السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
النمسـا اليـوممفكـــــرةخدمات & طوارئ النمسـا الوطـنإخترنـا لكإعلانــــــاتحـوار صـريحمجتمــــــعهيئة التحـريرمواقع إلكترونيةتواصـــل
 
 

السيرة النبوية الشريفة

تقديم : د. محمد الرمادى
فيينا / 2022

١٢٨ الإلتزام بسنّةِ سيد الأنام

التقيُّدُ والإلزام من قِبل السادة الصحابة الأعلام ومَن يليهم مِن التابعين الكرام بــ وحي السماء وسنةِ النبي الخاتم ومَن بعدهم مِن كافة المسلمين
أبْحَاثٌ مبنية علىٰ يوميات الهجرة
العام : 0 ق.هـ :" 622 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراسةُ السيرة النبوية المُشرفة مع إدراك أحداثها وفهمها والسير وفق مراحلها ؛ والتفقه في السنَّةِ المحمَّدية النقية الطاهرة وتطبيق مع تنفيذ أحكامها العملية في الحياة الدنيا يحتاجا -السيرة والسنّة- إلىٰ فهم عميق ووعي مستنير مِمَن يملڪون نواصي اللغة العربية -أولاً- لغة الضاد فــ بها تُفهم نصوص القرآن الحڪيم وجمل الأحاديث الشريفة .. والإلمام -وهذا ثانياً- بمقاصد التشريع ومبان المنهاج الإسلامي لنعلم صيغةَ النص القرآني والأمر النبوي أجاءَ علىٰ سبيل الندب والاستحباب .. أم جاءَ علىٰ سبيل الفرض وسرعة التنفيذ ، وفي ثنايا أحداث يوميات الهجرة المباركة مِن مڪة المڪرمة إلىٰ يثرب مدينة الرسول المصطفىٰ أقوال لـ سيد الخلائق أجمعين المبعوث رحمة للعالمين وأيضاَ تصرفات ..
مَن يهاجر معي -صلى الله عليه وسلم- ؟!
ولقد كان أول ما سأل عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل بداية هجرته هو : مَنْ سيصحبه في هذه الرحلة الطويلة؟!
فعَنْ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِجِبْرِيلَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: :«„ مَنْ يُهَاجِرُ مَعِي؟ ”»؛
قَالَ :«„ أبوبكر الصديق ”»؛ [انظر : الحاكم (4266) وقال: حديث صحيح الإسناد والمتن ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وابن عساكر: تاريخ دمشق 30/73.].

استحضرُ مثالين لقضية التقيد والإلزام بــ وحي السماء، فــ قضية التشريع والمنهاج ثابتة يزاد عليها سعة الأخذ بالوسائل والأساليب فالطريقة المحمدية ثابتة لا تتغير وما يتغير الكيفية حسب العصر والزمان ؛ فالنبي المصطفىٰ هاجر بالوسيلة المعهودة والمعروفة في زمانه وهذه -الوسيلة/الاسلوب- تتغير وفق الزمن والعصر ..
والمثال الأول منهما يبين لنا تصرف الصديق؛ والثاني يوضح تصرف علي بن أبي طالب -رضي الله تعالىٰ عنهما- ، وڪلاهما مُقدم علىٰ أمر خطير.. قد يكون فيه حياة أو موت ..
.. فقد أثبت محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه؛ (حديث رقم : 4093)؛ عن أم المؤمنين بنت أبي بڪر الصديق عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت :„ اسْتَأْذَنَ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ- أبوبَكْرٍ في الخُرُوجِ [مِن مكَّةَ] [(*)] حِينَ اشْتَدَّ عليه الأذَىٰ [الأمرُ] ”؛ فَــ
قالَ النبيُّ له :«„ أقِمْ ”»؛ وفي رواية: [«„ اصبِرْ ”»؛]؛ وفي رواية : [فقال له رسول الله ﷺ: «„ علىٰ رِسْلك، فإني أرجو أن يؤذن لي ] ؛ وفي رواية: [(وَقَالَ لَهُ: :«„ أَنْظِرْنِي فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي يُؤْذَنُ لِي بِالْخُرُوجِ ”». )]
ـــــــــــــــــــــــ
انْظُرْني معناه: انْتَظِرْني، وأَنْظِرْني: أَخِّرْني، وقيل: معنىٰ أَنْظِرْني: انْتَظِرْني أَيضًا. وتقول العرب: أَنْظِرْني أي انْتَظِرْني قليلاً. [انظر: ابن منظور: لسان العرب، (5/215). ]
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وتعدد الروايات يقوي المعنىٰ المقصود.. لذلك ذكرتها!.
فَقالَ أبوبَڪْرٍ :„ يا رَسولَ اللَّهِ أتَطْمَعُ أنْ يُؤْذَنَ لَكَ؟ ”»؛
فَكانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ- يقولُ :«„ إنِّي لَأَرْجُو ذلكَ ”»؛
قالَتْ :„ فَانْتَظَرَهُ أبوبَڪْرٍ ”» ..
فأتَاهُ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ- ذَاتَ يَومٍ ظُهْرًا، فَنَادَاهُ فَقالَ :«„ أخْرِجْ مَن عِنْدَكَ ”»؛
فَقالَ أبوبَڪْرٍ : [„ لَيْسَ عَلَيْنَا عَيْنٌ ”؛ ] „ إنَّما هُما ابْنَتَايَ ”؛
فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ- :«„ أشَعَرْتَ أنَّه قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ ”»؛ وفي رواية : [(قَالَ : «„ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ ”» .)]، وفي رواية : [قَالَ :«„ إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ إِلَىٰ الْمَدِينَة ”». ] ..
فَقالَ أبوبَڪْرٍ :„ يا رَسولَ اللَّهِ «الصُّحْبَةَ» ”؛
فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- :«„ الصُّحْبَةَ ”»؛
قالَ أبوبَڪْرٍ :„ يا رَسولَ اللَّهِ، عِندِي نَاقَتَانِ، قدْ ڪُنْتُ أعْدَدْتُهُما لِلْخُرُوجِ ”؛ وجاءت رواية :" وَكَانَ أَبُوبَكْرٍ قَدِ اشْتَرَىٰ رَاحِلَتَيْنِ يَعِدُّهُمَا لِلْخُرُوجِ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَنْظَرَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي يَرْجُو مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ، حَبَسَهُمَا وَعَلَفَهُمَا انْتِظَارَ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّىٰ أَسْمَنَهُمَا. فَلَمَّا حَبَسَ عَلَيْهِ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُوبَكْرٍ :„ أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ؟ ”؛
قَالَ -عليه السلام- :«„ نَعَمْ ”»؛ فَانْتَظَرَهُ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ. ".
[قالت عائشة ] :„ فأعْطَىٰ أبوبَڪْرٍ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إحْدَاهُما ”؛ - وهي الجَدْعَاءُ - [أي: الناقة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي تُسَمَّىٰ بالجدعاء، وهي المقطوعة الأذن... وقال ابن الأثير: قيل: لم تكن ناقته مقطوعة الأذان، وإنما كان هذا اسمًا لها. [انظر: بدرالدين العيني: عمدة القاري (17/173)] ..
ويوجد قول آخر عن اسمها سأذكره؛ ولا ضرر في أيهما كانت للمصطفىٰ؛ فأصل القصة ثابت!
قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- :«„ قدْ أخَذْتُهَا بالثَّمَنِ ”» [(**)] ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشخصية المحورية[(***)] الأولىٰ في حادثة الهجرة إلىٰ المدينة المنورة وفي التاريخ الإسلامي؛ القسم المتعلق بـ بدء الهجرة المشرفة إلىٰ المدينة المنورة؛ فالعهد المدني بأكمله ثم تولية الخلافة الأولىٰ الراشدة!
:" حديثي مع حضراتڪم عن صاحبه -رضوان الله تعالى عليه-، ورفيق هجرته، وأنيسه في دربه، ووزيره الأول في حياته -عليه السلام- ، ومواسيه في نفسه وماله، وأبي زوجته، وخليفته مِن بعد أن أنتقل إلىٰ الرفيق الأعلىٰ، وهو الصديق الذي آمن بما يرويه الصادق المصدوق ، وآمن به في رحلته معه -ﷺ- مِن مڪة إلىٰ المدينة، وانتقاله، ونقلت الدعوة معه مِن مرحلة إلىٰ مرحلة ومن عهد إلىٰ آخر... وصاحبه في ذلك الحدث -الهجرة- الذي غيَّر وجه الأرض في ذلك الوقت، وهو الحدث الذي أرخ به المسلمون، إعلاماً للناس بأهمية هذا الحدث، وهو حدث الهجرة.. ومن ثم إقامة الكيان التنفيذي في يثرب/المدينة "
:" أبوبَڪْرٍ -رَضيَ اللهُ عنه- أعظَمُ هذه الأُمَّةِ إيمانًا وتَصديقًا، بحيثُ لو وُزِن إيمانُه بإيمانِ النَّاسِ ڪلِّهم لَرَجَح إيمانُه ، وهو أَقْرَبُ النَّاسِ إلىٰ النَّبيِّ المصطفىٰ والرسول المجتبىٰ والحبيب المرتضىٰ وخاتم الأنبياء المحتبىٰ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-؛ فهو رَفِيقُه في هِجرتِه .. وَتَروي أمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رَضيَ اللهُ عنها- حديثاً أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ڪان يَأتي بَيْتَ أبي بَڪْرٍ الصديق -رَضيَ اللهُ عنه- في أڪثرِ الأيامِ، وڪان ذلك في أوَّلِ مَبعَثِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وهو بمڪَّةَ، وكان مَوعِدُ زِيارتِه إمَّا
في :
[ أ . ] أوَّلِ النَّهارِ عندَ طُلوعِ الشَّمسِ، أو في
[ ب. ] آخِرِ النَّهارِ عندَ غُروبِها، فَــ
لمَّا أَذِنَ اللهُ -تعالَىٰ- لنَبيِّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بالهِجرةِ إلىٰ المدينةِ، فاجأَهُم بِزِيارةٍ في وقْتِ الظُّهرِ؛ ممَّا جَعَلَهم يَرتاعونَ ويَفزَعونَ، وعَلِمَ أبوبَڪْرٍ -رَضيَ اللهُ عنه- أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لم يَأتِ في هذا الوقتِ غيرِ المعتادِ إلَّا لِأَمْرٍ عَظيمٍ قدْ جدَّ ووقَعَ.
وفي هذا الحَديثِ : بَيانٌ لِجانبٍ مِن قُوَّةِ العَلاقةِ بيْن الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وبين أبي بَڪْرٍ -رَضيَ اللهُ عنه-، وصِدقِها.. فهو الرجل الوحيد(!) الأول الذي أخبره بأمر ربه -تعالىٰ- وبإذنه -سبحانه وتعالىٰ شأنه- للخروج والهجرة من مڪة المڪرمة !
ولِــ خُطورةِ أَمْرِ الهجرةِ علىٰ حَياةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وعلىٰ حَياةِ صاحبِه، أرادَ أنْ يَنفرِدَ بـ أبي بَڪرٍ -رَضيَ اللهُ عنه- لِيُخبِرَهُ، وألَّا يَحْضُرَهما أحدٌ فيما سيُخبِرُه به رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فأخْبَرهُ الصِّدِّيقُ -رَضيَ اللهُ عنه- بأنَّه لا يُوجَدُ سِوىٰ ابنتَيهِ : عائِشةَ وأَسْماءَ -رَضيَ اللهُ عنهما-، فأخْبَرَه النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه قد أُذِنَ له -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في الهِجرةِ إلىٰ المدينةِ.
ولَمَّا كان أبوبَڪرٍ -رَضيَ اللهُ عنه- يَترقَّبُ هذه المَڪرُمةَ والمَنْزِلةَ العَظيمةَ، فــ طَلَبَ صُحْبةَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ومُرافَقتَه في الهِجرةِ، مع عِلمِهِ بخُطورةِ هذهِ الرِّحلةِ، فــ وافَقَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- علىٰ مُصاحبتِه في الهِجرةِ، وقدْ ڪان نَبيُّ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يَستَبقيهِ في مڪَّةَ، ولم يَجعَلْه يَخرُجُ مع مَن خَرَجوا إلىٰ المدينةِ؛ رَغبةً في صُحبتِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسيلة النقل إثناء الهجرة إلىٰ المدينة المنورة!
التزم الصديق بأمر نبي الله .. فقد قالَ النبيُّ له :«„ أقِمْ ”»؛ [اصبِرْ] [(****)]
.. بيد أن الصديق أخذ باسباب السفر وأدوات الرحيل ؛ فهذا مِن إعمال العقل وحسن التفڪير وجودة التدبر في أمر هام خطير جازم؛ بيد أن الصبر والانتظار مرتبط بأمر آلهي -الوحي- فلم يأذن صاحب الأمر والنهي الرحمن الرحيم السميع العليم بعد بشد الرحال في الهجرة المنيفة .. وهنا تأتي فطنة الصديق ورجاحة عقله ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأقول(الرَّمَادِيُّ) مَن يهتم بأمرِ صغر أم كبر يفكر فيه ويشغله فيحسنه ويتقنه فيبدع فيه؛ وما يحدث الأن [علىٰ سبيل المثال وليس الحصر] في إمارة قطر (مونديال 2022م) يؤڪد ما أقصده .. فمن يهتم بــ ڪرة القدم تدريباً ولعباً وتسويقاً يحسن العمل ڪــ فوز منتخب السعودية علىٰ [النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي ورفاقه في أول مباراة له ضمن آخر مونديال سيخوضه في مسيرته، وكله رغبة في أن تكون البداية بخطوة صحيحة في طريق حصد أول لقب له في كأس العالم مع منتخب بلاده.. ثم انظر ردود افعال جماهير ڪرة القدم في ڪافة أمهات العواصم العربية] ..
أقول(الرَّمَادِيُّ) مَن يهتم بأمر ما حقير أو خطير.. مفيد أو فيه ضرر يفڪر فيه فيتقنه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثُمَّ قَالَ أبوبَڪرٍ -رَضيَ اللهُ عنه-: „ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إِنَّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ ڪُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا ”
فــ ڪان أبوبَڪرٍ -رَضيَ اللهُ عنه- قدِ اشتَرىٰ وأعَدَّ ناقتَينِ له وللنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، [وعلف الراحلتين ورق السمر، وهو الخبط (وهو: ورق الطلح، يخبط بالعصا، فيسقط ورق الشجر، تعلف به الدواب) أربعة أشهر... ]
فلمَّا حانَتِ الهِجْرةُ عرَضَ إِحداهُما علىٰ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فقَبِلها النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، ولكنْ بِقيمَتِها.
وفي الحَديثِ: مَنقَبةُ وفضْلُ الصِّدِّيقَ -رَضيَ اللهُ عنه-.. ويفهم من تصرفات الصديق مدىٰ اهتمامه بأمر رفقة المصطفىٰ في هجرته من كافة جوانبه!
وفيه: ما يَدُلُّ علىٰ إيثارِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لمَنْفَعةِ أبي بَكرٍ -رَضيَ اللهُ عنه-، حيثُ أَبَىٰ أنْ يَأخُذَ الرَّاحلةَ إلَّا بالثَّمنِ. " .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ : اشْتَرَاهُمَا - أبوبَكرٍ -رَضيَ اللهُ عنه- بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ .
:" رفض النبي -ﷺ- للبعير المهدىٰ له من الصديق أثناء الهجرة
وعرض الصديق -مِن ڪرمه وبذله في سبيل الله- إحدىٰ راحلتيه علىٰ النبي -ﷺ-، فرفض.. قال -ﷺ- :«„ لا أرڪبُ بعيراً ليس هو لي ”»؛
قال :„ فهو لك ”؛
قال :«„ لا، ولكن بالثمن ”».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: لماذا لم يقبل النبي -ﷺ- عطية صاحبه؟
قالوا: لأنه أراد أن يهاجر مِن ماله الخاص، ويكسب أجر الإنفاق علىٰ الهجرة من ماله؛ لأن الهجرة هنا سفر طاعة عظيم، ڪلما أنفق الإنسان فيها ڪلما كان أڪثر أجراً.
أحبَ أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه.
قيل: إن هذه الناقة التي أخذها النبي ﷺ من أبي بڪر الصديق بالثمن، هي: القصوىٰ، وقد عاشت بعد النبي ﷺ قليلاً، ثم ماتت في خلافة أبي بڪر الصديق. " .
:" المدة الزمنية للإعداد للهجرة
ڪم استغرقت فترة الإعداد هذه التي ڪان أبوبڪر -رَضيَ اللهُ عنه- يعد بها هاتين الراحلتين؟
أربعة أشهر، وهذه التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة الكرام، وبين هجرته -ﷺ-، فأخبرهم بالهجرة، وبعد أربعة أشهر هاجر -ﷺ-، جاء النبي -ﷺ- في نحر الظهيرة. ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمثال ثاني :
» خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مڪةَ واستخلافه علياً -رضي الله عنه- علىٰ فراشه ».
قبول علي بن أبي طالب المبيت في فراش المصطفىٰ مع ما يحفه من مخاطر علىٰ حياته..
تبدء الحادثة هذه عندما :„ أَتَىٰ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السِّلَامُ- رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَــ
قَالَ :«„ لَا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَىٰ فِرَاشِكَ الَّذِي ڪُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ ”»؛
فَلَمَّا
ڪَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَىٰ بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَىٰ يَنَامُ ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَڪَانَهُمْ ..
وقد جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن، ڪما قال الحافظ -رحمه الله- في قوله -تعالىٰ-: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [الأنفال:30].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: تشاورت قريش ليلة بمڪة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق" -نقيده ونربطه ونسجنه، يريدون النبي ﷺ.
وقال بعضهم: اقتلوه.
وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع اللهُ نبيَّهُ علىٰ ذلك، فبات علي علىٰ فراش النبي -ﷺ- تلك الليلة، وخرج النبي -ﷺ-، حتىٰ لحق بالغار، وبات المشرڪون يحرسون علياً يحسبونه النبي -ﷺ-، -يعني ينتظرونه، حتىٰ يقوم، فيفعلون به ما اتفقوا عليه-.
فلما أصبحوا ورأوا علياً، رد الله مڪرهم،
وقد قَالَ النبيُّ -ﷺ- لِــ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ :«„ نَمْ عَلَىٰ فِرَاشِي .. وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ ، فَنَمْ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْكَ شَيْءٌ تَڪْرَهُهُ مِنْهُمْ ”»؛
وَڪَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ ... "...
:" ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَىٰ الْفِرَاشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَيَقُولُونَ : „ وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا ، عَلَيْهِ بُرْدُهُ ”؛
فَلَمْ يَبْرَحُوا ڪَذَلِكَ حَتَّىٰ أَصْبَحُوا فَقَامَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ الْفِرَاشِ ".
وَرَوَىٰ الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَنَّ الَّذِينَ ڪَانُوا يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْمُشْرِڪِينَ:
- أَبُوجَهْلٍ ، وَ
- الْحَڪَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ ، وَ
- عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَ
- النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَ
- أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَ
- ابْنُ الْعَيْطَلَةِ ، وَ
- زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَ
- طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ ، وَ
- أَبُولَهَبٍ ، وَ
- أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ ، وَ
- نَبِيهٌ وَ
- مُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ ..
.. فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَامَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ الْفِرَاشِ ، فَسَأَلُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ . وفي رواية : [قالوا: أين صاحبك هذا؟
قال: لا أدري ]
وَحَكَىٰ جَرِيرٌ :„ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عَلِيًّا وَحَبَسُوهُ سَاعَةً ”؛ .. ثُمَّ تَرَڪُوهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] النص :" قالت :„ اسْتَأْذَنَ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أبوبَكْرٍ في الخُرُوجِ [مِن مكَّةَ] حِينَ اشْتَدَّ عليه الأذَىٰ [الأمرُ] ”؛
فيه تقديم مِن أدب الحديث وأصل الجملة :„ اسْتَأْذَنَ أبوبَكْرٍ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في الخُرُوجِ مِن مكَّةَ حِينَ اشْتَدَّ عليه الأذَىٰ [الأمرُ] ”..
ما بين المعكوفتين [ .. ] روته: عائشة أم المؤمنين؛ انظر: ابن حبان؛ في: صحيحه؛ (6279) .
[(**)] روته : عائشة أم المؤمنين؛ انظر البخاري؛ في صحيحه؛ (2138)؛ والنص الأصلي : روته: عائشة أم المؤمنين؛ انظر: البخاري؛ في صحيحه؛(4093).
[(***)] وسبق وتحدثتُ -كاتب هذه البحوث- عن شخصيات محورية في السيرة النبوية.. لعبت دوراً جوهرياً؛ وڪي لا تختلط الأوراق ينبغي عليَّ أن أقسم السيرة النبوية إلىٰ فترات زمنية متتالية ودراسة في نهاية البحوث ڪــ ملحق عن تلك الشخصيات المحورية وفق تقسيم زمني :
أ . ) زمن ما قبل مولده: وحسب فهمي أنها تبدء من خلق أول البشر سيدنا آدم مروراً بأبي الأنبياء الخليل إبراهيم فابنه إسماعيل لنصل إلىٰ كلمة الله -تعالىٰ- عيسىٰ ابن مريم -عليهم جميعاً سلام الله وبركاته- فوالده عبدالله بن عبدالمطلب...
ب . ) زمن ما بين المولد إلىٰ البعثة: ويتم الحديث عن تلك الشخصيات بدءً مِن الوالدة آمنة بنت وهب الزُهرية.. فجده لأبيه فعمه.. فزواجه مِن السيدة خديجة بنت خويلد.
ج . ) زمن البعثة: ويصلح أن يقسم إلىٰ العهد المكي ثم العهد المدني.. والله -سبحانه وتعالىٰ شأنه- المستعان وعليه التوكل ومنه التوفيق!.
[(****)] و " قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَبُوبَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلًا ذَا مَالٍ ، فَكَانَ حَيْنَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : لَا تَعْجَلْ ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجِدُ لَكَ صَاحِبًا ، قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، إنَّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ ، حَيْنَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ ، فَابْتَاعَ رَاحِلَتَيْنِ ، فَاحْتَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ ، يَعْلِفُهُمَا إعْدَادًا لِذَلِكَ " .
راجع الموقع تحت عنوان :
" محاولة الصديق للهجرة
[ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛" الْهِجْرَةُ "
الْبَابُ الْأَوَّلُ : محاولة الصديق للهجرة
عَزْمَ الصِّدِّيقِ عَلَىٰ الْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ"
[أوسترو عرب نيوز / أيمن وهدان (aymanwahdan.at) ] ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشريفة
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ...
بَدْءُ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ المصطفوية النَّبَوِيَّةِ
"أبحاث : " دَارُ الْهِجْرَةِ.. وَدَارُ السُّنَّةِ ".يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة
[٤ ١ ] [الْمُجَلَّدُ الرَّابِعُ عَشَرَ : الْهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ]
( ٣) الْبَابُ الثَّالث :
[ ١٢٨ ] « يوميات الهجرة » إلىٰ الْمَدِينَةِ :«„ التقيُّدُ والإلزام من قِبل السادة الصحابة الأعلام ”» .
-‏الإثنين‏، 05‏ جمادى الأولى‏، 1444هــ ~ 23 نوفمبر2022م.

