَ ابْنُ هشام: ويقال: دبرى مِنْ ذَهَبٍ. وَيُقَالُ فَأَنْتُمْ سُيُومٌ، وَالدّبَرُ - بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبْلُ -
« „ ٥. “» الأمر الخامس لــلنجاشي :
„ رُدّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلَا حَاجَةَ لى بها، فو الله مَا أَخَذَ اللهُ مِنّي الرّشْوَةَ حِينَ رَدّ عَلَيّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النّاسَ فِيّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ.
قَالَتْ: „ فَخَرَجَا مِنْ عنده مقبوحين، مردودا عليهما ما جاآ بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، مَعَ خَيْرِ جار ".

(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
„ أبحاث تمهيدية لمستقبل أمة غائبة “
سلسلة بحوث: ﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
أبحاث السيرة المحمدية العطرة علىٰ صاحبها أفضل السلامات وكامل الصلوات وعظيم الرحمات والتبريكات!
د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِـ مِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى -
حُرِّرَ في يوم الأربعاء : ٢٩ من شهر الله المحرم ١٤٤٢ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ومتمم المبتعثين ~ الموافق ١٦ من شهر سبتمبر عام ٢٠٢٠ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ؛ الرسول ابن مريم العذراء البتول - عليهما السلام -.

أعلى الصفحة
فهرس

الْهِجْرَةُ الْأُولَىٰ إلَىٰ أَرْضِ الْحَبَشَة ِ!

[ ٢ . ] الْبَابُ الثَّانِي: ﴿ ذِكْرُ الْهِجْرَةِ الْأُولَىٰ إلَىٰ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ﴾
أحداث : العام: 6 قبل الهـجرة الشريفة ~ 616 بعد الميلاد العجيب
ما زلنا عزيز(تــ)ـي القارئــ(ــة) مِن خلال هذه البحوث نتعايش معاً فترة العهد المكي ؛ بما تحمل هذه الفترة في صميمها مِن صخب الرفض التام لما يدعو إليه خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين []، ويظهر لنا مِن بين جوانبها ارتفاع درجة الاضطهاد ؛ وما آل إليه حال المستضعفين من زيادة مقدار التعذيب لمَن أمن بالله رباً واحداً ؛ وسبب الرفض والتعذيب مِن قِبل مشركي مكة وعبَّاد أوثانها وإن كان أمام أعينهم ليل نهار البيت العتيق .. والذي هو : { أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين }[(1)] .. سبب الرفض أنهم لا يريدون الإيمان بإله واحد أحد ؛ وسبب التعذيب لأوائل مَن أمن بمحمد رسول الله [  ] هو قضية الأمر الإلٰهي بفعل أو قول ؛ وهذا شق ، أما الثاني : فهو النهي عن فعل أو قول أو تصرف ؛ قضية الأوامر والنواهي ؛ أي قضية التكليف مِن قِبل الخالق مبدع الإنسان وهو سبحانه القائل : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم } [(2)] لكنهم كما يحدث في بعض الأزمنة يُغَلِبون الهوىٰ ؛ ويحتكمون لرغباتهم وشهواتهم فيترتب علىٰ ذلك ما اثبته القرآن الكريم فنطق يقول : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين } [(3)] ثم يأتي الاستثناء : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون }[(4)] ... اليوم - بمشيئته وعونه وتوفيقه - أكملُ الحديث عن مفصل هام يربط بين روابط العهد المكي ومراحله وبين بداية روابط العهد المدني ومراحله .. هذا المفصل الهام : وهو « الهجرة » .
﴿ ١ ﴾ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَىٰ رَسُولُ اللَّهِ [] مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ ، بِمَكَانِهِ مِنْ اللَّهِ [ ﷻ ] وَمِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ[(5)] فلم يخل أحد من المسلمين الذين ارتقوا إلىٰ درجة المؤمنين مِن أَذِيّةٍ لحقته، ولكن كل ذٰلك ضاع سدًى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يُسلِموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل إرجاعهم، ولكن وفقهم الله [ ﷻ ] لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلاً.
﴿ ٢ ﴾ إشَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] عَلَىٰ أَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ[(6)]
رأىٰ المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان، فــ تحولوا إلىٰ سياسة القوة التي اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا: { حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ }[(7)] .. أما هؤلاء فازدادوا بالأذىٰ علىٰ كل مَن أسلم رجاء صدّهم عن اتّباع الرسول [عليه الصلاة والسلام]، ولم يتركوا باباً إلا ولجوه، فقال [عليه الصلاة والسلام] لأصحابه: « تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم » ، فسألوه عن الوجه فأشار إلىٰ الحبشة. ".

لذا فــ :" عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ [ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ] زَوْجِ النَّبِيِّ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] أَنَّهَا قَالَتْ : „لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ ، وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] وَفُتِنُوا ، وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَعَمِّهِ ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ مَمَّا يَنَالُ أَصْحَابَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] : « إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّىٰ يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ » . فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا حَتَّىٰ اجْتَمَعْنَا بِهَا ، فَنَزَلْنَا خَيْرَ دَارٍ إِلَىٰ خَيْرِ جَارٍ أَمِنَّا عَلَىٰ دِينِنَا ، وَلَمْ نَخْشَ مِنْهُ ظُلْمًا ”.
وفي رواية ثانية عَنْها أنها قَالَتْ :" لَمَّا أُمِرْنَا بِالْخُرُوجِ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] حِينَ رَأَى مَا يُصِيبُنَا مِنَ الْبَلَاءِ : « الْحَقُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، فَأَقِيمُوا بِبِلَادِهِ حَتَّىٰ يَجْعَلَ اللَّهُ مَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ». فَــ : „ قَدِمْنَا عَلَيْهِ فَاطْمَأْنَنَّا فِي بِلَادِهِ ”. الْحَدِيثَ . [(8)]".
﴿ ٣ ﴾ فعند ذلك تجهزَ ناسٌ للخروج من ديارهم وترك أموالهم فراراً بدينهم كما أشار [عليه الصلاة والسلام]، وهذه هي أول هجرة مِن مكة، وعدّة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة: فَخَرَجَ :
- عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بن أبي العاص بن أمية ومَعَهُ امرأته : رُقَيَّةُ ابْنَةُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [(9)]،
قَالَ يَعْقُوبُ الْفَسَوِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " : قَالَ : حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ، قَالَ : „ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَىٰ اللَّهِ بِأَهْلِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ“
قَالَ : سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ يَعْنِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، يَقُولُ : „ خَرَجَ عُثْمَانُ بِرُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] إِلَىٰ الْحَبَشَةِ ، فَأَبْطَأَ خَبَرُهُمْ ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَتْ : „ يَا مُحَمَّدُ قَدْ رَأَيْتُ خَتَنَكَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ “،
فَقَالَ :« عَلَىٰ أَيِّ حَالٍ رَأَيْتِهِمَا » .
قَالَتْ : „ رَأَيْتُهُ حَمَلَ امْرَأَتَهُ عَلَىٰ حِمَارٍ مِنْ هَذِهِ الدَّبَّابَةِ ، وَهُوَ يَسُوقُهَا“ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ]: « صَحِبَهُمَا اللَّهُ ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ . « [(10)].
و
- أبو سلمة بْنُ عَبْدِالْأَسَدِ بن هلال بن عبدالله بن عمر الْمَخْزُومِيُّ ؛ ومعه زوجه أُم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم [ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ ] ،
و
- أخوه لأمهِ أبو سَبْرة بن أبي رُهْم بْنِ عَبْدِالْعُزَّى الْعَامِرِيُّ ، وزوجه أم كلثوم،
و
- عامر بن ربيعة حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ وزوجه ليلىٰ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ الْعَدَوِيَّةُ ،
وَ
- أَبُو حُذَيْفَةَ وَلَدُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِشَمْسٍ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بنت سُهَيل بْنِ عَمْرٍو؛ أحد بني عامر بن لؤي، فَوَلَدَتْ لَهُ بِالْحَبَشَةِ مُحَمَّدًا ،
و
- عبدالرحمٰن بن عوف بن عبدعوف بن عبد بن الحارث بن زهرة ،
و
- عثمان بن مظعون،
و
- من بني عبدالدار بن قصي : مصعب بن عمير بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار [ الْعَبْدَرِيُّ ] ،
و
- سُهَيْل بن البيضاء ، وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبٍ بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة الْحَارِثِيُّ ،
وَ
- الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بن خويلد بن أسد ؛ من بني أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وجُلّهم من قريش، وكان عليهم ــــ فيما روىٰ ابن هشام ــــ عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح[(11)] ، وَغَيْرُهُمْ تَمَامَ عَشَرَةِ رِجَالٍ ؛ وهذا ما قال به ابن هشام :" فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلىٰ أرض الحبشة ".
وَقِيلَ : أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، وَكَانَ مَسِيرُهُمْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَهِيَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ ، فَأَقَامُوا شَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ[(12)] ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ . فساروا علىٰ بركة الله، ولما انتهوا إلىٰ البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلىٰ مقصدهم، فأقاموا آمنين من أذًىٰ يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي [عليه الصلاة والسلام] إلا القليل .
ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ. ثُمَّ سَمَّىٰ ابْنُ إِسْحَاقَ جَمَاعَتَهُمْ ، وَقَالَ : „ فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، أَوْ وُلِدَ بِهَا ، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، فَعَبَدُوا اللَّهَ وَحَمِدُوا جِوَارَ النَّجَاشِيِّ ”.
وهنا يطرح السؤال نفسه : إى أين يذهبون!؟ ؛ وكيف يغادون موطنهم ومكان معاشهم وأرض أجدادهم وأبائهم وذويهم وتجاراتهم ويتركون بيوتهم وأهليهم وناسهم!؟... فتصاحبهم حالة رفض كامل مِن مَن يعيشون معهم في مكة من أقاربهم وجيرانهم ... رفض لما يعتقدونه ويؤمنون به وضاقت عليهم السبل ...
فهل لم يتبقَ أمامهم سوىٰ المغادرة القَصْرية وترك خلفهم ما كانوا يستعملونه!؟.
فــ [ إشَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَىٰ أَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ[(13)] ] هذه المسألة : « الهجرة » صاحبت الكثير من أنبياء الله تعالىٰ ؛ وتحتاج إلىٰ تسليط الضوء عليها وأضعها - مِن بعد إذنه ومشيئته - في ملاحق السيرة النبوية!
أمام التعذيب والاضطهاد وعدم مقدرة المسلمين علىٰ حماية أنفسهم ... في هذه الأجواء المشحونة برفض وغضب واستهزاء واستنكار وإهانة وتعذيب وضرب أختار الرسول الأعظم مكاناً بما لديه من معلومات سابقة عن الحاكم وعن الأرض ؛ فيقول ؛ كما قَالَ الْبَكَّائِيُّ ؛ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ [عليه الصلاة والسلام]، لَهُمْ : « لَوْ خَرَجْتُمْ[(14)] إلَىٰ أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا[(15)]("فِيهَا") مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ ، حَتَّىٰ يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا [(16)](وَمَخْرَجًا) مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ».[(17)]".
فائدة : الظاهر بوضوح - كضوء الشمس في رابعة النهار - لما قاله القائد الأعلى للمسلمين الأوائل ؛ أنه [عليه الصلاة والسلام]، يملك قدراً عالياً من الوعي السياسي وفهماً عميقا صحيحاً لما يحيط بمنطقة مكة سواء شمالها أو جنوبها أو حين يترك شبة جزيرة العرب ومغادرتها بحراً إلىٰ المنطقة المقابلة لها وتقع في قارة آخرىٰ(!) ويتكلمون لغة آخرىٰ غير لغتهم ؛ بل ويدينون بدين سابق علىٰ ما يدينون هم به - « „ النصرانية ‟» أو ما يحلو للبعض منهم بتسمية « „ المسيحية ‟» ولا مشاحة في استخدام المصطلح! ؛ فمسألة الوعي الصحيح المبني علىٰ معلومات موثقة يترتب عليهما فهم جيد للواقع إثناءالتعامل مع الحدث .. نحتاجها اليوم كما احتاجها النبي [عليه السلام]!
فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] إلَىٰ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ ، وَفِرَارًا إلَىٰ اللَّهِ بِدِينِهِمْ ، فَكَانَتْ أَوَّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ[( 18 ) ].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد الرمادي
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛" الْهِجْرَةُ ؛ الباب الثاني،
٧ من ذي الحجة للعام ١٤٤١ الهجري ~ 28 / 07 / 2020 من الميلاد العجيب.

أعلى الصفحة
فهرس

محاولة الصديق للهجرة
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛" الْهِجْرَةُ "
الْبَابُ الْأَوَّلُ : محاولة الصديق للهجرة
عَزْمَ الصِّدِّيقِ عَلَىٰ الْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ ، وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَىٰ ، وَرَأَىٰ مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى ، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِجْرَةِ ، فَأَذِنَ لَهُ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُهَاجِرًا ، حَتَّى إِذَا سَارَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ ؛ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِمَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ أَحَدُ بَنِي بَكْرٍ مِنْ عَبْدِمَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: ابْنُ الدَّغِنَةِ اسْمُهُ مَالِكٌ ؛ فَقَالَ : إِلَىٰ أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ [1]
ورَوَىٰ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَاً تَفَرِّدَ بِهِ ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ [2]. ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ [3] قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ : لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ [قَطُّ] إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا وَيَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرَفَيِ النَّهَارِ : بُكْرَةً وَعَشِيًّا [4]، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ [5] خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغَمَادِ ، لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَّةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَّةِ ،[6]
قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟
قَالَ : أَخْرَجَنِي قَوْمِي[7] ، وَآذَوْنِي ، وَضَيَّقُوا عَلَيَّ[8] ، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي[9]
قَالَ : وَلِمَ ؟[10] ، إِنَّ مِثْلَكَ [ يَا أَبَا بَكْرٍ ] لَا يَخْرُجُ [11] ؛ [ وَلَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ ] ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَزِينُ الْعَشِيرَةَ[12] [13] ، وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ[14] تُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، ارْجِعْ فَإِنَّكَ فِي جِوَارِي[15] . وَأَنَا لَكَ جَارٌ[16]، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلَادِكَ [17] .
فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ [18]،حَتَّى إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ [19] فَطَافَ [ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً] فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، وقَامَ ابْنُ الدَّغِنَةِ ... فَقَالَ لَهُمْ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ [20] ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلَا يَخْرُجُ ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ! [21]، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَا يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِخَيْرٍ [22] ، [فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ ] ، قَالَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا -: فَكَفُّوا عَنْهُ [23].
فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَّةِ [24]، وَقَالُوا لَهُ : مُرْ أَبَا بَكْرٍ [ فَلْــ ] يَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ ، فَلْيُصَلِّ [ فِيهَا ] وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِهِ ، فَإِنَّا نَخْشَىٰ أَنْ يُفْتَنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا .
فَقَالَ ذَلِكَ [ ابْنُ الدَّغِنَةِ ] لِأَبِي بَكْرٍ .
فَلَبِثَ [ أَبُو بَكْرٍ ] يَعْبُدُ رَبَّهُ [ فِي دَارِهِ ] وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ [25 ]
ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ ، فَابْتَنَىٰ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ ، فَيُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ [26 ] ،
قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا -: وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحَ ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ ، وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا ، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَىٰ [27]. فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ [ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ ] نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ [ 28 ] ؛ قَالَتْ : فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ ، يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ [ 29 ] ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ، [وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً] فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَكَادُ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ [ 30 ] [الْقُرْآنَ]، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ .
قَالَتْ عَائِشَةُ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ و - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا -:: فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَىٰ ابْنِ الدَّغِنَّةِ ، وَأَرْسَلُوا إِلَيه ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ [ 31 ]، فَقَالُوا لَهُ : [ إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَىٰ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ ، فَابْتَنَىٰ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ ، فَأَعْلَنَ فِي الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتَتِنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا ، فَانْهَهُ ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَىٰ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ ، فَعَلَ ، وَإِنْ أَبَىٰ إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ ، وأَنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ ،فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ .
وأضافوا : إِنَّكَ لَمْ تُجِرْ هَذَا الرَّجُلَ لِيُؤْذِيَنَا ، إِنَّهُ رَجُلٌ إِذَا صَلَّىٰ وَقَرَأَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ يَرِقُّ ، وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ ، فَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ عَلَىٰ صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضُعَفَائِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ ، فَأْتِهِ فَمُرْهُ بِأَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ ، فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ [32].
قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا -: فَمَشَىٰ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَيْهِ [33]... فَأَتَىٰ ابْنُ الدَّغِنَّةِ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ : قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي ، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ [34 ] فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي لَمْ أُجِرْكَ لِتُؤْذِيَ قَوْمَكَ ، وَقَدْ كَرِهُوا مَكَانَكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ ، وَتَأَذَّوْا بِذَلِكَ مِنْكَ ، فَادْخُلْ بَيْتَكَ فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ [ 35 ]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: [ فَإِنِّي ] أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَىٰ بِجِوَارِ اللَّهِ - تعالىٰ- ... وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ [ 36] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ؛ قَالَ : لَقِيَهُ - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - حِينَ خَرَجَ مِنْ جِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ عَامِدٌ إِلَىٰ الْكَعْبَةِ ، فَحَثَا عَلَىٰ رَأْسِهِ تُرَابًا ، فَمَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ... أَوِ ... الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السَّفِيهُ ؟ ،
فَقَالَ : أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ .
وَهُوَ - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - يَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، مَا أَحْلَمَكَ ! أَيْ رَبِّ ، مَا أَحْلَمَكَ ! أَيْ رَبِّ ، مَا أَحْلَمَكَ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرمادي
06/07/2020م

أعلى الصفحة
فهرس

" الْهِجْرَةُ "

[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ قَرَاءَها وَرَاجَعَها ثمَّ جَمَعَهَا فَكَتَبَهَا : د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدين بْنُ إبراهيم الرَّمَادِيُ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ غَفَرَ اللَّهُ - سبحانه وتعالىٰ - لِوَالِدَيْهِ وَلَهُ وَمُعَلِمِيهِ وَمَشَايخِهِ وكلِ مَن له فضلٌ عليه وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
بُحُوثٌ ﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾:" تَمْهِيدٌ ".
منذ اللحظة الأولىٰ مِن مبعثه [] وبعد حديثٍ مع القص ؛ وفي حوار بينهما بحضور زوج النبي السيدة خديجة بنت خويلد [رضي الله عنها وأرضاها] روته لنا السيدة عائشة بنت أبي بكر [رضي الله عنها وأرضاها وعن أبيها] في صحيح البخاري ؛ منذ تلك اللحظة علمَ صاحبُ الرسالة العصماء : آخر المرسلين ومتمم المبتعثين وخاتم الأنبياء أنه سيخرج مِن موطنه - مكة - وسيغادر مسقط رأسه الشريف...
فقد...
* . ] انْطَلَقَتْ بِهِ [] خَدِيجَةُ [رضي الله عنها وأرضاها] حَتَّىٰ أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ ؛ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ .... فَــ
قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ :" يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ " ؛ فَــ
قَالَ لَهُ وَرَقَةُ :" يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَىٰ " ، فَــ
أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَىٰ .... فَــ
قَالَ لَهُ وَرَقَةُ :" هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ [ﷻ] عَلَىٰ مُوسَىٰ ... يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ... لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ « يُخْرِجُكَ » قَوْمُكَ " . فَــ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ⋘ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ⋙
قَالَ :" نَعَمْ ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ .... وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا " [.(1).] .
بيد أن الواقع الفعلي لِمَا حدث في المرحلة المكية لمَن أمن بالدين الجديد عقيدةً ؛ أي أن الإله واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ؛ فلا تصح أن تكون له صاحبة ولا يجوز أن يكون له ولد... وله سبحانه الأمر والنهي ... ومَن أمن بالإسلام منهاجاً في الحياة وطريقة خاصة من العيش وطراز معين من الحياة ونظاماً لا يشبهه آخر ... الواقع الفعلي يظهر أنه سيكون لهم - رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين - نصيب من مقولة القص : « وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ » :" إِذْ « يُخْرِجُكَ » قَوْمُكَ " .
* . ] وَاسْتَبْعَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخْرِجُوهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ ، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَقَدَّمَ مِنْ خَدِيجَةَ وَصْفُهَا[.(2).] . ثُمَّ اسْتَدَلَّتْ عَلَىٰ مَا أَقْسَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ أَبَدًا بِأَمْرٍ اسْتِقْرَائِيٍّ وَصَفَتْهُ بِأُصُولِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِمَّا إِلَىٰ الْأَقَارِبِ أَوْ إِلَىٰ الْأَجَانِبِ ، وَإِمَّا بِالْبَدَنِ أَوْ بِالْمَالِ ، وَإِمَّا عَلَىٰ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ أَوْ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ فِيمَا وَصَفَتْهُ بِهِ . فَــ
قَالَتْ خَدِيجَةُ :"
- " كَلَّا ... "
ثم أقسمت:
- " وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا "
- " إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ "
- " وَتَحْمِلُ الْكَلَّ "
- " وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ "
- " وَتَقْرِي الضَّيْفَ "
- " وَتُعِينُ عَلَىٰ نَوَائِبِ الْحَقِّ "[.(3).] وَ
فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ:
- " وَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ "[.(4).]
وَ
قَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ الدُّغُنَّةِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَىٰ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ[.(5).] .
وهذا ما سأبحثه في ورقة البحث القادمة ...
وهي المسألة التي اصطلح عليها « الهجرة » ...
و
هي لغةً:
* . ] ( هَجَرَ ) الْهَاءُ وَالْجِيمُ وَالرَّاءُ يَدُلُّ عَلَىٰ قَطِيعَةٍ وَقَطْعٍ[.(6).] ،
* . ] قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَأَصْلُ الْمُهَاجَرَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ خُرُوجُ الْبَدَوِيِّ مِنْ بَادِيَتِهِ إِلَىٰ الْمُدُنِ ؛ يُقَالُ : هَاجَرَ الرَّجُلُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مُخْلٍ بِمَسْكَنِهِ مُنْتَقِلٍ إِلَىٰ قَوْمٍ آخَرِينَ بِسُكْنَاهُ[.(7).] ، فَقَدْ هَاجَرَ قَوْمَهُ .
وَسُمِّيَ الْمُهَاجِرُونَ مُهَاجِرِينَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمُ الَّتِي نَشَئُوا بِهَا لِلَّهِ ، وَلَحِقُوا بِدَارٍ لَيْسَ لَهُمْ بِهَا أَهْلٌ وَلَا مَالٌ حِينَ هَاجَرُوا إِلَىٰ الْمَدِينَةِ ؛ فَكُلُّ مَنْ فَارَقَ بَلَدَهُ مِنْ بَدَوِيٍّ أَوْ حَضَرِيٍّ أَوْ سَكَنَ بَلَدًا آخَرَ ، فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَالْاسْمُ مِنْهُ الْهِجْرَةُ[.(8).] . قال الله عزَّ وجلَّ : {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً }[.(9).] [.(10).] .
* . ] ( الهُجْرَة ) بالكسر [الْهِجْرَةُ] والضمّ[.(11).] ؛ الْهُجْرَةُ : أي الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضٍ إِلَىٰ أَرْضٍ[.(12).] أخرىٰ[.(13).] ومن فعل ذلك فقد هاجَر[.(14).].
وَالْمُهَاجِرُونَ : الَّذِينَ ذَهَبُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْتَقٌّ مِنْهُ[.(15).] .
* . ] وَهَاجَرَ الْقَوْمُ مِنْ دَارٍ إِلَىٰ دَارٍ : تَرَكُوا الْأُولَىٰ لِلثَّانِيَةِ ، كَمَا فَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَىٰ الْمَدِينَةِ[.(16).] .
* . ] قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً }[.(17).] وَكُلُّ مَنْ أَقَامَ مِنَ الْبَوَادِي بِمَبَادِيِهِمْ وَمَحَاضِرِهِمْ فِي الْقَيْظِ وَلَمْ يَلْحَقُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَتَحَوَّلُوا إِلَىٰ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، فَهُمْ غَيْرُ مُهَاجِرِينَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ وَيُسَمَّوْنَ الْأَعْرَابَ[.(18).] .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهِجْرَتَانِ :
- هِجْرَةٌ إِلَى الْحَبَشَةِ وَ
- هِجْرَةٌ إِلَىٰ الْمَدِينَةِ . وَالْمُهَاجَرَةُ مِنْ أَرْضٍ إِلَىٰ أَرْضٍ : تَرْكُ الْأُولَىٰ لِلثَّانِيَةِ[.(19).] .
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ : إِحْدَاهُمَا الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْجَنَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَىٰ : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ }[.(20).]
فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدَعُ أَهْلَهُ وَيترك مَالَهُ وَلَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَيَنْقَطِعُ بِنَفْسِهِ إِلَىٰ مُهَاجَرِهِ[.(21).] .
* . ] المُهاجَرَة في الأصل مُصارَمةُ الغَيرِ ومُتارَكَتُه قال الله - عزَّ وجلَّ - : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[.(22).] [.(23).].
* . ] وعند الأصوليين يوجد لديهم تعريف للدار ؛ بسقوط الدولة العثمانية سقط معها هذا التعريف: فــ
في قَوْلُهُ تَعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ }[.(24).] الخروجُ من دارِ الكُفر إلى دارِ الإيمان قال الله - عزَّ وجلَّ - : " ومن يُهاجِرْ في سبيل الله يَجِدْ في الأرضِ مُرَاغَماً كثيراً وسَعَةً "[.(25).]. و
الهِجْرَتان قال الله عزَّ وجلَّ : " ومن يُهاجِرْ في سبيل الله يَجِدْ في الأرضِ مُرَاغَماً كثيراً وسَعَةً "[.(26).] : هِجرَةٌ إلىٰ الحبَشَة وهِجرَةٌ إلىٰ المدينة وهذا هو المُراد من الهِجْرَتَيْن إذا أُطلِقَ ذِكرُهما ... قاله ابنُ الأثير . و
المُهاجَرَةُ[.(27).] من أرضٍ إلىٰ أرض[.(28).]: تَرْكُ الأولىٰ للثانية ، وذو الهِجْرَتَيْن من الصَّحابة : مَن هاجَرَ إليْهما[.(29).].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سلسلة بحوث
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
„ أبحاث تمهيدية لمستقبل أمة غائبة ‟
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
بِـ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِـ مِصْرَ الْمَحْمِيَّةِ- حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى -
Dr. MUHAMMAD ELRAMADY
حُرِّرَ في يوم الأربعاء : ٢٥ من شهر شوال ١٤٤١ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ~ الموافق ١٧ من شهر يونيو عام ٢٠٢٠ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول - عليهما السلام -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أعلى الصفحة
فهرس

 
 

 [ ٣ . ] خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلَىٰ شِعَابِ مَكَّةَ يُصَلِّي!