أعلى الصفحة

١٢٧ إذن الله لنبيه في الهجرة
يوميات الهجرة
العام : 0 ق.هـ ~ 622 م
﴿ السيرة النبوية المُنِيفَة ﴾

[ صفحات من سيرة المصطفىٰ .. الرسول المجتبىٰ .. النبي المرتضىٰ .. الحبيب المحتبىٰ .. فهي سيرةٌ : عالية الأركان .. كَامِلَةُ الأَوْصَافِ .. تَامَّةُ الْحُسْنِ .. شامخة حين السرد يتركز عبقها بمرور الأيام فتزداد حسنا وبهاءاً .. فينهل منها العلماء .. ويتعلمها طلاب العلم فتؤثر في سلوك أمة الإسلام وتحسن أخلاق الناس ]
2 - [ إذن الله -جل و علا- لنبيه-صلى الله عليه وآله وسلم- في الهجرة ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحدثتُ في الفصل السابق عن أحداث جسام جرت ليلة قبيل الهجرة .. وتوقفت عند المشهد السادس .. ونكمل اليوم بفضله -سبحانه وتعالى- واستمد منه العون وارجو منه السداد والتوفيق ..
بقية مشاهد الهجرة المنيفة الشريفة علىٰ صاحبها أفضل الصلوات وتم السلامات وعظيم البركات وخالص الدعوات..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[٧ ] المشهد السابع
فــ « جاء جبريل -عليه السلام- أمين السماء علىٰ و حي ربه -سبحانه وتعالىٰ شأنه- بتمام التبليغ إلىٰ نبي الإسلام ورسول الهداية -صلى الله عليه وآله وسلم- أمين السماء والأرض علىٰ وحي ربه وأخبره بــ
( ٧. ١.) ما حدث مِن قريش
و
( ٧. ٢.) ما اتفقوا عليه(*) ،
كما وبلغه أن
( ٧. ٣.) ألا يبيت في بيته؛
و
( ٧. ٤.) لا ينام علىٰ فراشه هذه الليلة.
..
[٨ ] المشهد الثامن.:
[ اختيار رفيق الهجرة مِن مكة المكرمة إلىٰ المدينة المصطفوية ] .. و [ إخباره بالإذن بالهجرة وحياً مِن ربهما ] -عليه السلام .. ورضي الله عنه-.
فــ خرج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقت حرّ الظهيرة قاصدًا بيت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ببيوت بني جُمح .. جنوب مكَّة في وقت كان لا يأتيه فيه عادةً، وكان مِن عادته -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذهب إلىٰ أبي بكر أول النهار أو آخره،
قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ( أول الزوال.. وهو أشد ما يكون من حرارة النهار)..
قال قائل ( الظاهر أنها ابنته أسماء.) لأبي بكر: هذا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- متقنعا ( أي مغطياً رأسه) في ساعة لم يكن يأتينا فيها،
فقال أبوبكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر!
فلما رآه أبوبكر شعر بالقلق ..
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ، إمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً، حَتَّىٰ إذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي :
[ أ . ] الْهِجْرَةِ،
وَ
[ ب . ] الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا.
قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُوبَكْرٍ،
قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ السَّاعَةَ إلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ.
قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ، [قام له أبوبكر -رضي الله عنه- مِن علىٰ سريره] .. تَأَخَّرَ لَهُ أَبُوبَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، [عليه] ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ [في الغرفة] إلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ،
[فلما جلس رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-]
[فَــ] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “ أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ“،
فَــ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، [وهمــ(ــا) أَهْلكَ(**)] وَمَا ذَاكَ؟ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! ؟ ،
وقد بدأت حدة القلق والحيرة تبدوا علىٰ أبي بكر لما أشعره كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بخطورة الأمر،
فَقَالَ [له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ]: “ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ“.
قَالَتْ: فَقَالَ أَبُوبَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
قَالَ: “الصُّحْبَة“. -يقصد أتيتني بقصد الصُحبة يا رسول الله؟-،
قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: “نعم، الصُّحبة“،
فبكىٰ أبوبكر فرحًا!..
قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- راوية القصة: ” قَالَت: فوالله مَا شَعُرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ، حَتَّىٰ رَأَيْتُ أَبَابَكْرٍ يَبْكِي يَوْمئِذٍ،!”..
[ انظر : - سيرة ابن هشام (1/ 485) .
- سبل الهدى والرشاد (3/ 336- 337) . ] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) بيّتَ المشركون -لهم الخزي والعار- أمرا، وبيّت الله -السميع العليم البصير الخبير- أمرا، وأرادوا أن يكيدوا النبي، فرد الله كيدهم في نحرهم، فنزل جبريل علىٰ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- مخبرا له بما كادوه به، ومخبرا له بأن الله أذن له في الهجرة، وألاينام علىٰ فراشه الذي كان يبيت عليه، وقد أنزل الله -سبحانه- [قد قيل نزلت علىٰ النبي وهو بمكة، وقيل وهو في طريقه إلىٰ المدينة، أو بعد وصوله إليها] في شأن هذه المؤامرة قوله:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ } .
و [) قد يقول قائل: ما بال الترتيب في الاية لم يجىء علىٰ حسب الواقع، ولم وسّط القتل مع أنه كان في المشاورة اخرا؟
والجواب:
أن هذا من عجيب أسلوب القرآن، وبديع طريقته، ذلك أن الرأي الذي اختاروه هو القتل، فجاءت الاية علىٰ هذا النسق البديع من توسيط القتل بين الحبس والإخراج، لتدل الاية بوضعها وترتيبها علىٰ الرأي الوسط المختار، وهو سر من أسرار الإعجاز، فلله ربّ التنزيل ما أكرمه وأبلغه. ] .
(**) هكذا في صحيح البخاري، وفي السيرة: إنما هما ابنتاي، وقد فُسرت المراد بالأهل، فعائشة كان عقد عليها النبي، وأسماء صارت بمنزلة الأهل بعد خطبة أختها، أو أن هذا من أبي بكر تنزيل لأهله منزلة أهل النبي.
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *

الإثنين : 29 ربيع أول 1444 هــ ~ 24 أكتوبر 2022 م.

أعلى الصفحة

١٢6 يوميات الهجرة
العام : 0 ق.هـ ~ 622 م

﴿ السيرة النبوية المنيفة ﴾
1 - ليلةُ قُبَيل الهجرةِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أَقُولُ(الرَّمَادِيُّ) : الْحَمدُ لله صاحبِ العطايا وجزيل النعم والمكارم ؛ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ علىٰ رَسُولِه المبعوث رحمة للخلائق النبي الخاتم متمم المبتعثين وآخر المصطفين خير ولد آدم ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ المنعم علينا بكرمه المستمر والذي لا ينقطع الدائم فــ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب وأشكره علىٰ حسن توفيقه واستشعاري بــ النجاح والفلاح ورغبتي في الصواب اللازم -إن شاء الرحمن الرحيم صاحب العطايا والمكارم-!.
فــ :« العهد المكي » .. ونحن في نقترب لــ نهاية إبحاثه -بحمد الله تعالىٰ- وأقصد تحديدا:« „ العهد المكّيّ مِن البعثة المحمدية إلىٰ الهجرة المنيفة النبوية ” » ..
أَقُولُ(الرَّمَادِيُّ) : ذَلك العهد يحتاج لــ دراسة خاصة فقهية علمية متأنية وواعية بجميع مفاصلها ونقاط إلتقائها .. وكيفية الإنتقال إلىٰ العهد المدني مع إقامة الكيان التنفيذي الأول لمبدأ الإسلام وتطبيق مفاهيمه وتفعيل قناعاته وإيجاد قيمه في الواقع المعاش .. وقد أثبتَ القرآنُ الكريم والذكرُ الحكيم والفرقانُ المبين ؛ اثبتَ في العديد مِن آياته -والنص القرآني كله قطعي الثبوت ؛ إذ أنه قد جاء وحياً مِن رب العزة والملكوت بواسطة أمين السماء علىٰ وحي ربه جبرائيل -عليه السلام- .. فنزل به الروح الأمين علىٰ قلب أمين السماء والأرض علىٰ وحي ربه خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين؛ ذلك النبي المصطفىٰ والرسول المجتبىٰ والحبيب المرتضىٰ محمد بن عبدالله المحتبىٰ المفتدىٰ بأبائنا وامهاتنا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ)؛ فقطعية ثبوت القرآن الكريم -كله- أنه وحي من عند الله .. أي: كلام الله -تعالىٰ- مِن عند مَن رفع السموات بغير عمد نراها .. إلا أن بعض آياته الكريمات لحكمةِ ولعلم ارتأى العليم الخبير جاءت ظنية الدلالة تحمل بين طياتها أكثر مِن معنىٰ ليسهل علىٰ الناس قضاء حوائجهم واستنباط أحكامهم العملية في حياتهم .. إذ أن الكتاب الكريم كتاب تشريع لعلاقات البشر؛ ومنهاج حياة لإنسان ..
أَقُولُ(ابْنْ الرَّمَادِيُّ) : اثبتَ الذكر الحكيم بآيات كريمات أحداث السيرة النبويةالعطرة-على صاحبها أفضل الصلوات وكامل التسليمات- منذ بدء بدايات العهد المكي .. ومنذ اللحظات الأولىٰ من الرسالة الخالدة ومنذ بداية الدعوة .. ثم جاءت آيات الفرقان المبين المتعلقة بكيفية إقامة الكيان التنفيذي الأول فواكبت العهد المدني بتمامه إلىٰ أن أنتقل الذي بُعث للعالمين رحيما .. أنتقل إلىٰ الرفيق الأعلىٰ ؛ وآكد علىٰ هذه الأحداث في العهدين -المكي والمدني- أقوال أو أفعال وتصرفات نبي الهدىٰ ورسول الرحمة .. فأثبتَ القرآنُ الكريم كما ورد في سورة الأنفال حالة المشركين ليلة الهجرة وقبيل إنطلاقه -عليه السلام- مع الصديق -رضي الله عنه-.. فنطق القرآن يقول : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ثم يخبر القرآن برأي المشركين الأول والذي رفض [(١)]: { لِــــيُثْبِتُوكَ } ثم بعد المشاورة يأتي الرأي الثاني: { أَوْ [(٢)]يَقْتُلُوكَ } وقد اتفقوا عليه. ثم يأتي رأي : { أَوْ [(٣)]يُخْرِجُوكَ } وقد رُفض كــ الرأي الأول؛ ثم يكمل القرآن العظيم فاضحاً أمرهم: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين } [الأنفال:30] .. فأثبتَ القرآن الكريم المشاورات والتي تمت يوم الزحمة في دار الندوة.. فــ أثبتَ القرآن الكريم مكر صناديد قريش .. وهي .. وأمثالها لم تنتهِ بعد لمن هم لا يريدون نور القرآن ينير العالم كله ويمكرون ضد أهل الإسلام ورجال حملة الدعوة..
" ومعلوم أن المكر من البشر/العباد هو الخبث والخداع لإيصال الضرر إلىٰ غيرهم.. أما مكر الله فهو مجازاة الماكرين علىٰ سوء مكرهم؛ إذ إن الله -سبحانه- منزه عن صفات المخلوقين لا يشبهه شئ وليس كمثله شئ وهو السميع البصير.
كما أثبت القرآن الكريم لحظات قبيل الهجرة في قوله -تعالىٰ ذكره وجل قدره- : { وَقُل رَّبِّ [(١)]أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ[(٢)]أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ[(٣)]اجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} [الإسراء:80]
فَــ أَرْشَدَهُ الله وألهمه أن يدعو بهذا الدُّعاء
[و] أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا قَرِيبًا وَمَخْرَجًا عَاجِلًا، وأن يجعل القرآن العظيم بفرائضه وأحكامه سلطانا نصيراً..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. سبق أن قلتُ(الرَّمَادِيُّ) أنه قد : بلغ قريش ومَن والاها الأخبار عما وصل إليه النبي المرسل من بيعة وفد حجيج يثرب له .. ثم بلغها هجرة المسلمين إليها .. فكان لابد من تصرف ما تجاه الأحداث الجديدة .. فقد تغير الوضع كثيراً عن مجرد دعوة فرديه وسلوك فردي بل صار للنبي المبعوث أتباعا يزيدون ولا ينقصون .. ثم دارا يأمن بها ويطمئن لأهلها .. والأخبار تتوالي من يثرب .. فهناك من يخبرهم عما حدث مع مصعب بن عمير -مثلا- .. فقرر : الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ:
الــ
. [ ١ . ] ..:« „ اجْتِمَاعُ ” » ؛
وَ الــ
[ ٢ . ] .تَشَاوُرُ فِي أَمْرِ الرّسُولِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:
.. هذا إذ
- رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَدْ
- صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ
- وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ
- وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ .. عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَ
- أَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً
وإشكالهم أنهم
- حَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ
- وَعَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ أَجَمَعَ لِحَرْبِهِمْ.
.. لتلك الأسباب .. ولخشيتهم علىٰ نفوذهم ومسار تجارتهم :
- اجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النّدْوَةِ- وَهِيَ دَارُ جد النبي محمد الرابع والتي بَنَاها قُصَيٌّ وسَمَّاهَا وهو الذي حَازَ شَرَفَ مَكَّةَ وَأَمْرَهَا ، وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا رَئِيسًا مُعَظَّمًا ، وَكانت دَارٌ لِإِزَاحَةِ الظُّلَامَاتِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ .. دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ تِلك الدار التي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إلّا فِيهَا- يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْنَ خَافُوهُ.
- المشهد الأول : يوم الزحمة :
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَبِي الْحَجّاجِ .. قَالَ فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا: عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمّا أَجَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الّذِي اتّعَدُوا لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمّىٰ يَوْمَ الزّحْمَةِ
أهمية هذا الإجتماع يعود إلىٰ أنه
- اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ ؛
- وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ
- وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ،
وقد ذكرتهم في الموقع تحت رقم: ﴿ ١٢٠ ﴾ - عنوان: [ائْتِمَارُ قُرَيْشٍ بِهِ-ﷺ لِقَتْلِهِ ] بالتفصيل فلا داع للإعادة
وَ فَتَشَاوَرُوا.
- المشهد الثاني : الأراء في التخلص من النبي :
كان الرأي الأول : [ الحبس ]
:" احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمّ تَرَبّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشّعَرَاءِ الّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ ".
- قِيلَ إِنَّ صاحب هذا الرأي أَبُوالْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ -
ورُفض هذا القول؛ وبحمد لله صححتُ نسبة هذا القول لمن قال به!
فَتَشَاوَرُوا ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وينسب هذا الرأي إلىٰ :" أبي الأسود ربيعة بن عامر، أحد بني عامر بن لؤي ".
- المشهد الثالث :
وهو الرأي الثاني : [ النفي : الإخراج والإبعاد ]
- نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنّا فَوَاَللّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إذَا غَابَ عَنّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأَلْفَتْنَا كَمَا كَانَتْ.
وكذلك رُفض!
ثم جاء الرأي الذي اتفقوا جميعا عليه .. التصفية الجسدية
- المشهد الرابع :
إذ قَالَ أَبُوجَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: „ وَاَللّهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ ” ،
قَالُوا:„ وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ ” ؛
قَالَ „ أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ. فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِمَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ ”.
- فَتَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَىٰ ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ.

.. [ ٣ . ] .: عناية السماء ورعايتها لنبي آخر الزمان :
فَأَتَىٰ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السّلَامُ- رَسُولَ اللّه -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَالَ .:« „ لَا تَبِتْ هَذِهِ اللّيْلَةَ عَلَىٰ فِرَاشِك الّذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ ” » ؛.
إتمام المشهد الرابع :
.: تنفيذ خطة أبي الحكم الذي سُميَّ بــ أبي جهل
- فَلَمّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَىٰ بَابِهِ[(*)] يَرْصُدُونَهُ مَتَىٰ يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] وَأَمّا قَوْلُهُ عَلَىٰ بَابِهِ يَتَطَلّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيّا وَعَلَيْهِ بُرْدُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَظُنّونَهُ إيّاهُ فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتّىٰ أَصْبَحُوا..
فَــ[ــقد] ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ السّبَبَ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ التّقَحّمِ عَلَيْهِ فِي الدّارِ مَعَ قِصَرِ الْجِدَارِ وَأَنّهُمْ إنّمَا جَاءُوا لِقَتْلِهِ.. فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ(!) أَنّهُمْ هَمّوا بِالْوُلُوجِ عَلَيْهِ فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الدّارِ .. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ „ وَاَللهِ إنّهَا لَلسّبّةُ فِي الْعَرَبِ أَنْ يُتَحَدّثَ عَنّا أَنّا تَسَوّرْنَا الْحِيطَانَ عَلَىٰ بَنَاتِ الْعَمّ وَهَتَكْنَا سِتْرَ حُرْمَتِنَا ”..
فَهَذَا هُوَ الّذِي أَقَامَهُمْ بِالْبَابِ حَتّىٰ أَصْبَحُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ.. ثُمّ طُمِسَتْ أَبْصَارُهُمْ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ٤ . ] .: [خُرُوجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَلَمّا رَأَىٰ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكَانَهُمْ قَالَ لِــ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .:« „ نَمْ عَلَىٰ فِرَاشِي وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا [الْحَضْرَمِيِّ ] الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ ” » ؛
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ. ".
[ ٤ . ١ . ] .:.. وَاسْتِخْلَافُهُ عَلِيّا عَلَىٰ فِرَاشِهِ:
- وهنا ندرك ما سبب بقاء علي بن أبي طالب في مكة ولم يغادرها؛ وهذا سبب للتموية؛ فيبيت في فراش النبي كأنه هو فلا ينتبه مَن اراد قتله أن الفراش خاويا .. وهناك سبب آخر سأذكره ..
- المشهد الخامس :
- عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ قَالَ : لَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُوجَهْلِ بْنُ هِشَامٍ .. فَقَالَ وَهُمْ عَلَىٰ بَابِهِ.: „ إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَىٰ أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنّ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ثُمّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا ” ؛
- المشهد السادس :
.. قَالَ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ .. ثُمّ قَالَ .:« „ .. نَعَمْ .. أَنَا أَقُولُ ذَٰلِكَ .. أَنْتَ أَحَدُهُمْ ” » ؛
.. [ ٥ . ] .:تدخل عناية السماء مرة ثانية في نفس الحدث ورعايتها لنبي آخر الزمان :
وَأَخَذَ اللّهُ -تَعَالَىٰ- عَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَٰلِكَ التّرَابَ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ سورة يس: { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ } ؛ إلَىٰ قَوْلِهِ: { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }[(*)] ؛ حَتّىٰ فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَىٰ رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمّ انْصَرَفَ إلَىٰ حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ..
.. فَــ أَتَاهُمْ آتٍ مِمّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ
فَــ قَالَ: „ مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهُنَا؟ ” ؛
قَالُوا: „ مُحَمّدًا ” ؛
قَالَ: „ خَيّبَكُمْ اللّهُ قَدْ وَاَللّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ ثُمّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَىٰ رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ .. أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ ” ؛
قَالَ فَوَضَعَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَىٰ رَأْسِهِ فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ ثُمّ جَعَلُوا يَتَطَلّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيّا عَلَىٰ الْفِرَاشِ مُتَسَجّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ..
فَــ يَقُولُونَ: „ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَمُحَمّدٌ نَائِمًا، عَلَيْهِ بُرْدُهُ ” ؛
فَــ لَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتّىٰ أَصْبَحُوا..
فَــ قَامَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ الْفِرَاشِ .. فَقَالُوا: „ وَاَللّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الّذِي حَدّثَنَا ” ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] جاء عند السهيلي في شرحه علىٰ السيرة لــ ابن هشام قوله :" وَفِي قِرَاءَةِ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ {يس} مِنْ الْفِقْهِ التّذْكِرَةُ بِقِرَاءَةِ الْخَائِفِينَ لَهَا اقْتِدَاءً بِهِ -عَلَيْهِ السّلَامُ- فَقَدْ رَوَىٰ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذِكْرِ فَضْلِ يس:" أَنّهَا إنْ قَرَأَهَا خَائِفٌ أَمِنَ.. أَوْ جَائِعٌ شَبِعَ.. أَوْ عَارٍ كُسِيَ.. أَوْ عَاطِشٌ سُقِيَ " .. حَتّىٰ ذَكَرَ خِلَالًا كَثِيرَةً. ".
وعند البحث وبعد التحري علىٰ مصدر هذه الرواية وصحتها؛ إذ هي منتشرة بين جهلة المسلمين؛ فوجدتُ :
1.) ذكرها الشِّبْلي.. الدمشقي الحنفي (المتوفىٰ: 769 هــ): في" آكام المرجان في أحكام الجان".. ثم قال في نهاية الاستشهاد بها قوله [والله أعلم].. وكأن صيغته في التعبير أوقعت شكاً في قلبي؛ خاصة وأن المحقق : إبراهيم محمد الجمل لم يعلق على الرواية المذكورة.. فبدأتُ في مراجعة المصادر فإذ بي أجد:
2.) الحديث المذكور رواه ابن مردويه
و
3.) الديلمي
و
4.) الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... ونسب إلىٰ النبي -عليه السلام- :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له [أي لــ علي بن ابي طالب]: ...... واقرأ سورة يس فإن في يس عشر بركات: من قرأها جائع إلا شبع ، ولا ظمآن إلا روي ، ولا عار إلا كسي ، ولا عزب إلا تزوج ، ولا خائف إلا أمن ، ولا مسجون إلا خرج ، ولا مسافر إلا أعين على سفره ، ولا من ضلت له ضالة إلا ووجدها ، ولا مريضا إلا برء ، ولا قرئت عند ميت إلا خفف عنه ".. وهذا القول :" موضوع ".
تخريج هذا القول الموضوع فتجد :
1.) :" ذكره محمد طاهر الفتني في تذكرة الموضوعات".
وَ
2.). :" الشيخ علي بن محمد بن عرَّاق الكناني في تنزيه الشريعة عن الأحاديث الموضوعة ".
وَ
3. ) :" الجلال السيوطي في اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة".
وَ
4. ) :" الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " ..
فالقول هذا موضوع كذب لم يقله الرسول ولم ينقل عن علي بن أبي طالب!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-*/*-
فَــ هذا ما حدث وما جرىٰ في الليلة الأولىٰ قُبيل الهجرة الشريفة لنبي الإسلام!..
..
- [مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي تَرَبّصِ الْمُشْرِكِينَ بِالنّبِيّ] :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمّا أَنْزَلَ اللّهُ -عَزّ وَجَلّ- مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِــ (١)يُثْبِتُوكَ أَوْ (٢)يَقْتُلُوكَ أَوْ (٣)يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }.
وَقَوْلِ اللّهِ -عَزّ وَجَلّ- { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبّصُوا فَإِنّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبّصِينَ }.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَنُونُ الْمَوْتُ. وَرَيْبُ الْمَنُونِ مَا يَرِيبُ وَيَعْرِصُ مِنْهَا.
قَالَ أَبُوذُؤَيْبٍ الهُذَليّ:
أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجّعُ * وَالدّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَذِنَ اللّهُ -تَعَالَىٰ- لِنَبِيّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْهِجْرَةِ
وهذا يثبت أن الأمر الآلهي قد جاء بترك مكة والهجرة منها إلىٰ يثرب المدينة فلم يكن هروباً كما ادعىٰ بعض المستشرقين أو هرباً من قريش كما يقول بعض جهلة المسلمين.. ولكنه تنفيذ لما أمر -سبحانه وتعالىٰ- كما وأنه لم يكن خوفاً علىٰ حياته وهو الذي مكث بمكة ما يزيد عن ثَلَاثِ عَشْرَةَ سنة.. أو خروجه رعبا من تصرفاتهم .. بل بــ أمر ربه..
.. بيد أن ما حدث ليلة الهجرة ويومياتها يندرج تحت الحيطة والتموية والحذر لإنجاح المهمة والتي أرسل مِن أجلها ولإتمامها.
ذٰلك الحدث ما جرى يوما قبيل يوم العزم علىٰ الهجرة.. ويغلب على الظن أن هذا الحدث تم في بداية شهر سبتمبر من العام [ ٦٢٢ ] من السنة الميلادية
[اقولُ(الرَّمَادِيُّ)" وهذا من الموافقات الحسنة أن أتحدث عن ذلك الحديث قي نفس شهر الأحداث : سبتمبر.. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ". ] ؛
وقبيل أن تبدء السنة الهجرية الأولىٰ ويكون قرب انتهاء شهر صفر!.. ونحن مازلنا في العهد المكي وسنشرف على بدايات العهد المدني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعدَ سنواتٍ -تزيد عن ثَلَاثِ عَشْرَةَ - مِن حمل الدعوة الإسلامية في مكةَ.. حمل النبي المصطفىٰ دينا جديدا لم تسبق للبشرية أن علمت بمثله .. وإن اتفقت مبادئه مع ما دعا له كافة الأنبياء وكل المرسلين.. فــ يأتي بمنهاج حديث يختلف عن بقية الأديان(!) الموجودة بين البشر سواء الوضعية منها أو السماوية.. { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة:48] وبتشريع مِن حكيم عليم مِن نقطة البداية -بجوار بيت الله العتيق: مكة- ومِن مركز الإنطلاقة الأولىٰ -دون حمل سلاح أو أستعمال القوة أو العنف أو الأغتيالات والتصفية الجسدية مع المخالف-.. بعد تلك السنوات يتقابل نبي الإسلام مع وفد حجيج يثرب في البيعة الأولىٰ .. ثم الثانية .. وقد بايع وفدُ يثرب النبيَّ والرسولَ علىٰ المنعة والنصرة.والذود عنه وحمايته هو ومن معه .. مقابل نعيم الجنة المقيم .. فصارت مدينة يثرب ملاذا أمنا لأتباع الدين الجديد .. تصلح أن تكون نقطةَ إنطلاقٍ ثانية -بعد مكةَ- بكيفية مغايرة للأولىٰ فـ تكون المدينة المنورة أول كيان تنفيذي لـ مبدأ الإسلام بـ اعتباره نظام خاص من العيش لا يشبهه نظام آخر.. وطريقة معينة في الحياة.. وطراز خاص مِن المعاملات.. بعد أن كانت مكة نقطة إنطلاق الدعوة في مهدها دون تصادم مادي أو احتكاك بالسلاح مع أحد .. وهذه نقطة جوهرية في سير الدعوة وحملها؛ فانظر لجماعات حمل السلاح كــ القاعدة والداعش وصاروا كالعصافير يسهل اصطيادهم في حصونهم كما حدث مع ابن لادن .. أسامة؛ وابن الظواهري .. أيمن .. والخطأ الفاحش والذي قامت به جماعات الإسلام : „ السياسي ” كما أطلق عليهم في الغرب فنقلته جهلة المسلمين مقلدين .. وحالهم اليوم يرىٰ علىٰ ظاهر اليد .. وهذا يعود لمخالفتهم هدي الحبيب -عليه السلام-.. والمهم لم تبقَ دور مِن بيوتات الأنصار إلا وفيها ذكر عن الإسلام ورسول الإسلام .. وقد أغلق صناديد مكة قلوبهم وصموا أذانهم عن دعوة الحق ؛ وعادوا نبي الرحمة ؛ وكذبوا رسول السلام وسعوا إلى تصفيته معنويا -طوال وجوده في مكة- بأكاذيب وافتراءت .. وهو يَدْعو النَّاسَ إلىٰ الإسْلامِ، فاشتَدَّ عليه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وعلىٰ المُسلِمينَ معَه الأذَىٰ مِن أهْلِ مكَّةَ، وضَيَّقوا عليه، ومَنَعوه، وعذبوا أتباعه .. مَن ليس لهم سند من عشيرة أو ظهر من أهل أقوياء .. فلم تصلح مكة للبقاء فيها .. خاصةً وقد تم هجرة بعض المسلمين الأولىٰ والثانية إلىٰ الحبشة حيث أن بها ملك لا يظلم عنده أحد .. بيد أن الحبشة لا تصلح أن يهاجر إليها النبي الرسول لأسباب ساشرحها في مجلد الملاحق .. ولم تصلح الطائف ؛ مع محاولته في عرض الإسلام وطلب النصرة وأخذ المنعة من أهلها بيد أنهم ردوه -عليه السلام- ردا ليس بجميل لا يليق به وهذا من سوء طالعهم وتعاسة مقصدهم .. وصلحت يثرب -المدينة المنورة-..
فــَ .:
« „ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِمَكّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ رَبّهُ بِالْخُرُوجِ وترك مكة .. وَالْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْمَدِينَة.. ” » ؛..
فقد .:
« „ أَذِنَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَرْبِ ؛..
لذا :
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: „ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي الْحَرْبِ بِقَوْلِهِ :{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا .. وَإِنَّ اللَّهَ عَلىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ .. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله } [ 22: 39- 40 الآية].. فلما أذن الله في الحرب ”. .. ولم يأذن له طوال وجوده في مكة المكرمة ( مكث -عليه السلام- أكثر مِن 13 عاماً في مكة ) بالرغم مما عاناه هو -عليه السلام- وما عاناه أصحابه الرعيل الأول من مسلمي مكة وما أصابهم من تنكيل وتعذيب واضطهاد؛ والحاجة ملحة بالرد ولكن لم يأذن الله -تعالى- له طوال سنوات العهد المكي برد مادي أو رفع سلاح ضد صناديد مكة ..
وهذه قضية غابت عند الكثيرين من حملة الدعوة ومِن قادة وأفراد الجماعات المسلحة فاصابهم ما اصابهم اليوم لعدم وجود نقطة ارتكاز ينطلقون منها ؛
فـ
هذه الأولى: .:« „ أَذِنَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَرْبِ؛
و
الثانية : بَايَعَهُ هَذَا الْحَيّ اليثربي مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَىٰ الْإِسْلَامِ وَالنّصْرَةِ لَهُ والمنعة وَلِمَنْ اتّبَعَهُ وَأَوَىٰ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. ” » ؛
و
الثالثة : فِي الأَذِنَ لَهُ -تَعَالَىٰ- فِي الْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ(!) حَيْثُ الْأَحْبَابُ ؛ وليس مَن يرد الفتك به وتصفيته جسدياً-كما جرى في مكةَ- ، فَصَارَتْ - الْمَدِينَةُ - لَهُ دَارًا وَقَرَارًا، وَأَهْلُهَا لَهُ أَنْصَارًا..
مما يثبت للجميع تحركه -عليه السلام- بوحي مِن ربه .. ويتحرك مِن بعد إذنه وهذا يلزم حملة الدعوة مِن المسلمين مِن بعده -عليه الصلاة والسلام والإنعام والإكرام والتقيد بأوامره - التقييد بافعاله وأقواله وتصرفاته ودراستها دراسة منهجية وتشريعية وفقهية وعملية وفهمية إن ارادوا أن يخرجوا من مذلة وصفهم أنهم مِن دول العالم الثالث وليس من شعوب العالم الثالث؛ أو مَن يسكنون في دول نامية متخلفة.. والفارق بينهما أن الدولة كيان تنفيذي يرعىٰ شؤون أفراد أما أفراد الشعوب فمنها العالم في الطب والذرة والكيمياء والأديب والمفكر ومَن حصل علىٰ جائزة نوبل في التخصصات العلمية المختلفة كبقية شعوب الأرض.. ويكفي أن ساعة الحائط والتي تخبر عن مواعيد إقامة وآداء الصلوات في جل المصليات والمساجد والجوامع صناعة صينية وكذا ساعة المعصم وسجادة الصلاة ..
وحقيق عليَّ أن أجعل في نهاية الأبحاث ملحقا عن الآيات الكريمات أتحدث فيها عن تسلسل نزولها في العهد المكي والمدني والمتعلق بسير الدعوة المحمدية لإتمام الفائدة . فمن الله تعالى التوفيق والهداية والعون والفلاح والنجاح!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تسلسل أحداث هِجْرَةِ الرّسُولِ (صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)- :
يتبين من قراءة ودراسة أحداث قُبيل الهجرة أن هناك أدوارا مرسومة ومدروسة من قِبل الحبيب محمد -عليه السلام- لمن حوله من الرجال والنساء..
لذا نقرأ :
[ ١ ] .[ تَأَخّرُ عَلِيّ وَأَبِي بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ] :
وَلَمْ يتبقَ وَيَتَخَلّفْ مَعَهُ بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا مَنْ :
- حُبِسَ
أَوْ
- فُتِنَ
إلّا :
- عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،
وَ
- أَبُوبَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ الصّدّيق -رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا-،
[ ٢ ] التقيد بالإتباع :
مثال رائع يبين مدىٰ ارتباط الصديق ؛ الوزير الأول وخليفته الأول في التقيد بالاتباع وبسماع قول النبي الرسول دون كيف(!) ومتىٰ(!) وبالتأسي به..
فــَ كَانَ أَبُوبَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي الْهِجْرَةِ.. فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:« „ لَا تَعْجَلْ.. لَعَلّ اللّهَ يَجْعَلُ لَك صَاحِبًا ” » ؛ فَيَطْمَعُ أَبُوبَكْرٍ أَنْ يَكُونَ ذٰلك الصاحب والرفيق