الْبَحْثُ الثالث(*)

خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَىٰ شِعَابِ مَكَّةَ يُصَلِّي!
ما زلنا نتعايش أجواء المرحلة المكيّة؛ وهي تلك المرحلة التأسيسية الأولىٰ لمبدأ الإسلام بأفكاره وقيّمه وقناعاته ومقايسه؛ وبناء شخصية حملة الدعوة الأول بشقيها العقلي والنفسي؛ ومَن سيأتي من بعدهم، وما زلنا نعيش في مناخ علنية الدعوة من رسول الإسلام الخاتم للأنبياء والمتمم للمبتعثين من رب العالمين لكافة البشر أجمعين ونعلم سِرية بعض افراد التكتل الإسلامي... نبحث في زمن البعثة المحمدية الأَول؛ وبدايات الرسالة الخاتمة للبشرية : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: „ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتُمُ أَمْرَهُ فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ وَيُصَلِّي فِي شِعَابِ مَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ ”[.(1).]. وَ
لَعَلَّ [ ممارسة أعباء ] الدَّعْوَةَ [ومزاولة نشاطها الحركي؛ وآداء ما فُرض من بدايات أحكام عقائدية وعملية مِن تعليم مبادئ التوحيد ودارسة كيفية عبادة الواحد الأحد] يَوْمَذَاكَ كَانَتْ مَحْصُورَةً فِي شِعَابِ مَكَّةَ [واثناءها ما كان يحدث - أيضاً - في دار الأرقم - المدرسة الدعوية الأولى؛ والأكاديمية المحمدية الزاهرة - علىٰ جبل الصفا] يُحِيطُ بِهَا – اي : „الدَّعْوَةَ” [في مهدها]- الْكَرْبُ وَالِابْتِلَاءُ؛ بيد أنه [يجب أن ندرك] فِي الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ [أي آيات الذكر الحكيم التي نزلت في أم القرى؛ مكةَ المكرمة]، وَفِي أَوَائِلِ الدَّعْوَةِ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين }[.(2).] ؛ وَقَالَ الخبير العليم: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون }[.(3).] [.(4).] !... والآياتان تهدمان ما يدعيه بعض المستشرقين مِن خصوصية الرسالة للعرب أو لمكة وما حولها.
الحال الإبتدائي :
والظاهر - مع سرية الدعوة؛ والإعلان عنها فيما بعد؛ حين أُمرَ [ﷺ] من قِبل صاحب الأمر والنهي سبحانه وتعالىٰ - أنه عليه السلام في بداية أمره [ﷺ] كان يصلي أمام الكعبة مباشرة ؛ وأمام أهل مكة ؛ كما علمه أمين السماء المَلك جبرائيل - عليه السلام - قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: أَتَى جِبْرَائِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلَ مَا أَتَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَلَيْلَةَ الْأَحَدِ ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ[.(5).] ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ فَرَضَ اللَّهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِــ « التَّوْحِيدِ » وَ « الْبَرَاءَةِ » مِنَ « الْأَوْثَانِ » : « الصَّلَاةُ » ، وَأَنَّ « الصَّلَاةَ » لَمَّا فُرِضَتْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ جِبْرَائِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَىٰ مَكَّةَ فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي ، فَانْفَجَرَتْ فِيهِ عَيْنٌ ، فَــ « تَوَضَّأَ » جِبْرَائِيلُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ « الطَّهُورُ » لِلــ « صَّلَاةِ » ، ثُمَّ « تَوَضَّأَ » رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ ، ثُمَّ قَامَ جِبْرَائِيلُ فَــ « صَلَّىٰ » بِهِ ، وَ« صَلَّىٰ» النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَلَاتِهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ . وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَىٰ خَدِيجَةَ - رضي الله تعالىٰ عنها وأرضاها - فَعَلَّمَهَا « الْوُضُوءَ » ، ثُمَّ صَلَّىٰ بِهَا فَصَلَّتْ بِصَلَاتِهِ[.(6).]
ويفهم مِن حيثيات الرواية أن تلك الحادثة تمت فيما بينهما فقط وفي بيت النبي محمد وزوجه؛ والله أعلم!
وهنا فائدة :
أنَّ مَن علم الرسول الخاتم كيفية « الوضوء » قبل « الصلاة » ؛ وكيفية آداءها بعد ذلك هو أمين السماء جبرائيل؛ فنحن أمة تعلمت أحكام الإسلام بواسطة المصطفىٰ المجتبىٰ المحتبىٰ المرتضىٰ كما علمه المَلك المنزل من عند الله تعالىٰ- أمين السماء : جبرائيل -؛ وهذه خصوصية : دقة التبليغ ؛ وصحة الآداء؛ وسأعود-بإذنه تعالى- عند الحديث عن قضية الإسراء والمعراج في مسألة الصلاة وأحكامها . هذه هي الفائدة الأولى؛ أما :
الثانية : فإنه في الدين الخاتم والرسالة المتممة لا تجد مبدأ أو فكرة؛ أو قيمة أو قناعة أو مقياس كالتوحيد - مثلا ؛ في بحثنا هذا- ؛ إلا وله تطبيق عملي في كيفية التعامل معه؛ بمعنىٰ وجود النظرية يرافقها التطبيق العملي مباشرة؛ كفكرة توحيد الإله وخلع الأوثان والتطبيق العملي في كيفية عبادته - سبحانه وتعالىٰ -... وهذا ومنذ بداية البعثة وبداية التكليف.
فكان [ﷺ] يصلي مع زوجه السيدة خديجة - رضي الله تعالى عنها - لقول علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - إذ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: „ ثُمَّ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَ ... وَهُمَا يُصَلِّيَانِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ: « يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا ؟ »
قَالَ [ﷺ] : ⋘ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَىٰ لِنَفْسِهِ ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ ، فَأَدْعُوكَ إِلَىٰ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَإِلَىٰ عِبَادَتِهِ ، وَأَنْ تَكْفُرَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى ⋙[.(7).].
وهنا فائدة :
يتبين مِن هذه الحادثة أن السلوك - الفعل ؛ التصرف - الذي قام به النبي [ﷺ] وليس الكلام أو الدعوة باللسان فقط دعت علياً إلىٰ الاستفسار والتساؤل : " لماذا يفعل ذلك ابن عمه [ﷺ] "...
وحين أجابه المصطفىٰ الهادي كما جاء عند ابن إسحاق في السيرة ؛ أجاب عليٌّ بقوله :" فَقَالَ عَلِيٌّ : « هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ »[.(8).]. إذ لا يوجد آحد مِن أهل مكة - ذاك الوقت - يفعل ما يفعله خاتم الأنبياء [ﷺ] ، ويفهم مِن ذلك أيضا أن السلوك والتصرفات والأفعال تكون ابلغ مِن الحديث والكلام.
وهذه فائدة خاصة لحملة الدعوة في كل عصر وزمان.
[ أ . ] حالةُ الصلاة أمام الكعبة :
قَالَ الزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَعُمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: « أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَكَانَ هُوَ وَعَلِيٌّ يَلْزَمَانِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، يَخْرُجُ إِلَىٰ الْكَعْبَةِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَيُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَىٰ ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تُنْكِرُهَا ، وَكَانَ إِذَا صَلَّىٰ غَيْرَهَا قَعَدَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَرْصُدَانِهِ[.(9).] .
فائدة :
من هذه الرواية نقرأ :" وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تُنْكِرُهَا "... وهي البداية الأولىٰ الفردية ؛ والظاهر هنا أنه دون دعوة علنية ؛ أما إذا انتشرت هذه الظاهرة الجديدة علىٰ المجتمع المكي ، وأيضا في المجتمعات الحديثة اي قول أو فكر فردي لا تهتم به الجهات المعنية بمراقبة ومراجعة ما يحدث في المجتمع ، أما إذا أخذت صورة جماعية تنظيمية تكتلية فلا بد من وقفة من تلك الجهات المعني ... وسأتكلم عنها في البحوث القادمة - إن الله تعالىٰ -
وفي نفس المسألة؛ أي بداية أمر البعثة المحمدية الخاتمة؛ تأتي رواية نثبتها في هذا المبحث وهي :
[ ب . ] حالةُ الصلاة أمام الكعبة: :
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إِيَاسِ بْنِ عُفَيِّفٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عُفَيِّفٍ وَكَانَ عُفَيِّفٌ أَخَا الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ لِأُمِّهِ أَنَّهُ قَالَ : „ كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا ، فَقَدِمْتُ مِنًىٰ أَيَّامَ الْحَجِّ ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ امْرَأً تَاجِرًا ، فَأَتَيْتُهُ أَبْتَاعُ مِنْهُ وَأَبِيعُهُ ” ،
قَالَ : „ فَبَيْنَا نَحْنُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مَنْ خِبَاءٍ فَقَامَ يُصَلِّي تِجَاهَ الْكَعْبَةِ ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ تُصَلِّي ، وَخَرَجَ غُلَامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ ”،
فَقُلْتُ : „ يَا عَبَّاسُ مَا هَذَا الدِّينُ ؟ ، إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَا نَدْرِي مَا هُوَ ؟ ” ،
فَقَالَ : „ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ ، وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ آمَنَتْ بِهِ ، وَهَذَا الْغُلَامُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آمَنَ بِهِ ”.
قَالَ عُفَيِّفٌ: „ فَلَيْتَنِي كُنْتُ آمَنْتُ يَوْمَئِذٍ فَكُنْتُ أَكُونُ ثَانِيًا ” .
وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : „ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خِبَاءٍ قَرِيبٍ مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَىٰ السَّمَاءِ ، فَلَمَّا رَآهَا قَدْ مَالَتْ قَامَ يُصَلِّي . ثُمَّ ذَكَرَ قِيَامَ خَدِيجَةَ وَرَاءَهُ” [.(10).] .
ونستوضح هذه الرواية السابقة بالألفاظ وطريق آخر :" وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ عَنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدَةَ الْبَجَلِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُفَيِّفٍ عَنْ عُفَيِّفٍ قَالَ :„ جِئْتُ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَىٰ مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَلَىٰ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَحَلَّقَتْ فِي السَّمَاءِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَىٰ الْكَعْبَةِ ، أَقْبَلَ شَابٌّ فَرَمَىٰ بِبَصَرِهِ إِلَىٰ السَّمَاءِ ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ ، فَقَامَ مُسْتَقْبِلَهَا ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّىٰ جَاءَ غُلَامٌ فَقَامَ عَنْ يَمِينِهِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّىٰ جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ خَلْفَهُمَا ، فَرَكَعَ الشَّابُّ فَرَكَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ ، فَرَفَعَ الشَّابُّ فَرَفَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ ، فَخَرَّ الشَّابُّ سَاجِدًا فَسَجَدَا مَعَهُ ”.
فَقُلْتُ : „ يَا عَبَّاسُ أَمْرٌ عَظِيمٌ ” .
فَقَالَ : „ أَمْرٌ عَظِيمٌ ”.
فَقَالَ : „ أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ ”
فَقُلْتُ : „ لَا ”.
فَقَالَ : „ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ ، ابْنُ أَخِي ... أَتَدْرِي مَنِ الْغُلَامُ ؟ ”
قُلْتُ : „ لَا ”.
قَالَ : „ هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. .. أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَلْفَهُمَا ؟ ”
قُلْتُ : „ لَا ”.
قَالَ : „ هَذِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةُ ابْنِ أَخِي ، وَهَذَا حَدَّثَنِي أَنَّ رَبَّكَ رَبَّ السَّمَاءِ أَمَرَهُ بِهَذَا الَّذِي تَرَاهُمْ عَلَيْهِ ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَىٰ ظَهْرِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَدًا عَلَىٰ هَذَا الدِّينِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ” [.(11).].
واختلف في أول من اسلم وكذا في أول من صلىٰ مع رسول الله [ﷺ] :
« ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي أَوَّلِ[.(12).] مَنْ أَسْلَمَ »
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَىٰ أَنَّ خَدِيجَةَ - رضي الله تعالى عنها - أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ إِسْلَامًا[.(13).] ، فَــ
قَالَ قَوْمٌ : أَوَّلُ ذَكَرٍ آمَنَ عَلِيٌّ. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ ، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ ، صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ .
قلت[الرمادي]:" هذه الرواية فيها نظر؛ ولا تعتبر؛ وراويها من أهل التشيع؛ فيسقط الاستدلال بها؛ مع حفظ مقام ودرجة الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله تعالى وجهه - (!) ".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : „ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ.“ وَ
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: „ بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَصَلَّىٰ عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ“ [.(14).]
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْأَرْقَمِ : „ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيٌّ”. [.(15).]
وَ رواية الكامل:" قَالَ عُفَيْفٌ الْكِنْدِيُّ: كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ أَيَّامَ الْحَجِّ فَأَتَيْتُ الْعَبَّاسَ ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ فَقَامَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ يُصَلِّي ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي مَعَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ غُلَامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ .
فَقُلْتُ : „ يَا عَبَّاسُ مَا هَذَا الدِّينُ ؟ ” ،
فَقَالَ : „ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ ابْنُ أَخِي ، زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ آمَنَتْ بِهِ ، وَهَذَا الْغُلَامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آمَنَ بِهِ ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدًا عَلَى هَذَا الدِّينِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ ! ” ،
قَالَ عُفَيْفٌ: „ لَيْتَنِي كُنْتُ رَابِعًا” [.(16).] .
وعلىٰ هذا التساؤل: أي « ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ » ... (!)
فـــ :" أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - التي ذكرت في البحوث السابقة - بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ « أَبُو بَكْرٍ » ؛ وَمِنَ النِّسَاءِ « خَدِيجَةُ » ، وَمِنَ الْمَوَالِي « زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ» ، وَمِنَ الْغِلْمَانِ « عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ »- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ- [.(17).].
وتأتي قصة توضح المقصود : فقد ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ : „ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ مَا بُعِثَ وَهُوَ بِمَكَّةَ [وفي رواية : بِــ „ عُكَاظَ” [.(18).] ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُسْتَخْفِيًا ”،
فَقُلْتُ : „ مَا أَنْتَ ؟ ” ،
قَالَ : ⋘ أَنَا نَبِيٌّ ⋙ .
فَقُلْتُ : „ وَمَا النَّبِيُّ ؟ ” ،
قَالَ : ⋘ رَسُولُ اللَّهِ ⋙ .
قُلْتُ : „ آللَّهُ أَرْسَلَكَ ؟ ” ،
قَالَ : ⋘ نَعَمْ ⋙ .
قُلْتُ : „ بِمَ أَرْسَلَكَ ؟ ” ؛
قَالَ : ⋘ بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَتَكْسِرَ الْأَصْنَامَ ، وَتَصِلَ الْأَرْحَامَ ⋙ .
قَالَ : قُلْتُ : „ نِعْمَ مَا أَرْسَلَكَ بِهِ ، فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟ ” ،
قَالَ : ⋘ حُرٌّ وَعَبْدٌ ⋙ .
[ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا ]
قَالَ : فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ : „ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا رُبُعُ الْإِسْلَامِ ”.
قَالَ : „ فَأَسْلَمْتُ ” .
قُلْتُ : „ فَأَتَّبِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ” .
قَالَ : ⋘ لَا ، وَلَكِنِ الْحَقْ بِقَوْمِكَ ، فَإِذَا أُخْبِرْتَ أَنِّي قَدْ خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي ⋙[.(19).].
وهنا يتدخل قلم الحافظ ابن كثير :". وَيُقَالُ : إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ⋘ حُرٌّ وَعَبْدٌ ⋙ . اسْمُ جِنْسٍ ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ بِــ « أَبِي بَكْرٍ » وَ « بِلَالٍ » فَقَطْ فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ وَقَدْ كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ بِلَالٍ أَيْضًا ، فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ رُبُعُ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ يَسْتَسِرُّونَ بِإِسْلَامِهِمْ لَا يَطَّلِعُ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ كَثِيرُ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ ، دَعِ الْأَجَانِبَ ، دَعْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ[.(20).] .
الحالة الثانية : « خُرُوجُ عَلِيٍّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَىٰ شِعَابِ مَكَّةَ يُصَلِّيَانِ »
ننتقل إلىٰ حال آخر ؛ إذ أن الحال الأول صلاته - عليه السلام - أمام الكعبة وعلىٰ مرأى مِن قريش ؛ فقد قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ ، خَرَجَ إِلَىٰ شِعَابِ مَكَّةَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ فَيُصَلِّيَانِ فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا [.(21).]
*.] الصَّلَاةُ في شِعَابِ مَكَّةَ [.(22).]
[خُرُوجُ عَلِيٍّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ يُصَلِّيَانِ ، وَوُقُوفُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَمْرِهِمَا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ « عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ » مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ ، فَيُصَلِّيَانِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا ، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا . فَمَكَثَا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا .
ثُمَّ
إنَّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَهُمَا يُصَلِّيَانِ ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : „ يَا ابْنَ أَخِي مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَرَاكَ تَدِينُ بِهِ ؟ ” ،
قَالَ : ⋘ أَيْ عَمِّ ، هَذَا دِينُ اللَّهِ ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ ، وَدِينُ رُسُلِهِ ، وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ- أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ ، وَأَنْتَ أَيْ عَمِّ ، أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ ، وَدَعَوْتُهُ إلَى الْهُدَى ، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ ⋙ ، أَوْ كَمَا قَالَ ؛ فَــ
قَالَ أَبُو طَالِبٍ: „ أَيْ ابْنَ أَخِي ، إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَا يَخْلُصُ إلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيتُ ” .
وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: „ أَيْ بُنَيَّ ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ؟” ،
فَقَالَ : « يَا أَبَتِ ، آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِ اللَّهِ ، وَصَدَّقْتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ لِلَّهِ وَاتَّبَعْتُهُ » .
فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُ :„ أَمَا إنَّهُ لَمْ يَدْعُكَ إلَّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ” [.(23).].
وفي رواية : وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ انْطَلَقَ هُوَ وَعَلِيٌّ إِلَى بَعْضِ الشِّعَابِ بِمَكَّةَ فَيُصَلِّيَانِ وَيَعُودَانِ[.(24).] .
وعند القاري:" كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَىٰ غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ ، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِصَلَاتِهِمْ فِي الشِّعَابِ[.(25).]
* ] (خُرُوجُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ إلَىٰ شِعَابِ مَكَّةَ)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّوْا،…ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ، فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ[.(26).]
أما حيث اللُغة: فــ الشِّعْبُ : انفراجٌ بين الجبلين ، والجمع : شِعابٌ . والشِّعْبُ: الطريقُ.
و شِعَابِ مَكَّةَ" جَمْعُ شِعْبٍ بِكَسْرِ الشِّينِ ، وَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ ، وَأَمَّا الشَّعْبُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ مَا يُشَعَّبُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ[.(27).].
ــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
( يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ )
ــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
بحوث: «السِّيرَة النَّبَوِيَّة» الشريفة؛ علىٰ صاحبها أفضل الصلوات وأتم السلامات وكامل البركات والرحمات وآله وصحابته الكرام؛ وعلىٰ مَن اتبع هداه واستن طريقته والتزم سنته،
(*) تكملة مَبَاحِث ::
﴿„ ٦ ” ﴾ المجلد السادس مِن „ علنية الدعوة .. .. سرية التكتل “
حُرِّرَ سَنَةَ ١٤٤١ مِن السنة الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ -هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين- الخميس : ٥ مِن شهر شوال ~ ٢٨ مايو 2020 مِن الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول - عليهما السلام-
الرَّمَادِيُ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ

أعلى الصفحة
فهرس

 

[ ٢ . ] الْبَحْثُ الثَّانِي(*)
دُّورٌ عَلَىٰ الْحَقِّ ”
﴿ „ ٢ . ١ . ”﴾."