وهي تعتبر شخصيات محورية في حدث الهجرة..
وتلك الشخصيات علىٰ التوالي :
.. [ ١ . ] .: الشخصية المحورية الأولىٰ : علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب؛ والذي بات في فراشه ليلة الهجرة؛
..رفيق الهجرة :
[ ٢ . ] .: الشخصية المحورية الثانية : أبوبكر؛ عبدالله بن أبي قحافة؛ رفيق يوميات الهجرة من مكة إلىٰ المدينة
ابن أبي بكر :
. [ ٣ . ] الشخصية المحورية الثالثة : عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
ابنة أبي بكر :
[ ٤ . ] الشخصية المحورية الرابعة : ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ :" أَسْمَاءُ ". .:
و
مولى أبي بكر :
: [ ٥ . ] الشخصية المحورية الخامسة : عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ[(*)]
ــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] [فُهَيْرَة] بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ ، وَبِالرَّاءِ مَوْلَىٰ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، كَانَ مَوْلِدًا مِنْ مَوْلِدِي الْأَزْدِ ، أَسْوَدَ اللَّوْنِ ، مَمْلُوكًا لِلطُّفَيْلِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ ، فَأَسْلَمَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ ، فَاشْتَرَاهُ أَبُوبَكْرٍ وَأَعْتَقَهُ ، وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ يَرْعَىٰ الْغَنَمَ فِي ثَوْرٍ ، وَيَرُوحُ بِهَا عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَأَحَدًا ، ثُمَّ قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، قَتَلَهُ: عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ ، وَيُرْوَىٰ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :" رَأَيْتُ أَوَّلَ طَعْنَةٍ طَعَنْتُهَا عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ نُورًا خَرَجَ مِنْهَا " وَقَالَ أَبُوعَمْرٍو : رَوَىٰابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِالزُّهْرِيِّ قَالَ : زَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ ، يَرَوْنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ دَفَنَتْهُ ، وَكَانَتْ بِئْرُ مَعُونَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ .
-*/-
: [ ٦ . ] الشخصية المحورية السادسة [ وَكَانَ كَافِرًا ] :
" الرَّجُلُ الَّذِي اسْتَأْجَرَاهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدِّيلِ بْنِ عَبْدِمَنَافِ بْنِ كِنَانَةَ ، وَيُقَالُ : مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ خُزَاعَةَ ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ ، وَفِي رِوَايَةِ الْأُمَوِيِّ ، عَنِابْنِ إِسْحَاقَ : أُرَيْقِدُ بِالتَّصْغِيرِ ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ : عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ بِالطَّاءِ مَوْضِعَ الدَّالِ بِالتَّصْغِيرِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ : عَنْمَالِكٍ اسْمُهُ رُقَيْطٌ ، وَكَانَ كَافِرًا .
وَكَانَ : " هَادِيًا " يَعْنِي يَهْدِيهِمَا إِلَى الطَّرِيقِ . وَهَوَ : " خِرِّيتًا " وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ ، وَعَنِالْخَطَّابِيِّ : الْخِرِّيتُ مَأْخُوذٌ مِنْ خُرْتَ الْإِبْرَةَ ، كَأَنَّهُ يَهْتَدِي لِمِثْلِ خَرْتِهَا مِنَ الطَّرِيقِ ، وَخُرْتُ الْإِبْرَةِ بِالضَّمِّ ثُقْبُهَا ، وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ : خَرَتْنَا الْأَرْضَ إِذَا عَرَفْنَاهَا وَلَمْ تَخْفَ عَلَيْنَا طُرُقُهَا .
وَقَالَابْنُ الْأَثِيرِ : الْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ الَّذِي يَهْتَدِي لِأَخَرَاتِ الْمَفَازَةِ ، وَهِيَ طُرُقُهَا الْخَفِيَّةُ .
[ ٧ . ] الشخصية المحورية السادسة [ وَكَانَ كَافِرًا ثم أسلم بعد ذلك] :
" سُرَاقَةُ.بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ، وَحَكَى فَتْحَ الْجِيمِ أَيْضًا ؛ الْمُدْلِجِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ ، وَبِالْجِيمِ مِنْ بَنِي مُدْلِجِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَبْدِمَنَافِ بْنِ كِنَانَةَ ؛ وَكُنْيَةُ سُرَاقَةَ أَبُوسُفْيَانَ ، وَكَانَ يَنْزِلُ قَدِيدًا ، وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ ؛ أَسْلَمَ بَعْدَ الطَّائِفِ ، وَيُقَالُ : وَحَيْثُ جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ يَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى جَدِّهِ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشريفة
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ...
بَدْءُ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ المصطفوية النَّبَوِيَّةِ
"أبحاث : " دَارُ الْهِجْرَةِ.. وَدَارُ السُّنَّةِ.« يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة
[٤ ١ ] [الْمُجَلَّدُ الرَّابِعُ عَشَرَ : الْهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ]
( ١ ) الْبَابُ الأول :[ ١٢٦ ] « يوميات الهجرة » إلىٰ الْمَدِينَةِ
الليلة الأولىٰ
حُرِّرَ في السنة الْهِجْرِيَّةِ ١٤٤٤ ؛ يوم ‏الأربعاء‏، 18‏ صفر‏، 1444 الموافق : ٣ سبتمبر 2022 من سنة الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول -عليهما السلام-.

أعلى الصفحة

١٢٥ الإِستعْدَادُ للْهِجْرَةِ

نحن في اللحظات الآخيرة من نهاية العام الأخير مِن العهد المكي: [622 م]. وعلى وشك ابتداء العهد المدني؛ وهجرة الحبيب-عليه السلام- إلى مدينته.. والتي طيَّب الله تعالى ثراها بمشيه بين جوانبها ثم بمرقده وبجواريه صاحبيه ووزيريه: الصديق والفاروق- رضي الله تعالى عنهما- ..
سبق في البحوث التي نشرت علىٰ موقع آستروعرب نيوز-والحمد لله؛ صاحب الفضل والنعم- أن تحدثتُ عن :
:1.] أول لقاء بين نبي الهدىٰ والرحمة.. وبين أمين السماء المَلَك جبريل؛ وفي اللحظة التالية -مباشرة- لتبليغ محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب وهو يتحنث (يتعبد) في غار حراء المطل علىٰ الكعبة الشريفة.. بتبليغه بأول ما نزل علىٰ قلبه من الذكر الحكيم؛ والوحي المنيف؛ والغالب علىٰ الفهم[(*)] وبعد تتبع المصادر والمراجع أن أول الهدي السماوي: يعتبر أول خمس آيات من سورة العلق..
ولضخامة هذا الحدث وروعته في آن واحد.. ووقعه علىٰ البنية البدنية والنفسية للإنسان: قلب وروح محمد -عليه السلام-.. فــ قد اسرع الخطى لبيته مخبراً أهله؛ فطمأنته الصديقة الأولىٰ: أول البشر إيماناً به.. وأول امرأة مسلمة مؤمنة: خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- ولرجاحة عقلها وفطنة فؤادها ذهبت به -عليه السلام؛ وعليها رضوان الله تعالىٰ- إلىٰ عالِم الأديان ومترجم الكتابين: ورقة بن نوفل فأخبره قائلاً: „ والّذي نفسي بيده! إنّك لنبيّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر [(أي: المَلك جبريلُ.)] الذي جاء موسىٰ، وإنّ قومك :
« أ » سيكذّبونك، و :
« ب » يؤذونك، و :
« ج » يخرجونك، و :
« د » يقاتلونك ”؛
ثم قالَ ورَقَةُ للنبيِّ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: „ .. يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا [ لَيْتني في مُدَّةِ النبوَّةِ -أو الدَّعوةِ- أكون: «جَذَعًا»، أي: شابًّا قويًّا، جلداً – والجَذَعُ: الصَّغيرُ مِنَ البهائِمِ]، أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ” ؛.. وقد تعجّب رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-حين قال ورقة له ذلك، لمعرفته بحب وتقدير قريش له، فلم يكن ينادونه إلا بــ : « الصّادق » : « الأمين » ... "...
وقبلها :" ذهبت خديجة بنت خويلد، - رضي الله عنها -، بعد أن سمعت، ما ذكر لها غلامها ميسرة، من قول الراهب، وحديثه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمر المَلَكَين اللذين كانا يظلانه -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وقصت على ابن عمها: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى، وكان نصرانيا قد تتبع الكتب السماوية [السابقة]، وعلم من علم أهل الكتابين؛ التوراة والإنجيل، ما سمعت من غلامها ميسرة.. فقال ورقة:" لئن كان هذا حقا يا خديجة، إن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه. ".
.. كما وتحدثتُ عن :
:2.] رفض وعناد صناديد قريش للدعوة المحمدية من بدايتها؛ ورضا الموالين لهؤلاء لما يقولون عنه -عليه السلام- وترديد أقوالهم؛
:3.] محاربة الدعوة السامية الإسلامية في مهدها والتضيق عليه -عليه السلام- وتعذيب وقتل أتباعه؛
:4.] المقاطعة؛ والتي استمرت ثلاثة أعوام؛
:5.] خروجه -عليه السلام- للطائف يلتمس النصرة والمنعة وردهم السئ؛ وخروج أتباعه إلىٰ الحبشة في الهجرة إليها الأولىٰ والثانية؛
:6.] محاولة هجرة الصديق أبي بكر؛ عبدالله بن أبي قحافة وعودته في حماية أحد أعيان مكة؛
:7.] نصرة ومنعة أهل يثرب للدعوة ولصاحبها -عليه السلام؛
:8.] بداية هجرة صحابته -رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين- إلىٰ يثرب[(*)] -المدينة المنورة-؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] علمٌ بالغلبة علىٰ مدينة الرسول، والظاهر أنها كانت معروفة بهذا الاسم في الجاهلية، وإن كان الاسم الغالب لها حينذاك «يثرب»، حتىٰ نهىٰ النبي [] عن تسميتها بيثرب فيما صحّ عنه، وسماها «طابة» و «طيبة»، ولا يزال اسم المدينة هو الغالب، وأشهر الأسماء. [أبو شهبة: ج: (1)؛ ص: (457)].
فــ :" المدينةُ النَّبويَّةُ بُقعةٌ مِن الأرضِ مُبارَكةٌ، طَهَّرَها اللهُ مِن الأدناسِ، واختارَها لتَكونَ مُهاجَرَ النَّبيِّ []، وحاضنةَ دَعوتِه، وأساسَ دَولتِه. ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:1.] وعند مراجعة مع ترتيب هذه الأحداث خلال فترة زمنية تتعدىٰ العشر[(**)] سنوات ظهر بوضوح تام مع علمه -عليه السلام- :" من أوَّل يومٍ في الدَّعوة الإسلاميَّة المبارَكة أنه-[الرسولُ] -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سيَخرُج من بلده مُهاجِرًا؛ وكأن عبارات القس ورقة مازالت في الذاكرة الحيَة والتي تستحضر من حين إلىٰ آخر " ..
وكلمة القس الأخيرة :„ ليتَنِي أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومُك(!) ”، فقال رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- :«„ أوَمُخرِجِيَّ هم؟! ”»، قال :„ نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثْل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإنْ يُدرِكْني يومُك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزَّرًا ”.
.. ثم لم ينشَبْ ورقةُ أنْ تُوفِّي.
.. ولعل الأمة الإسلامية بمجموعها -وخاصةً أهل العلم منها- اليوم؛ ونحن نتعدىٰ المليار وثمانية مليون مسلم نُفَعِل قول القس ورقة بن نوفل! بأن ننصر دينه ونعلي كلمة الحق ونجتمع علىٰ قلب رجل واحد؛ بدلا من التشرذم والتفكك.. فما زلنا نسمع: هذا شيعي.. وهذا سُني.. وهذا ينتمي لتلك الجماعة وآخر لتلك!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم.. يؤكد د. العمري أن :" النصوص الصحيحة تدل علىٰ أن اختيار المدينة مهاجراً لرسول الله [] كان بوحي إلهي كما جاء في الحديث:
1. ] « „ رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلىٰ أرض بها نخل، فذهب وهلي -اعتقادي- إلىٰ أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة.. يثرب ” »
[انظر: فتح الباري: (٧ / ٢٢٦)؛ ومسلم: ( ٤ / ١٧٧٩)] .
والحديث:
2. ] « „ إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين ” » .
[انظر: فتح الباري: ( ٧ / ٢٣١)؛ وقد بيَّن الزهري أن اللابتين هما :" الحرتان "؛ فتح الباري : (٧/ ٢٣٤). ] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قد رأى فيما يرىٰ النائم أنه هاجر من مكة إلىٰ أرض بها نخل، فذهب ظنه إلىٰ أنها اليمامة، أو هجر [(1)] ، ثم استبان له صلّى الله عليه وسلّم أنها المدينة، ففي صحيح البخاري عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: «أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين [(2)] » وهما الحرتان [(3)] .
فخرج النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إليهم بعد هذه الرؤية مسرورا وقال: «قد أريت دار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد أن يخرج فليخرج إليها»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(1)] اليمامة: بلد بــ نجد بــ الجزيرة، هجر: بلد بالبحرين، وهي من بلاد عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام.
[(2)] اللابة، والحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة، والمدينة بين حرتين.
[(3)] انظر: صحيح البخاري- باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و:
3. ] « „ كأن النبي أُري دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعيَّنت ” » .
[ انظر : ابن حجر: فتح الباري : ( ٧ / ٢٣٤)؛ نقلاً عن ابن التين وهو أحد شراح صحيح البخاري] .
وأما
4. ] حديث: « „ إن الله أوحىٰ إليَّ أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين[(*)] ” ». فهو منكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] انظر: سنن الترمذي: ( ٥ / ٧٢١)؛ وقال: غريب؛ كما قال ابن حبان في الثقات: ( ٧ / ٣١١)؛ والذهبي: الميزان: ( ٣ / ٣٣٨)؛ وقال ابن حجر: في ثبوته نظر لأنه مخالف لما في الصحيح؛ انظر : فتح الباري: ( ٧ / ٢٢٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5. ] وقال: «إن الله -عز وجل- قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويتساءل صاحب السيرة النبوية علىٰ ضوء القرآن والسنة؛ أبو شُهبة[(1)] : (*متىٰ كان الإذن بالهجرة.*)
.. وتأتي إجابته بالقول : „ والذي ظهر لي -رحمه الله- بعد البحث والتأمل أن الإذن في الهجرة كان بُعَيد بيعة العقبة الأولىٰ، وأن ذلك كان قبل بيعة العقبة الثانية بنحو عام، كما تدل علىٰ ذلك قصة هجرة أبي سلمة؛ وزوجه أم سلمة عند ابن إسحاق، وكما قال موسىٰ بن عقبة في «مغازيه» ” .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(1)] السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة؛ محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)؛ الناشر: دار القلم – دمشق؛ الطبعة: الثامنة - 1427 هـ؛ الجزء: 2. وانظر :" شرح المواهب: ( ج: ( 1 ) ؛ ص (384) "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هجرة النبي -صلّى الله عليه وسلم- من مكة إلىٰ المدينة:

من بقي مع النبي بمكة
... هاجر المسلمون جماعات وفرادىٰ، وأقام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بمكة بعد أصحابه من المهاجرين رجاء أن يؤذن له في الهجرة،
.. و لم يبق بمكة من أصحابه إلا من فُتن وحبسه المشركون،
و إلا أبوبكر الصديق و علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- فقد تخلّفا معه.
وكان الصدّيق قد همّ بالهجرة إلىٰ المدينة فقال له النبي: «لا تعجّل لعل الله يجعل لك صاحبا»
فيفهم أبوبكر أن النبي يعني بالصاحب نفسه،
ففي صحيح البخاري في سياق حديث الهجرة الطويل: «وتجهّز أبوبكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «علىٰ رِسلك [(1)] ، فإني أرجو أن يؤذن لي»
فقال: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟
قال: «نعم»
فحبس أبوبكر نفسه على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ليصحبه،
.. و علف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر- وهو الخبط- [(2)] أربعة أشهر ... » استعدادا للهجرة إلى المدينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بكسر الراء: " علىٰ مهلك".
(2) السَمُر : شجرةٌ تسمىٰ أم غيلان، وقيل ورق الطلح. والخَبَط: ما يخبط بالعصىٰ فيسقط من ورق الشجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- وقد أذن الله -تعالىٰ- لرسوله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالهجرة إلىٰ المدينة، وكان يتردد علىٰ بيت أبي بكر كل يومٍ صباحاً ومساءا، لا يكاد يدع ذلك،[انظر: صحيح البخاري: (فتح الباري: ( ٧ / ٢٣٠)].
- فلما أذن له -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالهجرة جاءهم ظهراً علىٰ غير عادته وهو متقنع، فأخبر أبابكر بذلك.
واختياره وقت الظهر لأن الناس تأوي إلىٰ بيوتها للقيلولة فراراً من الحر،
وتقنُعُهُ يفيد شعوره بالخطر من حوله، فقد اعتزمت قريش قتله، ولابد أنها ستعمد إلىٰ رصد تحركه.
قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. [الأنفال: (٣٠)]
قالت عائشة -رضي الله عنها-"فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها.
فقال أبوبكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فاستأذن فأذن له، فدخل. فقال النبي -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأبي بكر: أخرج من عندك.
فقال أبوبكر: إنما هم أهلك [ وكان قد زوجه عائشة -رضي الله عنها- .. :" فلا يُوجَدُ سِوىٰ ابنتَيهِ عائِشةَ وأَسْماءَ -رَضِيَ اللهُ عنهما-، وكانَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قَدْ عَقَدَ علىٰ أمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ -رَضِيَ اللهُ عنها- ..". ] بأبي أنت يا رسول الله.
قال: فإني قد أذن لي في الخروج.
قال رسول الله:«„ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- :«„ نعم‟ »
قال أبوبكر: فخذ - بأبي أنت يا رسول الله - إحدىٰ راحلتي هاتين.
قال رسول الله-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- :«„بالثمن‟ ».[(***)]
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] من المباحث التي توقف عندها علماء التفسير؛ وأئمة التأويل لمحكم التنزيل.. مبحث متعلق بأوائل ما نزل من القرآن الكريم وأول ما سمعه النبي محمد -عليه السلام- من الذكر الحكيم والفرقان المبين.. وأيضاً أواخره. وقد جرىٰ خلاف بين أهل العلم حول هذا المبحث.
وما يهم في هذه المراجعة السريعة أن أتحدث عن أرجح الأقوال المتعلقة بهذه المسألة، فأقول:
- الذي ذهب إليه أكثر أهل العلم وصححوه.. أن أول ما نزل مِن القرآن الكريم الآياتُ الأُولُ من سورة العلق، وهي قوله تعالىٰ: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } [العلق: 1-5].
واستدلوا لهذا بحديث عائشة -رضي الله عنها-، الذي رواه البخاري ومسلم وفيه فجاءه المَلَكُ فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلىٰ قوله { علم الإنسان ما لم يعلم }.
قال النووي: "هذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن العظيم قوله تعالىٰ: { اقرأ }..".. وهذا هو الصواب.. ويكمل النووي:" وهذا الذي عليه الجماهير من السلف والخلف" .
وأصرح من هذا الحديث، ما رواه الحاكم في " المستدرك " عن عائشة أيضاً، أن أول ما نزل من القرآن { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .
والحكمة في هذه الأوَّلية - كما قال ابن حجر-: إن هذه الآيات الخمس اشتملت علىٰ مقاصد القرآن، ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تسمىٰ "عنوان القرآن" لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله. وبيان كونها اشتملت علىٰ مقاصد القرآن أنها تنحصر في علوم التوحيد والأحكام والأخبار، وقد اشتملت علىٰ الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، وفي هذه الإشارة إلىٰ الأحكام. وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته، وفي هذا إشارة إلىٰ أصول الدين. وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله تعالىٰ: { علم الإنسان ما لم يعلم } .
هذا فيما يتعلق بأول ما نزل من القرآن من الآيات..
أما السور فمن أوائل ما نزل منها سورة الإسراء؛ والكهف؛ ومريم؛ وطه، فــ في البخاري من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " إنهن من تلادي من العتاق الأول "..
والتلاد - كما قال أهل اللغة - القديم.
وعند البخاري أيضاً من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن أول ما نزل سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولقد نزلت بمكة، وإني لجارية ألعب: { والساعة أدهى وأمر } [القمر:46]. والمفصل من القرآن يبدأ من سورة ( ق ) إلى سورة ( الناس ).
وأول آية نزلت في القتال مطلقاً، قوله تعالىٰ: { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } [الحج:39] .
وأول آية نزلت في تحريم الخمر، قوله تعالىٰ: { يسألونك عن الخمر } [البقرة:219].. ثم قوله تعالىٰ: { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [النساء:43].. ثم قوله تعالىٰ: { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [المائدة:90] .
.. أما فيما يتعلق بأواخر ما نزل من القرآن، فقوله تعالىٰ: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} [البقرة:281].. وهذا أصح الأقوال - كما ذكر ابن حجر- ودليل هذا حديث ابن عباس في البخاري قال:" آخر آية نزلت آية الربا "؛ قال ابن حجر: هذه الآية هي ختام الآيات المنـزَّلة في الربا، إذ هي معطوفة عليهن .
ولا بد من الإشارة هنا إلىٰ أنه قد وردت كثير من الأخبار والروايات ذكرت أوائل وأواخر ما نزل من القرآن، إلا أن أغلبها لم يثبت، ولا يعول عليها، لذلك لم أعرج علىٰ ذكرها، فضلاً عن أنه لا يترتب علىٰ معرفة ذلك فائدة كبيرة، اللهم إلا ما كان يتعلق منها بباب النسخ، ولهذا حديث آخر إن شاء الله، والله ولي التوفيق؛ ومن الهداية وعليه التوكل.
[(**)] ولدقة ما قلته في هذه الجزئية فقد روىٰ أمير المؤمنين في الحديث النبوي الشريف: الإمام أبوعبدالله محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ :«„ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَرْبَعِينَ ( ٤٠ ) سَنَةً، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ ( ١٣ ) سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ ( ١٠ ) سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ( ٦٣ ) ‟ » .
[(***)]- اسْتَأْذَنَ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أبوبَكْرٍ في الخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عليه الأذَىٰ، فَــ
قالَ له: « أقِمْ » ،
فَقالَ: « يا رَسولَ اللَّهِ أتَطْمَعُ أنْ يُؤْذَنَ لَكَ؟ : « »،
فَكانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يقولُ: « إنِّي لَأَرْجُو ذلكَ » .
قالَتْ: « فَانْتَظَرَهُ أبوبَكْرٍ، فأتَاهُ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ذَاتَ يَومٍ ظُهْرًا، فَنَادَاهُ »،
فَقالَ: « أخْرِجْ مَن عِنْدَكَ »
فَقالَ أبوبَكْرٍ: « إنَّما هُما ابْنَتَايَ »،
فَقالَ: « أشَعَرْتَ أنَّه قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ » .
فَقالَ: « يا رَسولَ اللَّهِ الصُّحْبَةَ »،
فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: « الصُّحْبَةَ ».... وهذا الحديث له بقية عند البخاري...! ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشريفة
[١٣ ] [الْمُجَلَّدُ الثَّالِثُ عَشَرَ ]
« يثرب » الْمَدِينَةَ دَارُ الْهِجْرَةِ وَدَارُ السُّنَّةِ
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ...
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ "
( ٢ ) الْبَابُ الثَّانِي :
[١٢٥] الإِستعْدَادُ للْهِجْرَةِ إلىٰ « يثرب »
حُرِّرَ في يوم ‏الإثنين‏، 26‏ ذو الحجة‏، 1443هــ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ ~ الموافق ‏الإثنين‏، 25‏ تموز‏، 2022م من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول -عليهما السلام-.