المرحلة الفردية "بَدْو دعاء رسول الله [ﷺ] الناس إلى الإسلام: وهذا تقريباً في حدود السنة 11 ق . هـ ~ 611 م .
في أطوار دعوته[.(1).] [ﷺ] - مرت بــ
ثلاثة مراحل:
١ . ]: الأولىٰ منها: المرحلة الفردية:
بعد نزول آيات المدثر قام رسول الله - ﷺ - يدعو إلىٰ الله - سبحانه وتعالى - وإلىٰ الإسلام سرًّا[.(2).]؛ فــ كان الأمر بالدعوة في بدايتها يشمل اصطفاء النبي [ﷺ] وانتخابه للرعيل الأول الذي يستطيع كتمان السر ودعوته كانت بلين وخفاء حتىٰ لا تشتعل مكة التي تحتفظ بجاهليتها كاملة عبر قرون مِن الشرك وتبديل دين إبراهيم الخليل؛ أبي الأنبياء -عليه السلام-، فتعجيل المواجهة - قد يترتب عليها نوع من الاحتكاك أو أنواع من المصادمة -؛ والجهر بالدعوة في هذا الوضع - قد ينتج عنه رد فعل متسرع ومدمر مِن الرافضين -؛ وبالتالي فالمفسدة المتوقعة راجحة، وهنا لزم الأمر الكثير مِن التأني والحيطة والفراسة في انتخاب مَن يحمل هذه الأمانة العظيمة في بدايتها، واستمر هذا الوضع لثلاث سنوات كاملات، يبني فيها رسول الله [ﷺ] شخصيات الرعيل الأول : النفسية منها؛ والعقلية؛ ويسعىٰ لتكوين اللبنة الأولىٰ في صرح الإسلام؛ الدين الجديد؛ بكل معنىٰ هذه الكلمة مِن قيم جديدة ومفاهيم وقناعات ومبادئ لم تكن موجودة في المجتمع المكي بل وغريبة عند قريش؛ مثالا علىٰ ذلك هيئة الصلاة؛ فَــ :" كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : أَكْرَهُ أَنْ أَسْجُدَ فَتَعْلُونِي اسْتِي. والخالق سبحانه قَالَ :{ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } وَهُوَ مِمَّا كَانَ يَأْنَفُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ[.(3).]، وايضاً يؤسس [ﷺ] القاعدة البشرية الصلبة التي ستحمل معه [ﷺ] علىٰ أكتافها البناء الشاهق المرتفع، وهذه الفترة... وهذا الصبر فيه إشارة مع تنبيه إلىٰ كل متعجل أو متسرع في البناء الدعوي أن تأنىٰ وتمهل حتىٰ تأتي الدعوة ثمارها[.(4).] .
وأوضح مثال علىٰ ذلك ما ذكره ابن إسحاق في السيرة : [.(5).] عند ذكر أول مَن أسلم، ثمَّ ذكر مُتَقَدِّمي الاسلام مِن الصَّحَابَة وَغَيرهم، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:" ثُمَّ إِنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ [أي : بعثته [ﷺ]] بِيَوْمٍ وَهُمَا [يعني : النبي وزوجه] يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: «يَا مُحَمَّد مَا هَذَا؟»
قَالَ: «„دين الله اصْطَفَىٰ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ فَأَدْعُوكَ إِلَىٰ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَىٰ عِبَادَتِهِ، وَأَنْ تَكْفُرَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى”».
فَقَالَ عَلِيٌّ: «هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرًا حَتَّى أُحَدِّثَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ».
فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُفْشِيَ عَلَيْهِ سَرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ أمره.
فَقَالَ لَهُ: «„ يَا على إِذْ لَمْ تُسْلِمْ... وفي رواية : [( إِذْ لم تسمع)] فَاكْتُمْ”».
فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَوْقَعَ فِي قَلْبِ عَلِيٍّ الْإِسْلَامَ، فَأَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: «مَاذَا عَرَضْتَ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ؟ »
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «„ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك لَهُ وَتَكْفُرُ بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَتَبْرَأُ مِنَ الْأَنْدَادِ ”»... فَفَعَلَ عَلِيٌّ وَأَسْلَمَ، وَمَكَثَ يَأْتِيهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِنْ أَبِي طَالِبٍ، وَكَتَمَ عَلِيٌّ إِسْلَامَهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ[.(6).] ".
- " وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:« أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَدِيجَةُ، وَأَوَّلُ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ، وَأَسْلَمَ عَلِيٌّ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ خَوْفًا مِنْ أَبِيهِ، حَتَّى لَقِيَهُ أَبُوهُ قَالَ: «أَسْلَمْتَ؟» قَالَ: «نَعَمْ».
قَالَ: « وَآزِرِ ابْنَ عَمِّكَ وَانْصُرْهُ[.(7).] ».".
-*/-*
﴿ « ٢ . ٢ . » ﴾: “الدعوة السرية”:
كان النبى- ﷺ - يعلم تمام العلم عناد «قريش» -على عمومها؛ إلا قليلاً- وكبرياءها وإصرارها علىٰ التمسك بالقديم، واعتزازها بآبائها وأجدادها وعبادتها للأصنام؛ وتمسكها بالأوثان والأزلام، لذا فلن تُسلِّم بسهولة، أو تذعن لدعوته، بل ستقاومه حتىٰ آخر سهم فى جعبتها، لأنها اعتقدت أن الإسلام يهدد مصالحها الحيوية ويقضي علىٰ سيطرتها الفعلية علىٰ «مكة» وما حولها، ولو علمت أن الإسلام - الدين الجديد - سيجعلها سيدة العالم ما قاومته لحظة واحدة ولرحَّبت بدعوته.
" أدرك النبى - صلى الله عليه وسلم – ذلك تماماً، فقرَّر أن تكون دعوته لدينه سرا فى بادئ الأمر، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته[.(8).] وفى دعوة أصدقائه وأقرب الناس إليه[.(9).]؛ ومَن يأنس فيهم خيرًا واستعدادًا لقبول الحق والهُدى، ممن يعرفهم ويعرفونه، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح[.(10).]، فآمن به - إلىٰ جانب مَن ذكرنا - عدد من رجالات «قريش» ونسائها، وطائفة مِن العبيد والفقراء والضعفاء الذين رأوا فى الدين الجديد الخلاص مما هم فيه مِن شقاء وبؤس، مثل: «بلال بن رباح»، و «صهيب الرومى»، و «آل ياسر»، فأجابه مِن هؤلاء الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلالة نفسه، وصدق خبره ـ جَمْعٌ عُرِفوا في التاريخ الإسلامى بــ«السابقين الأولين»[.(11).] " وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يجتمع بمن أسلم سرا فى دار «الأرقم بن أبى الأرقم» يتلو عليهم آيات القرآن الكريم المنزل أول بأول، ويعلمهم شرائع الإسلام، وكان الوحي يبين لهم جوانب شتىٰ مِن التوحيد والربوبية والألوهية، ويرغبهم في تزكية النفوس، ويحثهم علىٰ مكارم الأخلاق، ويصف لهم الجنة والنار كأنهما رأي عين، ويعظهم فيرشدهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذي الروح، وتحدو بهم إلىٰ مناخ آخر غير الذي كان فيه المجتمع البشري آنذاك[.(12).]‏".
واستمرت هذه الدعوة السرية نحو ثلاث سنوات، ازداد فيها عدد المسلمين زيادة يسيرة. ولقد تكلمتُ عنهم في المبحث الأول -السابق- من المجلد السادس؛ نشر موقع آستروعرب نيوز فليراجع هناك.
روى عبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي عن أبيه « أن رسول الله [ﷺ] كان يدعو مِن أول ما أنزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفياً »[.(13).].
" إِسْلَامُ «السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ» وصلاتهم:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ ، خَرَجَ إِلَىٰ شِعَابِ مَكَّةَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ فَيُصَلِّيَانِ فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ عَبَرَ عَلَيْهِمَا وَهُمَا يُصَلِّيَانِ ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : „يَا ابْنَ أَخِي مَا هَذَا ؟”، قَالَ :«„ أَيْ عَمِّ هَذَا دِينُ اللَّهِ؛ وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَدِينُ إِبْرَاهِيمَ، بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ أَيْ عَمِّ أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ وَدَعَوْتُهُ إِلَى الْهُدَى، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي وَأَعَانَنِي”». فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: „أَيِ ابْنَ أَخِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا يُخْلَصُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيتُ”، وَلَمْ يُكَلِّمْ عَلِيًّا بِشَيْءٍ يَكْرَهُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ : „أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَدْعُكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ فَاتَّبِعْهُ”[.(14).]".
ومما يشار إليه هنا أيضا الدور الذي قام به الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- في نشر الدعوة في مهدها[.(15).] ... فــقال يعقوب بن عتبة : « كان أبو بكر.. وعثمان.. وسعيد بن زيد.. وأبوعبيدة بن الجراح يدعون إلى الإسلام سراً »[.(16).].
تَذْكُرُ كتب السِّيرة أنَّ اتِّخاذ دار الأرقم مَقَراً لقيادة الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المواجهة الأولىٰ الَّتي برز فيها سعد بن أبي وقَّاص -رضي الله عنه-[.(17).]... قال ابن إسحاق: «وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلُّوا؛ ذهبوا في الشِّعاب، فاستخفَوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقَّاص -رضي الله عنه- في نفرٍ من أصحاب رسول الله [ﷺ] في شِعْبٍ من شِعاب مكَّة؛ إذ ظهر عليه نفرٌ من المشركين؛ وهم يصلُّون، فناكَرُوهم. وعابوا عليهم ما يصنعون حتَّى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بِلَحي بعيرٍ، فشجَّه فكان أوَّل دمٍ أُريق في الإسلام»[.(18).] [.(19).].
-*/-*
« دَارَ الْأَرْقَمِ » : « دَّارُ الْإِسْلَامِ»
الدَارُ التي استتر رسول الله[.(20).] وكان يَدْعُوَ [ﷺ] النَّاسَ فِيهَا إِلَىٰ الْإِسْلَامِ[.(21).]،
( * ) " قَالَ ابْنُ عُمَرَ روايةً عَن عَمَّار بْنُ يَاسِرٍ أنه ألَتقِىٰ بــصُهَيْبٍ بْنَ سِنَانٍ عَلَىٰ بَابِ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا... وأَرَدْا أَنْ يدْخُلا عَلَىٰ مُحَمَّدٍ، ليَسْمَعَا كَلَامَهُ... فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ... فَعَرَضَ عَلَيْهما الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَا، ثُمَّ مَكَثْنَا يَوْمَنَا عَلَىٰ ذَلِكَ حَتَّىٰ أَمْسَيْنَا، ثُمَّ خَرَجْنَا وَنَحْنُ « „ مُسْتَخْفُونَ ”»[.(22).]".
وهنا موضع الشاهد : « الاستتار والاختفاء عن أعين مَن يخالفونهم في العقيدة والإيمان والعبادات والمعاملات والأخلاق؛ وهي مرحلة دقيقة استمرت وفق مصادر السيرة ما يقترب من ثلاث سنوات؛ بيد أن بعض مصادر السيرة تبين أنه بداية الرابعة قام الرسول الكريم بأمر من ربه بالصدع؛ وهي مرحلة دقيقة آخرى تكاد تكون أشد وطأة من الأولى؛ إذ فيها سيتم المواجهة والمكاشفة والإعلان والتبيان للدين الجديد وحتما سيتم مصادمة مع مَن يرفض هذه الكتلة من القيم وتلك المجموعة من المفاهيم وتلك الحزمة من الأفكار والمبادئ؛ مع إقرارهم أنه [ﷺ] الصادق الأمين» .
نعود مرة ثانية للمرحلة الأولى من سير الدعوة الإسلامية في مكة... ولعلَّنا نلاحظ أن الأسماء السابقة –المذكورة في المجلد السادس؛ المبحث الأول- شملت رجلين من بني مخزوم؛ هما:
- أبو سلمة بن عبدالأسد، و
- الأرقم بن أبي الأرقم.. وهذا أمر لافت للنظر؛ لأن قبيلة بني مخزوم تتنازع لواء الشرف مع قبيلة رسول الله [ﷺ] بني هاشم، فهذا يدلُّ على أمرين جليلين: أما
- الأول فهو جرأة حملة الدعوة المسلمين في إيصال دعوتهم لمن يَرَوْنَ أنه أهلٌ لها، ولمن يُتَوَقَّع منه الاستجابة، حتى لو كان من عقر دار المنافسين، والأمر
- الثاني هو صدق الإيمان في قلبي أبي سلمة والأرقم، واللذين لم يمتنعا عن قبول اعتناق دينٍ أتى على يد رجلٍ من قبيلة يناصبونها العداء لسنوات وسنوات، وهذا يعطينا فكرة عن طبيعة هذه المجموعة الجليلة التي بُنِيَ الإسلام على أكتافها ".
فهي الدار التي كان رسول الله محمد [ﷺ] يجتمع فيها مع اوائل المسلمين - صحابته - في مكة المكرمة في بداية دعوته، فـ :" أصبحت دار الأرقم مركزاً جديداً للدَّعوة يتجمَّع فيه المسلمون، ويتلقَّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ جديدٍ من الوحي[.(23).]، وكانوا يتعلمون اسس الاسلام وتعاليم الدين وشرائع الإسلام في بداية الدعوة، وكان يجلس [ﷺ] فيها مع الصحابة يقيمون صلاتهم؛ وكانو يقرئون ما ينزل الله - عز وجل - من القرآن الكريم علىٰ رسوله محمد [ﷺ]، وكانت الدعوة في ذلك الوقت سرية[.(24).]. هؤلاء الَّذِينَ هُمْ مُخْتَفُونَ مُسْتَتِرُونَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ وَنَحْوِهَا مِنَ الدُّورِ التي عَلَىٰ الْحَقِّ ؟[.(25).]. كـــــ دار ختن عمر بن الخطاب سعيد بن زيد أحد المبشرين.".
-*/-*
دار الأرقم بن أبي الأرقم ودورها „ الدعوي ” و „ التربوي ” في بداية الدعوة
أولا: التعريف بالأرقم بن أبي الأرقم[.(26).]:
- هو الصحابي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبدالله بن عمر المخزومي؛ وَ
- اسْمُ أَبِي الْأَرْقَمِ :
عَبْدُمَنَافِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَ
هُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ،
أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَ
كَانَ الْأَرْقَمُ مِنْ آخِرِ أَهْلِ بَدْرٍ وَفَاةً[.(27).]، و
- كنيته:
أبو عبدالله. و
فهو من السابقين الأولين الذين استجابوا لله والرسول، أسلم بعد ستة نفر[.(28).]؛ وجاء في المستدرك للحاكم: قَالَ :" عُثْمَانُ بْنُ هِنْدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ، حَدَّثَنِي جَدِّي عُثْمَانُ بْنُ الْأَرْقَمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :„ أَنَا ابْنُ سُبُعِ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ”[.(29).] ". و
قيل: بعد عشرة[.(30).] [.(31).] ؛ وهو
من الذين باعوا عَرَض الدنيا لأجل الآخرة، وآثروا تحمل الأذى والعذاب على حياة الشرك والكفر، و
أمه :
فهي أميمة بنت الحارث... بيد أنه جاء عند المستدرك :" حدثنا خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، قَالَ : وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّونَ : أُمُّ الْأَرْقَمِ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ «تُمَاضِرُ بِنْتُ حِذْيَمٍ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ»[.(32).]".
-*/-*
موقعها
ثانيا: موقع دار الأرقم بن أبي الأرقم... وأسباب اختيارها مقرا للدعوة :
جغرافية الدار :
تقع دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصَّفا[.(33).]، الذي اتخذت داره لتكون مقرا للدعوة السرية للدين الجديد، [.(34).]. -وقال ابن الأثير في النهاية (3 /41): الصفا أحد جبلي المسعى- بمكة الذي -جبل الصفا- كان بعيدا عن أنظار المشركين أيام الدعوة الإسلامية في مرحلتها السرية. و
يقال لها دار الخيزران[.(35).]، والخيزران كما في أخبار مكة للأزرقي: جارية المهدي وهي التي بَنَت مسجدا في موضع هذا الدار عند الصفا[.(36).]... ويصف الفاسي في شفاء الغرام مشاهدته ذلك المسجد الذي بنته الخيزران حين يقول:» وطول هذا المسجد ثمانية أذرع إلا قيراطين، وعرضه سبعة أذرع وثلث الجميع بذراع الحديد حرر ذلك بحضوري وفيه مكتوب: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال } [.(37).] هذا مختبأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الخيزران، وفيه مبتدأ الاسلام، أمرت بتجديده الفقيرة إلى الله مولاة أمير الملك مفلح سنة ست... [ وذهب بقية التاريخ ] وعَمّره أيضا الوزير الجواد، وعمّره أيضا المستنصر العباسي، وعُمِر أيضا في عصرنا في آخر القرن الثامن من قبل امرأة مصرية مجاورة يقال لها » مرة العصماء «، وعُمِر أيضا في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، والذي أمر بهذه العمارة لا أعرفه، والمتولي لصرف النفقة فيها علاء الدين علي بن ناصر محمد الصارم المعروف بالقائد[.(38).] وكان النبيُّﷺ يدخلها ويجتمع فيها هو وأصحابه، يقرؤهم القرآن ويعلمهم فيها، وفيها أسلم عُمَرُ بن الخطاب- رضي الله عنه-.
-*/-*
في : 《 المدرسة „الدعوية” في دار الأرقم بن أبي الأرقم 》[.(39).]
* . ] يجدر بنا مِن حيث دقة التعبير؛ وحسن استخدام الألفاظ والمصطلحات... يجدر بنا أن نسمي هذه الدار بأنها „ دار الدعوة ”؛ أو كما كتب مِن قبل „ دار الإسلام ” فعند صاحب المستدرك تقرأ :" وَدُعِيَتْ دَارُ الْأَرْقَمِ „ دَارُ الْإِسْلَامِ ” [.(40).]".
فَــــ „ دَّارُ الْإِسْلَامِ ” كانت عند الصفا، ودُعِيَت دارُ الأرقم بعد ذلك بــ „ دار الإسلام ”، وهذه الدار - دار الأرقم - جاء في المستدرك :" وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَىٰ الصَّفَا وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَسْلَمَ فِيهَا قَوْمٌ كَثِيرٌ [.(41).]".
وجبل الصفا - قريبة من الكعبة - ذلك الجبل المنعزل عما يدور حوله، فهي إذن بمعزل عن أعين الأعداء والمتربصين، يجتمع بأصحابهِ بعيداً عن أعين المشركين؛ ولقد مرت الدعوة النبوية بمرحلتين أساسيتين يربطهما مفاصل:
- مرحلة الدعوة السرية، وكانت ثلاث سنين بمكة المكرمة، و
- مرحلة الدعوة الجهرية وهي ما بعد ذلك.
وكانت طبيعة المرحلة الأولىٰ تتطلب سرية العمل الدعوي، ريثما تتهيأ الظروف المناسبة للجهر بها، وكانت دار الأرقم، هي المكان المناسب لمثل هذه الظروف من أيام الدعوة.
توافرت - لهذه الدار - صفات عدة جعلت منها منطلقاً ومناراً لهذه الدعوة الناشئة؛ تقرأ عند صاحب المستدرك:" عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ، عَنْ جَدِّهِ الْأَرْقَمِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا... وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آوَى فِي دَارِهِ عِنْدَ الصَّفَا[.(42).] ". فكانت أول دار للدعوة إلى الإسلام.
والذي دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لاختيار هذه الدار عدة أسباب:
أسباب اختيار الدار مقرا للدعوة الإسلامية :
اختار [ﷺ] دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرا لدعوته، ومركزا لاجتماع أصحابه لأسباب استنتجها الشيخ علي محمد الصلابي في كتابه[.(43).] وذكرتها الدكتورة الفاضلة: خديجة أبوري؛ من المغرب العربي... منها:
١ . ] أن الأرقم - صاحب هذه الدار - لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد من المشركين - أو قريش- أن يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم أو يتم لقاء محمد [ﷺ] وأصحابه بداره.
٢ . ] أن الأرقم -رضي الله عنه- كان كان فتى عند إسلامه ومن السابقين الأولين دخولا في الإسلام فهو سابع سبعة دخلوا فيه كما عند الحاكم[.(44).] وغيره، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عُمْرِه، ولم تفكر قريش أن هناك تجمع إسلامي عند أحد الفتيان؛ ويوم تفكر قريش في البحث عن هذا التجمع الإسلامي فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد [ﷺ] بل يتجه نظرها -في الغالب- وبحثها إلىٰ بيوت كبار أصحابه؛ أو بيته هو نفسه.
٣. ] أن الأرقم بن أبي الأرقم -رضي الله عنه- لم يكن معروفاً بإسلامه وأضف أنه من قبيلة بني مخزوم التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره؛ لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
٤ . ] أن دار الأرقم بن أبي الأرقم على الصَّفا مما يعني جودة ومناسبة موقعها... فقد كانت قريبة من الكعبة المشرفة.
٥ . ] أن الأرقم بن أبي الأرقم كان يقرأ ويكتب، فهو من كتاب النبي [ﷺ]، فكان يكتب ما ينزل من القرآن في الدار في مرحلة الدعوة السرية.
قد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التَّجمُّع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكرٍ -رضي الله عنه-، أو غيره؛ ومن أجل هذا نجد أنَّ اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من النَّاحية الأمنيَّة، ولم نسمع أبداً: أنَّ قريشاً داهمت ذات يومٍ هذا المركز، وكشفت مكان اللِّقاء[.(45).].
ثالثا: دار الأرقم بن أبي الأرقم ودورها„ الدعوي” و „ التربوي ” في بداية الدعوة
كان النبي [ﷺ] في أول أمره يدعو إلى الله سرا لئلا يصيبه أو يصيب أحدا ممن اتبعه الأذى فيتعطل سبيل الدعوة حتىٰ نزل قوله تعالىٰ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين } [.(46).] وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المركز الرئيسي لانطلاق الدعوة، وأولى المؤسسات التربوية التي ربىٰ فيها أصحابه الذين حملوا معه رسالة الإسلام؛ فكان يلتقي بهم هناك، فيعلمهم تعاليم الإسلام ويتلقوا عنه توجيهاته الكريمة؛ حيث كان يتلو عليهم ما ينزل عليه من القرآن الكريم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويفقههم في الدين،" كان المسلمون يجتمعون سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم ولم يكونوا يؤدون كثيراً من الشرائع سوى الصلاة، ركعتين في الغداة وركعتين بالعشي مصداقاً لقوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } [.(47).] [.(48).] ويعرفهم بما يدور حول الدعوة من أمور، ليحتاطوا لها ويعدوا لها العدة، كما كان يغرس فيهم المعاني الإيمانية التي تقوي عزيمتهم. :" ويضعون بين يديه كلَّ ما في نفوسهم وواقعهم؛ فيربيهم -صلى الله عليه وسلم- على عينه كما تربَّى هو على عين الله - عزَّ وجلَّ - [.(49).] ".
ففي هذه الدار نشأ الرعيل الأول من كبار الصحابة من المهاجرين، والسابقين الأولين إلىٰ الإسلام، علىٰ توجيهات القرآن الكريم، ويعلمهم أمور دينهم ويباحثهم في شأن الدعوة، وما وصلت إليه ، وموقف المعرضين عنها والصادين عن سبيلها.
كان يسمع شكوى أصحابه وما يلقونه من أذى المشركين وكيدهم، يتحسس آلامهم وآمالهم، ويطلب منهم الصبر والمصابرة، ويبشرهم أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع المؤمنين، وأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وجاؤوا صورة عملية لهذه التوجيهات الربانية، فضحوا بالغالي والنفيس لأجل الدين، وصابروا وجاهدوا وثبتوا في المحن وأمام الإغراءات، ولم يتأثروا بالشبهات، وكل ذلك كان بسبب التربية التي رباهم عليها النبي [ﷺ]. [.(50).] فما كان اختيار الرسول [ﷺ] لهذه الدار مجرد اجتماع المسلمين فيها لتلقي العلم وإنما كانت مركزا للقيادة ومدرسة للإعداد والتأهيل لحمل الدعوة والقيادة، وقد قام النبي [ﷺ] بتحديد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم فقاموا بدورهم أحسن قيام [.(51).]. ...
لقد كانت رعاية الله وعنايته بالعصبة المؤمنة الأولى واضحة جلية لا تفارقهم بحال، علىٰ الرغم مما كان ينالهم من أذىٰ المشركين، وكان مِن الحكمة البالغة في بداية أمر الدعوة الابتعاد بهذه العصبة المؤمنة عن كل ما يضر بها - قدر المستطاع -، وقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن تبقىٰ دعوة الإسلام ضمن مجالها السري إلىٰ أن هيأ الله سبحانه لها من الأسباب ما مكنها مِن إشهار أمرها وإعلان رسالتها، { وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون } [.(52).] [.(53).]

حال دار الأرقم اليوم :
وهي الآن خبر بعد عين دخلت في حدود المسعى(**).

(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
ــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
(*) تكملة بحوث: ﴿„ ٦ “ ﴾ المجلد السادس مِن„ السِّيرَة النَّبَوِيَّة“ „ علنية الدعوة.. ..سرية التكتل “
حُرِّرَ سَنَةَ ١٤٤١ من السنة الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ -هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين- الجمة : ٢٩ من شهر رمضان المعظم ~ ٢٢ مايو 2020 من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول عليهما السلام.
(**) إذا تيسر الحال وانتهينا من كتابة السيرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وكامل التبريكات والرحمات والإنعام -؛ في خطتنا كتابة تأريخ؛ وكتاب آخر في التفسير والتأويل... والله -تعالى -المستعان.