أعلى الصفحة

١٢٤ الإِعْدَادُ للْهِجْرَةِ إلىٰ يثرب

[ ق . هـ . : 622 م ]
« الهجرةُ وأحداثها إلىٰ مدينتِه المصطفويَّةِ النبويَّةِ تعتبر أمرًا ربانيًّا.. وتقديرًا إلهيًّا قبل أن تكون تدبيرًا بشريًّا »..، « فإن ذلك لا يعني أن يخلد الإنسان إلىٰ ترك الأمور تجري كما تجري، بل يجب أن يعد العُدّة حسب ما يستطيع، وبقدر ما يتمكن ويختار ويحتاط، ويظلّ يقظاً واعياً مدبرًا، يصدر في أمره عن التوكل علىٰ الله والثقة بنصره، ويجتنب في الوقت نفسه التواكل والتكاسل الذي يدعو لترك الجهد والعمل »...
إنّ حادث الهجرة خير مثال للحكمة الإلهيَّة والعناية الرّبانيَّة في جانب.. والتدبير البشري في جانب آخر..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. منذ اللحظة الأولىٰ في مهد الدعوة المحمدية السامية؛ ومنذ أول لحظة بدء نزول الرسالة الإسلامية الخاتمة للدين علىٰ قلب آخر المرسلين ومتمم المبتعثين وخاتم الأنبياء ومبعوث رب العالمين رحمةً لكافة العالمين.. منذ البداية ترافق الوحي المُنزل مِن فوق سبع سمواتٍ طباقاً خطوة بخطوة مع مسيرة الهدي المحمدي وسيرة المصطفىٰ المجتبىٰ المحتبىٰ المرتضىٰ.. ودائماً أبداً.. وحتماً لازماً تجد رعاية وعناية وعين الخالق –سبحانه في علاه وتعالىٰ في سماه- والتي لا تغفل ولا تأخذها سنة ولا نوم مواكبة للأحداث..
فـ تارة بقرآن مجيد يتنزل يربط علىٰ قلب مبعوث العناية الآلهية ويقويه ويثبته فوق ثباته؛ وتارة بمددٍ ملآئكي لا يعلمه إلا الخالق.. ويدركه نبي الهدىٰ ورسول الرحمة -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.. وفي كل اللحظات يجاوره أمين السماء جبرائيل -عليه السلام-.. وخاصةً في لحظة الحرج ولحيظة الإختبار والإبتلاء والاعتبار.. ومن تلك اللحظات والتي مرت علىٰ صاحب الرسالة العصماء محمد بن عبدالله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لحظة ما قبل الخروج مِن مسقط رأسة ومِن بدء منطلق بداية الدعوة في أم القرىٰ مكة المكرمة المشرفة.. وما يتلوها في ليال وأيام الهجرة المباركة فــ :" فلم يأمر -مَن جلت حكمته وعظمة قدرته- نبيه -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالهجرة إلاّ بعد ما تمكن أصحابه جميعاً مِن الهجرة والذهاب والاستقرار بالمدينة، ولم يبق بمكة إلاّ مستضعف مغلوب أو مفتون ممن لم يكن يتجاوز عددهم الأصابع.
ولم يأمره -عزَّ وجلَّ وتعالىٰ سبحانه- بالهجرة مِن مكة إلاّ عندما شاءت حكمته؛ حيث علم -تعالىٰ- أن مكة لن يؤمن فيها إلاّ مَن قد آمن، وأنها صارت لحين مستعصمةً بالكفر متمسكة بالشرك راضية بعبادة الأصنام والتقرب إلىٰ الأوثان، وأكّد -تعالىٰ- ذلك لنبيه -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الآيتين مِن كتابه: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ» [الصافات: 174].. «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ» [الصافات: 178]..
.. يعني -تعالىٰ- أنك بعد هذه الفرصة الطويلة التي بذلتَها في دعــوتهم إلىٰ الله -تعالىٰ- لستَ ملوماً -يا رسولي- علىٰ ترك هؤلاء المشركين المَكِيين؛ لأنك قد أديت نحوهم الواجب، فدعهم إلىٰ وقت يكون لكَ معهم شأن آخر.. ودلّت الآيتان علىٰ أن بقاءه -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعد هذه الفترة الزمنية بمكة لا معنىٰ لها؛ لأن الدعوة الإسلامية ليست للمكيين فقط وحدهم؛ وإنما هي لهم ولغيرهم من البشر في العالم كله..
ثم نزلت الآية الكريمة: «وَقُلْ رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا» [الإسراء/80].
فأمره الله -جلت حكمته وتعاظمت قدرته- أن يدعو بهذا الدعاء، ليجعل -تعالىٰ- له -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فرجاً قريباً مما هو فيه، فأذن له بالهجرة إلىٰ المدينة؛ حيث سبقه إليها أصحابه الذين هاجروا إليها علىٰ توجيه ورضى منه -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- .. فقد :" أَرْشَدَهُ اللَّهُ.. وَأَلْهَمَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ.. قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ .. وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صدق .. وَاجعَل لي من لَدُنْك سلطٰناً نَصِيرًا } [(1)].. فاجتمع في كلماتِ آيةٍ جميع ما يحتاجه نبي الرحمة ورسول الهدىٰ في تلك اللحظة الرائعة مِن عمر الرسالة الخالدة في : عهديها المكي والمدني.. وما أكثر تلك اللحظات وهاتيك السويعات!..
يلتقط خيط الحديث ابن كثير في بدايته فكتب يقول :" .. أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا قَرِيبًا وَمَخْرَجًا عَاجِلًا، فَأَذِنَ لَهُ -تَعَالَىٰ- فِي الْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، حَيْثُ الْأَنْصَارُ وَالْأَحْبَابُ، فَصَارَتْ لَهُ دَارًا وَقَرَارًا، وَأَهْلُهَا لَهُ أَنْصَارًا.. ".. فأخرجه بالهجرة سالماً من مؤامرة صناديد الكفر وأهل الشرك علىٰ قتله في مكة.. فنقرأ ما قَالَـ(ــه) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ[(2)]، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّة، فَأُمِرَ بِالْهِجْرَةِ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي من لَدُنْك سلطنا نَصِيرًا }. [(1)]..
فــ :" قَالَ قَتَادَةُ: أَخْرَجَهُ اللّهُ مِنْ مَكّةَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ مَخْرَجَ صِدْقٍ وَنَبِيّ اللّهِ يَعْلَمُ أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إلّا بِسُلْطَانٍ.. فَسَأَلَ اللّهُ سُلْطَانًا نَصِيرًا ".. وَقَالَ قَتَادَةُ: " أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ " الْمَدِينَةَ " وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ " الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ " وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا "، والسلطان النصير هم الأنصار، وقيل " كِتَابَ اللَّهِ وَفَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ. [(3)] ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(1)] : سورة الإسراء: (17)؛ آية : (80)؛ راجع البداية لابن كثير.
[(2)]: طهْمَان.
[(3)]: راجع زاد المعاد ؛ وتوجد تأويلات عده تجدها عند أبي جعفر الطبري وزاد المسير.. لا يناسب ذكرها هنا!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومِن تسلسل نزول آيات الفرقان المبين وافعال وتصرفات وأقوال سيد المرسلين يتبين بوضوح الالتصاق التام بين الاعتماد الكامل علىٰ الوحي بنصوصه والتوكل علىٰ الله -تعالىٰ- وبين الآخذ بالأسباب والوعي المستنير بمجريات الأحداث!
وهذا الدين الخاتم لشرائع السماء والمتمم لــ منهاج خالق الإنسان وممهد له سبل الحياة.. منذ بدء البداية وانقسم الناس إلىٰ موافق أو معارض!.. فعينُ الله -تعالىٰ- والتي لا تغفل ولا تأخذها سنة ولا تنام تراعي آخر أنبياءه كأولهم وتحرس خاتم رسله كبقيتهم.. فقد قَالَ أَبُوجَهْلِ؛ عمرو بن هِشَامٍ –ومثاله تجدهم في زمان ومكان-: „ وَاَللهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ.[الذين اجتمعوا معه مِن صناديد قريش في دار الندوة يوم الزحمة]. وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ ”،
قَالُوا: „ وَمَا هُوَ يَا أَبَاالْحَكَمِ؟ ” ،
قَالَ: „ أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ. فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِمَنَافٍ عَلَىٰ حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ، فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ ”..
.. فَتَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَىٰ ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ له..
فحين فشلت كل محاولات أن يتراجع نبي الإسلام ورسول الهدىٰ عن رسالته السماوية.. كما فشلت التصفية المعنوية.. بنعته.. ووصفه بنعوت جائرة وصفات كاذبة-والعياذ بالله-.. لم تتبق سوىٰ التصفية الجسدية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
بحوث في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.. الشريفة
الْهِجْرَةُ إلَىٰ « يثرب » -الْمَدِينَةِ الْمُنَوَرةِ
دَارُ الْهِجْرَةِ وَدَارُ السُّنَّةِ
[١٣ ] [الْمُجَلَّدُ الثَّالِثُ عَشَرَ ]
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ...
" بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ "
( ١ ) الْبَابُ الْأَوَّلُ: [١٢٤] " اسْبَابُ الْهِجْرَةِ " .. الإِعْدَادُ للْهِجْرَةِ إلىٰ « يثرب »
حُرِّرَ في يوم الجمعة : الوقوف بعرفة: ٩ من شهر ذي الحجة ١٤٤٣ مِن هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الْسَنة الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ ~ الموافق ٨ مِن شهر يوليو عام ٢٠٢٢ مِن الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول -عليهما السلام

أعلى الصفحة

[١٢٣] أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ
[ ١٢ ] [الْمُجَلَّدُ الثَّانِي عَشَرَ ]

تمهيدٌ لحادثةِ الهجرة النبوية:
" رؤيا الرسول -عليه الصلاة والسلام- لموطن الهجرة.. الهجرة إلىٰ المدينة "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَمْهِيدٌ :
المتابعُ بعينٍ واعية علىٰ الأحداث.. فاحصةٍ.. والمتتبعُ بإدراك عميق لتسلسل نزول الوحي بواسطة أمين السماء جبريل -عليه السلام- علىٰ قلب أمين الأرض والسماء النبي الرسول محمد بن عبدالله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بشقيه:
- آياتِ الذكر الحكيم.. وكلماتِ القرآن المجيد.. ونصِّ الفرقان المبين..
و
- أحاديثِ خير الهدي ونور اليقين -القولية والفعلية والتقريرية؛ اضف إليهما الأحاديث القدسية- بدءاً مِن تعبده بــ غار حراء علىٰ جبل النور.. بنزول قولِهِ تعالىٰ : { اقْرَأْ } [العلق:1].. والدارس بعمقِ فهمٍ؛ واستنارةِ فقهٍ لــ سير الدعوة في عهديّها المكي ثم مِن بعده المدني؛ والمدققُ بعنايةٍ في أقواله وأفعاله ومواقفه وتصرفاته -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يدرك أن الرسالة المحمدية -علىٰ صاحبها الصلاة والسلام والتكريم والإنعام- تسير وفق خطوات آلهية متتالية تتفق مع كل عهد.. مع نزولِ أوامرٍ ربانيةٍ متتابعةٍ مترابطةٍ مدروسةٍ.. وفي نفس اللحظة يرافقها تحركات بشرية محمدية ومعالجات للأحداث بكامل القدرة الرسولية البشرية ويواكبها ذهنية نبوية وعقلية قائد من الطراز الأول ونفسية رحيم بأمته والتحركات والمعالجات والذهنية والعقلية والنفسية نابعة مِن صميم التوكل علىٰ الله -تعالىٰ- وحده.. ومَن يخالفها كما حدث مِن بعض التجمعات ذات الوشاح الإسلامي الفضفاض أو بعض الجماعات ذات المعطف الخفيف ذي البطانة التدينية الفارغة من الدين الصحيح.. هذه وأمثالها أوقعت نفسها كما أوقعت اتباعها ومريدوها أو مَن أقسم ولاء السمع والطاعة للجماعة وليس لله -تعالىٰ- ولا لـ رسوله.. وقعَ الجميع في خندقٍ ضيق مِن الفهم السقيم والوعي الخالٍ مِن التبصر بالهدىٰ الرباني والطريقة المحمدية.. سواء مِن خلال غياب الفهم الصحيح بعمق لنظام الإسلام كـــ دين تعبدي لله وحده؛ أي تلك العلاقة بين العبد الفاهم والمدرك وبين الرب الخالق الرازق صاحب الأمر ومالك النهي في كافة مسائل وقضايا الإنسان والحياة أو غياب الوعي المستنير في فهم السياسة العالمية والإقليمية الحالية وكذا الداخلية وتغيير القوىٰ الفاعلة في الساحة الدولية وتغيرات موازين القوىٰ؛ ومَن يأخذ بزمام المبادرات لحل المشاكل التي تقع بين البلدان..
والواقع الحالي المعاش يثبت صحة مقولتي هذه.. وخروج الأمة الإسلامية بأكملها خارج الزمن الحالي!
.. والمدققُ في مفصل هام ينقل الجميع -مَن عاشوا وعاصروا عهد النبوة- فيربط بين العهد المكي بمفاصله وروابطه وبين العهد المدني -ونحن سنقدم عليه عرضاً ودراسةً وتفصيلاً.. مع إنتقال كامل الدعوة وصاحبها -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصاحبيه بل وغالبية صحابته -رضوان عَلَيْهِم أجمعين- إلىٰ موطأ قدم جديد بالكليةِ.. يدرك أن هذه الخطوة -الهجرة إلىٰ يثرب/المدينة المنورة النبوية- مع ضرورتها بل حتميتها كانت وحياً مِن رب العزة.. مع الأخذ بكامل الأسباب وتوكل كامل علىٰ الله -تعالىٰ- ليسد ثغرات بشرية -إن وجدت- وهذا يلزم مَن يتصدىٰ للدعوة المحمدية ويسعىٰ لنشر الرسالة الإسلامية أن يدرس نصوص الآيات والسيرة النبوية والسنة المحمدية وفق أضواء النص القرآني الكريم في كل مسألة مِن مسائل الحياة المعاشة.. وخاصة مَن يعيش في بلاد الغرب..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ٣ ) الْبَابُ الثَّالِثُ: أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ :
واصل رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عرض نفسه علىٰ قبائل العرب طالباً منهم النُصرة والمنعة ليبلغ عن الله ما أمره، إذ قد اشتد الأذىٰ مِن أهل مكة علىٰ المسلمين فــ أمرهم الله -تعالىٰ- أن يهاجروا ليقيموا دين الله -عزَّ وجلَّ- في الأرض التي يقدرون علىٰ عبادته فيها. فاختار الله -الخبير العليم- [يثرب].. والتي ستسمىٰ بــ المدينة النبويَّة المنورة.. اختارها داراً للهجرة، وكان الرسول -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد رأىٰ في المنام أنه يهاجر إليها.. فلما تحققت له النُصرة في المدينة المنورة، وتأكد من المنعة من الأنصار.. توقف عن طلبهما، حتىٰ إذا بايعه الأنصار بيعة العقبة الثانية، وتحقق في المدينة المنورة وجود النواة الصلبة التي تحمي رسول الله والمسلمين، أذن رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للمسلمين بالهجرة، فبدأ القادرون من المسلمين الهجرة إلىٰ يثرب فرادىٰ وجماعات.[*]
النبى -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يحرض المؤمنين علىٰ الهجرة:
أخذ رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِن بعد البيعة الثانية- يحرض المؤمنين علىٰ الهجرة إلىٰ يثرب. وأهل يثرب من الأوس والخزرج يدعون إلىٰ دين الله -تعالىٰ-، وينشرونه بين أهليهم وإخوانهم، حتىٰ صاروا كثرة كاثرة فى المدينة، وصاروا هم أنصار رسول الله -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصبحوا كالحواريين لعيسىٰ -عليه السلام-، بيد أن الحواريين لم يكونوا عددا كثيرا، وكان الأنصار عددا كثيرا من بعد. [*].
لنبحث معاً الرؤيا المحمدية.. وهي وحيا من ربه تعالى:
1. ) جاء في صحيح مسلم قوله عليه السلام: « „ رَأَيْتُ في المَنامِ.. أنِّي أُهاجِرُ مِن مَكَّةَ إلىٰ أرْضٍ بها نَخْلٌ، فَذَهَبَ وهَلِي [أي ظنه] إلىٰ أنَّها اليَمامَةُ أوْ هَجَرٌ، فإذا هي المَدِينَةُ يَثْرِبُ ” » (صحيح مسلم[2272]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غريب الحديث:
يُقَالُ: وَهَلَ الرَّجُلُ يَهِلُ إِذَا وَهِمَ الشَّيْءَ.
قوله : ( فذهب وهلي ) قال ابن التين: رويناه " وهَلي " بفتح الهاء، والذي ذكره أهل اللغة بسكونها، تقول : وهلت بالفتح أهل إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره مثل وهمت؛ ووهل يوهل وهلا بالتحريك إذا فزع. الوهل بالتحريك معناه الوهم والاعتقاد "..[الباري العسقلاني]
- هجر: مدينة معروفة وهي قاعدة البحرين.[ صحيح السيرة العلي.]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يغلب علىٰ الظن أن هذه الرؤيا [رواها مسلم عَنْ أَبِي مُوسَىٰ] ذكرت قبل غزوة أُحُـدٍ؛ ولها بقية ساذكرها -بإذنه تعالىٰ؛ ووفق مشيئته- عند الحديث علىٰ هذه الغزوة!
ــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه البخاري في مناقب الأنصار؛ باب هجرة النبي وأصحابه، وفي المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد رقم: (4081)، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِع أخر بِطُولِهِ؛ ومسلم في الرؤيا - باب رؤيا النبي -صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رقم: (2272).
وَهَذِهِ الرُّؤْيَا في حَدِيث أَبِي مُوسَى غَيْر الرُّؤْيَا الثانية [الآخرى] الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فــ قَالَ اِبْن التِّين :" كَأَنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيَ دَار الْهِجْرَة بِصِفَةٍ تَجْمَع الْمَدِينَة وَغَيْرهَا، ثُمَّ أُرِيَ الصِّفَة الْمُخْتَصَّة بِالْمَدِينَةِ فَتَعَيَّنَتْ اهـ ".
ــــــــــــــــــــــــ
فــ اختار الله -تعالىٰ- مكان الهجرة، كما في الحديث الشريف.
2. ) أخرج البخاري أن رسول الله صلىوسلمل قال: " إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ "...
قَالَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: قَالَتْ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ -لِلْمُسْلِمِينَ: « „ قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ ” » ؛ -وهما حرتان-.
قال الحافظ : وَالْحَرَّة أَرْضٌ حِجَارَتُهَا سُودٌ..
فَــ : „ هَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَرَجَعَ إِلَىٰ الْمَدِينَةِ [عَامَّةُ / بعض] مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَىٰ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ” [إِلَىٰ الْمَدِينَةِ]"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه أحمد في المسند: 6/ 198 بسند صحيح، والحاكم في المستدرك: 2/ 3 – 4؛ وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الكفالة باب جوار أبي بكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[ * ] استشهدتُ بالمقطع الأول من ثلاثة مقاطع مِن حديث رسول الإسلام ونبي الرحمن للأنام محمد بن عبدالله-صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ المروي عن طريق سيدنا: أبي موسىٰ الأشعري؛ والذي اثبته أمير المؤمنين في الحديث النبوي الشريف: محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه. والمقطعان الباقيان سأذكرهما في موضع البحث!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3. ] وروى الشيخان أيضاً، ومالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرتُ بقرية تأكل القرىٰ، يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد».
.. وقوله: «أمرتُ بقرية»، أي أمرني ربي بالهجرة إليها. وقوله «تأكل القرىٰ»، أي تغلبها، وكنىٰ بالأكل عن الغلبة، و «تنفي الناس»، أي الخبيث الرديء منهم.
4.] أخرج ابن سعد عن الواقدي من حديث عائشة وسهل بن حنيف قالا: " لما صدر السبعون من عند رسول الله صلىوسلمي طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيقوا على أصحابه ونالوا منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى فشكا ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- واستأذنوه في الهجرة فقال: " قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي ".. ثم مكث أياماً، ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: " قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها ".. فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقبل الانتقال إلىٰ مفصل جديد.. هناك رواية عن ابن عباس؛ نستأنس بها.. فالجدير بالذكر أن أقول :
.. أن السيرة النبوية المسجلة في بطون الكتب (راجع : ابن إسحٰق في سيرته؛ ونقل عنه في البداية ابن كثير) تخبرنا عن حادثة -الله تعالىٰ أدرىٰ بحالها؛ وهي موضع مراجعة عندي في قابل البحوث؛ خاصة في ملحق الشخصيات المحورية في السيرة النبوية- ويقدر صاحب عيون الأثر أنها حدثت في يوم الثامن من ربيع الأول؛ في العام الأول مِن الهجرة المباركة وهو ما يقابل يوم التاسع عشر من سبتمبر للعام 622 الميلادي؛ حين حدثنا سلمان الفارسي -رضي الله تعالىٰ عنه- عن إسلامه؛ وكانت في مقابلة مع عبدالله بن عباس كما ذكر كل من ابن اسحٰق ونقل عنه ابن كثير في بدايته.. عن إسلام سلمان الفارسي -رضي الله عنه- [راجع: السيرة النبوية كما في عيون الأثر؛ العهد: المدني؛ المكان: جي؛ قصة سلمان مع أبيه ".
5.] حَدِيثُ إسْلَامِ سَلْمَانَ -رضي الله تعالى عنه-
ما أستشهد به مقطع من قصته إذ أنه :
- أسمع عبدالله بن عباس ما يرويه عن نفسه -رضي الله تعالى عنهما- فــ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَنَا أَسْمَعُ مِنْ فِيهِ ..
وموضع الاستشهاد القول: .. قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ نَبِيٍّ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، [وفي رواية: يبعث من أرض الحرم]، مُهَاجَرُهُ إلَىٰ أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ[(*)]، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَىٰ، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] الْحرَّة: كل أَرض ذَات حِجَارَة سود متشيطة من أثر احتراق بركانى . [ سيرة ابن هشام؛ عبدالملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبومحمد، جمال الدين (المتوفىٰ: 213هـ)؛ تحقيق: مصطفىٰ السقا وإبراهيم الأبياري وعبدالحفيظ الشلبي؛ الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفىٰ البابي الحلبي وأولاده بمصر؛ الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955 م].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ثم يكملفَاحْتَمَلَنِي إلَىٰ الْمَدِينَةِ، فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا.