أعلى الصفحة
فهرس

 

﴿ „ ٦ ” ﴾ المجلد السادس
من
السِّيرَة النَّبَوِيَّة
علنية الدعوة.. ..سرية التكتل

واجب الشكر:
أُكرمتُ -كاتب هذه السطور- مِن جزيل عطاءه الوافر -سبحانه العاطي الوهاب؛ وتعالىٰ فهو يرزق مَن يشاء بغير حساب- أُكرمتُ بتمكني مِن الحصول علىٰ مراجع نفيسة ومصادر جليلة وابحاث قيمة لسادةٍ من خيرة علماء الأمة الإسلامية في السيرة النبوية العطرة - علىٰ صاحبها الصلاة والسلام – وشمائله وفضائله ومغازيه.. .. لتنير لي درب البحث وتسهل طريق الكتابة عن سيرته العطرة -عليه الصلاة والسلام والتبريكات والأنعام والإجلال والإكرام- فوجب الشكر له وحده -عزَّ وجلَّ- على فضل عطاءه وكرم إحسانه؛ فلزمني الخضوع بالسجود والركوع [(1)] وتعفير وجهي بعز عبوديته؛ والإذلال ورفع الرأس والهامة بعز الإيمان ... لذا فقد وجب عليَّ الشكر لله تعالىٰ...
ولا ينبغي لي أن تصيبني غفلة الإنسان فأنسىٰ الشكر والإمتنان لإدارة موقع آستروعرب نيوز والذي يصدر مِن قلب القارة الأوروبية؛ عاصمة الدانوب الأزرق فيينا... للتفضل بنشر بحوث السيرة النبوية الشريفة. والشكر موصول للسادة والسيدات القراء الكرام.
-* - *-
التَّمْهِيدُ :
„ السيرة النبوية ” العطرة - صلوات الله تعالىٰ وسلامه وتبريكاته وانعامه علىٰ صاحبها: سيدنا وإمامنا وقدوتنا النبي الرسول محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب- فالسيرة في قسمها الثاني الأعظم هي „ السُنَّة المحمدية النبوية الرسولية ”.... إذ أن القسم الأول من „ السيرة المحمدية ” هي كل ما كان قبل مولده الشريف ثم ما بعد مولده إلىٰ قبيل البعثة الخاتمة... وقد تحدثت عن هذا القسم في أوائل الصفحات السابقات...
إذاً „ السُنَّة المحمدية ”.... بشقها النظري؛ اي أقوال وأحاديث وتقرير الرسول الأكرم؛ وهذا هو الشق الأول منها، أما الثاني فهو الشق العملي؛ اي الطريقة الفعلية العملية التطبيقية التنفيذية... وهما - بمعنىٰ : الأحاديث القولية والسُنَّة العملية- معاً [„ السُنَّة المحمدية ”] يجب علىٰ الأمة الإسلامية عامةً، وأهل الدعوة ورجال حملها وسيداتها - خاصةً - أن يعلموها؛ فيفرقوا بين صحيحها وبين ضعيفها... فيتعلموها بالدراسة والتدريس والتطبيق والتنفيذ؛ وليس لمجرد السرد في مناسبات تمر مرة في العام أو الوعظ والإرشاد في موسم من مواسم السَنَة...
هذه السُنَّة المُحَمَّدية الرسولية النبوية؛ وهي المصدر الثاني المنزل من السماء؛ بعد القرآن الكريم ... هي وحي مِن صاحب الأمر والنهي الله - تعالىٰ - لنبيه ورسوله؛ خاتمِ الأنبياء وآخرِ المرسلين ومتممِ المبتعثين - عليه السلام - فنطق القرآن الكريم يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]...
اقول السُنَّة النبوية تحتاج مِن حملة الدعوة؛ ومن يعمل في مضمار العمل الدعوي ومَن يمارس النشاط الدعوي عليه أن يفهمها فهما عميقا متسلسلا وفق الأحداث التي مرت وبوعي عقل المثقف واستنارة فؤاد المتبصر مرورا بالمواقف المتتالية والأحداث المتشابكة منذ بداية البعثة وإنزال الرسالة إلىٰ أن أنتقل -ﷺ- إلىٰ الرفيق الأعلىٰ...
وعليه فيجب أن :" يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي [الإلهي] في حياة الرسول -ﷺ- [المبلغ والقدوة والقائد] قائم، وأن التخطيط جزء مِن السُنَّة؛ وهو جزء مِن التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم[(2)]..."، وعليه فــ:" إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة [المواقف والأحداث؛ وكيفية تنوع المصادمة مع الآخر أو] الصراع؛ والبراعة في إدارة كل مرحلة و[الوعي باستنارة] في الانتقال من مستوىٰ إلىٰ آخر [ومن مرحلة إلىٰ آخرىٰ مع ربط المرحلة بمفصل المرحلة التي تليها]؛ وكيف واجه القوىٰ المضادة مِن الكفار - وخاصةً كفار قريش ومشركي مكة - في بداية البعثة؛ ثم كيف تعامل مع المنافقين ومِن ثم أهل الكتاب من اليهود والنصارىٰ،[وباقي الشعوب والأمم] حين انتقل إلىٰ مدينته المنورة التي طيب الله -تعالىٰ- ثراها بمرقده فيها،[بجوار صاحبيه ووزيريه]، وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله -تعالىٰ- والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولىٰ -عز وجل- في كتابه الكريم[(3)]... ويمكننا أن نضيف اليوم : الإسترشاد بالعلوم الحديثة والنظريات العلمية الموثقة الجديدة... لذا فــ :" إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي [بشقيه النظري والعملي وايضاً السُنَّة=الطريقة العملية] في تربية الأمة [افراداً ومجتمعا] وإقامة الكيان الذي نتمكن فيه مِن تفعيل تلك الحزمة من القيم الإسلامية الراقية والكتلة من المفاهيم والقناعات الإسلامية العالية، ومعرفة سنن الله [سما في علاه وتقدست اسماه] في الشعوب الآخرىٰ والأمم المغايرة لنا في العقيدة والتشريع والدول القائمة على غير أسس إسلامية، دون تصادم بل تلاق، وكيف تعامل معها النبي-ﷺ- عندما انطلق بدعوة الله [تعالى] في دنيا الناس حتىٰ نلتمس مِن هديه-ﷺ-الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا، ونقيم بنياننا علىٰ منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها مِن كتاب ربنا -عز وجل- وسنة نبينا-ﷺ-قال -تعالى-: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }[(4)] .
الواقع الفعلي المنظور والمشاهد اليوم في النصف الثاني مِن العام الهجري : [ ١٤٤١ ] = النصف الأول من العام : [ ٢٠٢٠ ] يظهر للجميع بوضوح أن مَن يؤمن بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولا صاحبة ولا ولد له؛ وأن محمداً بن عبدالله عبده ورسوله وخاتم أنبياءه وآخر رسله... هذا(ه) المؤمنــ(ــة) يـ(ـتـ)ـسكن في جميع القارات وتجده يعمر في جميع أمهات مدن العالم وقراه بل نجوعه... وبناءً علىٰ هذا الواقع يجب أن نعلم - جميعاً - علم اليقين الطريقة العملية التي سار عليها النبي المصطفىٰ-ﷺ- في دعوته؛ خاصة في المرحلة المكية؛ إذ أن الواقع الحالي يتشابه في كثير مِن فصوله بواقع تلك المرحلة التي عاشها وتعايشها الرسول القدوة الأعظم -عليه السلام- وصحابته - المسلمون الأوائل - -رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين-...
وهذا ما أسعىٰ بعون منه - سبحانه - وتوفيق وهداية- إلىٰ بلورته من خلال بحوث؛ ارجو منه - سبحانه وتعالىٰ - إحسان القراءة والإطلاع مع إحسان الفهم والاستيعاب كي إحسن التعبير وأتقن الكتابة.
ثُمَّ فِي المجلدِ السادس مَبَاحِثُ :
[ ١ . ] الْبَحْثُ الْأَوَّلُ : „ علنية ” الدعوة و „ سرية ” التكتل :
تنبيه :
أنتهيتُ في نهاية المجلد الخامس مِن ذكر بعض مَن هم مِن المستضعفين -رضي الله تعالىٰ عنهم أجمعين- من المسلمين الأوائل، وينبغي الحديث الأن عن علنية الدعوة وسرية أعضاء التكتل الإسلامي المحمدي الأول. والظاهر في بداية هذا الفصل مِن البعثة النبوية الخاتمة أن الدعوة الإسلامية في صورتها التكتلية [ الأفراد ] في مهدها كانت يشوبها شكل من السرية؛ وإن كان حامل لواء التوحيد -عليه السلام- يعيش ويمارس حياته في مجتمع وثني يقدس الأصنام؛ ويتقرب إلى الله –تعالىٰ- من خلال الأوثان زلفىٰ... يظهر منذ اللحظة الأولىٰ أنه-ﷺ-يحمل قيم وقناعات ومقاييس غريبة عن مجتمعه الذي وصف بأنه جاهلي؛ بل شاذة في نظرهم القصير، وأنه - عليه السلام - يدعو إلىٰ فكر جديد؛ أساسه ما كان غائباً عن المجتمع المكي... أي فكرة وجود إله وعبادة هذا الإله والجديد أنه يصلي تجاه الكعبة المشرفة بهيئة جديدة وبجواره ابن عمه علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب وخلفهما كانت تصلي زوج النبي -عليها رضوان الله تعالىٰ- خديجة بنت خويلد- إذ تُبين لنا بعض مصادر السيرة أن نزول جبريل -عليه السلام- علىٰ قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة كان يوم الإثنين وخديجة -عليها السلام- صلت خلفه عشية نفس اليوم؛ ولحق بهما علي -كرم الله وجهه- يوم الثلاثاء... وهذا يبين مدىٰ أهمية الصلاة -عبادة يومية بأحكامها الجديدة الإسلامية وهيئتها- في المنظور الإسلامي ويضاف هنا أن النبي -عليه السلام- كان يدعو - في بداية أمره - مَن يستأنس منه القبول وبحذر ويظهر هنا مدىٰ ارتباط كيفية الدعوة في باكورة عهدها بحال المجتمع المكي؛ إذ لا ينبغي أن يوجد صدام أو صراع أو اي شكل مِن صور المواجهة. وهذا ما أخطأت فيه بعض الجماعات التي ترتدي العباءة افسلامية في زمننا المعاصر...
﴿ « „ ٦ . ١ . ‟» ﴾:" المسلمون الأوائل " [(5)]:
أخذ النبيُّ [ﷺ] يدعو إلىٰ الإسلام سرا، فكان رسول الله [ﷺ] في أول أمره يدعو إلى الله -تعالى- مستخفيا، لئلا يصيبه أو يصيب أحدا ممن اتبعه وآمن به الشرُّ والأذىٰ من سفاء قريش، فيتعطل سبيل الدعوة[(6)].
﴿ « „ ٦ . ٢ . ‟» ﴾: " تأصيل المسألة " :
« „ ٦ . ٢ . ١ .‟» : روى الطبري عن عبدالله بن عبيدة قال : « مازال النبيّ [ﷺ] مستخفياً حتى نزلت { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } فخرج هو وأصحابه »[(7)]، و
« „ ٦ . ٢ . ٢ .‟» : قال ابن الجوزي : « كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستر النبوة ويدعو إِلَى الإسلام سرا، وكان أَبُو بكر رضي اللَّه عنه يدعو أيضا من يثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه، فلما مضت من النبوة ثلاث سنين نزل قوله عز وجل : { فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } ، فأظهر الدعوة » [(8)] .
« „ ٦ . ٢ . ٣ .‟» : وقال المباركفوري : « كان من الحكمة تلقاء اضطهادات المشركين أن يمنع رسول الله [ﷺ] المسلمين عن إعلان إسلامهم قولا أو فعلا ، وألا يجتمع بهم إلا سرا؛ لأنه إذا اجتمع بهم علنا فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين. ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة الاختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم، وكان رسول الله [ﷺ] يجتمع مع المسلمين سرا؛ نظرا لصالحهم وصالح الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا. وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان أن اتخذها مركزا لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين » [(9)] .
« „ ٦ . ٢ . ٤ .‟» : يقول المنجد : « كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أول مركز دعوي إسلامي ، انطلقت منه الدعوة، واجتمع فيه رسول الله [ﷺ] بالمسلمين يعلمهم ويزكيهم. ولا يحسن تسميتها بالمركز السري للدعوة . والله أعلم » ...
وقبل الحديث عن دار الأرقم بن أبي الأرقم يحسن التكلم عن :
« „ ٦ . ٣ . ‟» : ذكر إسلام السابقين الأولين واختلاف العلماء في أول من أسلم[(10)] :
« „ ٦ . ٣ . ١ .‟» : نظر الله - سبحانه وتعالى - في قلوب العباد بعد قلب محمد [ﷺ] فوجد قلوب أصحابه -رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين- خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه[(11)] ومن الجميل أن نراجع أسماء العظماء الأوائل الذين دخلوا الإسلام في مراحله الأولىٰ؛ حيث لم يكن له شوكة ولا قوَّة، ولم يسبقهم فيه الكثير حتىٰ يقتدوا بهم، إنما وجدوا الخير فيه فاعتنقوه، وقَبِلُوا بكل المتاعب التي يمكن أن يواجهوها نتيجة ذلك، فكانوا السابقين بحقٍّ، ولهم علىٰ كل مسلم جاء بعد ذلك أو مسلمة فضلٌ ومِنَّة.
وينبغي تقديم دراسة تفصيلية موثقة قدر الإمكان تستقصي أسماء السبعين السابقين الأولين في الإسلام، الذين أسلموا قبل إسلام حمزة وعمر -رضي الله عنهما- . [(12)]. وهذا مفصل هام في المرحلة والفترة المكية.
بعد نزول آيات المدثر قام رسول الله [ﷺ] يدعو إلى الله - سبحانه وتعالى - وإلى الإسلام سرًّا، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه. [(13)].
وبتتبع المصادر نجد أن ابن اسحاق ذكر ، وكذلك ابن سعد، بأسانيد ضعيفة أسماء الصحابة والصحابيات الذين أسلموا في هذه الفترة المبكِّرة مِن عمر الدعوة[(14)]؛ وأيضا :" قائمة الذهبي في السابقين الأولين؛ فقد ذكر الذهبي -رحمه الله- في تاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء أسماء الخمسين الأوائل الذين دخلوا الإسلام، [وضعتُ معكوفة [] برقم قبل الاسم]، فقال: السابقون الأولون هم[(15)] :
كان أول من آمن بالنبي [ﷺ] من النساء، بل أول من آمن به علىٰ الإطلاق[(16)] «[1]خديجة بنت خويلد» - رضى الله عنها - فهي أول الناس إسلامًا وإيمانًا بالله ورسوله، فـ قيل أن رسول الله [ﷺ] صلى غداة يوم الاثنين وصلت خديجة آخر اليوم[(17)]؛ فـ السيدة خديجة -رضي الله عنها، كانت أول من استمع إلىٰ الوحي الإلهي من فم الرسول الكريم [ﷺ] ، وكانت أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت الرسول العظيم [ﷺ]، وكانت كذلك أول من تعلم الصلاة[(18)] عن رسول الله [ﷺ] ، فــ بيتها هو أول مكان تُلي فيه أول وحي نزل به جبريل علىٰ قلب المصطفىٰ الكريم [ﷺ] بعد غار حراء[(19)].[(20)]؛ وهذا ما يدعونا إلى النظر في بيوتنا؛ وكيفية تربية بناتنا ...
ثم تلاها «[2]على بن أبى طالب بن عبدالمطلب[(21)]» -رضى الله عنه - وكان فى نحو العاشرة من عمره[(22)]، فــ قيل أن رسول الله [ﷺ] صلى يوم الاثنين؛ وصلى علي بن أبي طالب يوم الثلاثاء[(23)]؛ فقد ضم محمد [ﷺ] عليا لنفسه لكثرة عيال أبي طالب؛ فكان غلاما قارب التسع سنوات[قول ثان]؛ فهو ثاني مَن أسلم مِن الناس؛ وأول مَن أسلم مِن الغلمان. فإسلامه وصلاته يوم الثلاثاء وهو اليوم التالي لنزول جبريل[(24)].
ثم «[3]زيد بن حارثة»[(25)] متبنى رسول الله[ﷺ]؛ ويدعى زيد بن محمد؛ أول من أسلم مَن الذكور البالغين؛ مولى رسول الله [ﷺ] فهو أول من أسلم من الموالي،
ثم أسلم «[4]أبو بكر بن[(26)] عبدالله بن عثمان أبي قحافة[(27)]: نديم محمد؛ أول من أسلم من غير بيت النبي[ﷺ]؛ فهو أول من أسلم من الأحرار الذكور؛ سماه النبي[ﷺ]: « عتيق النار » فسمي :«عتيقاً» [قلتُ: وهناك رواية آخرىٰ عن التسمية؛ سأذكرها في مجلد «الشخصيات المحورية »]، إن شاء الله تعالىٰ، أما
ابن إسحاق فإنه يقول :" أول مَن ذكر مِن الناس آمن بمحمد[ﷺ]
- علي بن أبي طالب -كرم الله تعالى وجهه وأرضاه-
ثم
- زيد بن حارثة ؛
- أبو بكر الصديق وكان رجلا مألفًا لقومه، محببًا سهلا، إسلام أبي بكر الصديق[(28)] رضي الله عنه:
كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أول مَن آمن بالنبي [ﷺ] من الرجال الأحرار، والأشراف، فهو من أخص أصحاب رسول الله [ﷺ] قبل البعثة، وفيه قال رسول الله [ﷺ] : « ما دعوت أحدا إلىٰ الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم[(29)] حين دعوته ولا تردد فيه»[(30)]، فأبو بكر صاحب رسول الله [ﷺ]، وهو حسنة من حسناته [ﷺ]، لم يكن إسلامه إسلام رجل، بل كان إسلامه إسلام أمة[(31)]، فأسلم وأسلم بدعائه[(32)] وعلى يديه طائفة مِن كبار الصحابة[(33)] دعاهم أبو بكر وعددهم (9 أصحاب ثم سعد )، فاستجاب له صفوة من خيرة الخلق وهم[(34)] أمثال:
«[5]عثمان بن عفان»[(35)]، وكان في الرابعة والثلاثين مِن عمره[(36)] و
«[6]الزبير بن العوام»[(37)] [(38)] [(39)] [(40)] وكان في الثانية عشرة من عمره[(41)] ، وقيل بل عمره 8 سنوات كما جاء في المجلد الأول فكتب الطرهوني يقول:" أسلم وعمره ست عشرة سنة اعتمادا على رواية هشام بن عروة عن أبيه؛ وفي المجلد الثاني رواية أبي الأسود عن عروة وهي أضبط، وعند الطرهوني قصة مفادها : أن صفية بنت عبدالمطلب؛ أم الزبير كانت تضربه ضربا مبرحا وهو يتيم، وتقول:" أضربه كي يلبي ويجر الجيش ذا الجلب ". فلما ضرب رجلا كبيرا قالت له صفية :" كيف وجدت زبيرا : أأقطا حسبته(!!؟)؛ أم تمرا أم مشمعلا صقرا(!!؟)"[(42)] ، و
«[9]عبدالرحمن بن عوف»[(43)] [(44)] اسمه عبدعمرو فسماه الرسول : «عبدالرحمن»؛ أسلم في الثلاثين من عمره[(45)] و
«[7]سعد بن أبى وقاص»[(46)] [(47)] وكان في السابعة عشرة من عمره[(48)] .
روى الواقدي أن سعد بن أبي وقاص قال : « لقد أتىٰ عليَّ يوم واني لثالث الإسلام»[(49)] [(50)]، و
«[8]طلحة بن عبيدالله»[(51)]. وكان في الثالثة عشرة من عمره[(52)].[(53)]، كان هؤلاء الأبطال الخمسة أول ثمرة من ثمار الصديق أبي بكر –رضي الله عنه-، دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، وجاء بهم إلى رسول الله [ﷺ] فرادى، فأسلموا بين يديه، فكانوا الدعامات الأولىٰ التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولىٰ في تقوية جانب رسول الله [ﷺ]، وبهم أعزه الله وأيده[(54)] فتمام هولاء النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام[(55)].
ومضت الدعوة سرية وفردية علىٰ الاصطفاء، والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة، التي ستسعىٰ لإقامة دولة الإسلام ودعوة الخلق إلى دين رب العباد والتي ستقيم حضارة ربانية ليس لها مثيل[(56)] .
* . ] الدفعة الثانية[(57)]:
جاء دور الدفعة الثانية، بعد إسلام الدفعة الأولىٰ، فأول من أسلم من هذه الدفعة[(58)]:
جاء عن عمرو بن عنبسة أنه قال : « كنت ثالثا؛ أو رابعا في الإسلام»[(59)]، و
عن خالد بن سعيد بن العاص أنه قال : « كنت خامسا في الإسلام»[(60)]...
وهذا دليلٌ يبين أن بعضهم كانوا لا يعرفون بعضاً؛ ولعل هذا حرصاً من النبي المصطفى [ﷺ] أن لا يتأذى آحد منهم .
ثم أسلمت بعد هؤلاء طائفة أخرىٰ، وذكر ابن اسحاق، وكذلك ابن سعد، بأسانيد ضعيفة أسماء الصحابة والصحابيات الذين أسلموا في هذه الفترة المبكِّرة من عمر الدعوة[(61)]، فـ ممن سبق إسلامه[(62)] عدَّ منهم «ابن إسحاق» نحو خمسة عشر فردًا ما بين رجل وامرأة، هم:
«[10]أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ من بَنِي فِهْرٍ »[(63)]، و
«[11]أَبُو سَلَمَةَ عبدالله بْنُ عَبْدِالأَسَدِ بْنِ مَخْزُومِ » بن مرة ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (برة بنت عبدالمطلب) [(64)] دعاه أبو بكر للإسلام... وأخوه مِن الرضاع[(65)]،
«[12]وَالأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الأَرْقَمِ » وعند الذهبي:" ابْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالله بن عمر المخزومي.". دعاه أبو بكر للإسلام... مِن بْنِي مَخْزُومِ،[(66)] [(67)] وَ
«[13]عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ[(68)]من بَنِي جُمَحَ » الجمحي[(69)]، وَأَخَوَاهُ «قَدَامَةُ» وَ «عَبْدُاللهِ» ابْنَا مَظْعُونٍ، و
«[14]وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ الْمُطَّلِبِ الْمُطَّلِبِيُّ.من بَنِي عَبْدِمَنَافٍ» و
«[15]سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ العدوي؛ من بَنِي عَدِيٍّ»،و
«[17]خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ، الخزاعي، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ [(70)]؛[(71)]» .
* . ] الدفعة الثالثة : [(72)]
أسلم «[18]عمير بن أبي وقاص»[(73)] أسلم وهو غلام صغير، أخو سعد بن أبي وقاص، و
«[19]عبدالله بن مسعود»، بن الحارث بن شمخ بن مخزوم بن هذيل، من حلفاء بني زهرة[(74)]، يقول :« لقد رأيتني سادس ستة ما علىٰ ظهر الأرض مسلم غيرنا » ، وأذكرُ هنا قول النبي محمد-ﷺ- لابن مسعود :« إنك غلام معلم»؛ فمسح رأسي وقال :« بارك الله فيك».[(75)] و
«[20]مسعود ابن القارى»[(76)]، وهو مسعود بن ربيعة، بن عمرو، بن سعيد بن عبدالعزى، بن حمالة بن القارة؛ من البدريين[(77)] و
أسلم: «[21]سُلَيْطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِشَمْسٍ الْعَامِرِيُّ »، وأخوه؛ و
«[41]حاطب بن عمرو العامري » و
«[22]عياش بن أبي ربيعة بْنِ الْمُغِيرَةِ » الْمَخْزُومِيُّ، و
«[23]امرأته أسماء بنت سلامة » التميمية.،
«[27]جعفر بن أبي طالب » الهاشمي»[(78)] ، و
«[26]عَبْدُاللهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ » الأَسَدِيُّ، حليف بني أمية ؛ وأخوه «(أبو) أحمد بن جحش» و «واقد بن عبدالله» و «[24]خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، و «[25]عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ» العنزي، حليف آل الخطاب. و «[37]نعيم بن عبدالله بن أسيد النحَّام العدوي» و«[38]عامر بن فهيرة»[(80)] مولى أبي بكر،[+(80)] و «فهيرة» و «أمه»، وكان عبدًا للطفيل بن الحارث بن سخبرة، فاشتراه الصديق وأعتقه، و «[39]خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بن عبدشمس بن عبدمناف بن قصي»، وامرأته «[40]أُمَينة» وعند الذهبي: «أميمة» بنت خلف الخزاعية، و«[42]أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس [العبشمي.]، و«[43]واقد بن عبدالله بن عبدمناف» التميمي اليربوعي، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، و «[44]خَالِدُ بن البكير بن عبد ياليل» الليثي، حليف بني عدي. و «[45]وَأخوه عَامِرُ بن البكير بن عبد ياليل»الليثي، حليف بني عدي. و «[46] وَأخوه عَاقِلُ بن البكير بن عبد ياليل»الليثي، حليف بني عدي.
«[47]وَأخوه إِيَاسُ بن البكير بن عبد ياليل» الليثي، حليف بني عدي ، و«[48]عمار بن ياسر بن عامر» العنسي، حليف بني مخزوم بن يقظة، وقال ابن هشام: عَنْسي من مَذْحج. ودخل في الإسلام كذلك أمُّ عمَّار سمية بنت خياط، وأبوه ياسر، وبلال بن رباح الحبشي، وكان إسلامهما بعد إسلام بضعة وثلاثين رجلا[(81)] و «[49]صهيب بن سنان،بن مالك» النمري، الرومي المنشأ، وولاؤه لعبدالله بن جدعان. هو (سابق الروم). و «[29]حَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ» الجمحي، و «[30] امرأته فاطمة بنت المجلل» العامرية، وأخوه «[31]خطاب بنُ الْحَارِثِ» الجمحي., و «[32]امرأته «فُكَيهة بنت يسار» وأخوهما «[33]مَعْمَر بن الحارث» الجمحي، و «[34]السائب» ولد عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، و «[35]الْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عبدعوف»الزهري.، وامرأته «[36]رملة بنت أبي عوف» السهمية، - رضى الله تعالى عنهم أجمعين –
ومن النساء[(82)] :
بنات النبي[(83)]صلى الله عليه وسلم:
وكذلك سارع إلى الإسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم، كل من «زينب»، و «أم كلثوم»، و «فاطمة» و «رقية» و «[28]أسماء بنت عميس» الخثعمية امرأة جعفر ابن أبي طالب[(84)]، و «فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ من بَنِي عَدِيّ»[(85)] أخت عمر بن الخطاب[(86)]، امرأة سعيد بن زيد بن عمر ، و «[16]أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ[(87)] و «أم رومان» زوج أبي بكر، وَ «عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ»، وَهِيَ يَوْمئِذٍ صَغِيرَةٌ[(88)]؛ وعائشة ولدت بعد البعثة بدليل قولها -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عن نفسها :« لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ.». ومَعْنَى (يَدِينَانِ الدِّينَ) تَعْنِي: مُسْلِمَيْنِ، وَوَلَدَتْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي الْإِسْلَامِ؛ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، ثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ :فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ:» لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ»... [(89)]
فكان إسلام هؤلاء في ثلاث :﴿ ٣ ﴾: سنين ورسول الله [ﷺ] يدعو في خفية قبل أن يدخل دار أرقم بن أبي الأرقم[(90)] وكان ذلك فى مرحلة الدعوة السرية[(91)].
واستمرَّت الدعوة السرية، ودخل في الإسلام آخرون وآخرون... نَعَمْ تسير الدعوةُ بمعدل بطيء نسبيًّا، ولا يعرف بها عامَّة الناس بعدُ؛ ولكن هذا الاستخفاء كان ألزم في هذه المرحلة كما بيَّنَّا قبل ذلك. يخبرنا عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه- فيقول:« رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا مَعَهُ إِلاَّ خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ» [(92)]
ومن السابقين إلى الإسلام: «[50]أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة»، وأخوه أنيس، وأمه[(93)] «[51]وأبو نجيح عمرو بن عبسة» السلمي البجلي، لكنهما -أي أبو ذرٍّ وعمرو- رجعا إلى بلادهما. [(94)]
قمتُ -بعون من الله تعالىٰ- بعرض أسماء الأوائل مِن مَن أمن بالله ربا واحدا وخلع الأوثان مِن عقولهم وكسر الأصنام في أذهانهم؛ لأهمية معرفة هذه المرحلة الصعبة من حياة الرسالة الخالد : فهؤلاء الخمسون الذين عدهم الذهبي من السابقين الأولين: وبعدهم أسلم: أسد الله حمزة بن عبدالمطلب، والفاروق عمر بن الخطاب، عز الدين، رضي الله عنهم أجمعين[(95)].. .. ومن هنا يبدء فصل جديد من الفصول التي مرت على مراحل الدعوة.
* . ] استدراكات :
١ . ] لكن تتبقى مسألة شُبهة اثارها مَن اراد أن يطعن في الإسلام -كما يقول بعض الباحثين في السيرة-: " أن السابقين الأولين إلى الإسلام إنهم من حثالة الناس، أو من الأرقاء الذين أرادوا استعادة حريتهم أو ما شابه ذلك ". وهذه الشبهة سوف بإذنه تعالى سنرد عليها في باب خاص .
٢ . ] أما المسألة الثانية فهي أن الذهبي كما بحث د. السرجاني ذكر خمسين صحابيا وصحابية من الأوائل؛ عند حساب من ذكرهم-رحمه الله تعالى وغفر له- وجدناه [الحديث يعود إلى د. السرجاني] يتجاوز الخمسين صحابيًّا وصحابية بواحد، فصار العدد عنده واحدًا وخمسين، وقد اعتبر الذهبي -رحمه الله- أن السابقين الأولين هم مَنْ أَسْلَم قبل إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، و د. السرجاني يتفق معه في هذا التوصيف؛ لأن المرحلة الدعوية تغيَّرت بعد إسلام البطلين حمزة وعمر -رضي الله عنهما-، وهذا سنشرحه بالتفصيل بعد ذلك إن شاء الله، ولكني أختلف[الحديث مازال لفضيلة الدكتور السرجاني] مع الذهبي رحمه الله في الأسماء التي شملتها هذه القائمة؛ حيث خلت من كثير من الأسماء التي نعرف أنها كانت من الثُّلَّة الأولى التي اعتنقت الإسلام في هذه الفترة، وبالتالي فهم من السابقين الأولين.
وقد تناول د. السرجاني ذكر بعضها فيما يأتي، وقلتُ[الرمادي] وقد تحدثت عن بعضهم ونشره موقع استرو عرب نيوز ويصعب الآن الإحصاء الكامل على عجل؛ فالأمر يتطلَّب دراسة خاصة مستفيضة:
أولاً: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ذكرتها-رضي الله عنها هنا في هذا البحث]
ثانيًا: السيدة رقية بنت رسول اللهﷺ،[ذكرتها-رضي الله عنها هنا في هذا البحث] وتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثالثًا: أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ذكرتها-رضي الله عنها هنا في هذا البحث]
أما فاطمة الزهراء رضي الله عنها فكانت صغيرة جدًّا عند أول البعثة، وبالتالي فقد نشأت على الإسلام، ولم تعاصر الجاهلية.
رابعًا: بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه[ذكرته-رضي الله عنه هنا في هذا البحث]، وهو لا شكَّ من السابقين للإسلام، وقد ذكر عمرو بن عبسة رضي الله عنه في قصة إسلامه في صحيح مسلم أن بلالاً كان حينها على الإسلام، فقال وهو يحكي حواره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُلْتُ لَهُ: «فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟»؛ قَالَ: « حُرٌّ، وَعَبْدٌ». قَالَ: «وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلاَلٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ»[(96)]. فإذا كان الذهبي رحمه الله قد ذكر عمرو بن عبسة رضي الله عنه من السابقين، فكان ينبغي له أن يذكر بلالاً كذلك لأنه يسبقه حتمًا.
خامسًا: مصعب بن عمير رضي الله عنه،[ذكرته-رضي الله عنه هنا في هذا البحث] وهو من أشراف بني عبدالدار، وإسلامه مبكر جدًّا.
سادسًا: أم سلمة رضي الله عنها، وهي هند بنت أبي أمية المخزومية، وتزوَّجت أبا سلمة بن عبدالأسد رضي الله عنه، وأنجبت له سلمة، وبه تُكَنَّى، ثم تزوَّجت لاحقًا -بعد موت زوجها- من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت أمَّ المؤمنين، وهي من اللاتي هاجرن إلى الحبشة قبل إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما.
سابعًا: عتبة بن غزوان رضي الله عنه، وهو الذي قال: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا طَعَامُنَا إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ[(97)]، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا"[(98)].
ثامنًا: أم رومان رضي الله عنها، [ذكرتها-رضي الله عنها هنا في هذا البحث] زوجة الصديق رضي الله عنه.
تاسعًا: عبدالله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
عاشرًا: ياسر بن مالك رضي الله عنه، أبو عمار بن ياسر رضي الله عنه، وهو أول شهيد في الإسلام.
حادي عشر: سمية بنت خياط رضي الله عنها،[ذكرتها-رضي الله عنها هنا في هذا البحث] أم عمار بن ياسر رضي الله عنه، أول شهيدة في الإسلام؛ فعَنْ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلاَلٌ، وَالْمِقْدَادُ»[(99)] . ونلحظ فيهم بلالاً رضي الله عنه، وذكرته منذ قليل في السابقين، ولم يذكره الذهبي رحمه الله.
ثاني عشر: المقداد بن عمرو رضي الله عنه، وهو المعروف بالمقداد بن الأسود، وهو من الذين ذكرهم ابن مسعود رضي الله عنه -كما تقدَّم- في السبعة الذين أظهروا إسلامهم أولاً.
ثالث عشر: زنيرة رضي الله عنها مولاة بني مخزوم أو بني عبدالدار، وهي من الجواري اللاتي أعتقهنَّ الصديق رضي الله عنه مبكرًا جدًّا. [ذكرتها-رضي الله عنها في المجلد الخامس]
رابع عشر: النهدية رضي الله عنها، وهي -أيضًا- من الجواري اللاتي أعتقهنَّ الصديق رضي الله عنه.
خامس عشر: ابنة النهدية رضي الله عنها، ولا نعرف اسمها، وهي كذلك من الجواري اللاتي أعتقهنَّ الصديق رضي الله عنه.
سادس عشر: أم عبيس رضي الله عنها، وهي -أيضًا- من الجواري اللاتي أعتقهنَّ الصديق رضي الله عنه، وكانت جارية لبني تيم. [لم أذكرهن-رضي الله تعالى عنهن]
سابع عشر: جارية بني مؤمل رضي الله عنها،[ذكرتها-رضي الله عنها في المجلد الخامس] وهي -أيضًا- من الجواري اللاتي أعتقهنَّ الصديق رضي الله عنه، ولا نعرف اسمها، وهي التي ذُكِر -بسند ضعيف- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُعَذِّبها قبل إسلامه.
ثامن عشر: ليلى بنت أبي حثمة رضي الله عنها زوجة عامر بن ربيعة رضي الله عنه، ولها موقف في السيرة سنأتي عليه بإذن الله، وهو موقفها مع عمر رضي الله عنه قبل إسلامه.
تاسع عشر: سهلة بنت سهيل بن عمرو رضي الله عنها، وهي زوجة أبي حذيفة بن عتبة رضي الله عنه، وهاجرت إلى الحبشة قبل إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، وذكر الذهبي رحمه الله زوجها أبا حذيفة في السابقين، وهو كذلك.
يصل د. السرجاني بعد نهاية بحثه بالقول : « فهذه تسعة عشر اسمًا أسلموا قديمًا، وقبل إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، وهم بذلك من السابقين الأولين الذين أسلموا في المرحلة السرية، ولهم قصص مشهورة » تحدثت عن بعضها وسوف نتعرَّض لبعضها بإذن الله تعالى.
ويقول د. السرجاني: « هناك أسماء أخرى كثيرة تحتاج إلى دراسة لتحقيق ما إذا كانت قد أسلمت في هذه الفترة أم تأخَّر إسلامها لما بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما؛ مثل: أبي أحمد بن جحش، وأبي سبرة بن أبي رهم، وأم حبيبة بنت ابي سفيان، وأمينة بنت خلف، وعمرو بن سعيد، وعتبة بن مسعود، وقدامة بن مظعون، وعبدالله بن مظعون، وهشام بن العاص، وعبدالله بن حذافة، وغيرهم، رضي الله عنهم جميعًا، فهؤلاء كلهم من المسلمين الأوائل؛ لكن لا أدري إن كان إسلامهم في هذه المرحلة المبكرة من الدعوة، أم أسلموا بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما.
فهؤلاء التسعة عشر بالإضافة إلى الواحد والخمسين في قائمة الذهبي رحمه الله يعطوننا سبعين اسمًا من السابقين الأولين... يخلص د. السرجاني إلى القول أنه : « يرى أن دراسة حياة هؤلاء السبعين تحتاج منا إلى جهد خاص وكبير؛ لأن تكوينهم كان فريدًا، وأثرهم كان عظيمًا، ويُضاف إليهم الصحابة الذين يظهر بالتحقيق أنهم أسلموا في هذه الفترة، ولا أشكُّ في أننا سنخرج عند دراسة سيرهم، وقصص حياتهم، بفوائد لا تحصى، وبتوجيهات مباشرة تُسهم في بناء الأمة الإسلامية».[(100)]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَاللَّهُ- تَعَالَىٰ ذِكْرُهُ -أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
سلسلة بحوث
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
„ أبحاث تمهيدية لمستقبل أمة غائبة ‟
أعد هذا الملف : د. مُحَمَّدٌ الرَّمَادِيُ من ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْمَحْمِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى-
Dr. MUHAMMAD ELRAMADY
حُرِّرَ سَنَةَ ١٤٤١ من السنة الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ -هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين- الخميس : ٢١ من شهر رمضان المعظم ~ ١٤ مايو 2020 من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول عليهما السلام
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)