ورواية سلمان عن ابن عباس-رضي الله عنهما.. تظهر أن اهل الكتاب كان لديهم علم بزمن خروج آخر الأنبياء ومكانه!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آيات الإذن بالهجرة من القرآن الكريم :
ويذكر ابن إسحاق في سيرة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- برواياته أن الإذن بالهجرة أو الأمر بها ذكره الله -سبحانه وتعالىٰ- في قوله تعالت كلماته:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ، وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ } .
ونرى أن هذه الايات الكريمات نزلت بالمدينة، لأن سورة الحج مدنية، ولأن الايات تنبيء عن أنهم أخرجوا بالهجرة من ديارهم وأن الإذن من الله بالخروج والإخراج قبل الهجرة، والسبب مقدم على المسبب وأن الأمر فيها إذن بالقتال، وهو بعد الهجرة، بعد أن صارت قوة متجمعة في يثرب التي صارت مدينة الرسول.
الإذن للمؤمنين بالهجرة.
أذن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وبين لهم أن فى يثرب الإيواء والنصرة وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: «إن الله -تعالىٰ- قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» .
بعد هذا الإذن الصريح الذى يكاد يكون أمرا، خرج المسلمون مهاجرين أرسالا، احادا وجماعات، ولم يجد المهاجرون السبيل ذللا سهلا، بل كانوا يجدون معوقين من قريش، لأن هؤلاء بعد أن علموا ببيعة الأنصار أدركوا أن المسلمين بمكة المكرمة يتجمعون بإخوانهم فى يثرب التى صارت مدينة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فأخذوا يترصدون كل من هاجر، فإن استطاعوا منعه منعوه، كما حدث مع أم سلمة وزوجها؛ وتحدثت عن ذلك سابقاً.. فحاولوا أن يمنعوا أم سلمة وزوجها، وتركوه يهاجر دونها، وهى بإرادة مؤمنة صبرت وهاجرت واحدها، حتىٰ وجدت من أهل المروءة من عاونها علىٰ هجرتها.
وأحيانا كانوا يتحايلون علىٰ المهاجرين بالكذب حتىٰ يردوهم ثم يعذبوهم غير موفين بعهد أو ذمة، ولنضرب لذلك مثلا، بأحد المهاجرين وهو عياش بن أبي ربيعة.
-*/*-
المحصلة :
كان اللهُ -سُبحانَه وتعالَىٰ- يُثبِّتُ قَلْبَ نَبيِّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بالوَحيِ وبالرُّؤىٰ الصَّادِقةِ الَّتي يَراها في مَنامِه، وقدْ أَراه اللهُ -سُبحانَه- الأرضَ الَّتي سيُهاجِرُ إليها، وبيَّنَ له صِفتَها، وفي هذا الحَديثِ يَحْكي النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه رَأىٰ في المَنامِ أنَّه يُهاجِرُ مِن مكَّةَ إلىٰ أرضٍ بها نَخلٌ، فذهَبَ ظَنُّه إلىٰ أنَّها اليَمامةُ، وهي منطقةٌ في نَجدٍ، «أو هَجَرُ»، وهي بَلدٌ في شرق الجزيرة العربية، ولكنْ بعْدَ مُرورِ الزَّمنِ أمَرَه اللهُ -سُبحانَه- أنْ يُهاجِرَ إلىٰ المَدينةِ، فإذا ما رَآهُ في مَنامِه هي المَدينةُ يَثرِبُ..
وفي الحَديثِ: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ النُّبوَّةِ.
وفيه: بَيانُ فَضلِ الرُّؤْيا، وشدَّةِ اهْتِمامِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بشَأنِها.
وفيه: ما يدُلُّ علىٰ أنَّ الرُّؤْيا قدْ تقَعُ مُوافِقةً لظاهِرِها مِن غيرِ تَأْويلٍ، وأنَّ الرُّؤْيا قبْلَ وُقوعِها لا يَقطَعُ الإنْسانُ بتَأْويلِها، وإنَّما هو ظنٌّ وحَدْسٌ؛ إلَّا فيما كان منها وَحْيًا للأنْبياءِ.

تتبقى مسألة تعبير الرؤيا في الإسلام!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعبير الرؤيا في الإسلام.:
الرؤىٰ تبشر المسلمين بالهجرة والفتح والجزاء العظيم، وكذا تعزيهم في مصابهم يوم أحد:
*.) عن أبي موسىٰ الأشعريِّ، عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: « رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَىٰ أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَىٰ أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ. وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَىٰ فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ» (متفق عليه).
**.) وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: « رَأَيْتُ فِي سَيْفِي ذِي الْفَقَارِ فَلًّا، فَأَوَّلْتُهُ: فَلًّا يَكُونُ فِيكُمْ. وَرَأَيْتُ أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَأَوَّلْتُهُ: كَبْشَ الْكَتِيبَةِ. وَرَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا: الْمَدِينَةَ. وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، فَبَقرٌ وَاللَّهُ خَيْرٌ، فَبَقرٌ وَاللَّهُ خَيْرٌ». .
فَكَانَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (حديث صحيح – رواه أحمد في مسنده)
-*.) في الرؤيا الأولىٰ، أو الحديث الأول، يظهر – والله-تعالى- أعلم – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد رأىٰ هذه الرؤيا قبل الهجرة إلىٰ المدينة المنورة، ولكن سمعها منه أبوموسىٰ الأشعري بعد الفتح الأعظم أو فتح مكة وزوال دولة الشرك والمشركين.
والدليل علىٰ ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: « رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَىٰ أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَىٰ أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ…»،
ومعنىٰ " ذهب وَهَلي" : ظننت بخلاف الواقع. فدل ذلك علىٰ أنها كانت رؤيا قبل الهجرة النبوية الشريفة،
وأما كون الراوي قد سمعها بعد الفتح، فلقوله -صلى الله عليه وسلم-: «…فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ…»، ولعله -صلى الله عليه وسلم- قصد باجتماع المؤمنين، أي اجتماع المؤمنين في المدينة -ومن بينهم مهاجرون من مكة- بالمؤمنين الذين كانوا يكتمون إسلامهم في مكة بعد الفتح.
في بداية الرؤىٰ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: « رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَىٰ أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَىٰ أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ…»،
ومعنىٰ ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد رأىٰ قبل الفتح أنه يهاجر إلىٰ أرض بها نخل، لم تكن هذه الأرض معلومه له -صلى الله عليه وسلم- في المنام، ولم يخبره الله -عز وجل- بتفسيرها، فظن -صلى الله عليه وسلم- أنه سيهاجر إلىٰ اليمامة أو هجر(1) ، ولكن تبين له -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك أنها المدينة المنورة أو يثرب كما كان اسمها قبل الهجرة النبوية إليها.
من أهم ما يمكن أن نستخلصه من هذا الجزء من الرؤيا أن تفسير الرؤىٰ قد يخطيء وقد يصيب، وأنها قد تتحقق علىٰ ما فسرت عليه أو لا تتحقق، وأن الغيب اليقيني لا يؤخذ من الرؤىٰ، ولا يعلمه إلا الله -عز وجل-.
صحيح أن تفسير الرؤىٰ هو علم واجتهاد له قواعد وأصول، وأنه عمل جاد لا ينبغي أن يقوم به إلا مَن يحسنه، وأن رؤىٰ المسلم أكثرها صادق كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: « فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ…» (حديث صحيح - رواه أحمد في مسنده)
وصحيح أن المسلم الصالح الصادق إذا سأل عن رؤياه العالم التقي الثقة، فقد كادت رؤياه أن تتحقق علىٰ ما فسرت عليه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: « الرُّؤْيَا عَلَىٰ رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ، وَلَا تَقُصَّهَا إِلَّا عَلَىٰ وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ » (حديث صحيح - صحيح الجامع).
ومعنىٰ وادٍّ: حبيب،
ومعنىٰ ذي رأي: لبيب، أي صاحب علم وسداد في تفسيرها.
ومع ذلك، فإن أفضل النتائج التي قد يصل إليها تفسير الرؤىٰ في أفضل الأحوال لا يعدو أن يكون ظناً، سواء كان هذا الظن قويا جليا يقترب من اليقين، أو كان ضعيفا تكثر فيه الاحتمالات.
وبناءً علىٰ ذلك، ينبغي للمسلم أن يتعامل مع هذه الرؤىٰ بإيمان وإحسان. فأما الإيمان، فبأن الله -عز وجل- هو الذي يعلم الغيب يقينا، وأن تحقيق هذه الرؤىٰ هو بيد الله -تعالىٰ- وحده، فهو -سبحانه- يملك تحقيقها فعلا أو عدم تحقيقها حتىٰ وإن صدقت وفسرت تفسيرا صحيحا.
و
أما الإحسان، فهو أن يتعامل المسلم مع الرؤيا بالتوكل علىٰ الله -تعالىٰ- وبالدعاء الصادق، فأما التوكل فهو تفويض أمر الغيب إلىٰ الله -تعالىٰ-، وحسن الظن به -سبحانه-، والاعتماد عليه فيما هو آت -جل جلاله- دون تقصير في الأخذ بأسباب الوصول إلىٰ حصول المأمول المقبول شرعا وعقلا،
و
أما الدعاء الصادق، فهو أن يتوجه المسلم إلىٰ الله -عز وجل- بالقلب واللسان والجوارح متضرعا من أجل أن يحقق له هذه الرؤىٰ وتفسيرها علىٰ أفضل ما يكون.
أما التواكل علىٰ الرؤىٰ وتفسيرها الطيب، والتعامل معها علىٰ أن الإنسان قد ضمن مستقبله وعرف ما يأتيه من الغيب من خلالها، فيدفعه ذلك إلىٰ ترك التوكل علىٰ الله -تعالىٰ- والتقصير في العمل، فهذا هو طريق الخسائر والصدمات، يخسر الإنسان علاقته بالله -تعالىٰ-، ويصطدم فيه بما لم يتوقعه أو يتمناه في عاجل أمره وآجله.
لذا وجب علىٰ المسلم أن يتعامل مع الرؤيا بالاعتدال دون إفراط أو تفريط حتىٰ تؤدي دورها الصحيح، فتكون بابا يقرب المسلم إلىٰ الله -تعالىٰ-، ويدفعه إلىٰ المزيد من التعلق برحمته -سبحانه-، ولا تكون بابا للقعود والعبث.
من الأشياء المستفادة أيضا مما جاء في أول الرؤيا هو أن هذه الرؤىٰ تكون في الأغلب رموزا ساترة أو كنايات عن أشياء ترتبط بها وتدل عليها. فالأرض التي بها نخل تدل علىٰ المدينة المنورة؛ لأنها أرض تشتهر بنخلها. وكذلك يظهر هنا أن معاني الرموز أو ما ترتبط به الكنايات قد تحتمل احتمالات ووجوها متعددة قد يظهر بعضها للمفسر أو قد لا يظهر بحسب ما وفقه الله -عز وجل- إليه من علم وبصيرة، فهذه الأرض التي بها نخل في الرؤيا قد يُحتمل أن تكون اليمامة أو هَجَر، فهي أراضٍ بها نخل كالمدينة.
كذلك يظهر لنا في هذا الجزء من الرؤيا أمر هو غاية في الأهمية، وهو ضرورة أن يعتقد المسلم أن الرؤيا سوف يحققها له الله -تعالىٰ- علىٰ أفضل ما تحتمل، فإن لم تتحق علىٰ ما فسرها عليه، فسوف تتحقق علىٰ ما هو أفضل بمشيئة الله -تعالىٰ-، وهذا من باب حسن الظن بالله -عز وجل-، فهنا ظن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سيهاجر إلىٰ اليمامة أو هَجَر، فهاجر إلىٰ ما هو أفضل منهما كثيرا، وهي المدينة المنورة، فهي أقرب منهما إلىٰ مكة المكرمة، وذات موقع جغرافي متوسط وقريب من طرق التجارة الرئيسية بين الشام واليمن، وتحيط بها الجبال الحصينة تحميها من هجمات الأعداء، بالإضافة إلىٰ ما فيها من أرض خصبة ونخل مثمر، والأهم من ذلك هو أهلها الطيبون الذي نصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتصروا لدعوة الإسلام، في حين مثلا أن اليمامة -علىٰ موقعها البعيد عن مكة – قد ظهرت فيها حركة عاتية من حركات الردة بقيادة مسيلمة الكذاب، أما هَجَر فهي في موقع منطقة سهلية مفتوحة، وفي موقع متطرف بعيد عن قلب الأحداث وعموم الناس في الجزيرة العربية.
من بين الأشياء المستفادة أيضا أن الرؤيا قد تأتي بشيء ولا تأتي بشيء آخر، وقد توضح شيئا، ولا توضح شيئا آخر، فالغيب لا يكون صفحة مكشوفة للإنسان من خلال الرؤىٰ غالبا، بل تأتي الرؤى بأشياء تكون في مصلحة الرائي أن يعلم بها، وأن يفسر رموزها، وأن يعرف معانيها، وقد لا تأتي بأشياء أخرىٰ لا يكون في مصلحة الرائي معرفتها كأشياء محزنة أو مفزعة أو نحو ذلك. ولذلك فالغالب علىٰ الرؤىٰ أن تأتي لتوضح فواصل معينة أو لمحات مهمة من أمور الغيب، ولا تكشف بالضرورة كل التفاصيل أو كل ما سوف يحدث من مواقف.
فهنا أتت الرؤيا بالهجرة إلىٰ أرض بها نخل، لكنها:
- لم تكشف عن هذه الأرض، و
- لا توقيت الهجرة إليها، و
- لا كيفية هذه الهجرة، و
- لا الظروف التي أحاطت بها،
بل قامت الرؤيا بالتركيز علىٰ الحدث المهم فقط دون التفاصيل. وهذا سبب من ضمن الأسباب التي تجعل المسلم يتعامل بنوع من الحرص وانضباط القلب والجوارح واستقامتها مع الرؤىٰ، فلا هو يرفضها أو يستهين بها ولا هو يفتتن بها أو يركن إليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن اسماء المدينة
1.). كما جاء في حديثٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ الساعدي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- : „ أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ تَبُوكَ حَتَّىٰ أَشْرَفْنَا عَلَىٰ الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَذِهِ: « طَابَةٌ » ” ؛ وسيأتي موضعه في العهد المدني -بإذنه تعالىٰ-.
2.). وفي حَديثِ جابرِ بنِ عبدِاللهِ عندَ أحمَدَ: أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: «رأيْتُ كأنِّي في دِرعٍ حَصينةٍ.. فأوَّلْتُ الدِّرعَ الحَصينةَ المَدينةَ..».(حديث صحيح - رواه أحمد في مسنده) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
الرجاء مع الشكر والتقديؤ مراجعة :
١١٣ «تَأْويلُ الرُّؤْيتين الصَّادِقَتينِ ».
[٠ ١ ] المجلد الْعَاشِرُ
« بحوث »
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةُ
* عنوان الصفحة علىٰ الموقع:
أوسترو عرب نيوز / السيرة النبوية الشريفة (aymanwahdan.at)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية الشريفة
[ ١٢ ].الْمُجَلَّدُ الثَّانِي عَشَرَ
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
بحوث : « يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ السُّنَّةِ
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ.
( ٣ ) الْبَابُ الثَّالِثُ: أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ
الزمن: 1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة~ الطريق إلىٰ يثرب
‏الإثنين‏، 21‏ ذو القعدة‏، 1443هــ ~ ‏الإثنين‏، 20‏ حزيران‏، 2022م

أعلى الصفحة

وادٌ عِندَ بَيتِكَ المُحَرّمِ
[ ١٢ ] [الْمُجَلَّدُ الثَّانِي عَشَرَ]
(٢) الْبَابُ الثَّانِي : وادٌ عِندَ بَيتِكَ المُحَرّمِ

تمهيدٌ لحادثةِ الهجرة النبوية:
كتبَ أحد السادة مصطلح آثار حفيظتي إذ قال : « المواطن » محمد بن عبدالله.. قاصداً خاتمَ المرسلين.. آخر الأنبياء.. ومتمم المبتعثين.. إذ أن الواقع المعاش ومنذ حين مِن الدهر اخطلتت المفاهيم في سلوك البشر؛ وتباينت القيم في أخلاق الناس لوجود فوضىٰ عارمة كاسحة لما تعارف عليه الناس وصرنا ننقل مِن مخترعات العم سام دون أدنىٰ تفكير أو إعادة نظر لما ننقله مِن حضارتهم.. فلم نكتفِ بنقل المدنية والتكنولوجيا الحديثة والأدوات وما تخرجه مصانعهم.. بل ننقل حضارتهم -وهي وجهة نظرهم في الحياة- بحذافيرها دون الأخذ بعين الاعتبار أنها توافق ما تعرفنا عليه أو اعتدناه؛ وكما قيل قديماً: اِخْتَلَطَ الحَابِلُ بِالنَّابِلِ -هذا مثل- فـاِرْتَبَكَ الأمْرُ علينا بما هو مِن مستلزمات الحياة العصرية من أجهزة وأدوات.. وهذه هي المدنية وبين مجموعة القيم والمقاييس والمفاهيم والقناعات والنظرة إلىٰ الحياة.. فالغالبية يقلد.. ودون حرج؛ لذا صلح هذا المثل في الاعتماد عليه فقد اِخْتَلَطَ أَمْرُ مَنْ يَصيدُ بِالحِبالِ وَمَنْ يَصيدُ بِالنِّبالِ، أي اِخْتَلَطَتِ الأمورُ وَغَمُضَتْ وارْتَبَكَتْ. كما اِخْتَلَطَ خُوَارُ الغَنَمِ وَالظِّبَاءِ وَسَطَ الحَظِيرَةِ.. فقد اختلط الشّيء بالشّيء وامتزج به وتداخل معه..
هذا توصيفٌ للواقع المعاش اليوم.. سواء في كيفية طهي الطعام وكيفية تناوله أو في الملابس والموضة وقصة الشعر وأيضا استيراد ما يفعلونه في المناسبات والأعياد.. وإن كانت لا تمت لنا بصلة..
والإشكال أن الخلَط بين الشَّيئين تداخل بينهما وعجز عن تمييز أحدهما مِن الآخر.. وكمثال صار يقال عن الشئ الحرام أنه عيباً؛ وصار التفسخ والعري موضة؛ وقبول الفساد حداثة ومواكبة للعصر!
.. وما يعنيني هو مسألة الوطن.. والمواطنة.. والتجنس.. والجنسية..
نبدء زمنياً.. فــ:" وثيقة حُقوق الإنسان والمُواطن Staatsbürger- der - صدرت سنة 1789م، أي أنّها كانت تزامنية مع الثورة الفرنسية .
ولغةً: كلمة وَطَنْ وردت في لسان العرب ويُقصدُ بها مكان الإقامة سواءٌ وُلِدَ فيه أمْ لم يُولَد، أي وطَن فلانٌ بالمكانِ : أقام به، سكَنه وألِفه واتَّخذه وطَنًا.. ولها معنًىٰ آخر، حيث يُقصدُ بها مربض الغنم والبقر.
وفي اللُغة العربية: الوطن هو رقعةٌ أرضية واضحة المعالم، واطنها أو مُستوطنها سكنها؛ والمواطن مَن يُقاسم هذا القاطن نفس الوطن.
فــ العربي بدويٌّ رحّال لا يمكثُ في مكانٍ واحد وأَوحد، بل يعيشُ في وِجهاتٍ مُتعدِّدة، في حين أنّ الحضري مُستقِر..
فــ وَطَّن البدوَ: أي نقلهم مِن حال البداوة والتِّرحال إلىٰ الإقامة الدَّائمة والاستقرار، بمعنىٰ حضَّرهم..
.. تَوَطَّنَ فِي بِلاَدِ الهِجْرَةِ : اي اِتَّخَذَهَا وَطَناً لَهُ .
نعلمُ أنّ المفاهيم السياسيّة الّتي انبثقت في الحضارة الإغريقية (المواطن، الدستور، الديمقراطيّة…) لم تَرِد بتاتاً في المعاجم العربية ولا في القرآن الكريم تنزيل من العزيز الحكيم، أو في صحيح البُخاري، أو مسلم. مما يجعل علامة استفهام حاضرة أمامنا، وإنْ كان هذا يدلُّ علىٰ شيءٍ فإنّه يدلُّ علىٰ أنّ العرب لم يكونوا مُهتّمين بالشأن السياسي، لم تكن لهم هموم سياسيّة شائكة كالاستبداد. فإذا كانت كلمة وطنُ تشيرُ إلىٰ الأرض القارة، فإنّ كلمة مُواطن هي صفة قانونية مُرتبطة بالإنسان ارتباطاً وطيداً سواءٌ حلّ أم ارتحل. لذا اسقاط مصطلح حديث عصري كي يتمشىٰ مع الوضع الراهن علىٰ حدث سابق علىٰ إنشاء مصطلح جديد أجده تعسف في التعبير.. وإقحام ليس له ما يبرره وصورة ذهنية حديثة لحال قديم لم يرعِ هذه الجزئية.. وحين نستدعي التعريف للمواطن فتجده :" مَن يتمتع بجميع الحقوق والامتيازات القانونية الممنوحة من قبل الدولة للشعب(!)؛ وهو ملزم الامتثال لقوانينها والوفاء بوجباته التي تفرضها الدولة عليه ".
فثمة : ثلاثة عناصر اساسية تتداخل في تشكيل مصطلح المواطن؛ وهي :
- القانوني و
- السياسي و
- الاجتماعي أو النفسي.. ويصلح أن نضيف
- الأمن الاقتصادي.
فــ : وطَنِيّ؛ شخص منتمٍ إلىٰ بلد يتمتع بالحقوق السياسيّة كافّة وحقّ تولِّي الوظائف العامّة؛ لكونه مولودًا فيها أو حاصلاً علىٰ جنسيتها..
.. ووفقا لهذا التعريف فــ بالقطع هذا التوصيف لا ينطبق بأي حال علىٰ نبي الإسلام ورسول الهدىٰ بل هو فعل عكسه تماماً.. فقد رفضه مجتمعه ونبذه هو -عليه السلام- ومن اتبعه من المؤمنين
والأن نسمع عن المواطن الصالح.. وحقوق المواطنة.. والمواطنة الفعالة؛ وما يمكن قوله أن البعض وقع تحت ما يسمى من حداثة المصطلح إلىٰ سرعة التأثير والاقتناع به وأن ينادي بأن محمداً الرسول كان مواطناً مكياً.
.. والألتباس جاء عند البعض لما تجده في أقواله -عليه السلام- فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- شديد الحرص علىٰ أن تكون أم القرىٰ مكة/بكة المباركة بعد أن كانت مبدأ الوحي وإنطلاقة النبوة أن تكون هي منطلق الدعوة، وقاعدة الرسالة، وأن يكون أهلها -وهم أهله الأقربون - حُماة الدين وحُراس العقيدة.
.. لذا فقد آلم نفسه أشد الإيلام اضطرارهم إياه للبحث عن قاعدة أخرىٰ [خروجه للطائف؛ عرض نفسه الزكية علىٰ القبائل في مواسم الحج]، ثم الخروج إلىٰ بلد آخر، وهيَّج ذلك في نفسه الكريمة معاني ومشاعر كبيرة وكثيرة، إذ لم يكن من السهل علىٰ صاحب هذه النفس العظيمة أن يصير حاله مع بلد الله الحرام التي كان فيها مسقط رأسه.. ونشأ في ربوعها، واختلط بأهلها وعاشر سكانها وتفاعل مع أشيائها، وتجاوبت عواطفه مع مقدساتها، وطبعت ذكريات أيامه في مختلف نواحيها إلىٰ الاضطرار للخروج منها.
وقد صورّ النبي الكريمُ صلى الله عليه وسلم هذه المشاعر في كلماتٍ مؤثرة خاطب بها بلد الله الحرام.
1 . ] فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: „ لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال:« „ أمَا والله لأخرج منك، وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلىَّ، وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منكِ مَا خرجت ” » .
2 . ] وفي رواية: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ من مكَّةَ إلىٰ الغَارِ - الْتَفَتَ إلىٰ مَكَّةَ - فقال.:« „ أَنْتِ أَحَبُّ بِلاَدِ اللهِ إلى اللهِ، وأَنْتِ أَحَبُّ بِلاَدِ اللهِ إليَّ، فَلَوْ أَنَّ المُشْرِكينَ لَمْ يُخْرِجُوني لَمْ أَخْرُجْ مِنْكِ ” » .. ثم أكمل.:« „ فأعدىٰ الأعداء مَنْ عَدَا علىٰ الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحُول[(*)] الجاهلية ” » ؛ فانزل الله علىٰ نبيه صلى الله عليه وسلم { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } [محمد : 13] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] الذُّحول: جمع ذَحل، وهو العداوة، وهو أيضا: الوتر وطلب المكافاة بجناية جنيت عليه من قتلِ أو جرح أو نحو ذلك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 . ] وفي روايةٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة حين وداعها، في يوم فتح مكة.:« „ مَا أَطْيَبَكِ من بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إليَّ! وَلَوْلاَ أَنَّ [قومك] قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ؛ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ ” » .
4 . ] روىٰ ابن شهاب الزهرى قال.: „ قدم أصَيْلٌ الغفارىُّ.. قبل أن يُضرب الحجابُ علىٰ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل علىٰ عائشة -رضي الله عنها- ” ؛ فــ
قالت له.: „ يا أصَيْل، كيف عهدت مكة؟ ” ؛
قال.: „ عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها ” ؛
قالت.: „ أقمْ حتىٰ يأتيك رسول الله ” ؛ صلى الله عليه وسلم..
فلم يلبث أن دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال.:« „ يا أُصَيْل، كيَف عهدت مكة ؟ ” » ؛
قال.: „ عهدتُها والله قد أخصب جنابها، وابيضتْ بطحاؤها[(*)] .. وأعذق إذخرها، وأسلب ثُمامُها، وأمْشَر سَلْمُها ”[(**)]. فــ
قال.:« „ حسبك يا أصَيْل لا تُحْزِنَّا » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] أخصب جنابها: أي أخصبت ناحيتها، والجنَاب، بالفتح: الفناء، وما قرب من محلة القوم، والجمع: أجنبة، يقال: أخصب جَناب القوم، وفلان خصيب الجناب، وجديب الجناب، وتقول: مروا يسيرون جناَبيه، أي ناحيتيه [الصحاح للجوهرى: (1/102)] .
والبطحاء، والأبطح: مسيل واسع وفيه دقاق الحصى، وبطحاء مكة: مسيل واديها. انظر : [الصحاح للجوهري: (1/356)، والنهاية: (1/134) ].
[(**)] قال ابنِ الأثير في : أسد الغابة: (1/121-122): قوله (أعذق إذخرها): أي صارت له أفنان كالعذوق، والإِذخر: نبت معروف بالحجاز؛ طيب وزكي الرائحة. و"أسلب ثُمامها": أي أخوص، وصار له خوص، والثُمام: نبت معروف بالحجاز، ليس بالطويل. وقوله "أمشرَ سَلْمُها": أي أورق واخضرّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 . 1 . ] وفي روايةٍ أنه قال له.:« „ يا أصَيْل، دع القلوبَ تقر » .
4 . 2 . ] ورواه الحسن، عن أبَان بن سعيد بن العاص -رضي الله عنه- أنه قدم علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له - : « „ يا أبَانُ، كيف تركتَ أهلَ مكة؟ ” » .
قال : „ تركتُهم وقد جَيَّدُوا[(*)] ” ؛ وذكر نحو حديث أصيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] قوله : جَيَّدوا": أي أصابهم الجَود، وهو المطر الواسع، فهو مجوِد".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-*/*-*-*/-*/*-
وكان صلى الله عليه وسلم يسمع كلام أصحابه -رضوان الله عليهم- في الحنين إلىٰ مكة، فيرق لحالهم، ويقدّر عواطفهم، ويدعو لهم بأن يحبِّب الله إليهم المدينة كما حبّب إليهم مكة.
حب النبي عليه الصلاة والسلام للمدينة
كان ﷺ أيضًا يحب المدينة:
5. ] فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: „ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعك أبوبكرٍ وبلالٌ..
قالت فدخلتُ عليهما، فقلتُ: „ يا أبت، كيف تجدك؟ .. يا بلاَلُ، كيف تجدك؟ ” ؛
قالت: « „ فكان أبوبكر إذا أخذته الحُمَّى يقول:
كلُ امرئ مُصَبَّحٌ في أهله * والموتُ أدنىٰ من شِرَاك نعله
وكان بلالٌ إذا أقلع عنه الحُمَّى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليتَ شِعرى هل اْبيتنَّ ليلةً * بوادٍ وحولى إِذْخَرٌ وجَليل[(*)]
وهل أرِدَنْ يوما مياه مَجَنَّة * وهل يَبْدُوَنْ لىَ شامةٌ وطَفِيل[(*)]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)]بواد : أي بوادي مكة .
وجَليل : نبت ضعيف يحشىٰ به خصاص البيوت وغيرها . وقالً ابن الأثير : "الجليل : الثمام، واحده جليلة، وقيل : هو الثٌّمام إذا عظم وجل " (النهاية1/288) .
[(**)] مجنة -بفح الميم وتشديد النون المفتوحة وآخره تاء مربوطة -: موضع على أميال من مكة ، كانت إحدى أسواق العرب في الجاهلية ، تقوم في العشر الأواخر من ذي القعدة.
شامة -بالشين المعجمة وألف وميم مخففا: جبل بالساحل جنوب غربى مكة، مر بقربه طريق اليمن المزَفت، تجاوره حَرَّة تسمى "طفيل"-بفتح الطاء المهملة وكسر الفاء، ثم مثناة تحت ولام -وتقرن معه، فيقال : شامة وطفيل، وهما من ديار الجحادلة من كنانة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه، فقال: « „ اللهمَّ حببْ إلينا المدينة.. كحبّنا مكةَ أو أشد، وصحّحْها، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حمَّاها فاجعلها بالجُحفة[(*)] » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] الجُحفَة ، بجيم مضمومة ، وحاء ساكنة ، وفاء ، ثم هاء : مدينة كانت عامرة على طريق الحاج بين الحرمين ، . توجد اليوم آثارها شرق مدينة رابغ بحوالى (22) كيلاً ، إذا خرجت من رابغ تؤم مكة كانت إلى يسارك حوز السهل من الجبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5 . 1 . ] زادت في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال : « „ اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة ابن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ” » .
5 . 2 . ] وهناك رواية : وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: „ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ[(*)]، فَاشْتَكَىٰ أبوبَكْرٍ، وَاشْتَكَىٰ بِلاَلٌ، فَلَمَّا رَأَىٰ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَكْوَىٰ أَصْحَابِهِ قال: « „ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كما حَبَّبْتَ مَكَّةَ أو أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا وَمُدِّهَا ” » .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)](وَبِيئَةٌ): أي: ذات وباءٍ، وهو الموت الذَّريع، هذا أصله، ويُطلق أيضاً علىٰ الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض، ولا سيما للغرباء الذين ليسوا مُستوطنيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يزل هذا الحنين إلىٰ البلد الحرام يزداد، حتىٰ فتحها الله عليه، فدخلها قائدأَ فاتحا مُظفَّرا، ولم يفتأ يخاطبها بنفس الشوق الذي خاطبها به يوم اضطر إلىٰ الخروج منها .
[ 6 . ] فعن عبدالله بن عدىّ بن سمراء الزهري -رضي الله عنه- (صحابى جليل أسلم عام الفتح) قال : „ رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم واقفا علىٰ الحَزوَرَة[والحزورة في اللغة: التل الصغير].. وقال النبي صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مخاطباً مكة : « „ واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ؛ ما خَرَجْتُ ” » ..
- قال المباركفوري - رحمه الله: „ فيه دلالة علىٰ أنه لا ينبغي للمؤمن أن يخرج من مكة إلاَّ أن يُخْرَج منها حقيقةً أو حُكماً، وهو الضرورة الدينية أو الدنيوية ” .
[ 7 . ] :" وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « „ إِنَّ أَحَبَّ البِلاَدِ إلىٰ اللهِ البَلَدُ الحَرَامُ ” » ..