أعلى الصفحة
فهرس

صحابِيَّةٌ رُومِيَّةٌ ﴿ زِنِّيرَةُ[(1)] ﴾

مدخل للموضوع وتمهيد :
مازلتُ أبحث في المرحلة الأولىٰ للبعثة المحمدية؛ وهي خاتمة الرسالات والتي نزلت علىٰ قلبِ خاتم الأنبياء؛ وآخر المرسلين؛ ومتمم المبتعثين، وهذه المرحلة يطلق عليها «الفترة المكية»؛ بما استغرقت مِن وقت يتعدىٰ عشر[(2)] سنوات... وبما فيها مِن أفكار وقيم ومفاهيم وقناعات غريبة عن المجتمع المكي بل صادمة له؛ ومعارضة لما هو موجود في بقية أجزاء العالم وقتذاك بأسره ... قيم وقناعات ومفاهيم أُنْزِلَت بواسطة أمين السماء... مَلٰك الوحي «جبريل» -عليه السلام- مِن مالك المُلك ومُصرف الكون بأمره وتدبيره وهو خالق الإنسان والحياة -سبحانه وتعالىٰ في سماه وسما في علاه وتقدست اسماه- ترافقها أحداث وتلازمها مواقف مِن مَن أمن بالله رباً واحدا فردا صمدا؛ لا صاحبةَ له ولا ولد... إذ أن -الفترة المكية- هي الأساس المتين والركن الشديد والقاعدة الراسخة لما ستليها مِن مراحل؛ وستبنىٰ عليها، خاصةً والتي تليها مباشرة؛ أي «المرحلة المَدَنيّة» وإيجاد أول كيان إسلامي يطبق المنهاج المُحمدي وينفذ الشريعة الإسلامية فتتبلور فيه الطريقة المُحمدية العملية كطريقة عيش خاص؛ واسلوب متميز في/مِن الحياة؛ وكيفية معينة مِن طراز لا مثيل له لمجموعة مِن الناس، هذه المجموعة مِن القيم وتلك الحزمة مِن القناعات والمفاهيم والأفكار تُبين وجهة النظر في الحياة المعاشة للإنسان وتعطي حكماً للحياة الآخرىٰ؛ أي المبدأ الإسلامي بفكرته وتلازمه طريقته والذي هو قابل للتطبيق؛ وليس مجرد نظريات (فلسفية) تسطر على صفحات الكراريس وحين تصطدم بالواقع المعاش تنهار... أو اطروحات فكرية تُدَون في الدواوين دون أن تصاحبها طريقة عملية وتلازمها كيفية تنفيذية؛ إذ أن مَن سيأتي مِن بعد تلك المرحلتين؛ وبعد أن أنتقل صاحب الرسالة العصماء إلىٰ الرفيق الأعلىٰ ينبغي عليه بل يجب أن يدرس بعمق ويفهم بوعي ويفقه باستنارة مجموعة الأفكار وحزمة القيم وتسلسل الأحداث ليتمكن مِن الإدراك التام لرسالة خاتم الأنبياء؛ فيسهل عليه إيجاد مجتمع أقرب ما يكون إلىٰ المجتمع المَدَنِيّ؛ نسبة إلىٰ مدينة المصطفى-ﷺ- المنورة مع الأخذ باسباب المدنية الحديثة والتعامل مع التكنولوجيا المتقدمة والمتطورة والعلوم الحديثة في شتى مجالات العلم؛ مع إضافةٍ ضرورية بناءً علىٰ ما تحت أيدينا وما وصل إلينا من تكنولوجيا وتقدم علمي وأجهزة حديثة...
ومازلتُ استحضر نماذج فذة لتلك المرحلة العصيبة سواء علىٰ حامل لواء التوحيد أو مَن يسير خلفه وبجواره؛ فَهُم جميعاً -رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين- فَهَمُوا الفكرة الأساسية -التوحيد- فهماً عميقاً وبوعي واستنارة؛ وادركوا تماماً ما بُنيّ عليها مِن ربوبية وألوهية وحاكمية فتحملوا في سبيلها كل ما واجههم بصبر ويقين ...
:" ﴿ زِنِّيرَةُ ﴾ ".
زِنِّيرَةُ: مَمْلوكةٌ رُومِيَّةٌ صحابِيَّةٌ[(3)]، اختلف في رسم اسمها وكيفية النطق به؛ فتقرأه مرة بالضم هكذا :
1.] " زُنَيْرَةُ[(4)] " ؛[(5)] ؛ ومرة آخرىٰ
2.] :" زِنِّيرَةُ[(6)] ". بالكسر وشدة النون... وهذا ما صححه صاحب < الكامل >فقال :" ( زِنِّيرَةُ بِكَسْرِ الزَّايِ ، وَالنُّونُ مُشَدَّدَةٌ[(7)] ". ثم أضاف في موضع آخر في موسوعته :" زِنِّيرَةُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَسْكِينِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِهَا ، وَفَتْحِ الرَّاءِ." [(8)] . و
3. ] ثالثة:" زَنِيرَةُ ".[(9)]
*.] :" يذكرنا صاحب < الكامل >بــ " تَعْذِيبِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَىٰ الْإِسْلَامِ، وَلَا عَشَائِرَ لَهُمْ تَمْنَعُهُمْ، وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ يُمْنَعُونَ بِهَا، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَمْنَعُهُ فَلَمْ يَصِلِ الْكُفَّارُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوُا امْتِنَاعَ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ، وَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَىٰ مَنْ فِيهَا مِنْ مُسْتَضْعَفِي الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَرَمْضَاءِ مَكَّةَ وَالنَّارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَتِنُ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَلَّبُ فِي دِينِهِ وَيَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ ...
وَمِنْهُمْ : زِنِّيرَةُ ،
*. ] كَانَتْ لِبَنِي عَدِيٍّ ،
لذا قيل :" وَكَانَ عُمَرُ يُعَذِّبُهَا" [(10)]، وهذا هو القول الأول؛
أما الثاني فَــ
قِيلَ :
*. ] كَانَتْ لَبَنِي مَخْزُومٍ ، لذا قيل:" وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُعَذِّبُهَا حَتَّىٰ عَمِيَتْ ، فَقَالَ لَهَا : " إِنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى فَعَلَا بِكِ ". فَقَالَتْ : « وَمَا يَدْرِي اللَّاتُ وَالْعُزَّى مَنْ يَعْبُدُهُمَا ؟ وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَرَبِّي قَادِرٌ عَلَىٰ رَدِّ بَصَرِي »، فَأَصْبَحَتْ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ بَصَرَهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: " هَذَا سِحْرُ مُحَمَّدٍ، فَاشْتَرَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا[(11)] ."
*.] :" أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ : " نَحْنُ أَعَزُّ ... وَنَحْنُ ... وَنَحْنُ، فَلَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ " . فَنَزَلَ :{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [(12)] ".
< هَذَا حِكَايَةُ خَطَأٍ آخَرَ مِنْ أَخْطَاءِ حُجَجِ الْمُشْرِكِينَ الْبَاطِلَةِ وَهُوَ خَطَأٌ مَنْشَؤُهُ الْإِعْجَابُ بِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورُهُمْ بِدِينِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا عَلَىٰ أَنْ لَا خَيْرَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَرُوا الْأَخْذَ بِهِ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ وَهُمْ يَعُدُّونَهُمْ مُنْحَطِّينَ عَنْهُمْ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا { أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } كَمَا فِي الْأَنْعَامِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ }[(13)] >.
*.] :" اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ -تَعَالَىٰ في علاه وتقدست اسماه- :{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}[(14)] عَلَىٰ سِتَّةِ[(15)] أَقْوَالٍ؛ أكتفي بالقول الثاني كما جاء في < الجامع لأحكام القرآن >؛ نقلا عما قَالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ[(16)] ."؛ وهو موضع الاستدلال فَالقول الثَّانِي : < أَنَّ زِنِّيرَةَ أَسْلَمَتْ فَأُصِيبَ بَصَرُهَا [ وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت ] فَقَالُوا [ أبو جهل؛ على اعتبار الرواية الثانية؛ أنها كانت مملوكة لبني مخزوم ] لَهَا : أَصَابَكِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى [ إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين ] ، [فقالت، وهي لا تبصره: وما تدري اللات والعزى، من يعبدهما ممن لا يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد بصري. فأصبحت من تلك الليلة وقد رد الله عليها بصرها. فقالت قريش: هذا من سحر محمد ] فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا . فَقَالَ عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ زِنِّيرَةُ[(17)] ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَىٰ هَذِهِ الْآيَةَ[(18)] ". وما قالته دليل واضح على تمكن مسألة الإيمان والعقيدة في قلبها...
بيد أن الجلال فيموضعين من كتبه حصر أسباب النزول فقط في قصتها - وهذا تكريم علوي رباني ملآئكي لها - فقد :" أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ قَالَ كَانَتْ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَةٌ [ باعتبار أنها أمة لبني عدي ] أَسَلَمَتْ قَبْلَهُ يُقَالُ لَهَا زُنَيْرَةُ[(19)] [زِنِّيرَةُ] [(20)] فَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا عَلَى إِسْلَامِهَا حَتَّىٰ يَفْتُرَ [(21)] وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ:" لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ زُنَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهَا [(22)] [(23)] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا } الْآيَةَ [(24)]". وذكرها الألوسي في تفسيره [(25)] . ولكنه اضاف جملة هامة وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا زَنِيرَةَ بِخُصُوصِهَا بَلْ مَنْ شَابَهَهَا أَيْضًا. [(26)]
إذاً ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ [ سَبَقُونَا ] عَائِدٌ إِلَىٰ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِي حَكَتْهُ الْآيَةُ أَرَادُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِثْلَ بِلَالٍ؛ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ وَسُمَيَّةَ، وَزِنِّيرَةَ بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ مُشَبَّعَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ [(27)]، [ وهي ] أَمَةٌ رُومِيَّةٌ كَانَتْ مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَىٰ الْإِسْلَامِ وَمِمَّنْ عَذَّبَهُنَّ الْمُشْرِكُونَ وَمِمَّنْ أَعْتَقَهُنَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ [(28)] .
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: قَالَ عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ زِنِّيرَةُ ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي جَمَعَهَا الْقُرْآنُ فِي ضَمِيرِ [ سَبَقُونَا ] [(29)]".] .
قالوا [وكان أبو جهل يقول] : ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمد (ا) ؟ فلو كان أمر محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه. أفسبقتنا زنيرة إلى رشد، وهي مِن ترون؟ فاشترى أبو بكر رضي الله عنه جارية بني المؤمل وزنيرة، وأعتقهما.
قال ابن تيمية في فتاويه :" وَلَمَّا عُذِّبَتْ " الزَّبِيرَةُ" عَلَىٰ الْإِسْلَامِ فِي اللَّهِ فَأَبَتْ إلَّا الْإِسْلَامَ وَذَهَبَ بَصَرُهَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابَ بَصَرَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى قَالَتْ كَلَّا وَاَللَّهِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا .". [(30)] .
ويقال: إن زنيرة لغير بني عدي. وقال الكلبي: هي لبني مخزوم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
بحوث:
السيرة النبوية العطرة صَلَّىٰ اللَّهُ - تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه- عَلَىٰ صاحبها وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ؛ وعلىٰ مَن أتخذ منهاجه طريقه واستعمل سنته في حياته!؛ أحداث الفترة المكية
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
١٣ شعبان ١٤٤١ هــ ~ ٦ أبريل ٢٠٢٠م


فهرس

 

جَارِيَةُ مِنْ بَنِي الْمُؤَمَّلِ

ما زال كاتب هذه الأبحاث -باحثاً- يتقدمه موقع آستروعرب نيوز -متفضلا بالنشر- يبحث وينقب ويراجع ويحقق ويدقق في مسائل الفترة المكية الزاهرة من عهد النبوة الفاخر؛ خاصة ونحن مازلنا نبحث:
« الأَحْدَاثُ مِنْ نُزُولِ الوَحْي إِلَىٰ قُبيل الهِجْرَةِ »
والحديث ما زال عن الأوائل الذين تقدموا بخطوات ثابتة في طريق الإيمان ودرب العقيدة مع ما لاقوا مِن عنت ومطاردة وتعذيب بل تجويع وقتل؛ وايضاً مَن وقف بجوارهم لنقدم -الباحث والموقع- نموذجاً فريدا لمَن يريد أن يسير علىٰ نفس الدرب بوعي فكري صحيح واستنارة فهمية واضحة لأحداث الأمس لإنزالها علىٰ الواقع اليومي المعاش...
ونبدءُ بالقول :
في تاريخ الدعوة والإيمان والصبر علىٰ الأذىٰ نسجل فيه عمالقة وأبطال وأفذاذ، وأناس صدقوا ما عاهدوا الله -تعالىٰ- عليه ... فقدموا أروع الأمثلة في القناعة التامة لهذا الدين مع حبه والتضحية مِن أجله... وقد جمع هذا الطريق بين رجال ونساء أشهدوا الله -سبحانه وتعالى- علىٰ ما في قلوبهم مِن صدق الإيمان وقوة العقيدة، وأعلنوا لله -تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه- ثم مِن بعد للناس الذين قاموا بتعذيبهم أعلنوها قوية صريحة بالوحدانية، وأقروا له -وحده- بحق الألوهية والعبودية؛ فنالتهم أيدي المجرمين بالأذىٰ والتنكيل، وجرت عليهم آلة التعذيب ليردوهم عن دينهم ويصدوهم عن عقيدتهم -إن استطاعوا-، ولكنهم صبروا أمام صنوف العذاب، وشمخوا بالإيمان، وسموا بالعقيدة، وأثبتوا في كتاب التاريخ سطورا من نور أذهلت كل مَن اطلع عليها مِن موافق أو مخالف معارض... لقد ضم درب الصبر والثبات وطريق التضحيات رجالا أفذاذا أبطالا، راسخة عقيدتهم رسوخ الجبال، شامخة قلوبهم ونفوسهم شموخ عقيدتهم التي بين جنوبهم... وقد ضم هذا الطريق إلىٰ جانب الرجال نساء لم يكن حظهن من الإيمان والصبر والثبات والتضحية أقل من حظوظ الرجال، وحق لنا أن نفخر بهن ونفتخر، وأن نظهر بطولاتهن وجهادهن؛ ليتعلم منها أبناؤنا وبناتنا وليكون للمرأة المسلمة مثلا تحتذيه وأنموذجا تقتديه.. فلقد كانت لقريش صولة وانبساط بالأذىٰ علىٰ مَن آمن مِن أولئك الضعفاء حتىٰ لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام، إلىٰ الافتنان في التمثيل، والتأنق في التنكيل[(1)] والتقتيل...
ومِن أولئك اللواتي استعذبن العذاب[(2)] :
„ جَارِيَةُ مِنْ بَنِي الْمُؤَمَّلِ ‟... جَارِيَةُ بَنِي مُؤَمَّلٍ -رضي الله عنها-
أُثبتُ أولاً اسمها الأول :
*. ] لُبَيّنَةُ جاريةُ بني المؤمل بن حبيب بن تَميم بْن عَبْدِاللَّهِ بْن قرط بْن رزاح [(3)] ابن عدي بن كعب. يقال لها[(4)] ، فيما ذكر أبو البختري، لبينة.
وانها كما قال الصالحي في سبل الهدى والرشاد[(5)]: « قال البلاذري: وكان يقال لها فيما ذكر أبو البختري: لَبِيبة ». [(6)]
والذي في أنساب الأشراف[(7)]، ونسخة خطية من الإصابة- كما ذكر محققوه-: «لُبَيّنة»، تصغير لَبنة. [(8)]
وكذا ضبطها الزرقاني في شرح المواهب؛ فقال: بــ "لام" موحدة، تصغير لبنة.
نُقل عن ابن حجر أنه ذكرها في الإصابة كذلك. [(9)]
في المحبر[(10)]: « أسماء من أعتقهم أبو بكر -رحمه الله- ممن كان يعذب في الله -تعالىٰ ذِكره-:
- «بلال بن رباح»...
- و«زنيرة» جارية بنى عمرو بن مؤمل العدوى ».
قلتُ[(11)]: وهو خطأ؛ فــ«زنيرة» غير «جارية» بني عمرو بن مؤمل العدوى، والظاهر أنه سقطت واو بين «زنيرة» و «جارية».
وصواب العبارة: «وزنيرة و جارية بنى عمرو بن مؤمل العدوى». [(12)]
*.] : اسم الشهرة[(13)] :
جارية بني عمرو بن المؤمل.
*.] : فهي إذاً : " صحابية ".
*. ] : إسلامها :
أسلمت -رضي الله عنها- قبل إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه [(14)] :" فقد أسلمت بمكة قديما، في أول عهد الإسلام ".
*. ] : فضائلها ومواقفها[(16)] :
بسبب إسلامها -رضي الله عنها- بمكة قديما[(17)] كانت -رضي الله عنها- ممن عُذب في سبيل الله[(18)] .
*.]: قال حسان بن ثابت: " قدمتُ مكةَ معتمرا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس، وأصحابه يُؤذون ويعذبون، فوقفتُ علىٰ عمر وهو مؤتزر يخنق جاريةَ بني عمر بن المؤمل حتىٰ تسترخي في يديه، فأقولُ: قد ماتت. ثم يخلي عنها، ثم يثب علىٰ زنيرة، فيفعل بها مثل ذلك".[(19)]
*.] تَعْذِيبُ جَارِيَةِ بني عمرو بَنِ المُؤَمَّلٍ:
فــ مِنَ الذِينَ عُذِّبُوا جَارِيَةٌ لِبَنِي مُؤَمَّلٍ -وهُمْ حَيٌّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ- وَكَانَ الذِي يُعَذِّبُهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- [ قبل أن يسلم- وَكَانَ عَلَىٰ الشِّرْكِ ]، فَيُعَذِّبُهَا ... فلا يزال يضربها بالسياط، حتىٰ إذا مَلّ [حتَّىٰ يَمَلَّ] [(20)] فيَقُولُ لَهَا:« إنِّي اعْتَذِرُ إلَيْكِ، إنِّي لَمْ أتْرُكْكِ إِلَّا مَلَالَةً »؛ فتَقُولُ -رضي اللَّه عنها-:« كذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ».[(21)].
*.] : مواقف مع الصحابة -رضي الله عنهم- :
كانت -رضي الله عنها- ممن يعذب في الله -تعالىٰ-، فابتاعها أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-. [(22)] فأعتقها. [(23)]
ونستدل بما روي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه قال:... « ومر أبو بكر بجارية بني مؤمل، حي من بني عدي بن كعب، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، وهو يضربها حتىٰ إذا مل قال: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة، فعل الله بك. فتقول: كذلك فعل الله بك. فابتاعها أبو بكر فأعتقها. [(24)]ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
بحوث:
السيرة النبوية العطرة صَلَّىٰ اللَّهُ - تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه- عَلَىٰ صاحبها وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ؛ وعلىٰ من أتخذ منهاجه طريقه واستعمل سنته في حياته
بمناسبة اليوم العالمي للمرأة(!)
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
١٧ رجب ١٤٤١ ه ~ ١٢ مارس ٢٠٢٠م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أعلى الصفحة
فهرس

 

أَبُو فُكَيْهَةَ

رجالٌ -مِن المستضعين- نزل فيهم الذكر الحكيم وذكرهم القرآن الكريم!

*.] لم استطع ضبط اسمه -رضي الله تعالىٰ عنه- فقد ورد في آحدىٰ المصادر[ (1) ] :" أَبُو فَكِيهَةَ ".
*.] وَاسْمُهُ أَفْلَحُ ، وَ
*.] قِيلَ يَسَارٌ ، وَ
*.] كَانَ عَبْدًا لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ ،
*.] أَسْلَمَ مَعَ بِلَالٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُما- ، فَأَخَذَهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَرَبَطَ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا ، وَأَمَرَ بِهِ فَجُرَّ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الرَّمْضَاءِ ، وَمَرَّ بِهِ جُعَلٌ[ (2) ]. فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: "أَلَيْسَ هَذَا -جُعل- رَبَّكَ ؟".
فَقَالَ :« اللَّهُ رَبِّي... وَرَبُّكَ... وَرَبُّ هَذَا »،
فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا ،
وَمَعَهُ أَخُوهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يَقُولُ : زِدْهُ عَذَابًا حَتَّى يَأْتِيَ مُحَمَّدٌ فَيُخَلِّصَهُ بِسِحْرِهِ ،
وَلَمْ يَزَلْ عَلَىٰ تِلْكَ الْحَالِ حَتَّىٰ ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُ- فَاشْتَرَاهُ وَأَعْتَقَهُ .وَ
*.] قِيلَ[ (3) ] : إِنَّ بَنِي عَبْدِالدَّارِ كَانُوا يُعَذِّبُونَهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْلًى لَهُمْ ، وَكَانُوا يَضَعُونَ الصَّخْرَةَ عَلَىٰ صَدْرِهِ حَتَّىٰ دُلِعَ لِسَانُهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ ، وَهَاجَرَ وَمَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ . [ (4) ] .
*.] وإذا عدنا إلىٰ ما قيل بأن اسمه- رضي الله تعالىٰ عنه - يسارا فنقرأ :
" يسار أبو فكيهة "
وَذَكَرَ يسارا أبا فكيهة مولىٰ صفوان بن أمية فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ ، وَقَدْ قَالَهُ مصدر[ (5) ].
فَــــ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ جَلَسَ إِلَيْهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ : خباب ... وعمار ... وأبو فكيهة يسار مولىٰ صفوان بن أمية ... وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ ... وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَزَأَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ ، هَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَالْحَقِّ ، لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ بِهِ وَلَا خَصَّهُمُ اللَّهُ دُونَنَا ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ :{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }[ (6) ] الْآيَاتِ .
-*-*-
ولعلي يجب عليَّ أن اثبت ما قاله صاحب حلية الأولياء؛ أبو نعيم :« قَالَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- : قَدْ أَتَيْنَا عَلَىٰ مَنْ ذَكَرَهُمُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَنَسَبَهُمْ إِلَىٰ تَوْطِينِ الصُّفَّةِ وَنُزُولِهَا وَهُوَ أَحَدُ مَنْ لَقِينَاهُ وَمِمَّنْ لَهُ الْعِنَايَةُ التَّامَّةُ بِتَوْطِئَةِ مَذْهَبِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَتَهْذِيبِهِ عَلَىٰ مَا بَيَّنَهُ الْأَوَائِلُ مِنَ السَّلَفِ ، مُقْتَدٍ بِسِيمَتِهِمْ . مُلَازِمٌ لِطَرِيقَتِهِمْ ، مُتَّبِعٌ لِآثَارِهِمْ ، مُفَارِقٌ لِمَا يُؤْثَرُ عَنِ الْمُتَخَرِّمِينَ الْمُتَهَوِّسِينَ مِنْ جُهَّالِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ ، مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ ، إِذْ حَقِيقَةُ هَذَا الْمَذْهَبِ عِنْدَهُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَّغَ وَشَرَعَ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ وَصَدَعَ ، ثُمَّ الْقُدْوَةِ الْمُتَحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَرُوَاةِ الْآثَارِ ، وَحُكَّامِ الْفُقَهَاءِ . وَلِذَلِكَ ضَمَمْتُ إِلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الأغر الأبلج أبو سعيد بن الأعرابي -رَحِمَهُ اللَّهُ- (!) وَكَانَ أَحَدَ أَعْلَامِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ وَأَحْوَالِهِمْ وَالسِّيَاحَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَاقْتِبَاسِ آثَارِهِمْ . وَأَقْتَفِي فِي بَاقِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِ التَّابِعِينَ حَذْوَهُ إِذْ هُوَ شَرَعَ فِي تَأْلِيفِ طَبَقَاتِ النُّسَّاكِ ، وَأَقْتَصِرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَلَىٰ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ وَأَذْكُرُ لَهُمْ حَدِيثًا مُسْنَدًا إِنْ وُجِدَ ، وَحِكَايَةً وَحِكَايَتَيْنِ إِلَىٰ الثَّلَاثِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَىٰ مُسْتَعِينًا بِهِ وَمُعْتَمِدًا عَلَىٰ جَمِيلِ كِفَايَتِهِ إِذْ هُوَ الْوَلِيُّ وَالْمُعِينُ » . [ (7) ]
ثم كتب يقول: « ذِكْرُ جَمَاعَةٍ مِنْ سُكَّانِ الصُّفَّةِ؛ وَقُطَّانِ الْمَسْجِدِ تَرَكَ ذِكْرَهُمُ السلمي وابن الأعرابي »[ (8) ].
وهنا ؛ قلت (الرمادي): بعد النقل يتبين حال القوم وما هم عليه اليوم وما كانوا في سابق زمانهم؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
*.] قَالَ[ (9) ] :" كَانَ أَبُو فُكَيْهَةَ يُعَذَّبُ حَتَّىٰ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ "[ (10) ].
فَــ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا }.[ (11) ]
*.] وبخصوص ما نزل علىٰ قلب خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين محمد بن عبدالله -ﷺ- قالت قُرَيْشٌ -وَذَلِكَ أَنْ بَعْضَهُمْ قَالُوا- : هَذَا كَذِبٌ افْتَرَاهُ مُحَمَّدٌ ، وَ
*.] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُعِينِينَ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَىٰ زَعْمِ قُرَيْشٍ- فَقَالَ مُجَاهِدٌ -رحمه الله تعالىٰ-: أَشَارُوا إِلَىٰ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ[ (12) ] ، وَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَشَارُوا إِلَىٰ عَبِيدٍ كَانُوا لِلْعَرَبِ مِنَ الْفَرَسِ[ (13) ] ،
أَحَدُهُمْ :
1.] أَبُو فَكِيهَةٍ مَوْلَىٰ الْحَضْرَمِيِّينَ ، وَ
2.] جَبْرٌ ، وَ
3.] يَسَارٌ ، وَ
4.] عَدَّاسٌ ، وَغَيْرُهُمْ.
ثُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ -من زَعْمِ قُرَيْشٍ -مَا جَاؤُوا إِلَّا إِثْمًا وَزُورًا، أَيْ: مَا قَالُوا إِلَّا بُهْتَانًا وَزُورًا[ (14) ]. وَ
"الزُّورُ": تَحْسِينُ الْبَاطِلِ، هَذَا عُرْفُهُ، وَأَصْلُهُ التَّحْسِينُ مُطْلَقًا، "[ (15) ].
إذاً:
" اخْتُلِفَ[ (16) ] فِي اسْمِ مَنْ أَرَادَهُ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَعْلِيمِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَىٰ
أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ[ (17) ]:
أذكر منهم : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا أَعْجَمِيًّا لِامْرَأَةٍ بِمَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ أَبُو فَكِيهَةَ، كَانَ يَغْشَىٰ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَــ
قَالُوا لِمَوْلَاتِهِ احْبِسِيهِ فَحَبَسَتْهُ، وَ
قَالَتْ لَهُ: „ اكْنِسِ الْبَيْتَ ‟ ...
وَ
„ كُلْ كِنَاسَتَهُ ‟ ، فَــ
فَعَلَ وَقَالَ: « وَاللَّهِ مَا أَكَلْتُ أَطْيَبَ مِنْهُ وَلَا أَحْلَىٰ »، وَ
كَانَ يَسْأَلُ مَوْلَاتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَحْبِسَهُ فَلَا تَفْعَلُ. [ (18) ]".
وجاء في مصدر[ (19) ]." وَالرَّابِعُ :أَبُو فُكَيْهَةَ الرُّومِيُّ... [ (20) ]..
*.] لذا فقد قيل أنه رومي ... وأنه من أهل فارس .. وأنه من أهل الكتاب دون تحديد ؛ ثم قيل أنه من يهود... ولعلي أعود لمراجعة هذه الجزئية من البحث مع التدقيق والتحقيق إذا تيسر لي الحصول على مراجع تفيد(!!!؟).
*.] ومما يتشرف به المرء أن ينزل مِن رافع السماء بغير عمد نراها بواسطة أمين السماء الملك جبريل علىٰ قلب أمين السماء والأرض محمد بن عبدالله -ﷺ- قرآنا يتلىٰ إلىٰ يوم القيامة؛ فقد ذكر رجال[ (21) ] التفسير وأهل التأويل أن فِي سَبَبِ نُزُولِ: قَوْله تَعَالَىٰ : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ }:
رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا : إنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا يَسَارُ أَبُو فَكِيهَةَ مَوْلًى مِنْ قُرَيْشٍ ، وَسَلْمَانُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ [ (22) ] .
وَالتحقيق[ (23) ] : هَذَا يَصِحُّ فِي يَسَارٍ ، لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ ؛ وَأَمَّا سَلْمَانُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا بِالْمَدِينَةِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ النَّاسِ. [ (24) ].
*.] { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين }[ (25) ] ... فقال[ (26) ] :
" اخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الَّذِي قَالُوا إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ علىٰ ثمان أقوال ؛ منها :
« يَسَارٌ أَبُو فَكِيهَةَ» مَوْلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ ".
قَالَ[ (27) ]: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تعالىٰ :{ قَوْمٌ آخَرُونَ }[ (28) ] أَبُو فَكِيهَةَ مَوْلَى بَنِي الْحَضْرَمِيِّ وَعَدَّاسٌ وَجَبْرٌ ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ[ (29) ].
: { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ }[ (30) ] أَيْ : عَلَىٰ الِاخْتِلَاقِ قَوْمٌ آخَرُونَ يَعْنُونَ : مِنَ الْيَهُودِ .
قِيلَ وَهُمْ :أَبُو فُكَيْهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ ، وَعَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ، وَجَبْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْيَهُودِ "[ (31) ].
ثم أكمل[ (32) ] البحث فقال :" { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أَيْ عَلَىٰ مَا يَقُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْمٌ آخَرُونَ لَقَّنُوهُ بَعْضَ مَا يَقُولُهُ . وَأَرَادُوا بِالْقَوْمِ الْآخَرِينَ الْيَهُودَ[ (33) ] . رُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشَارُوا إِلَى عَبِيدٍ أَرْبَعَةٍ كَانُوا لِلْعَرَبِ مِنَ الْفُرْسِ وَهُمْ :عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ، وَيَسَارٌ أَبُو فَكِيهَةَ الرُّومِيُّ مَوْلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ ، وَ
فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرِّثٍ ، ، وَجَبْرٌ مَوْلَى عَامِرٍ. وَ
كَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ مَوَالِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ مِمَّنْ دَانُوا بِالنَّصْرَانِيَّةِ ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، ثُمَّ أَسْلَمُوا ".
" فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الرَّسُولَ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَىٰ هَؤُلَاءِ سِرًّا وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمْ أَخْبَارَ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ[ (34) ].
اضطربت الروايات في وصفه وترجمته فقد جاء[ (35) ] :" قِيلَ :أَبُو فَكِيهَةَ أَعْجَمِيٌّ : مَوْلَى لِامْرَأَةٍ بِمَكَّةَ.
قِيلَ : وَاسْمُهُ يَسَارٌ وَكَانَ يَهُودِيًّا ؛ قَالَهُ : مُقَاتِلٌ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَانَ يَهُودِيًّا .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ رَجُلًا حَدَّادًا نَصْرَانِيًّا اسْمُهُ عَنَسٌ .
وَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ: “ كَانَ لَنَا غُلَامَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ ، «يَسَارٌ» وَ«حَبْرٌ» ، كَانَا يَقْرَآنِ كُتُبًا لَهُمَا بِلِسَانِهِمْ ، وَكَانَ - صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِهِمَا فَيَسْمَعُ قِرَاءَتَهُمَا ” [ (36) ].
قِيلَ : “ وَكَانَا حَدَّادَيْنِ يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا ، فَقِيلَ لِأَحَدِهِمَا ذَلِكَ فَقَالَ : بَلْ هُوَ يُعَلِّمُنِي[ (37) ].”.
قلت (الرمادي) : تعددت المصادر الأصلية في ترجمة ضيف هذه الفصل من بحث المستضعفين في عهد النبوة؛ الفترة المكية من مرحلة السيرة المحمدية؛ ولي عودة إذا شاء رب العالمين ويسر لي الحصول علىٰ مراجع أصلية تنهي مسائل الخلاف؛ فاستمد منه العون وأطلب منه التوفيق وارجوه الصواب؛ فهو -سبحانه وتعالى- علىٰ كل شئ قدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
بحوث:
﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل من السماء ﴾
السيرة النبوية العطرة صَلَّىٰ اللَّهُ - تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه- عَلَىٰ صاحبها وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ؛ وعلىٰ من أتخذ منهاجه طريقه واستعمل سنته في حياته
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
٦ رجب١٤٤١ ه ~ ١ مارس ٢٠٢٠م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش؛ تطلب من صاحب البحث عن طريق إدارة موقع استرو عرب نيوز!

أعلى الصفحة
فهرس

 

عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ - وَيُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو-

وَسَأَلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ عَنْهُ فَقَالَ : «كَانَ مَنْ أَفْضَلِنَا؛ وَمِنْ أَوَّلِ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- » .