[ 8 . ] وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على الحُجُون[جبل بأعلىٰ مكة عند مدافن أهلها ] عام الفتح، فقال: « „ والله إنك لخير أرض الله، ولو لم أخرجَ منك ما خرجت، وإنها لم تحلَّ لأحدٍ كان قبلي، وإنَما أحِلَّت ليَّ ساعة من نهار ” » .
- والأحاديث المتكاثرة في كون مكة خيرَ بلاد الله وأحبّها إليه ترد الحديث الذي أخرجه الحاكم [3/3] -ومن طريقه البيهقي في الدلائل [2/519]- عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : « „ اللهم إنك أخرجتني من أحبِّ البلاد إلىَّ، فاسكنِّى أحب البلاد إليك ” » ؛ فأسكنه الله المدينة .
قال الحاكم: " رواته مدنيون من بيت أبي سعيد المقبرى".
قال الذهبي : "لكنه موضوع، فقد ثبت أن أحب البلاد إلىٰ الله مكة، وسعد (ابن سعيد المقري) ليس بثقة".
وقال ابن كثبر : "هذا حديث غريب جدأَ، والمشهور عن الجمهور أن مكة أفضل إلا المكان الذي ضم جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" .
ويرحم الله -تعالى- البوصيري حيث قال:
ويح قوم جَفَوْا نبيّا بأرضٍ * ألِفَتْه ضبابها والظباءُ
وسَلَوْه وحَنّ جذغ إليه * وقَلَوْه وودَّه الغرباء
-*/*--*/*-
دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة:
مضىٰ النبي صلى الله عليه وسلم خارجا من مكة مهاجراً إلىٰ ربه، ونفسه علىٰ حالها الدائم من الاتصال بمولاه، واللجوء إليه بالدعاء وطلب المعونة .
9 - فقد روىٰ أبونعيم من طريق إبراهيم بن سعد، عن محمد ابن إسحاق قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً إلىٰ الله يريد المدينة قال عَنِ ابْنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ : كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : « „الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَلَمْ أَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى هَوْلِ الدُّنْيَا ، وَبَوَائِقِ الدَّهْرِ ، وَمَصَائِبِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي فِي سَفَرِي ، وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي ، [وبارك لي فيما رزقْتني]، وَلَكَ فَدَلِّلْنِي وَذَلِكَ عَلَى خُلُقٍ صَالِحٍ فَقَوِّمْنِي ، وَإِلَيْكَ يَا رَبِّ فَحَبِّبْنِي ، وَإِلَى النَّاسِ فَلا تَكِلْنِي ، رَبٌّ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ ، فَأَنْتَ رَبٌّ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشَرَقَتْ لَهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَكَشَفْتَ بِهِ الظُّلُمَاتِ ، وَأَصْلَحْتَ بِهِ أَمْرَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ، أَنْ تُحْلِلَ عَلَيَّ سَخَطِكَ ، أَوْ تُنْزِلَ عَلَيَّ غَضَبَكَ ، [أعوذ بك من زوالِ نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحَوُّل عافيتك، وجميع سخطك] لَكَ الْعُتْبَى عِنْدِي[خير] مَا اسْتَطَعْتُ ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ” » . (لا يصح؛ وهذا من ضمن أحاديثٍ منتشرة لا تصح؛ فـ هو حديث معضل، غير أنه لا يتعلق بأحكام شرعية، بل هو بباب فضائل الأعمال ألصق، فلذا أوردته هنا. والله أعلم.)
..........
إن حب الوطن فطرة إنسانية، ولم تزل الشعوب علىٰ اختلاف عقائدها وميولها أجناسها متفقة على هذه الفضيلة، متجاوبة المشاعر مع هذه الفطرة .
قال عمر -رضي الله عنه- : عَمَّر اللهُ البلدانَ بحب الأوطان .
وقال ابن الزبير : ليس الناس بشيء من أقسامهم (أي ما قسمه الله لهم من الأرزاق والحظوظ) أقنع منهم بأوطانهم .
وقيل : من علامة الرشد أن تكون النفس لبلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة .
وقال بعضهم:
وكُنا ألِفْنـاها ولم تَكُ مَـأْلَفاً * وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
كما تُؤْلَفُ الأرضُ التي لم يَطِبْ * بها هـواءٌ ولا ماءٌ ولكنـها وطـن
وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك.
وقالت الفرس: تربة الصبي تغرس في القلب حرمة كما تغرس الولادة في الكبد رقة..
لقد ظل الشعور بالحنين إلى مكة ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم ، لا يقدم عليه من مكة قادم إلا سأله عنها ، واهتز قلبه شوقا إليها.
فهذه أم القرىٰ، والبلد الحرام، والبلد الأمين، وبكة، خير أرض الله علىٰ الإطلاق، وأحب الأرض إلىٰ النبي ﷺ.

.. وعليه ..
فقد ضَمَّ البلد الحرام مناسكَ مُعظَّمة، وأماكن مُقدَّسة، وشعائرَ مباركة، ارتبط بها أداء ركنٍ من أركان الإسلام، وهو الحج، والله تعالىٰ رفع من شأن هذه الأماكن وجَعَلها من شعائره وآياته الدالة علىٰ توحيده وعظمته جلَّ في علاه، وذلك في آيات الله المقروءة، حيث خلَّد ذِكرها وجعلها قرآناً يُتلىٰ ويُتعبَّد به إلىٰ يوم القيامة، وكذلك جعلها في آيات الله المنظورة، في هذا الكون، بأنْ جعلها آثاراً باقية، فلم يفنيها الزمان، ولم يُغيِّرها تعاقب الأيام والدهور، وهذا دليل علىٰ عظمة البلد الذي ضمَّ هذه المناسك والشعائر، ومن ذلك:
أ- ] مقام إبراهيم
ب- عين زمزم
ج- الصفا والمروة (المسعى):
وإذا أذن الرحمن السميع العليم اتكلم بتفصيل عن هذه الأماكن بتفصيل في ملحق نهاية البحوث..
ومسك الختام ما أنزله الخالق سبحانه وتعالى :
" رَبّنا إنّي أسكَنتُ مِن ذُرّيّتي بِوادٍ غَيرِ ذي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحَرّمِ رَبّنا لِيُقيمُوا الصّلاةَ فَاجعَل أفئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهوي إلَيهِم وارزُقهُم مِنَ الثّمَراتِ لَعَلّهُم يَشكُرونَ﴾.
﴿وقالوا إن نَتّبِعِ الهُدى مَعَكَ نُتَخَطّف مِن أرضِنا أوَلَم نُمَكّن لَهُم حَرَمًا آمِنًا يُجبى إلَيهِ ثَمَراتُ كُلّ شَي ءٍ رِزقًا مِن لَدُنّا ولكِنّ أكثَرَهُم لا يَعلَمونَ﴾.
﴿إنّما اُمِرتُ أن أعبُدَ رَبّ هذِهِ البَلدَةِ الّذي حَرّمَها ولَهُ كُلّ شَيءٍ﴾.
﴿لا اُقسِمُ بِهذَا البَلَدِ * وأنتَ حِلّ بِهذَا البَلَدِ﴾.
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية الشريفة
[ ١٢ ] الْمُجَلَّدُ الثَّانِي عَشَرَ
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
بحوث : « يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ السُّنَّةِ
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ.
( ٢ ) الْبَابُ الثَّانِي : وادٌ عِندَ بَيتِكَ المُحَرّمِ
الزمن:1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة~ الطريق إلىٰ يثرب
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)
‏‏الثلاثاء‏، 23‏ شوال‏، 1443هــ ~ ‏الثلاثاء‏، 24‏ أيار‏، 2022م

أعلى الصفحة

 .
[ ١٢ ] [الْمُجَلَّدُ الثَّانِي عَشَرَ ]
( ١ ) الْبَابُ الْأَوَّلُ: سيَخرُج مِن بلدِهِ مُهاجِرًا