من المفاهيم الخاطئة والتي شاعت بين العامة؛ والتي يتشدق بها بعض الجهلة مفهوم :« أَوْلِيَاءُ اللَّهِ »... ويستدلون خطأً بالآية الكريمة والتي نطق بها القرآن الكريم والذكر الحكيم في قوله -تعالىٰ في سماه وتقدست اسماه- : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون } [يونس:62] ... والخطأ يعود أنهم يحصرونهم في فئة الدراويش أو بعض اقطاب أو مَن يتبع الطرق الصوفية؛ بيد أن الذكر الحكيم يوضح هذه القضية بقوله -تعالىٰ- : { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون } [الأنفال:34]...
وهذا وصف قرآني دقيق : « أولياء الله» : هم " المتقون "...
ثم يزيد القرآن الكريم المسألة وضوحاً فيقول: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [الأنفال:72] ...
وتكتمل الصورة البلاغية بقوله -تعالىٰ- : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال:74]
فجاء وصف قرآني بأنهم «المتقون» وزاد الوصف بياناً بأنهم «المؤمنون حقاً»... وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وانفسهم في سبيل الله، ويأتي التعبير القرآني قاطعاً وموضحاً بقوله -تعالىٰ- : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم } [التوبة:71] ...
ثم يلتقط خيط التأويل ابن تيمية في فتاويه فيبين لنا هذا المفهوم الإسلامي قراءةً تفسيرية لآية التوبة هذه فيقول: " ... فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَــ
1. يَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ بِهِ وَ
2. يَنْتَهُونَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ ؛ وَ
3. يَقْتَدُونَ بِهِ فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِيهِ فَيُؤَيِّدُهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَرُوحٍ مِنْهُ وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ وَلَهُمْ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ .
وَخِيَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتُهُمْ لِحُجَّةِ فِي الدِّينِ أَوْ لِحَاجَةِ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَلِكَ .
وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلُ :
1 . انْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَ
2 . تَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ وَ
3 . إِتْيَانِ الشَّجَرِ إلَيْهِ وَ
4 . حَنِينِ الْجِذْعِ إلَيْهِ وَ
5 . إِخْبَارِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَ
6 . إِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَ
7 . إِتْيَانِهِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَ
8 . تَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً كَمَا أَشْبَعَ فِي الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرَ مِنْ قِدْرِ طَعَامٍ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَشْهُورِ وَأَرْوَى الْعَسْكَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ مَزَادَةِ مَاءٍ وَلَمْ تَنْقُصْ وَمَلَأ أَوْعِيَةَ الْعَسْكَرِ عَامَ تَبُوكَ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْقُصْ وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى كَفَى النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ كَمَا كَانُوا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ وَ
9 . رَدِّهِ لِعَيْنِ أَبِي قتادة حِينَ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَجَعَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ.
ولعل لضيفنا في هذا الفصل الخامس نصيب من تلك الكرامات؛ فهو من خيار أولياء الله -تعالىٰ- الذي ساروا علىٰ خطىٰ الحبيب؛ وقاموا بدور رائع في هجرته الشريفة ... إذ لا يصح حصر مفهوم :« أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ».في فئة دون سواها أو افراد لا يتعدون غيرهم.
**
عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مُوَلَّدٌ مِنْ مُوَلَّدِي الأزد، مملوكاً -أولاً- للطفيل بن عبدالله بن الحارث ابن سخبرة بن جرثومة، من ولد نصر بن زهران.
وكان الطفيل أخا عائشة ابنة أبي بكر لأمها أم رومان...
أَسْوَدُ اللَّوْنِ... اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْهُمْ؛ فكان مَوْلَىٰ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- .
فــ كَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَزْدِيًّا صَرِيحًا؛ فَلَحِقَهُ الرِّقُّ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ تَزَوَّجَ فُهَيْرَةَ أَمَةَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ لِلطُّفَيْلِ أَخِي لأُمِّي. فَأَسْلَمَ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يَرْعَى عَلَيْهِ مَنِيحَةَ غَنَمٍ لَهُ.
**
إسْلَامُ عَامِرِ بْنِ فَهَيْرَةَ
كان عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ قديم الإسلام قبل دخول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دار الأرقم بْن أبي الأرقم - الَّتِي عِنْدَ الصَّفَا- مُسْتَخْفِيًا.
وقالوا: وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ بمكة ، فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ حتىٰ اشتراه أبو بكر (!).
ثُمَّ أَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ بِلَالٍ عَلَىٰ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ سِتَّ رِقَابٍ ، بِلَالٌ سَابِعُهُمْ؛ منهم: مَوْلَاهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ.
*
دوره في حادثة الهجرة النبوية:
وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مَوْلَاهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ أَنْ يَرْعَىٰ غَنَمَهُ نَهَارَهُ ، ثُمَّ يُرِيحَهَا عَلَيْهِمَا لَيْلًا مَنْحَةً مِنْ غَنَمٍ ، فيَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَىٰ فِي الْغَارِ ؛ فَيَأْخُذُ مِنْهَا حَاجَتَهُمَا . حَتَّىٰ تَذْهَبَ سَاعَةً مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ ، وَهُوَ لَبَنُ مَنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّىٰ يَنْعَقَ بِهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغِلْسٍ ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ ؛ فيسقيهما مِن لبنها.
وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَأْتِيهِمَا بِالطَّعَامِ ... وَيَأْتِيهِمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْأَخْبَارِ ... ثُمَّ يَتْلُوهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِالْغَنَمِ فَيُعَفِّي آثَارَهُمَا .
وهذا دورٌ آخر لسيدنا عامر!
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ : اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا [الْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ] وَهُوَ عَلَىٰ دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ فَارْتَحَلَا وَارْتَحَلَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ [وكان معهما حين هاجر إلىٰ المدينة يخدمهما.] وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ طَرِيقَ السَّاحِلِ .
وهذه خصوصية له -رضي الله تعالىٰ- عنه .
كِتَابُ أَمْنٍ؛ كتبه عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فِي رُقْعَةٍ لــ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ :
ونزل بالمدينة علىٰ سعد بن خيثمة. وآخا رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينه وبين الحارث بن أوس بن معاذ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ ، دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّىٰ قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ: " إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ "،
قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: " إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا "،
ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ ... فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ، فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّىٰ أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّىٰ دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَىٰ كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا: أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، تُقَرِّبُ بِي حَتَّىٰ إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ، حَتَّىٰ بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّىٰ جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقُلْتُ لَهُ: " إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ "، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: « أَخْفِ عَنَّا...« ...
فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذه خصوصية آخرىٰ له -رضي الله تعالى- عنه .
قال صاحب البداية والنهاية في تاريخه: " وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي كَتَبَ لِسُرَاقَةَ هَذَا الْكِتَابَ . فَاللَّهُ أَعْلَمُ .

خصوصية الشهادة في سبيل الله وما فعلته الملآئكة معه:
عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا...
إذَنْ استشهد عامر بن فهيرة يوم بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة. وكان يوم قتل ابن أربعين سنة. وكان يكنىٰ أبا حمد.
قلت (الرمادي) : " ولعلها آخرىٰ غير الأولىٰ".
وروىٰ أن جبار بن سلمىٰ الكلابي طعن عامراً يومئذ. وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً .
وَلَمَّا طُعِنَ قَالَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ:: « فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»... ! أي بالجنة!!؛
ورفع مِن رمحه، وَلَمْ تُوجَدْ جُثَّتُهُ لِتُدْفَنَ مَعَ الْقَتْلَىٰ ،
فَقِيلَ : « إِنَّ الْمَلَائِكَةَ دَفَنَتْهُ «(!!!)..
[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة أخذته فوارت جثته" .(قلت(الرمادي):"لم أجده"] فأسلم جبار لما رأىٰ، وحسن إسلامه.
عن ابن شهاب قال: أخبرني رجال من أهل العلم أن عامر بن فهيرة قتل يوم بئر معونة، فلم يوجد جسده... حين دفنوا القتلىٰ. قال عروة: «فكانوا يرون أن الملائكة دفنته».
ويقول ابن تيمية : وَ "عَامِرُ بْنُ فهيرة: قُتِلَ شَهِيدًا فَالْتَمَسُوا جَسَدَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ... وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ فَرَآهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَقَدْ رُفِعَ ... وَقَالَ :عُرْوَةُ: فَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ .".
ثم تتبعت الرواية هذه فوجدتها عند :
- ابن الأثير في الكامل في التاريخ كما ذكرها
- البخاري مرسلة و
- ذكرها ابن حجر العسقلاني في شرحه (فتح الباري) على الصحيح لمحمد بن إسماعيل البخاري. ثم راجعت فتح الباري فوجدتُ :" رِوَايَةَ عُرْوَةَ "وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ جَبَّارُ بْنُ سَلْمَىٰ ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا طَعَنَهُ قَالَ : «فُزْتُ وَاللَّهِ» قَالَ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : "مَا قَوْلُهُ فُزْتُ ؟"، فَأَتَيْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ :" بِالْجَنَّةِ " . قَالَ : " فَأَسْلَمْتُ ، وَدَعَانِي إِلَىٰ ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ مِنْ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ ".
ولعلها كرامة -اسأل الله تعالىٰ أن يكرمنا بها- لا أقول فيها غير :"والله اعلم ! ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الخامس من بحث أذىٰ المشركين الذي لحق بخاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين -صلى الله عليه وآله وسلم-. ومن تبعه بإحسان مِن المسلمين الأوائل المكرمين.
٥ جمادىٰ الثاني من العام الهجري ١٤٤١ الموافق 30 يناير 2020 من الميلاد العجيب لعيسىٰ ابن مريم العذراء البتول -عليهما السلام-
نال شرف قراءة المراجع ومتابعة المصادر؛ وتكحلت عيناه بكتابة هذا البحث:
د. محمدالرمادي

أعلى الصفحة
فهرس

 

[ ٣ ] ﴿﴿﴿ أَبَو يَحْيَىٰ؛ صُهَيْبٌ بن سنان ﴾﴾﴾


مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
ذكر المستضعفين مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم
تمهيد :
مسائل تأصيل السيرة المحمدية من بداياتها؛ ثم تأصيل بداية نزول وحي السماء الخاتم لآخر الرسالات علىٰ قلب متمم المرسلين وآخر الأنبياء؛ ثم تأصيل الفترات الزمنية للهدي النبوي خلال زمن الرسالة الخاتمة؛ ومن ثم تأصيل المراحل التي مرت بها الدعوة الإسلامية وربطها ربطاً محكماً بمفاصلها بقيادة نبي الرحمة ورسول المغفرة؛ ثم تأصيل السنة النبوية -علىٰ صاحبها الصلاة والسلام والتبريكات والإنعام وآله والأصحاب الكرام ومن تبعهم بإحسان وإلتزام- بكافة موضوعاتها ومباحثها وأبوابها وفصولها تستلزم مِن المسلم دراستها دراسة تفصيلية عملية واقعية كي يتسنىٰ له السير في طريق الإسلام وفق خطوات نلتزم منها بما هو أمر ولنا سعة في الحركة بما اباحه لنا صاحب الشرع تحت أضواء كاشفة لما جرىٰ بالأمس ليستنير بها الساري في دروب الحياة ليحسن التصرف تجاه ما يحصل ويحدث اليوم؛ إذ أن غياب التقييد بالهدي المحمدي -سيرة محمدية وسنة نبوية- إثناء السير باعتباره –الهدي النبوي- أوامر وخطوط عريضة تتسع في مواضع، وضعف الإستنارة بضوء النور النبوي أوقع الكثير لما نحن جميعاً فيه اليوم؛ خاصةً -مَن يدعي حمل الدعوة- لا يعملون بما يتكلمون به ويقولون سواء في مستوىٰ المسؤولية أو دونها أو تلك الكتل والجماعات ذات الصبغة الإسلامية أو الفرق والأحزاب ذات النعرة الدينية(!) التي رفعت شعارات جوفاء سرعان ما كشفتها نسائم الصباح بفجر سافر سواء في بلاد يسكنها مسلمون أو علىٰ أرض العرب أو في بلاد الغرب؛ فقد توشح بعضهم بقطعة طويلة مِن قماشٍ بالٍ، شدها علىٰ رَّأسه -تزيناً-أو رَّقبته -تفاخرا- أو بين الأكتاف فظنها الجاهل أنها علامة فسار خلفه فكانت عليهما ندامة.
كان النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حريصًا على أنْ يدخُلَ النَّاسُ جميعُهم في دِينِ اللهِ -تعالى-، وكان يَدْعو الزُّعماءَ والمُطاعينَ في أقوامِهم ويتألَّفُهم؛ رجاءَ أنْ يدخُلوا في الإسلامِ، ويدخُلَ معهم أقوامُهم... فعرض -عليه السلام- الإسلام علىٰ الجميع...
نكمل المسيرة مع :
﴿﴿﴿ صهيب بن سنان ﴾﴾﴾

عن محمد بن سيرين قال: صهيب من العرب، من النمر بن قاسط.
قال الكلبي: صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل ابن عامر بن جندلة بن جذيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس مناة بن النمر بن قاسط.
وقال بعض الرواة: كان اسم صهيب: عميرة بن سنان.
وأمه سلمىٰ بنت قعيد،
من بني تميم.
قَالَ بَعْضُهُمْ: ابْنُ عُلَيَّةَ.
وَكَانَ أَبُوهُ سِنَانُ بْنُ مَالِكٍ عاملا لكسرىٰ علىٰ الأبلة من قبل النعمان بن المنذر. وكانت منازلهم بأرض الموصل. ويقال: كانوا في قرية علىٰ شاطئ الفرات مما يلي الجزيرةَ والْمَوْصِلِ.
فأغارت الروم علىٰ ناحيتهم، فسبت صهيبا وهو غلام صغير.
قَالَ عَمُّهُ :
أَنْشُدُ بِاللَّهِ الْغُلَامَ النَّمَرِيَّ * دَجَّ بِهِ الرُّومَ وَأَهْلِي بِالنَّبِي
قَالَ : وَالنَّبِي اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا أَهْلُهُ ،
فنشأ صُهَيْبٌ بالروم، فصار ألكن(!). فابتاعه رجل من كلب، فقدم به مكة، فاشتراه أبو زهير؛ عَبْداللَّهِ بْن جدعان بْن عَمْرِو بْنِ كعب بْن سَعْد بْن تيم بْن مرة بن كعب. فاسترقه، ثم أعتقه. فأقام معه بِمَكَّةَ إلىٰ أن هلك. وكان مهلك ابن جدعان قبل المبعث ببضع عشرة سنة. ولم يزل صهيب مع آل جدعان إلىٰ أن بعث رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأسلم. وأما أهل صهيب وولده، فيقولون: لم يشتره أحد من الذين سبوه، ولكنه لما ترعرع وعقل، هرب من الروم، فسقط إلىٰ مكة، فحالف ابن جدعان وأقام معه إلىٰ أن هلك. وأن صهيبا كان أحمر شديد الحمرة، فسمي رومياً لذلك، ولأنه سقط إلىٰ الروم. وقال المدائني: سبته العرب، فوقع إلىٰ مكة، ولم يدخل الروم قط. وإنما سمي رومياً لحمرته.

إسلام صهيب :
قال الواقدي: كان إسلام صهيب مع عمار في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: " لَقِيتُ صُهَيْبَ بْنَ سِنَانٍ عَلَى بَابِ دَارِ الْأَرْقَمِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا تُرِيدُ ؟ فَقَالَ لِي : مَا تُرِيدُ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ : أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ، فَأَسْمَعَ كَلَامَهُ ، قَالَ : وَأَنَا أُرِيدُ ذَلِكَ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَعَرَضَ عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَا ، ثُمَّ مَكَثْنَا يَوْمَنَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَيْنَا ، ثُمَّ خَرَجْنَا وَنَحْنُ مُسْتَخْفُونَ .
عن رجل من ولد صهيب، عن أشياخه: أن صهيباً مر بقريش، ومعه خباب بن الأرت، وعمار بن ياسر. فقالوا: هؤلاء جلساء محمد. وجعلوا يهزءون. فقال صهيب: «نحن جلساء نبي الله، آمنا وكفرتم، وصدقناه وكذبتموه ولا خسيسة مع الإسلام ولا عز مع الشرك». فعذبوه وضربوه، وجعلوا يقولون: " أنتم الذين منّ الله عليكم من بيننا؟".
عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مَرَّ صُهَيْبٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَىٰ مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: انْظُرُوا إِلَىٰ الأرذال، أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ فَنَزَلَتِ الآيَةُ
فعن عروة، قال: كان صهيب مِن المستضعفين، مِن المؤمنين الذين كانوا يعذّبون في الله-عزَّ وجلَّ-.
فـ «أوَّلُ مَنْ أظهرَ الإسلامَ بمكةَ سبعةٌ : رسولُ اللهِ ﷺ وأبو بكرٍ وبلالٌ وخبابٌ وصهيبٌ وعمَّارٌ وسميَّةٌ فأمَّا رسولُ اللهِ ﷺوأبو بكرٍ فمنعهما قومُهما، وأمَّا الآخرونَ فَأُلْبِسُوا أدرعَ الحديدِ؛ ثمَّ صُهروا في الشَّمسِ، وجاء أبو جهلٍ إلىٰ سُميَّةَ فطعنها بحربةٍ فقتلها» . [الحديث : مرسل صحيح السند] .
وجاء برواية «عن عبدِاللهِ بن مسعود قال كان أولَ من أظهر إسلامَه سبعةٌ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبو بكرٍ وعمارٌ وأمُّه سميةٌ وصهيبٌ وبلالٌ والمقدادُ فأما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فمنعه اللهُ بعمِّه أبي طالبٍ وأما أبو بكرٍ فمنعه اللهُ بقومِه وأما سائرُهم فأخذهم المشركون فألْبسوهم أدراعَ الحديدِ وصهروهم في الشمسِ فما منا إنسانٌ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالًا فإنه هانتْ عليه نفسُه في شعابِ مكةَ وهو يقولُ أَحَدٌ أَحَدٌ» . [الحديث : كان يحيى بن أبي كثير يخطيء فيه وإنما رواه الناس عن منصور عن مجاهد] ... وجاء في رواية : ...إلَّا بلالٌ فإنَّه هانَتْ عليه نفسُه في اللهِ وهان على قومِه فأخَذوه فأعطَوْه الوِلْدانَ فجعَلوا يطوفونَ به في شِعابِ مكَّةَ وهو يقولُ : أحَدٌ أحَدٌ. [صحيح ابن حبان].
قالوا: وكناه رَسُول اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قبل أن يولد له، «أبا يحيى». وليست له كنية غيرها.
بيد أن ابنُ عبَّاس قال :" صهيبُ بنُ سِنانٍ يُكنَى «أبا غسَّانَ». [تاريخ دمشق؛ الحديث : غير محفوظ].
«كان عَمَّارٌ يُعذَّبُ حتىٰ لا يَدري ما يقولُ، وكذا صُهَيبٌ، وفيهم نزَلَتْ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [النحل: 41].[سير أعلام النبلاء؛ الحديث فيه الوقدي متروك].
«كان عَمَّارُ بنُ ياسرٍ يُعذَّبُ حتىٰ لا يَدري ما يَقولُ، وكان صُهَيبٌ يُعذَّبُ حتى لا يَدري ما يَقولُ، في قَومٍ مِن المُسلمينَ، حتى نزَلَتْ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110]. ». [سير أعلام النبلاء؛ الحديث : قوله (والذين هاجروا في الله من بعدما فتنوا) هي علاوة على كونها خطأ، وصوابها (من بعد ما ظلموا) ليست هي الآية التي نزلت في حق هؤلاء، وإنما هي ما أثبتناه، وما أدري كيف خفي هذا على المؤلف وغيره ].
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ...} [البقرة: 207]، «نزَلَتْ في صُهَيبٍ، ونَفَرٍ مِن أصحابِه، أخَذَهم أهلُ مكَّةَ يُعذِّبونَهم؛ ليَرُدُّوهم إلى الشِّركِ». [سير أعلام النبلاء؛ الحديث : إسناده صعيف ].
«مرَّ الملأُ من قُرَيْشٍ برسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ، وعندَهُ : صُهَيْبٌ ، وبلالٌ ، وعمَّارٌ ، وخبَّابٌ ، وغيرُهُم من ضعفاءِ المسلمينَ ، فقالوا : "يا محمَّدُ ، أرضيتَ بِهَؤلاءِ من قومِكَ ؟؛ أَهَؤلاءِ الَّذينَ منَّ اللَّهُ عليهِم من بيننا ؟ أنحنُ نصيرُ تبعًا لِهَؤلاءِ ؟ اطردهُم عنكَ ، فلعلَّكَ إن طردتَهُم أن نتَّبعَكَ ، فنزلتْ هذِهِ الآيةُ : وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ إلى آخرِ الآيةِ» .[عمدة التفسير؛ الحديث : إسناده صحيح؛ وأخرجه أحمد (3985)، والبزار (2041)، والطبراني (10/268) (10520) باختلاف يسير].
وفي قولِهِ تعالى وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ... إلى قولِهِ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ قالَ جاءَ الأقرعُ بنُ حابسٍ التَّميميُّ وعيينةُ بنُ حصنٍ الفزاريُّ فوجَدوا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ معَ صُهيبٍ وبلالٍ وعمَّارٍ وخبَّابٍ قاعدًا في ناسٍ منَ الضُّعفاءِ منَ المؤمنينَ فلمَّا رأوْهم حولَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ حقروهم فأتوْهُ فخلوا بِهِ وقالوا إنَّا نريدُ أن تجعلَ لنا منْكَ مجلسًا تعرفُ لنا بِهِ العربُ فضلَنا فإنَّ وفودَ العربِ تأتيكَ فنستَحيِ أن ترانا العربُ معَ هذِهِ الأعبُدِ فإذا نحنُ جئناكَ فأقمْهم عنْكَ فإذا نحنُ فرغنا فاقعد معَهم إن شئتَ قالَ نعَم قالوا فاكتُب لنا عليْكَ كتابًا قالَ فدعا بصحيفةٍ ودعا عليًّا ليَكتبَ ونحنُ قعودٌ في ناحيةٍ فنزلَ جبرائيلُ عليْهِ السَّلامُ فقالَ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ثمَّ ذَكرَ الأقرعَ بنَ حابسٍ وعيينةَ بنَ حصنٍ فقالَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ثمَّ قالَ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قالَ فدنَونا منْهُ حتَّى وضعنا رُكبنا على رُكبتِهِ وَكانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يجلسُ معَنا فإذا أرادَ أن يقومَ قامَ وترَكنا فأنزلَ اللَّهُ { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ولا تجالسِ الأشرافَ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا يعني عيينةَ والأقرعَ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا قالَ هلاكًا قالَ أمرُ عيينةَ والأقرعِ ثمَّ ضربَ لَهم مثلَ الرَّجلينِ ومثلَ الحياةِ الدُّنيا قالَ خبَّابٌ فَكنَّا نقعدُ معَ النَّبيِّ فإذا بلغنا السَّاعةَ الَّتي يقومُ فيها قُمنا وترَكناهُ حتَّى يقومَ ». [ابن ماجه؛ الحديث : صحيح].
وفي هذ الحديثِ تَفسيرٌ وبيانٌ لأسبابِ نُزولِ بعضِ الآياتِ الَّتي تَتناولُ هذا الموضوعَ؛ وفيه يقولُ خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ في قولِه تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]: "جاء الأقرعُ بنُ حابِسٍ التَّميميُّ، وعُيينةُ بنُ حِصْنٍ الفَزاريُّ"، أي: إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان الأقرعُ أحدَ المُؤلَّفةِ قُلوبُهم وأحدَ الأشرافِ، وكان عُيينةُ سيِّدَ بني فَزارةَ وفارِسَهم، "فوَجَدوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع صُهيبٍ وبِلالٍ وعمَّارٍ وخبَّابٍ، قاعدًا في ناسٍ من الضُّعفاءِ من المُؤمنينَ، فلمَّا رَأَوهم حولَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَقَروهم"، أي: استحْقَروهم وعَدُّوهم ممَّن لا يُؤْبَه بهم، وامْتَنعوا عن مُجالسَتِهم، "فأَتَوه فخَلَوا به"، أي: انفَرَدوا بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحدَهم، "وقالوا: إنَّا نُريدُ أنْ تجعَلَ لنا منك مَجلِسًا"، أي: مَجلِسًا خاصًّا بنا في وقتٍ خاصٍّ، "تَعرِفُ لنا به العربُ فَضْلَنا"، أي: نُمَيَّزُ به عند القَبائلِ والوُفودِ؛ "فإنَّ وُفودَ العربِ تأتيك، فنَسْتَحي أنْ ترانا العربُ مع هذه الأعبُدِ" جَمْع عبْدٍ، والمعنى: أنَّهم فُقراءُ وضُعفاءُ، وفيهم مَن كان عبْدًا، والمُرادُ أنَّهم: يَسْتَحون من مُجالسَةِ هؤلاء؛ خَشيةً مِن إنكارِ العربِ عليهم وتقليلِ شَأْنِهم، قالوا: "فإذا نحن جِئْناك فأقِمْهم عنك"، أي: اطْرُدْهم عن مَجلِسِك وأبعِدْهم عنه، "فإذا نحن فرَغْنا فاقْعُدْ معهم إنْ شِئْتَ"، أي: جالِسْهم بعدَ أنْ نَنْتِهيَ معك ونقومَ عنك، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "نعمْ"، أي: أجابَهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ما طَلَبوا؛ رجاءَ إيمانِ قَومِهم بإسلامِهم؛ لأنَّهما كانا سيِّدَينِ مُطاعَينِ في قَومِهم، فنظَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى هذه المصلحةِ الدَّعويَّةِ. "قالوا: فاكْتُبْ لنا عليك كتابًا"، أي: عَقدًا ورسالةً توضِّحُ مثلَ تلك الشُّروطِ، قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فدعا"، أي: النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "بصَحيفةٍ"، أي: ليكتُبَ لهم فيها ما شَرَطوا، والصَّحيفةُ: الورقةُ المكتوبةُ أيَّا كان نوعُها؛ مِن جِلدٍ، أو جَريدٍ، أو ما شابَه، "ودعا عليًّا ليكتُبَ"؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان لا يكتُبُ، قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "ونحن قُعودٌ في ناحيةٍ"، أي: أنَّ الصَّحابةَ الفُقراءَ والمواليَ كانوا جالسينَ في ناحيةٍ من نواحي المكانِ الَّذي يُعْقَدُ فيه هذا العقدُ، "فنزَلَ جِبرائيلُ عليه السَّلامُ، فقال"، أي: بقولِه تعالى: "{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، ثمَّ ذكَرَ الأقرعَ بنَ حابسٍ وعُيينةَ بنَ حِصْنٍ فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا} [الأنعام: 53]"، أي: ابْتَلَيْنا هؤلاء، "{بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، ثمَّ قال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]"، يُريد ضُعفاءَ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنه ممَّن تكابَرَ عليهم الأقرعُ وعُيينةُ، قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فدَنَونا منه"، أي: اقْتَربوا من رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حُضورِ الأقرعِ وعُيينةَ، "حتَّى وضَعْنا رُكَبَنا على رُكبتِه"، وفي هذا إشارةٌ إلى شِدَّةِ اقترابِهم من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "وكان رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يجلِسُ معنا، فإذا أراد أنْ يقومَ"، أي: يذهَبَ لبعضِ شَأنِه، "قام وترَكَنا"، أي: قد يتقدَّمُ عنَّا في القِيامِ، "فأنزَلَ اللهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]، ولا تجالِسِ الأشرافَ"، أي: في قولِه تعالى: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، يعني: عُيينةَ والأقرعَ، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، قال: هلاكًا، وهذا تفسيرُ منه لقولِه: {فُرُطًا}، وقيل معناها: ضَياعًا، أو نَدَمًا، أو سَرَفًا، أو خِلافًا للحقِّ. قال: أمْرُ عُيينةَ والأقرعِ؛ قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "ثمَّ ضرَبَ لهم مثَلًا لرُجلينِ ومثل الحياةِ الدُّنيا"، أي: ضرَبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بهم مثلًا في القُرآنِ، وهو الَّذي في قولِه تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] الآياتِ.
قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فكنَّا نقعُدُ مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا بلَغْنا السَّاعةَ الَّتي يقومُ فيها"، أي: فإذا وصَلْنا إلى الوقتِ المُعتادِ الَّذي يريدُ أنْ يذهَبَ فيه، "قُمْنا وتَرْكناه حتَّى يقومَ"، أي: فجعَلَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتأخَّرُ عنهم في القِيامِ؛ استجابةً لأمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهو عند الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم مِن حُسنِ الأدَبِ وعدَمِ التَّعنُّتِ مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحديثِ: النَّهيُّ عن أنْ يُعَظَّمَ أحدٌ لجاهِه وغِناه ومكانتِه، وأنْ يُحْتَقَرَ أحدٌ لضَعفِه أو فَقرِه.
وفيه: الحثُّ على مُجالسةِ الصَّالحينَ وتَقديمِهم على غيرِهم، حتى ولو كانوا أغنياءَ.