تمهيدٌ لحادثةِ الهجرة النبوية
.. حادثةُ « „ خلقِ آدمَ ‟ » نوعٌ جديد مِن المخلوقات والكائنات لم يسبقْ له وجود مِن قبل.. كرمهُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بقدرات خاصة عقلية إدراكية مذهلة وإمكانيات فهمية استيعابية عالية.. مع خاصية القدرة علىٰ التعليم وأمكانية استرجاع المعلومات والاستفادة منها في أمر جديد.. وربط الذي خزن في الذاكرة بالواقع الجديد المعاش..
وُجدَ -هذا الكائن المخلوق مِن عدم- لمهمةٍ خاصة.. فتعايش لسويعات في جنَّةِ الرضوان ثم هبط علىٰ أرض الرحمن.. ليمكنه المقارنة بين حال الرضا وبين أحوال البلاء والاختبار والامتحان وبين حال الإنعام والتنعيم وأحوال البلاء والتحريم.. إذ مِنه ومِن زوجه ســ تبدء البشرية مشوارها إلىٰ اليوم الآخر..
فهما-: « „ آدم ” » ؛ و « „ زوجه.” » ؛ - مبدأ الإنسانية.. بداية حياة بني آدم علىٰ الأرض لـ إعمارها؛ ولحُسن عبادته -سبحانه وتعالىٰ- وفق مراده.. ثم تمَّ قبل مزاولة أي نشاط له أو فاعلية.. تمَّ « „ تعليمُه الاسماء كلها ‟ ».. -التعليم الأول-.. فــ "مِن كرم الله -تعالىٰ- أن علم الإنسان بنوعيه -الذكر والأنثىٰ- [وليس فقط المسلم أو المؤمن؛ أو العابد الصائم أو المُصلي القائم] علمهما ما لم يعلما.. فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به آدم -أبو البشرية جمعاء- علىٰ الملآئكة أجمعين.. وحتىٰ عدوه اللدود إبليس..: { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ: « أ.» الْسَّمْعَ وَ: « ب » الأَبْصَارَ وَ: « ج » الأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل:78].. فالحديث في الآية يعم الجميع { أَخْرَجَكُم } مؤمنهم؛ وملحدهم؛ ومَن ينكر وجود خالق أوجد جميع المخلوقات مِن عدم أو مَن كفر به أو أشرك..
.. هذه الحادثةُ.. احتاجت لحادثةٍ تساويها مِن حيث الخلق الجديد؛ ليس في النوع بل في الكَيف كي تسعد الإنسانية.. وتطلبت حادثة مثلها مِن حيث التعليم لتتم النعمة الربانية علىٰ عموم الإنسانية كي تنعم البشرية بالنعمة الآلهية والرحمة السماوية لتحقيق: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين } [الأنبياء:107].. فالعالمون -هنا- كل ما هو موجود مِن مخلوقات في البر؛ وكائنات في البحر؛ وموجودات في الجو بما فيهم مِن الجماد والحيوان وليس فقط الإنسان.. فكانت حادثة « „ البعثة المحمدية.. والرسالة الخاتمة ‟ » بدءاً مِن التكليف الأول وحياً أخيراً مِن ربِّ الأرض ورافع السموات العلا في بقعة مباركة غار حراء يطل علىٰ البيت العتيق بــ الأمر الآلهي « „ اقرأ ‟ ».. لقد كانت تلك الآيات الكريمات الخَمس الأُول في التنزيل بداية تكليف سماوي للبشرية؛ وبدء مرحلة ذات أهمية قصوىٰ في تاريخ البشرية.. فــ كُلِفَ محمد الرسول ومَن سيتبعه بالأمر الأول؛ وعليك أن تراجع الكيفية العملية الملآئكية التعليمية في تبليغ هذا الأمر؛ وما فعله جبرائيل في مسألة التنبيه لما سيسمعه آخر الأنبياء مِن أُولىٰ آيات التنزيل وأوَلِيّات آيات التكليف: ويحسن لكَِ أن تتابع معي ما خرَّجه البخاري في صحيحه : « „ .. حتَّى فَجِئَه الحقُّ.. وهو في غارِ حراءٍ.. فجاءه المَلَكُ فيه.. فقال : « اقرَأْ » ؛ قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: فقُلْتُ : « „ ما أنا بقارئٍ ” » ؛ قال : « فَــ : { أخَذني.. فغطَّني.. حتَّىٰ بلَغ منِّي الجَهْدَ ". } ثمَّ أرسَلني.. فقال لي اقرَأْ » ؛ فقُلْتُ. : « „ ما أنا بقارئٍ » ؛ فَـ : « { أخَذني.. فغطَّني الثَّانيةَ.. حتَّىٰ بلَغ منِّي الجَهدَ } ثمَّ أرسَلني فقال: اقرَأْ » ؛ فقُلْتُ : « „ ما أنا بقارئٍ ” » ؛ فَــ : « { أخَذني.. فغطَّني الثَّالثةَ.. حتَّىٰ بلَغ منِّي الجَهْدَ } ثمَّ أرسَلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] - حتَّى بلَغ - {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ” » .
إذاً : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } قراءة الكتاب الأول: القرآن الكريم.. والذكر الحكيم.. والفرقان المبين..{ الَّذِي خَلَقَ } ثم انتقل إلىٰ قراءة الكتاب الثاني المتعلق بخلق الموجودات والكائنات والمخلوقات جميعاً مِن عدم وعلىٰ غير مثال سابق.. { خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ }فيأتي بمثال واحد مِن تلك الموجودات الكائنات المخلوقات { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } [العلق: 1-4]..
ثم جاء إخبارٌ في نفس السياق القرآني بنقلة تعليمية نوعية عالية.. كأنها ثالثة فلم يكتفِ فقط بقراءة الكتاب الأول -القرآن الكريم-.. أو كتاب الكون والحياة والإنسان -الكتاب الثاني- بل يعلمه الخالق ما لم يكن يعلمه مِن قبل حين.. قال الخالق العليم الخبير: { عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم } [العلق:5].. وذلك هو المشاهد المحسوس مِن تطور الأجهزة والأدوات والآلات عبر التاريخ..
. : « „ ؛ . ” » ؛ ... لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات الخَمس أَول أمرٍ نزل مِن القرآن الكريم.. وفيها التنبيه علىٰ ابتداء خلق الإنسان مِن علقة؛ وهي إشارة بليغة لقراءة الكتاب -الثاني الذي استنبط مِن الآية- والذي هو في الكون وفي الحياة وفي الإنسان منشور؛ اقرأ : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي { الآفَاقِ } وَ : { فِي أَنفُسِهِمْ } حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [فُصِّلَت:53]
.. وإن مِن كرم الله -تعالىٰ- أن علمَ الإنسان ما لم يعلم، وبهذه الآيات كانت بداية نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لقد كان هذا الحادث ضخمًا، وقد عبَّر عنه صاحب الظلال فقال: «إنه حادث ضخم.. ضخم جدًا، ضخم إلىٰ غير حدٍ، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!.. إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته، وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعًا، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد -بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
- ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقتهُ أن الله -جل جلاله-، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم -في عليائه- فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون، لا يكاد يُرىٰ اسمه الأرض، وكرَّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقىٰ نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده -سبحانه- بهذه الخليقة..».
كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، والعلم ومنزلته، في بناء الشعوب والأمم وفيها إشارة واضحة بأن مِن أخص خصائص الإنسان العلم والمعرفة.
وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلىٰ رسول الله هي الأمر بالقراءة { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1].
وما زال الإسلام يحث علىٰ العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم علىٰ غيرهم
قال -تعالىٰ-: { يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [المجادلة: 11] وقال -سبحانه- { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } [الزمر: 9].. إلا أن بعض الناس اكتفوا بقراءة الكتاب الثاني الذي هو في الكون والحياة والإنسان منشور وتغافلوا أو أهملوا الكتاب الأول -القرآن الكريم-..
إن مصدر العلم النافع مِن الله -عزَّ وجلَّ-، فهو الذي علم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم، ومتىٰ حادتْ البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله -تعالىٰ- رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها..[انظر حولك لترىٰ دقة التعبير] فــ بداية نبوة خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين.. هي بداية -التعليم الثاني للإنسان-.. فـ بعد أن تعلم الإنسان الاسماء كلها وتوالت التنبيهات الربانية والتبليغات الرحمانية العلوية بواسطة رسل السماء وأنبياء مالك الأرض ومَن عليها ومَن رفع بغير عمدٍ السماء.. احتاج -الإنسان- لتعلم قراءة موضوعية بــ قراءة الوحي الخاتم المُنزل بشقيه -القرآن والسُنَّة- يجاوره قراءة موضوعية تكميلية لـ مكونات الكون وأسرار الحياة وتركيبة الإنسان البدنية والنفسية.. فصار عند الإنسان:
١ . ] كتاب القرآن الكريم المحفوظ في الصدور.. والذي وَجبَ علىٰ الإنسانية قراءته قراءة: بيانية.. إدراكية.. تفصيلية.. تربوية.. تأملية.. استنباطية.. استيعابية.. تطبيقية.. تشريعية.. منهجية.. علمية لكشف آياته الإعجازية وتبيان أحكامه الشرعية لحياة الإنسان العملية..
وفي نفس اللحظة كُلفتْ البشرية بقراءة الــ
٢ . ] كتاب الذي هو في الكون والإنسان والحياة منشور قراءة استكشافية تبيانية تنويرية تعليمية استيضاحية ذهنية تحليلية عقلية إدراكية فهمية..
ثم..
لإحسان مسألة التعليم - بشقية: السماوي = القرآني والسُني؛ والكوني = الحياتي والإنساني - وتحقيقها كان ينبغي وجود : « كيان تنفيذي ” » ؛ ووجود مكان يصلح فيه تطبيق المنهج وتنفيذ شريعة القرآن وفق هدي وسُنة صاحب الرسالة: الفعلية البيانية والقولية التفهيمية والتقريرية الإقرارية.. فيما يتعلق بالعقائد والإيمان والعبادات والمعاملات بكافة أنواعها.. مع مراعاة أنه كيان : « بشري » ؛ (بعد إنتقاله -عليه السلام- إلىٰ الرفيق الأعلىٰ) كيان : „ تنفيذي ” ؛ وليس رسولي/نبوي يصححه وحي السماء كما وأنه ليس ديني بالمفهوم الـ كهنوتي نيابةً عن الإله؛ الرب الذي في السماء.. أو باسم الآله.. لكنه كيان تنفيذي تطبيقي بفهم بشر تحصلوا مِن المعارف اللُغوية والأحكام الفقهية قدراً كافٍ لتأويل أو استنباط أو استخراج الأحكام العملية مِن آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام..
هذا الكيان التنفيذي يباشر تبيان وتحقيق وتوضيح مجموعة الأفكار المتعلقة بعلاقة الخالق بالمخلوق (العقائد والإيمان).. وتطبيق كافة المفاهيم التي تعالج الإنسان بصفته البشرية (العبادات: علاقته بربه).. وتمنهج عملياً كتلة القيم التي يقوم عليها الإنسان (الأخلاق: علاقته بنفسه) وتفعيل حزمة القناعات التي تؤثر في حياته (كافة المعاملات: المالية الاقتصادية الاجتماعية السياسية التعليمية القضائية الشرطية.. وعلاقته بالآخر؛ والحدود والعقوبات والتعزير لمن يخطأ حماية للمجتمع والفرد) كي يَعْبُرَ الحياة -التي قد رسمها وصوّرها الكتاب الأول (القرآن الكريم) وعالجها -حضارياً ومدنياً- الكتاب الثاني (العلم المدني) .. يَعبر بسلام إلىٰ الحياة الأبدية..
.. المكان الأول لهذا الكيان التنفيذي الأول وتلك البقعة مِن الأرض التي سيطبق عليها منهاج الإسلام وشريعته لم تصلح أن تكون مَكة المكرمة.. وإن كانت نقطة بدء الرسالة السماوية الخاتمة.. ومركز إنطلاق الدعوة الإسلامية.. وهي مسقط رأس الذي أَطلقَ عليه قومه : „ الصادق ” ؛ „ الأمين ” ؛ ولعلها حكمة تحتاج لتدارسها في ملحق نهاية بحوث السيرة النبوية -مِن بعد إذنه -تعالىٰ- وبتمام توفيقه وبكمال سداده وحسن رعايته- فكانت الهجرة المحمدية النبوية الرسولية مِن مكةَ وخروجه منها إلىٰ يثرب مدينته المنورة.. فلم يكن لقومه وعشيرته؛ أو لعمه أبي طالب حاضنه وحاميه مِن بطش صناديد مكة؛ كما وليس للمرأةِ الأولىٰ: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد أي فضل يذكر في تنشأة هذا الكيان التنفيذي.. الجديد في كل أمر وكل شئ بدءاً مِن العقيدة والإيمان وما ينبثق منها من الأحكام العملية المتعلقة بحياة الإنسان سواء كيفية تنفيذ العبادة بين الرب المالك وبين العبد المخلوق أو كيفية تنفيذ العلاقة بين الإنسان وبين نفسه وبينه وبين غيره مِن المخلوقات..
وحين نسمع أو نقرأ عن حادثة الهجرة المحمدية يجب علينا أن نستحضر مشاهد عدة لتكون نبراساً لمن سيجئ مِن بعده -عليه الصلاة والسلام-.. وهو يسير في طريق الدعوة علىٰ خطىٰ سيد المرسلين وإمام المتقين وآخر الأنبياء ومتمم المبتعثين..
- أنظر إليه.. فــ في يوم الاثنين مِن رمضان مِن العام الأربعين[(*)] مِن مولد نبينا -صلى الله عليه وسلم-، في لحظة مِن أعظم ما حدث ومر علىٰ البشرية جمعاء حين آن أوان البعثة الآلهية الخاتمة ومجئ الرسالة النهائية المتممة لوحي السماء.. حين تم لقاء جبريل -عليه السلام مع محمد-صلى الله عليه وآله وسلم- [فجأةً وبغتةً لأول مرة في حياته] فــ ظهرت بشريات الصبح الفصيح وجاءت طلائع أنوار سعادة البشر أجمعين إذ قد أشرق نور الإسلام المبين..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] قال ابن هشام:" لما بلغ محمد -صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين بشيراً ونذيراً".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر -أخــ(تــ)ـي- وهو -عليه السلام- نازلاً من غار حراء يرتجف[(*)] مِن موقف الوحي وهوله؛ فتستقبله أُمُّ المُؤمِنينَ؛ صاحبة الأوائل :
(1) المرأة الأولىٰ التي تعامل معها في التجارة بمالها و
(2) المرأة الأولىٰ في حياة محمد الشاب.. و
(3) الزوجة الأولىٰ مِن نساء محمد.. و
(4) المرأة الأولىٰ في الإسلام.. و
(5) المرأة الأولىٰ مِن نسائه والتي التحقت قبله بالرفيق الأعلىٰ :
الأولىٰ.. خَديجةُ بنتُ خُوَيلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عنها-.. قال الذهبيُّ عنها: "هي أول مَن آمن به وصدقه قبل كل أحد، وثبتتْ جأشه، ومضتْ به إلىٰ ابن عمها ورقة بن نوفل عندما جاءه جبريل أول مرة في غار حراء.. ومناقبها جَمّة، وهي ممن كَمُل مِن النساء، كانت عاقلة.. جليلة.. دَيِّنة.. مصونة.. مِن أهل الجنة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يثني عليها، ويفضلها علىٰ سائر أمهات المؤمنين "... فتسمع منه فتذهب[(**)] به إلىٰ رجلٍ طاعن في السن وصاحب حكمة؛ عالِماً بالتوارة[(***)] والإنجيل قراءةً وترجمةً؛ حنيفاً علىٰ مِلَّةِ أبي الأنبياء إبراهيم الخليل-عليه السلام-:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] لقد خاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفزع في بداية نزول الوحي عليه؛ فإنّه لم يعهد ذلك مِن قبل، ولم يسمع به، وعهْدُ العرب بالنبوّة والأنبياء بعيد، فخاف علىٰ نفسه، ورجع إلىٰ بيته ترتعد فرائصه وقال : « „ زمّلوني.. زمّلوني ” » ؛ فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- يستشرف النبوة، ولا يتطَّلَّع لها، ولا يحلم بها، ولو كان يتطلع لها لما فزع مِن نزول الوحي عليه، قال الله -تعالىٰ- { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا..} { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ } { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى:52]. قال السعدي : { مَا كُنْتَ تَدْرِي..} أي: قبل نزوله عليك.. { مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ } أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أميًّا، لا تخط، ولا تقرأ".
[(**)] ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّىٰ أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِالعُزَّىٰ بنِ قُصَيٍّ، وهو ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ؛ أخُو أبِيهَا.. وبالنسبة لمحمد فيكون : الأبُ الثَّالثُ لِوَرقةَ هو الأخُ للأبِ الرَّابِعِ لِرَسولِ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-
[(***)] الكتاب المقدس الذي بين أيدي المسيحيين ينقسم إلىٰ العهد العتيق؛ ويحوي علىٰ الأسفار المقدسة عند اليهود؛ والقسم الثاني العهد الجديد.. لذا فيمكن القول بأن مَن يطلع علىٰ كتاب المسيحيين المقدس يتمكن مِن معرفة توراة موسىٰ..[وهذه المسألة ستبحث-من بعدإذنه تعالىٰ- في ملحق نهاية البحوث حول الكتاب المقدس؛ إذ أن هناك تعريف -عندهم- بالنبي الخاتم كما جاء واضحاً في القرآن الكريم؛ وهو قطعي الثبوت أنه جاء من عند الله؛ وآية سورة الصف [رقم : 6] قطعية الدلالة؛ إذ أنها تقول: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ { مُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين} [الصف:6].. والظاهر من سياق الآية أنه -عليه السلام- بشرهم بنبي سيأتي من بعده وسماه بالصفة لهم-عليهما الصلاة والسلام- ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورقة بن نوفل..
فــ:" الأمر إذاً يحتاج إلىٰ رجل له خبرة بالديانات والنبوّات، ومعرفة بأخبار الأنبياء وعلمهم، ومِن ثم رأت أن تستعين في ذلك بابن عمّها ورقة بن نوفل، الذي عنده علم بالأديان السماوية السابقة.."..
فنسمع منه -وهو رجل العلم- شهادته بنبوة خاتم الأنبياء ورسالة آخر الأنبياء.. فيخبره أن هذا هو الوحي الذي يجيئُ به جبرائيل ليبلغه لكافة الأنبياء ويخبر به كل المرسلين مِن قَبْلِه.. وأنه سيكون النبيَّ لهذه الأمة.. ثم تأتي مفاجأة في قول الحبر ورقة؛ بل الأدق تنبؤات مِن قول العالِم الخبير الحكيم الذي يعرفُ سُنَّة الله في الناس وصراع الباطل ضد الحق علىٰ مرَّ التاريخ.. قال ورقة : „ والّذي نفسي بيده! إنّك لنبيّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسىٰ، وإنّ قومك : « أ » ؛ سيكذّبونك، و : « ب » ؛ يؤذونك، و : « ج » ؛ يخرجونك، و : « د »يقاتلونك ” ؛ فَقالَ ورَقَةُ : „ هذا النَّامُوسُ[(*)] الذي أُنْزِلَ علَىٰ مُوسَىٰ، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا[(**)]، أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ” ؛.. وقد تعجّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال ورقة له ذلك، لمعرفته بحب وتقدير قريش له، فلم يكن ينادونه إلا بــ : « الصّادق » : « الأمين » ؛ وهذا استفهام إنكاري علىٰ وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوه مِن حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل مِن غير سبب، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن منه فيما مضىٰ ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجاً، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلىٰ الدرجات [أنفسنا له الفداء -صلى الله عليه وسلم-] ".. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- سائلاً بدهشةٍ : « „ أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟” » ؛ [(***)].. فَقالَ ورَقَةُ : „ نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ[(****)]، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ” .
.. بيَّنَ الحديث سُنة مِن سنن الأمم مع مَن يدعوهم إلىٰ توحيد الله -عز وجل- وهي التكذيب والإخراج، كما قال -تعالىٰ- عن قوم لوط: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا..} { أَخْرِجُوا } آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ.}[النمل: 56].
وكما قال قوم شعيب: { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ }{ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ } وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ.}[الأعراف: 88].
وقال -تعالىٰ-: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ { لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا } أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ.}[إبراهيم: 13].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] «هذا النَّاموسُ» أي: جبريلُ، الذي أُنزِلَ علىٰ موسىٰ.
[(**)] ثم قال للنبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-:" لَيْتني في مُدَّةِ النبوَّةِ -أو الدَّعوةِ- «جَذَعًا»، أي: شابًّا قويًّا، والجَذَعُ: الصَّغيرُ مِنَ البهائِمِ".
[(***)] قال ابن حجر في الفتح [ج: (1؛ ص: (79)] : قوله: «أوَ مخرجِيَّ هم» بــ فتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فــ هم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، قاله ابن مالك، وكأن النبي يومها -صلى الله عليه وسلم- يسأل: لمَ سيُخرجونني؟.. وما الذنب الذي اقترفته؟.. وما الجريمة التي ارتكبتها ؟.. أيُّ مالٍ أخذتُ؟.. وأيُّ دمٍ سفكت حتىٰ يُحال بيني وبين وطني؟!؟؟.. ثم دارت الأيام وأخبرتنا سيرته العطرة؛ أنه ما عُوديَ إلا لأنه جاء بالحق؛ والحقُ أثقل علىٰ الطغاة من الجبال الحاملة للحديد!..".
[(****)] فأجابه وَرَقةُ: نعمْ؛ لم يَأتِ رَجُلٌ بما جِئتَ به مِنَ الوَحيِ إلَّا أوذِيَ وعُودِيَ؛ لأنَّه يدعو النَّاسَ إلىٰ دينٍ جديدٍ علىٰ غيرِ ما أَلِفوه واعتادوه..
يعني: أن أهل الحق لا يخلون من أهل الباطل يعادونهم.. ولله در القائل:
إن العَرَانين تَلْقَاها مُحَسِّدةً * ولن تَرَى للئام الناس حُسَّادَا [الوزير المهلبي]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. ثم أُكمل معكم المشاهد التي مرت علىٰ حضرة المصطفى:
فنراهُ -عليه السلامات والصلوات المباركات والتكريم والانعام-
- محاصراً في شعب أبي طالب..
- مرجوماً بالحجارة في الطائف بعد أن رُدَّ رَدا غير جميل..
- ممنوعاً مِن دخول مكة..
- مُتآمراً عليه ليُقتل.. فيتفرق دمه الطاهر بين القبائل..
- مُطارَداً يوم الهجرة..
ونسرع الخطىٰ.. ونتعدى المرحلة المكية إلىٰ العهد المدني.. فنراه :
- يمسح دمه-الشريف- عن وجهه يوم أُحد..
- شاكياً سماً دسَّته له -زينب- امرأة يهودية..
ثم
- اراد القوم هدم جدار يجلس بجواره..
فــ
كم تعبَ -عليه السلام-ليكون لكم ديناً صالحاً للإنسان.. مناسباً للبشر.. قابلا للتفكر فيه.. سهلا العمل به..
فــ الهِجرةُ لم تكن فراراً مِن الموت كما تهرب الفرائس مذعورة مِن صياديها.. ولم تكن هرباً وخوفاً ورعباً.. للتمتع بزهرة الدنيا ولكنهم هاجروا ليستعدوا للعودة في ظل دين الله المنتصر والمرفوعة راياته..
هذه هي الهجرة الحقيقة !..
وكلما أمعنا النظر في الهجرة النبوية وجدنا : « المجهود الفردي » ؛ في تلك الهجرة العظيمة التي غيرت مجرىٰ التاريخ..
ولعلنا جميعاً في احتياج شديد إلىٰ إعادة النظر في قول القِس ورَقة -رضي الله عنه- حين قال لمحمدٍ في الحظة الأولىٰ مِن الرسالة الخالدة؛ وهو الذي : كانَ { شَيْخًا كَبِيرًا } قدْ { عَمِيَ.} :إذ أنه قال: { وإنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا }.
إذاً.. أسلم ورقة بن نوفل وآمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن كثير:" وقولها: ثم لم ينشب ورقة أن توفيَّ، أي: توفي بعد هذه القصة بقليل -رحمه الله ورضي عنه-، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد، وإيمان بما حصل من الوحي ونية صالحة للمستقبل".
وقال ابن حجر: " فهذا ظاهره أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل أن يدعو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى الإسلام".
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ورقة من أهل الجنة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « „ لا تسبُّوا ورقة بن نوفل، فإني قدْ رأيتُ له جنة أوْ جنتين ” » ؛ [رواه الحاكم وصححه الألباني].
قال الحافظ العراقي: " هذا شاهد لما ذهب إليه جَمْعٌ مِن أنَّ ورقة أسلم عند ابتداء الوحي ".
وكان ورقة بن نوفل يقول فيما ذكرت له خديجة-رضي الله عنها- من أمر جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روى البيهقي في "دلائل النبوة"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والسيوطي في "الخصائص الكبرى" وغيرهم:
يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْقَدَرِ * وَمَا لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ مِنْ غِيَرِ
حَتَّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا * أَمْرًا أُرَاهُ سَيَأْتِي النَّاسَ مِنْ أُخَرِ
وخبرتني بِأَمْرٍ قَدْ سَمِعْتُ بِهِ فِيمَا * مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَالْعُصُرِ
بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ * أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْبَشَرِ
فَقُلْتُ: عَلَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ لَكِ * الْإِلَهُ فَرَجِّي الْخَيْرَ وَانْتَظِرِي
وَأَرْسِلِيهِ إِلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ * عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النَّوْمِ وَالسَّهَرِ
فقال حِين أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَباً * يَقِفُّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشَّعَرِ
إِنِّي رَأَيْتُ أَمِينَ اللَّهِ وَاجَهَنِي * فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ مِنْ أَعْظَمِ الصُّوَرِ
ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَكَادَ الْخَوْفُ يَذْعَرُنِي * مِمَّا يُسَلِّمُ مِنْ حَوْلِي مِنَ الشَّجَرِ
فقُلْتُ: ظَنِّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي * أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ يَتْلُو مُنْزَلَ السُّوَرِ
وَسَوْفَ يبليك إِنْ أَعْلَنْتَ دَعْوَتَهُمْ * مِن الْجِهَادِ بِلَا مَنٍّ وَلَا كَدَرِ
فهذا القِس الحبر فقد بصره في كبره ولكنه لم يفقد البصيرة.. ما جعله بما أتاه الله -تعالىٰ- من فضل في العلم أن يؤمن بخاتم الأنبياء ويعتقد في نبوة آخر الرسل.. فــ يبشره بأنه نبي هذه الأمة؛ بل أنه سينصره ويقف بجواره حين يكلف بالرسالة!
- فهل نحن (مليار وسبعمائة مليون مسلم) وقد عايشنا الإسلام سننصره نصرا مؤزراً ..
فعُضُّوا عليه بالنواجذ!.
-*/*-
تتبقىٰ مسألة قبل الإنتهاء مِن أحداث العهد المكي تكلم فيها مَن ليس لديه علم؛ ألا وهي:
.. ".. ثم أخبَرَ الزُّهريُّ أنَّه بلغه أنَّه احتبَسَ جبريلُ ولم يَنزِلْ بالوَحيِ مُدَّةً قُرابةَ ثَلاثِ سَنواتٍ، حتىٰ حَزِنَ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- «حُزنًا غَدَا منه مرارًا»، أي: ذَهَبَ بِسَبَبِ ذلك الحُزنِ عِدَّةِ مَرَّاتٍ؛ كي يُسقِطَ نَفْسَه مِن رُؤوسِ مُرتَفعَاتِ الجِبالِ العاليةِ، فكلمَّا وصل إلىٰ أعلىٰ الجَبَل لكي يُلقِيَ منه نَفْسَه، ظهر له جِبريلُ، فقال : „ يا محمَّدُ، إنَّك رَسولُ اللهِ حقًّا ” ؛ فيَسكُنُ لذلك اضْطرابُ قَلْبِه، وتهْدأُ نَفْسُه، فيَرجِعُ، فإذا طالتْ عليه مُدَّةُ انقِطاعِ الوَحْيِ فَعَل مِثْلَ ذلك، ويظهَرُ له جِبريلُ ويخبرُه بأنَّه رَسولُ الله حقًّا، فتَسكُنُ نَفْسُه وتَهدَأُ.
وفي هذا : { شُبهةُ }: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حاوَلَ : „ الانتحارَ ” ؛ وهذا مِن ضُروبِ الخَيالِ والتَّلفيقِ؛ لعِدَّةِ أسبابٍ:
- أولًا: لم يَرِدْ عنه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أو عن صَحابَتِه المقَرَّبِينَ له أو غيرِهم، في ذلك شَيءٌ لا صَحيحٌ ولا ضَعيفٌ.
- ثانيًا: أنَّ مِن بَعدِ قَولِ عائشة: «ثمَّ لم يَنشَبْ وَرَقةُ أنْ تُوفِّي» ليس من نَصِّ الحديثِ، ولكنَّه مِن كَلامِ الزُّهريِّ الذي أخبَرَ بالحَديثِ علىٰ أنَّه : { بلاغٌ } فليس علىٰ شَرطِ البُخاريِّ في شَيءٍ؛ لأنَّها مَقطوعةُ الإسنادِ مِن أوَّلِها.
- ثالثًا: روىٰ البُخاريُّ حَديثَ نُزُولِ الوَحيِ أكثَرَ مِن مَرَّة دونَ ذِكرِ هذه القصَّةِ. ".
هذا والله تعالىٰ أعلم وأحكم؛ ومنه الهداية والصلاح والتوفيق فعليه توكلت.. فهو نعم المولىٰ ونعم النصير!
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية الشريفة
[ ١٢ ].الْمُجَلَّدُ الثَّانِي عَشَرَ
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
بحوث : « يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ السُّنَّةِ
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ.
(١) الْبَابُ الْأَوَّلُ: سيَخرُج مِن بلده مُهاجِرًا.
الزمن:1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة~ الطريق إلىٰ يثرب
‏الثلاثاء‏، 17‏ أيار‏، 2022 م
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)

أعلى الصفحة

s﴿ ١٢٠ ﴾ ائْتِمَارُ قُرَيْشٍ بِهِ-ﷺ لِقَتْلِهِ[(1)]