هجرته:
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ صُهَيْبًا حين أراد الهجرة إلىٰ المدينة، قالت لَهُ قُرَيْشٌ: «أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا، فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا وَبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَنْطَلِقَ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَاللَّهِ لا يَكُونُ ذَلِكَ.
قَالَ: أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ تَرَكْتُ مَالِي لَكُمْ أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَخَلَعَ لَهُمْ مَالَهُ» .
[فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ.] وَنَزَلَتْ فِيهِ: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» الآيَةَ .
عن سعيد ابن الْمُسَيِّبِ، قَالَ: أَقْبَلَ صُهَيْبٌ رضي اللهُ عنه مُهَاجِرًا نَحْوَ الْمَدِينَةِ [إلى مدينةِ رسولِ اللهِ ﷺ ] ، فَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ. فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَنَثَلَ مَا فِي كِنَانَتِهِ، ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ سَهْمًا ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَرْمَاكُمْ رَجُلا. وَاللَّهِ [وايمُ اللهِ] لا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّىٰ أَرْمِيَ بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِي فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبُكُمْ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ. فَافْعَلُوا ما شئتم.
وإن شِئْتُمْ، دَلَلْتُكُمْ عَلَىٰ مَالِي [ وَقَدْ خَلَّفْتُ بِمَكَّةَ قَيْنَتَيْنِ فَهُمَا لَكُمْ] وَخَلَّيْتُمْ سَبِيلِي؟»
قَالُوا: نَعَمْ.
فَفَعَلَ(!)
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ ،، قَالَ: [رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَىٰ، رَبِحَ الْبَيْعُ.] قَالَ: وَنَزَلَتْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ » . [إتحاف الخيرة المهرة؛ الحديث : إسناد ضعيف، وله شاهد وخرّجه : الحارث في ((مسنده)) (679) واللفظ له، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/151)]
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ سَبِخَةً بَيْنَ ظَهْرَانَيْ حَرَّةٍ ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَجَرًا أَوْ تَكُونَ يَثْرِبَ" قَالَ : وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكُنْتُ قَدْ هَمَمْتُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ فَصَدَّنِي فِتْيَانُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَجَعَلْتُ لَيْلَتِي تِلْكَ أَقُومُ وَلَا أَقْعُدُ ، فَقَالُوا : قَدْ شَغَلَهُ اللَّهُ عَنْكُمْ بِبَطْنِهِ وَلَمْ أَكُنْ شَاكِيًا ، فَقَامُوا فَلَحِقَنِي مِنْهُمْ نَاسٌ بَعْدَمَا سِرْتُ بَرِيدًا لِيَرُدُّونِي ، فَقُلْتُ لَهُمْ : هَلْ لَكُمْ أَنْ أُعْطِيَكُمْ أَوَاقِيَ مِنْ ذَهَبٍ وَتُخَلُّونَ سَبِيلِي ، وَتَفُونَ لِي فَتَبِعْتُهُمْ إِلَى مَكَّةَ ؟ فَقُلْتُ لَهُمُ : احْفِرُوا تَحْتَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ فَإِنَّ تَحْتَهَا الْأَوَاقِيَ ، وَاذْهَبُوا إِلَى فُلَانَةَ فَخُذُوا الْحُلَّتَيْنِ ، وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا – يَعْنِي قُبَاءَ- ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ : "يَا أَبَا يَحْيَى ، رَبِحَ الْبَيْعُ" ثَلَاثًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ"
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قدم صهيب آخر الناس مع علي بن أبي طالب عليه السلام. وذلك للنصف من شهر ربيع الأول ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. ولم يرم بعد. فوافى رَسُول اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَبَا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وبين أيديهم رطب قد جاءهم به كلثوم بن الهدم: أمهات جراذين . وكان صهيب رمد العين، قد رمد في الطريق، وأصابته مجاعة شديدة. فجعل يأكل الرطب أكل جائع. فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترىٰ إلىٰ صهيب يأكل الرطب وهو رمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صهيب، أتأكل الرطب وأنت رمد؟ فقال صهيب: إنما آكله بعيني الصحيحة. فتبسم رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال صهيب: إن قريشا أخذتني وحبستني، فاشتريت نفسي وأهلي بمالي، وبادرت للهجرة. [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربح البيع] .
وأنزل الله عز وجل: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» الآية.
- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ . قالَ ابنُ عبَّاسٍ ، وأنسٌ : نزلت في صُهَيْبِ بنِ سنانٍ الرُّوميِّ وذلِكَ أنَّهُ لمَّا أسلَمَ بمَكَّةَ وأرادَ الهِجرةَ ، منعَهُ النَّاسُ أن يُهاجرَ بمالِهِ ، وإن أحبَّ أن يتجرَّدَ منهُ ويُهاجرَ ففَعلَ ، فتخلَّصَ منهم وأعطاهم مالَهُ ، فأنزلَ اللَّهُ فيهِ هذِهِ الآيةَ ، فتلقَّاهُ عمرُ بنُ الخطَّابِ وجماعةٌ إلى طَرفِ الحرَّةِ فقالوا له : ربِحَ البيعُ فقالَ : وأنتُمْ فلا أخسَرَ اللَّهُ تجارَتَكُم وما ذاكَ ؟ فأخبَروهُ أنَّ اللَّهَ أنزلَ فيهِ هذِهِ الآيةَ ، ويُروَى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قال له : ربحَ البيعُ صُهَيْبُ ربحَ البيعُ صُهَيْبُ [عمدة التفسير الحديث أشار في المقدمة إلى صحته]
عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُكَنَّى (أَبَا) يَحْيَىٰ. فَيَقُولُ إِنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ الْكَثِيرَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ «يَا صُهَيْبُ، مَا بَالُكَ تَتَكَنَّىٰ، وَلَيْسَ لَكَ وَلَدٌ؟».
وَ « تَقُولُ إِنَّكَ مِنَ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالرُّومِيِّ».
وَ«تُطْعِمُ الطَّعَامَ الْكَثِيرَ وَذَلِكَ سَرَفٌ فِي الْمَالِ» .
فَقَالَ صُهَيْبٌ: «أَمَّا الْكُنْيَةُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَّانِي أَبَا يَحْيَىٰ».
وَأَمَّا «النَّسَبُ فَإِنِّي رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ. وَلَكِنَّ الرُّومَ سَبَوْنِي صَغِيرًا بَعْدَ أَنْ عَقِلْتُ أَهْلِي وَقَوْمِي وَعَلِمْتُ نَسَبِي».
وَأَمَّا قَوْلُكَ فِي الطَّعَامِ، [فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ النَّاسَ، وَأَفْشَى السَّلامَ».] فَذَلِكَ الَّذِي يَحْمِلُنِي عَلَىٰ إِطْعَامِهِ» . [جامع المسانيد والسنن؛ الحديث : إسناده حسن. وانظر: فتح الباري لابن حجر؛ الحديث: جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً] . وَأَمَّا الْقَوْلُ : إِنِّي لَا أُمْسِكُ شَيْئًا إِلَّا أَنْفَقْتُهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ،
عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُهَيْبٌ سَابِقٌ الرُّومَ] . «صُهيبٌ سابقُ الرومِ» [تاريخ الإسلام؛ الحديث : مرسل صحيح؛ وتجد راوية عند: سير أعلام النبلاء؛ الحديث : إسناده جيد ". وجاء برواية « السُّبَّاقُ أربعةٌ: أنا سابقُ العربِ، وسلمانُ سابقُ فارسَ، وبلالٌ سابقُ الحبَشِ، وصُهيبٌ سابقُ الرُّومِ» .[البحر الزخار المعروف بمسند البزار؛ الحديث : لا نعلم راوه عن ثابت، عن أنس إلا عمارة بن زاذان".
عَنْ عَامِرِ بن عبدالله ابن الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لأَهْلِ الشُّورَى فِيمَا أَوْصَاهُمْ بِهِ: «وَلْيُصَلِّ بِكُمْ صُهَيْبٌ» .
عَنْ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لما تُوُفِّيَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-، نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ فَإِذَا صُهَيْبٌ يُصَلِّي بِهِمُ الْمَكْتُوبَاتِ بِأَمْرِ عمر. فقدّموه. فصلىٰ علىٰ عمر.
قالوا: وشهد صهيب بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلها مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ : "مَا جَعَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْعَدُوِّ ، وَمَا كُنْتُ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ أَمَامَهُ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ" .
عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِاللَّهِ قَالَ: كَانَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: هَلُمُّوا: أُحَدِّثْكُمْ عَنْ مَغَازِينَا، فَأَمَّا أَنْ أَقُولَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَلا.
فضائل لم تثبت بدليل "
أن الصَّحابةَ تذاكروا فضلَ ما في القرآنِ فقالَ لَهم عليٌّ :" أين أنتُم من آية الكرسيِّ ؛ قالَ لي رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ «يا عليُّ سيِّدُ البشَرِ آدَمُ، وسيِّدُ العرَبِ مُحمَّدٌ؛ ولا فخرَ ، وسيِّدُ الفُرسِ سلمانُ، وسيِّدُ الرُّومِ صُهيبٌ، وسيِّدُ الحبشَةِ بلالٌن وسيِّدُ الجبالِ الطُّورُ، وسيِّدُ الأيَّامِ يومُ الجمعةِن وسيِّدُ الْكلامِ القرآنُ؛ وسيِّدُ القرآنِ البقرةُ؛ وسيِّدُ البقرةِ آيةُ الْكرسيِّ» .نسبت روايته إلى: علي بن أبي طالب؛ انظر: قال ابن حجر العسقلاني؛ في : الكافي الشاف ( 41 ):" الحديث لم أجده".
« ألَا إنَّ الجنَّةَ اشتاقَتْ إلى أربعةٍ مِن أصحابي فأمَرني ربِّي أنْ أُحِبَّهم فانتَدَب صُهَيبٌ الرُّوميُّ وبِلالُ بنُ رَباحٍ وطَلْحةُ والزُّبَيرُ وسَعْدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وحُذَيْفةُ بنُ اليَمَانِ وعمَّارُ بنُ ياسرٍ فقالوا يا رسولَ اللهِ مَن هؤلاءِ الأربعةُ حتَّى نُحِبَّهم قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يا عمَّارُ أنتَ عرَّفكَ اللهُ المُنافِقينَ وأمَّا هؤلاءِ الأربعةُ فأحَدُهم علِيُّ بنُ أبي طالبٍ والثَّاني المِقدادُ بنُ الأسودِ الكِنديُّ والثَّالثُ سَلْمانُ الفارسيُّ والرَّابعُ أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ» [نسبت روايته إلى : علي بن أبي طالب؛ انظر: الطبراني؛ في : المعجم الأوسط ( 7 /305)؛ الحديث : لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا الضحاك ولا يروى عن قنبر إلا بهذا الإسناد تفرد به عامر ]
"نعمَ العبدُ صهيبٌ؛ لو لم يخفِ اللَّهَ لم يعصِهِ" تجده عند : السمهودي؛ في : الغماز على اللماز ( 327 )؛ الحديث : إنما هو من كلام عمر بن الخطاب في حق سالم ؛ وتجده عند ملا علي قاري ؛ في : الأسرار المرفوعة (356 )؛ الحديث : قيل لا أصل له أو بأصله موضوع . وتجده عند مرعي الكرمي في : الفوائد الموضوعة ( 112 )؛ الحديث : لا أصل له . ونسيت روايته إلى عمر بن الخطاب؛ انظر : الزرقاني في: مختصر المقاصد (1153 )؛ الحديث : قول عمر . ذكره ابن قتيبة بلا إسناد . وابن العربي في : شرح الترمذي . وتجده عند : القاوقجي؛ في اللؤلؤ المرصوع ( 210 )؛ الحديث : لا أصل له في كتب الحديث .
إنَّ اللهَ اختارَ مِنَ الملائِكةِ أربعةً: جِبريلُ ومِيكائيلُ وإسرافيلُ وعِزْرائيلُ، واختارَ مِنَ النَّبيِّينَ أربعةً: إبراهيمُ وموسى وعيسى ومحمَّدٌ صلواتُ اللهِ عليهم، واختارَ مِنَ المُهاجِرينَ أربعةً: أبو بَكرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ وعليٌّ، واختارَ مِنَ المَوالي أربعةً: سَلْمانُ الفارِسيُّ وبِلالٌ الأسودُ وصُهَيْبٌ الرُّوميُّ وزيدُ بنُ حارِثةَ، واختارَ مِنَ النِّساءِ أربعةً: خَديجةُ ابنةُ خُوَيْلِدٍ ومريمُ ابنةُ عِمْرانَ وفاطِمةُ بنتُ محمَّدٍ وآسِيةُ ابنةُ مُزاحِمٍ، واختارَ مِنَ الأَهِلَّةِ أربعةً: ذو القَعدةِ وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ ورَجَبٌ، واختارَ مِنَ الأيَّامِ أربعةً: يومُ الجُمُعةِ ويومُ الفِطْرِ ويومُ النَّحْرِ ويومُ عاشُوراءَ، واختارَ مِنَ اللَّيالِي أربعةً: ليلةُ القَدْرِ وليلةُ النَّحْرِ وليلةُ الجُمُعةِ وليلةُ نِصْفِ شعبانَ، واختارَ مِنَ الشَّجَرِ أربعةً: السِّدْرةُ والنَّخْلةُ والتِّينةُ والزَّيْتونةُ، واختار مِنَ المَدائِنِ أربعةً: مكَّةُ -وهي البَلْدةُ- والمدينةُ وهي –النَّخلةُ- وبيتُ المَقدِسِ -وهي الزَّيْتونةُ- ودِمِشْقُ -وهي التِّينةُ-، واختارَ مِنَ الثُّغورِ أربعةً: إسكَنْدريَّةُ مِصرَ وقَزْوينُ خُراسانَ وعَبَّادانِ العِراقَ وعَسْقلانِ الشَّامَ، واختارَ مِنَ العُيونِ أربعةً: يقولُ في مُحكَمِ كتابِه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50]، وقال: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66]؛ فأمَّا الَّتي {تَجْريانِ} فعَينُ بِيسانَ وعَينُ سلوان، وأمَّا {النَّضَّاخَتانِ} فعَينُ زَمْزَمٍ وعَينُ عَكَّا، واختارَ مِنَ الأنهارِ أربعةً: سيحان وجيحان والنِّيلُ والفُراتُ، واختارَ مِنَ الكلامِ أربعةً: سُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ، ولا إلَه إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، ولا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ. [نسيت راويته إلى : أبي هريرة؛ انظر: ابن عساكر؛ في : تاريخ دمشق (1 /221 )؛ الحديث : منكر بمرة .
".116 - خلَوتُ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فقلتُ : أيُّ أصحابِك أحَبُّ إليك قال : اكتَمْ عليَّ حياتي ؟ قلتُ : نعم . قال : أبو بكرٍ ثم عمرُ ، ثم عليٌّ . ثم سكت . فقلتُ : ثم من ؟ قال : مَن عسى أن يكون بعدَ هؤلاءِ إلا الزُّبيرُ ، وطلحةُ وسعدٌ ، وأبو عُبَيدةُ ، ومعاذٌ ، وأبو طلحةَ ، وأبو أيوبٍ ، وأنتَ ، وأُبيُّ بنُ كعبٍ ، وأبو الدَّرداءِ ، وابنُ مسعودٍ ، وابنُ عفَّانٍ ، وابنُ عَوفٍ ، ثم هؤلاءِ الرهطُ من الموالي : سلمانُ ، وصهيبُ ، وبلالُ ، وسالمٌ مَولى أبي حُذيفةَ ، هؤلاءِ خاصَّتي . نسيت روايته إلى : عبادة بن الصامت ؛ انظر: الذهبي؛ في: سير أعلام النبلاء ( 2 /407 )؛ الحديث : منكر، وأخرجه الشاشي في مسنده (1215)، والطبراني كما في مجمع الزوائد للهيثمي (9/160)، وأبو نعيم في فضائل الخلفاء الراشدين (236) باختلاف يسير.
خلوتُ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقلتُ: أيُّ أصحابِك أحبُّ إليك؟ حتى أحبَّ من تحبُّ، قال: اكتمْه عليَّ يا عبادةُ حياتي؟ [قلتُ: نعم]، قال: أبو بكرٍ، ثمَّ عمرُ، ثم عليٌّ. ثم سكتَ، فقلتُ: ثم من؟ قال: مَن عسى أن يكونَ بعد هؤلاءِ إلَّا الزُّبيرُ، وطلحةُ، وسعدٌ، وأبو عبيدةَ، ومعاذٌ، وأبو طلحةَ، وأبو أيوبَ، وأنت يا عبادةُ، وأبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الدرداءِ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عوفٍ، وابنُ عفانَ، ثم هَؤُلاء الرهطُ من الموالي: سلمانُ، وبِلالٌ، وصهيبٌ، وسالمٌ: مولى أبي حذيفةَ.هؤلاء خاصتي، وكلُّ أصحابي عليَّ كريمٌ، إليَّ حبيبٌ، وإنْ كان عبدًا حبشيًّا [قال: قلتُ:] ولم نذكرْ حمزةَ ولا جعفرًا؟ فقال عبادةُ: إنهما كانا احتُسِبا يومَ سألتُ عن هذا، إنما كان هذا بأخَرةٍ، أو كما قال. رواه : عبادة بن الصامت؛انظر : ابن كثير في : جامع المسانيد والسنن ( 5769 )؛ الحديث : غريب جدا . وأخرجه الشاشي في مسنده (1215)، والطبراني كما في مجمع الزوائد للهيثمي (9/160)، وأبو نعيم في فضائل الخلفاء الراشدين (236) باختلاف يسير.

وفاته :
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو حُذَيْفَةَ- رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ صُهَيْبٍ- ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : " توفي صهيبٌ بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين. وكان وجلا أحمر شديد الحمرة، ليس بالقصير ولا الطويل، وهو إلىٰ القصر أقرب.
وتوفي ابن سبعين سنة. وكان يخضب بالحناء. وكان كثير شعر الرأس. ودفن بالبقيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
بحوث:﴿ سنن الأنبياء؛ وسبل العلماء؛ وبساتين البلغاء؛ والأعجاز العلمي عند الحكماء في تأويل آيات الذكر الحكيم المنزل مِن السماء ﴾
سلسلة : السيرة النبوية العطرة -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ-
باب : ذكر المستضعفين مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم-
نال شرف قراءة الأصول؛ وبحث المراجع والمصادر وتكحلت عيناه بكتابة هذا البحث:
د. مُحَمَّدُ الرَّمَادِيُّ
١٨جمادىٰ الأولىٰ ١٤٤١ هـ ~ ١٣ يناير ٢٠۲٠م

أعلى الصفحة
فهرس

شروط نشر الأعمال الفنية و الأدبية (المؤلفة أو المنقولة) فى أوسترو عرب نيوز :

عدم التعرض إلى (الذات الإلهية) .. الأديان السماوية .. المذاهب الدينية .. القوميات .

عدم التعرض بالسب أو الانتقاص من شخصية خاصة أو اعتبارية  .. بشكل مباشر أو بالتورية حال النقد .

أن لا ينشر فى أي وسيلة إعلامية صادرة بالعربية من النمسا .. خلال فترة النشر بـ أوسترو عرب نيوز .

أن يضمن المؤلف أو المراسل نشره فى النمسا مذيلا بعبارة : منقول عن أوسترو عرب نيوز (كلمة شرف)

ما ينشر في أوسترو عرب نيوز .. يعبر عن رأي كاتبه أو ناقله أو راسله ..
أوسترو عرب نيوز .. لا تتحمل المسئولية الأدبية أو القانونية .

أوسترو عرب نيوز .. تهيب بحضراتكم الإبلاغ عن أي تجاوز .. لعمل الإجراء المناسب على الفور .. بالحذف مع الاعتذار .

أعلى الصفحة


الموقع غير مسئول عن تصحيح الأخطاء الإملائية و النحوية

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رئيس التحرير : أيمن وهدان




أخبار عرب النمسا