لحظة ما قبل الآخيرة:
ضاقت قريش ومَن والاها ذرعاً بصاحب الدين الجديد وباطروحاته المخالفة لما عندهم مِن عقائد ومفاهيم.. وقيّم ومقاييس؛ وافكار ووجهة نظر في الحياة.. ثم ضاقت ذرعاً بأتباعه ومِن ثم زيادتهم يوماً بعد يوم.. ثم بلغ السيل الزبىٰ عندما بلغ اسماعهم مقابلته لــ وفد يثرب وما جرىٰ بينهم وبين صاحب الدين الجديد؛ وقد باءت بالفشل كل محاولات :«„ التصفية المعنوية ”» بإتهامات باطلة وأكاذيب مضللة وتشويه لسمعته فلم تتبقىٰ إلا محاولة آخيرة يائسة: «„ التصفية الجسدية.. القتل..”»..
.. علمتْ قريش بــ أَذِنِ رَسُولِ اللّهِ -ﷺ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » / الْمَدِينَةِ فَبَادَرَ النّاسُ إلَىٰ ذَلِكَ فَــ خَرَجَ النّاسُ أَرْسَالًا يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَ
فـ لَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَسُولُ اللّهِ -ﷺ وَأَبُوبَكْرٍ .. وَعَلِيّ .. أَقَامَا بِأَمْرِهِ لَهُمَا.. وَإِلّا مَنْ احْتَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ كَرْهًا.. وَقَدْ أَعَدّ رَسُولُ اللّهِ -ﷺ جِهَازَهُ يَنْتَظِرُ مَتَىٰ « يُؤْمَرُ » بِالْخُرُوجِ.. وَأَعَدّ أَبُوبَكْرٍ جَهَازَهُ.
-*/*-
.. ومن المفارقات العجيبة أن رسولَ الله -ﷺ عُرف بين النّاس كافة؛ ومنذ طفولته بالصّدق والأمانة، وقد أقرّ بذلك جميع النّاس حتىٰ مَن كان يكفر به وبدعوته، حتىٰ قال له أبوجهل ذات يوم :„ إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ ”؛ [ حديث عليٍ هذا أخرجه الحاكم. وقال : صحيح علىٰ شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ وروىٰ الترمذي عن علي: أن أباجهل قال له.. الحديث المذكور.. فأنزل الله فيهم: { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ }.. وسأل هرقل أباسفيان:„ هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ ”؛ قال:„ لا ”.. أما ما رواه : أَبُو مَيْسَرَةَ فـ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالُوا:„ يَا مُحَمَّدُ ، وَاللَّهِ مَا نُكَذِّبُكَ وَإِنَّكَ عِنْدَنَا لَــ. :«„ صَادِقٌ ”»؛ ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ ”».
فــ كان اتّصافه بالصّدق والأمانة سبباً لأن يرجع النّاس إليه ليحكم في الأحداث الواقعة فيما بينهم قبل الإسلام، وبعد البعثة لمّا أجمع كفار قريش علىٰ قتله وقرّر الخروج من مكة المكرمة إلىٰ يثرب/المدينة المنورة مهاجراً، ترك خلفه عليّ بن أبي طالب -رضيَ الله عنه- مِن أجل أن يُعيد الأمانات إلىٰ أهلها.
..وقد أرسلته :«„ خديجة ”» -قبل زوجها مِن الشاب محمد؛ وقبل إسلامها- مع غلامها ميسرة في تجارة لها، فرأى منه ميسرة في الخروج معه ما اتّصف به من مكارم الأخلاق ومحاسنها، فلمّا عاد أخبر خديجة بما رأى منه، فرغبت بالزّواج منه، فقبل رسول الله وتزوجها.
.. وراجع موقف التحكيم يوم بناء الكعبة كانت قبائل قريش تتنافس فيما بينها أيّها يخدم الكعبة ويقوم ببنائها، حتىٰ قسمّوا مهمة بناء الكعبة فيما بينهم ولكل واحد منهم ناحيةً منها يقوم ببنائها، وبدأ كلّ منهم ببناء الجزء المخصّص لهم، إلّا أنّهم لمّا وصلوا عند الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه بيده، وكادت الحرب أن تقوم بينهم، إلّا أنّهم أدركوا مخاطر الحرب ونتائجها إن قامت. وتحكّموا إلىٰ « حذيفة بن المغيرة »؛ فأشار عليهم أن يجعلوا أمرهم إلىٰ أوّل مَن يدخل من باب „ بني شيبة ”؛ وكانوا يسمّونه باب :„ عبدشمس ”؛ فكان سيّدنا :«„ محمّد ”» أوّل مَن دخله، فأخبروه بأمرهم، فأمر بثوب ووضع فيه „ الحجر الأسود ”؛ وأمر القبائل جميعها أن تحمل الثوب، فتقع مهمة رفع الحجر منهم جميعاً.
.. أخلاق النبي الكريم قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- :«„ بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ ”»؛ وقال -تعالىٰ-: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } فقد كان رسول الله أحسن النّاس أخلاقاً..
إذاً فقد عُرف بأمانته وصدقه بين النّاس قبل بعثة الله -تعالىٰ- له وبعدها، ومنذ شبابه عُرف في قريش باتّصافه بمكارم الأخلاق.
.. يقول محمد رشيد رضا -تلميذ محمد عبده- رحمهما الله تعالى- " جاء في «دائرة المعارف البريطانية» في ترجمة حياته -ﷺ- أن تسميته بــ :«„ الأمين ” مأخوذة مِن اسم أمّه (آمنة) وإن كان العرب لا يجعلون علاقة بينهما في هذه التسمية، هذا ما زعمه كاتب الترجمة في دائرة المعارف البريطانية فهو يريد أن يقول: إن العرب لم يسموه أميناً لأمانته بل لأن اسم والدته آمنة فلا فخر ولا فضل.. والحقيقة التاريخية هي أنه -ﷺ- سُمي أميناَ لأمانته ولذا استخدمته خديجة في تجارتها فربحت ربحا طائلا ثم تزوجته لثقتها به، وكانوا يستأمنونه علىٰ ودائعهم وقد جعله قومه حكما بينهم في بناء الكعبة عن طيب نفس، قال المسيو سيديو Sedillot في كتابه «تاريخ العرب»: «ولما بلغ محمد من العمر خمسا وعشرين سنة استحق بحسن سيرته واستقامة سلوكه مع الناس أن يلقب (بالأمين). وقال موير Muir: إنه لقب بالأمين بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه. وكتب لفظة أمين بالإنجليزية هكذا: Faithful.
وكان أهل مكة يستأمنونه -ﷺ- ويودعون عنده ودائعهم إلىٰ أن هاجر إلىٰ المدينة وترك علياً مكانه فبقي حتىٰ رد الودائع إلىٰ أربابها ثم هاجر. ". انتهى النقل من عند رشيد رضا..
.. ولو كان محمد بن عبدالله -الفرد والإنسان وليس النبي الرسول- يَعبد شيئاً ما جديداً في بيته لم تكن قريش تنزعج لما يقوم به.. ولو كان هذا الشئ يخرجه من حين إلىٰ حين يضعه في فناء منزله لم تكن قريش تنزعج.. فإذا تجمع المارة أمامه ثم تركوه ولم يهتموا بالأمر لم تكن قريش تنزعج.. إذ ليس هناك استعلان أو دعوة..
.. وحادثة أبي بكر توضح تماماً ما أزعجهم.. فـ وفق الرواية التي جاءت في بحث :" [محاولة الصديق للهجرة؛ [ ٧ ] الْمُجَلَّدُ السَّابِعُ مِنْ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛" الْهِجْرَةُ ؛ الْبَابُ الْأَوَّلُ: محاولة الصديق للهجرة؛ عَزْمَ الصِّدِّيقِ عَلَىٰ الْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ؛ ترقيم [ ٩٣ ] آستروعرب نيوز] :" .. فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ،حَتَّىٰ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ [ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً] فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وقَامَ ابْنُ الدَّغِنَةِ.. فَقَالَ لَهُمْ :„ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ أَبَابَكْرٍ لَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلَا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ!.. إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَا يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِخَيْرٍ ”؛ [فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ ] ، قَالَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا - :«„ فَكَفُّوا عَنْهُ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَّةِ ”».. وَقَالُوا لَهُ.. فــ اشترطوا التالي :
1.]. مُرْ أَبَا بَكْرٍ [ فَلْــ ] يَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَــ
2.]. لْيُصَلِّ [ فِيهَا ] وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَ
3.]. لَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَ
4.]. لَا يَسْتَعْلِنُ بِهِ، وعللوا ذلٰك
فَــ
1.]. إِنَّا نَخْشَىٰ أَنْ يُفْتَنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا .
فَقَالَ ذَلِكَ [ ابْنُ الدَّغِنَةِ ] لِأَبِي بَكْرٍ .
فَــ
لَبِثَ [ أَبُوبَكْرٍ ] يَعْبُدُ رَبَّهُ [ فِي دَارِهِ ] وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ.. ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَىٰ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَيُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ..
قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا -. :«„ وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَىٰ. فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ [ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ ] نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ ”»؛
قَالَتْ :«„ فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ، يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ”»؛ [وَكَانَ أَبُوبَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً].. فَكَانَ أَبُوبَكْرٍ لَا يَكَادُ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ [الْقُرْآنَ]، فَــ
1.]. أَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ.
قَالَتْ عَائِشَةُ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ و - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا -:«„ فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَىٰ ابْنِ الدَّغِنَّةِ، وَأَرْسَلُوا إِلَيه، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ :„ [ إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَابَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَىٰ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَىٰ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ فِي الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتَتِنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا، فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَىٰ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَعَلَ، وَإِنْ أَبَىٰ إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، وأَنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ،فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ ” .
وأضافوا: إِنَّكَ لَمْ تُجِرْ هَذَا الرَّجُلَ لِيُؤْذِيَنَا، إِنَّهُ رَجُلٌ إِذَا صَلَّىٰ وَقَرَأَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ يَرِقُّ، وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ، فَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ عَلَىٰ صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضُعَفَائِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ، فَأْتِهِ فَمُرْهُ بِأَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا -: فَمَشَىٰ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَيْهِ.. فَأَتَىٰ ابْنُ الدَّغِنَّةِ أَبَابَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَىٰ ذَلِٰكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ..
فَقَالَ: يَا أَبَابَكْرٍ إِنِّي لَمْ أُجِرْكَ لِتُؤْذِيَ قَوْمَكَ، وَقَدْ كَرِهُوا مَكَانَكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ، وَتَأَذَّوْا بِذَٰلِكَ مِنْكَ، فَادْخُلْ بَيْتَكَ فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: [ فَإِنِّي ] أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَىٰ بِجِوَارِ اللَّهِ - تعالىٰ- ... وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ.
.. فالإشكال عند قريش يعود إلى الإستعلان؛.فــ لو سكن أبوبكر في بيته يعبد ما يعبد دون الإعلان ما كان رد فعل قريش كما حدث في هذه الرواية..
.. إشكال قريش ومن معها ومن وقف خلفها أو بجوارها.. إشكالهم جميعاً يبدء عند نقطة بعينها.. يكشفها لنا القرآن الكريم المنزل من فوق سبع سماوات طباقاً فــ :" لمَّا أمر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يصدع بالدعوة في قوله -تعالىٰ-: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الحجر:94]، جهر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، وبيَّن لقومه ما هم فيه مِن :
- الضلالة و
- الشرك، و
- الجهل و
- الخرافات، ولمّا لم يستطيعوا أن يواجهوا الحُجَّة بالحجة، جاهروه بالعداوة، وعزموا علىٰ مخالفته، عصبيةً وجهلاً، وحسداً وحقداً، وتعرضوا له بالسب والشتم مِن أول لحظة دعاهم فيها، وكان من أوائل وأشد مَن تعرض له -صلى الله عليه وسلم- بالسب والإيذاء عمه[ * ] أبولهب وزوجته[ * ] أم جميل ـ حمالة الحطب ـ، وقد نزل فيهما قول الله تعالى: { تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ * سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [المسد: 1: 5].
وحين علمت أم جميل ما نزل فيها وفي زوجها مِن آيات قرآنية ذهبت إلىٰ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس عند الكعبة ومعه أبوبكر الصديق -رضي الله عنه-، وفي يدها فهر مِن حجارة، فلما وقفت عليهما قالت :„ يا أبابكر، أين صاحبك؟؛ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ”؛ ثم انصرفت، فقال أبوبكر :„ يا رسول الله أما تراها رأتك؟ ”؛ فقال :«„ لقد أخذ الله ببصرها عني ”»؛ وكانت تنشد وتقول:
مذمم أبينا ..
ودينه قلينا ..
وأمره عصينا ..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه عن سب وشتم أم جميل وغيرها من المشركين له :«„ ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتِمُون مُذَمَّماً، ويلعنون مُذَمَّماً، وأنا محمّد ”»؛) رواه البخاري)
. لما عاد رسول الله آسفا من عناد قومه وتشبّثهم بالكفر قال أبوجهل ( عمرو بن هشام ) :„ يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ” [رضا؛ سيدننا محمد].
محاولات عدة لإسكات صوت الحق وإطفاء نور الفرقان..
فهل توقف عناد قريش!
كلا .. بل زاد بــ اتهام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنون والسحر والكهانة. والعياذ بالله..

.. لذا نجد إجمالا -بعد البعثة- محاولات :«„ التصفية المعنوية ”» بنعته بصفات تتنافي مع حضوره معهم وسلوكه ووصفهم اياه بالأمين ثم الإنتقال إلى بث الأكاذيب حوله والاتهامات الباطلة.. ثم بدأت محاولات :«„ التصفية الجسدية ”»..
-*//*-
اجْتِمَاعُ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ وَتَشَاوُرُهُمْ فِي أَمْرِ الرّسُولِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً..
فَــ
حَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَيْهِمْ وَعَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ أَجَمَعَ لِحَرْبِهِمْ.
فَــ
اجْتَمَعُوا لَهُ فِي « دَارِ النّدْوَةِ »- وَهِيَ دَارُ „ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ ” الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إلّا فِيهَا- يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حَيْنَ خَافُوهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا(!)، عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَبِي الْحَجّاجِ وَغَيْرِهِ مِمّنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمّا أَجَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي :« دَارِ النّدْوَةِ » لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الّذِي اتّعَدُوا لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمّىٰ :„ يَوْمَ الزّحْمَةِ ”؛ فَاعْتَرَضَهُمْ (إبْلِيسُ)(!!!) فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، بَتْلَةٌ فَوَقَفَ عَلَىٰ بَابِ الدّارِ فَلَمّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَىٰ بَابِهَا،
قَالُوا: مَنْ الشّيْخُ؟
قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ[(*)].. سَمِعَ بِاَلّذِي اتّعَدْتُمْ لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ.. وَعَسَىٰ أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا،
قَالُوا: أَجَلْ فَادْخُلْ..
فَدَخَلَ مَعَهُمْ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] صحيح السيرة النبوية العطرة في الهجرة النبوية الشريفة لا تثبت هذه الجزئية وتتعداها دون التعرض لها؛ ومَن تعرض مِن السادة العلماء في ذكر أحداث دار الندوة بالتفصيل كــ ابن إسحاق فتوجد علة في سند روايته مرجعها إلى جهالة شيخ ابن إسحاق؛ لذا فقد قال البيهقي :" ابن إسحاق إذا لم يُسمِّ مَن حدثه فلا يُفرح به"..
أما سند الطبري في تاريخه فقد سقطت الواسطة بين ابن إسحاق وبين ابن ابي نجيح؛ وعلة الإسناد أن شيخ الطبري هو محمد بن حميد بن حيان الرازي؛ وقد قيل فيه؛ ويكفي أن ذكره الذهبي في (الضعفاء والمتروكين).. وهذه القصة كما قال العوشن لم يرَ حسب علمه من صحح اسانيدها مِن أهل العلم مع أنها مشهورة في كتب السيرة؛ ويتناولها القصاص دون توضيح ويلقيها أناس منفوق منابر دون تحقيق.. لكن الشهرة للقصة لا تغني عن صحة الاسناد. وقد مالَ د. سليمان السعود إلى تقوية القصه بأمور ثلاثة .. بيد أن الشيخ محمد الصادق عرجون قال عن هذه القصة ومشاركة إبليس إنه ضرب من الخيال المجنون:" لأنه لم يثبت فيه خبر صحيح عن رسول الله وكان ما جاء فيه رواية مرسلة عن ابن عباس لم يثبت لها سند يمكن التشبث به والاعتماد عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ،
مِنْ :
(1) بَنِي عَبْدِشَمْسٍ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُوسُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ.
وَ
مِنْ :
(2) بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِمَنَاف: طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ.
وَ
مِنْ :
(3) بَنِي عَبْدِالدّارِ بْنِ قُصَيّ: النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ.
وَ
مِنْ :
(4) بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزّى: أَبُوالْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ.
وَمِنْ :
(5) بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُوجَهْلِ بْنِ هِشَام. وَ
مِنْ :
(6) بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ، وَ
مِنْ :
(7) بَنِي جُمَحٍ: أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَ
(8) مَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَا يُعَدّ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَــ
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ :„ إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ.. فَإِنّا وَاَللّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَىٰ الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدْ اتّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا ”؛
قَالَ فَتَشَاوَرُوا.
ثُمّ
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ :„ احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمّ تَرَبّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشّعَرَاءِ الّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنّابِغَةَ وَمَنْ مَضَىٰ مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتّىٰ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ ”؛
فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ(!!!): لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ. وَاَللّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الّذِي أَغْلَقْتُمْ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتّىٰ يَغْلِبُوكُمْ عَلَىٰ أَمْرِكُمْ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ ..
فَــ
تَشَاوَرُوا.
ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ :„ نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنّا فَوَاَللّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إذَا غَابَ عَنّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأَلْفَتْنَا كَمَا كَانَتْ ”؛
فَــ
قَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ(!!!): لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَىٰ قُلُوبِ الرّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ وَاَللّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ أَنْ يَحِلّ عَلَىٰ حَيّ مِنْ الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتّىٰ يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ ثُمّ يَسِيرُ بِهِمْ إلَيْكُمْ حَتّىٰ يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يَفْعَلَ بِكَمْ مَا أَرَادَ دَبّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا.
قَالَ فَقَالَ أَبُوجَهْلِ بْنُ هِشَامٍ:„ وَاَللّهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ ”؛
قَالُوا:„ وَمَا هُوَ يَا أَبَاالْحَكَمِ؟ ”؛
قَالَ:„ أَرَىٰ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ « سَيْفًا صَارِمًا »؛ ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَــ :« يَضْرِبُوهُ »؛ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَــ:„ يَقْتُلُوهُ »؛ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ. فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِمَنَافٍ عَلَىٰ حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ ”؛
قَالَ فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ(!!!): الْقَوْلُ مَا قَالَ الرّجُلُ هَذَا الرّأْيُ الّذِي لَا رَأْيَ غَيْرُهُ..
فَــ
تَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَىٰ ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(1)] « سيدنا محمد » صلى الله عليه وسلم؛ „ محمد رشيد رضا ”؛ فصل :„ الحض علىٰ قتله صغيرا ”..
و« كانت حليمةُ كلما مر جماعة مِن اليهود وحدثتهم بشأنه -ﷺ- حضوا علىٰ قتله.. وكلما عرضته علىٰ العرافين في الأسواق، صاحوا بقتله وكانوا يقولون :„ اقتلوا هذا الصبيّ .. فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم ”؛ و
عن حليمة -رضي الله عنها- أنه مر بها جماعة مِن اليهود فقالت:«„ ألا تحدثوني عن ابني هذا.. حملته أمه كذا.. ووضعته كذا.. ورأت عند ولادته كذا ”»؛ وذكرت لهم كل ما سمعته مِن أمه وكلّ ما رأته هي بعد أن أخذته وأسندت الجميع إلىٰ نفسها كأنها هي التي حملته ووضعته، فقال أولئك اليهود بعضهم لبعض:„ اقتلوه ”؛ فقالوا:„ أوَ يتيم هو؟ ”؛ فقالت:«„ لا، هذا أبوه وأنا أمه ”»؛ فقالوا:„ لو كان يتيما قتلناه ”؛ لأن ذلك عندهم مِن علامات نبوته، و
عن حليمة أيضا -رضي الله عنها- أنها نزلت به ﷺ بسوق عكاظ وكان سوقاً للجاهلية بين الطائف ونخلة -المحل المعروف- كانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذا السوق شهر شوال يتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون، فلما وصلت به حليمة سوق عكاظ رآه كاهن مِن الكهان فقال:„ يا أهل عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له مُلكا ”؛ فــ مالت به وحادت عن الطريق فأنجاه الله ». انتهى النقل من عند رشيد رضا.
[ * ] ينبغي أن نتوقف كثيراً أمام موقف العم تجاه ابن أخيه -غير الشقيق- خاصةً في مجتمع تغلب عليه العصبية القبلية والتناصر بمجرد صلة القرابة؛ وأترك بحث هذه الجزئية في ملف أخير-مِن بعد إذنه تعالىٰ وبتوفيقه ورعايته- تحت مسمىٰ شخصيات محورية.. إذا لو فرض -افترضه الكثير - أن أمن عم النبي بعد نزول هذه الآيات وأمنت زوجه لهدم جانب من جوانب الدين المتين؛ وكان تحدياً جديداً من رب محمد لقريش بواسطة نبيه الأمين.. .
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ
‏الجمعة‏، 29‏ شعبان‏، 1443


بحوث السيرة النبوية الشريفة
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
بحوث : « يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ السُّنَّةِ »
الزمن:1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة~ الطريق إلىٰ يثرب
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ
( ١١ ) : الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ٣ ) الْبَابُ الثَّالِث : ١٢٠« ائْتِمَارُ قُرَيْشٍ بِهِ-ﷺ لِقَتْلِهِ. «
حُرِّرَ في يوم الجمعة ٢٢ شعبان ١٤٤٣ مِن هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين (الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ) ~ الموافق ٢٥ مِن شهر مارس عام ٢٠٢٢ مِن الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول ﷺ-.

أعلى الصفحة

﴿ ١١٩ ﴾ مَنَازِلُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ.
الطريق إلىٰ « يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة.. دَارَ الْهِجْرَةِ .. دَارَ السُّنَّةِ
[١ ١ ] الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ

.. لحظةٌ فارقةٌ في حياة الشعوب.. ولحظةٌ مغايرةٌ في بناء الأمم؛ ولحظة تاريخية مذهلة في تشكيل مجتمع جديد علىٰ أساس جذري متين بتغيير كافةِ المبادئ.. وتعديل كل المفاهيم.. وإبدال قيم بآخرىٰ راقية.. ووضع مقاييس بدلاً مِن البالية والفاسدة.. وإحلال أفكار تتناسب مع فطرة الإنسان وتتفق مع غرائزه.. جديدة لم تعرف مِن قبل.. وأيضاً تعديل الأعراف والتقاليد والعادات وكل ما هو سائد في المجتمع المكي الأول.. في هذه اللحظة يعي الجميع فيلاحظ تلك التغيرات الطارئة علىٰ سلوك المؤمنين؛ والتعديلات الجوهرية القادمة.. وذلك الإبدال الجذري والإحلال في بناء المجتمع المدني الجديد بل قُل -وهذا الأدق- لحظةُ بناءِ شخصيةِ كيانٍ تنفيذي جديدٍ مغاير تماماً عن سابقة في كل شئ وفي كل أمر ويرافق بناء هذا الكيان الجديد بناء شخصيات بشرية؛ وإعادة تكوين نفسيات آدمية وعقليات إنسانية..
.. فالجميع يَقدمُ علىٰ بناء كيان إنسانٍ جديد.. يتشكل في التو بكل ما يمكن أن نقول عنه أنه جديد..
.. تلك اللحظة هي هجرة الصحابة الكرام مِن مجتمع مكة بكل ما فيه وما عليه إلىٰ مجتمع يثرب/المدينة المنورة -مدينة المصطفىٰ- بكل الجديد فيه.. والذي سيبدء في التشكيل مِن عميق وجذور أساسه إلىٰ قمة وأعلىٰ رأسه.. والتغيير سيتم وفق وحي السماء مِن خلال آيات التنزيل مِن خبير عليم حكيم -سبحانه وتعالىٰ- يلازم الآيات الكريمات السُنَّةُ العملية التطبيقية لسيد ولد -بني- آدم -ﷺ ولا فخر..
.. فنشاهدُ ونسمعُ ونرىٰ ونراقبُ ونلاحظُ هجرةَ رجالاتِ الرعيل الأول ونساءَ مِن صحابة النبي المرتضىٰ والرسولِ المجتبىٰ والحـبـيـبِ المصطفىٰ وخاتم الأنبياء المحتبىٰ وآخر المرسلين المفتدىٰ- -ﷺ ورضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين- :
* . ) سفير الإسلام الأول ومبعوث رسول الله: مُصْعَبِ بْنُ عُمَيْرٍ..
و
* . ) مقرئ القرآن الأول ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ..
وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ القرآنَ في يثرب قبل الهجرة المباركة ويمهدان الطريق لقدوم نبي آخر الزمان
و
* . ) هجرة المرأة الأولىٰ للمدينة أم سلمة.. بطفلها بعد أن سبقها زوجها..
ثم
* . ) بلال.. فسعد فعمار بن ياسر..
و
* . ) هجرة مَن نزل فيهم القرآن مِن فوق سبع سماوات طباقاً.. أمثال : هِشَام بن الْعَاصِ، وَعَيَّاش ابْن أَبى ربيعَة
و
* . ) هجرة فاروق هذه الأمة المرحومة: عمر بن الخطاب -وزير الرسول؛ وخليفته الثاني زمن الخلافة الراشدة: أمير المؤمنين- وبجواره أبنته حفصة -زوج المستقبل للنبي- وقَدمَ معه ما يقارب مِن عشرين مِن صحابة الرسول الأعظم -ﷺ.
و
* . ) هجرة عثمانَ بن عفان -الخليفة الثالث في الخلافة الراشدة: ذي النورين-
و
* . ) هجرة - سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - قبل مهجر النبي -ﷺ
و
* . ) هجرة- صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ - وإن كان همَّ بالخروج مع النبي(!) ولم يتمكن.. تاركاً ماله وكل ما يملك..
و
* . ) هجرة أسد الله - حَمْزَة بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ - عم الرسول -ﷺ..
رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين..
.. جميعُهم تركوا الأهل والجيران والدار والجدران والمال..
.. وفارقٌ لا يقارب وحال لا يقارن بين هجرة المسلمين الأوائل -رضوان الله تعالىٰ عليهم أجمعين- وبين هجرة مسلمي -غفر الله لهم- هذا الزمان!..
أو قُل بالأدق لجوء -تهجير- مَن هُدمت أوطانهم ودمرت بلدانهم وفق مخطط مرسوم بدقة متناهية من تفريغ مناطق بعينها من أهلها؛ وخاصةً هجرة العقول العلمية ومَن تَحصل علىٰ دراسات أكاديمية.. ثم انظر كيف استقبل لاجئ (شرق أوسطي) وبين فار من نيران الجار علىٰ الحدود البولندية..
ولعل هذا -الوضع- يلزمنا إعادة النظر فيما يحدث لنا أو حولنا وفق معطيات سياسة اليوم وما نحمل في صدورنا مِن قرآن كريم وسنة شريفة!
-*//*-
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ المنورة:
.. أَذِنَ رَسُولُ اللّهِ -ﷺ لِلْمُسْلِمِينَ الأوائل بِالْهِجْرَةِ إلَىٰ الْمَدِينَةِ فَبَادَرَ النّاسُ إلَىٰ ذَلِكَ فَكَانَ
- أَوّلَ مَنْ خَرَجَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ « يثرب » أَبُوسَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ.. وَلَكِنّهَا احْتَبَسَتْ دُونَهُ.. وَمُنِعَتْ مِنْ اللّحَاقِ بِهِ سَنَةً(!).. وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا سَلَمَةَ.. ثُمّ خَرَجَتْ بَعْدَ السّنَةِ بِوَلَدِهَا إلَىٰ الْمَدِينَةِ.. وَشَيّعَهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ.
* . ) منزل أبي سلمة:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ أَبُوسَلَمَةَ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَبَنُو جَحْشٍ بِــ :« قُبَاءَ »؛ عَلَىٰ مُبَشِّرِ بْنِ عَبْدِالْمُنْذِرِ .
قَالَ: وَكَانَ بَنُو غَنْمِ بْنِ دُودَانَ أَهْلَ إِسْلَامٍ قَدْ أَوْعَبُوا إِلَىٰ الْمَدِينَةِ هِجْرَة رِجَالهمْ وَنِسَاؤُهُمْ..
ثُمّ خَرَجَ النّاسُ أَرْسَالًا يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَ
لَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَسُولُ اللّهِ -ﷺ .. وَأَبُوبَكْرٍ وَعَلِيّ -رضي اللَّهُ عنهماَ- أَقَامَا بِأَمْرِهِ لَهُمَا وَإِلّا مَنْ احْتَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ كَرْهًا..
وَ
قَدْ أَعَدّ رَسُولُ اللّهِ -ﷺ جِهَازَهُ يَنْتَظِرُ مَتَىٰ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ..
وَ
أَعَدّ أَبُوبَكْرٍ جَهَازَهُ. [(1)]
﴿ * * * ﴾
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَيَّاشُ بن أَبى ربيعَة، حَتَّىٰ قدما الْمَدِينَة.[(2)] .. يقول عمر :" فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِـ:« قُبَاءَ" [(3)]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَدِينَةَ هُوَ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَمْرٌو وَعَبْدُاللَّهِ ابْنَا سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ -وَكَانَ صِهْرَهُ- زَوْجُ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَر، -فَخَلَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ -ﷺ بَعْدَهُ-، وَابْنُ عَمِّهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ التَّمِيمِيُّ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَخَوْلِيُّ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ.. حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ بَنِي عِجْلٍ، وَبَنُو الْبُكَيْرِ : إِيَاسٌ وَخَالِدٌ وَعَاقِلٌ وَعَامِرٌ، وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، فَنَزَلُوا علىٰ رِفَاعَة عبدالْمُنْذر بن زنير فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِــ :« قُبَاءَ »..
وتمام قصة هجرة عمر ومن اتفق معه :
قَالْ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ :«„ فَرَجَعْتُ إِلَىٰ بَعِيرِي فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ”».
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِهِشَام بن الْعَاصِ، وَعَيَّاش ابْن أَبى ربيعَة إِلَىٰ الْمَدِينَة :„ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ”؛ سَرَقَهُمَا مِنْ مَكَّةَ وَقِدَمَ بِهِمَا يَحْمِلُهُمَا عَلَىٰ بَعِيرِهِ وَهُوَ مَاشٍ مَعَهُمَا، فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا أصْبع دميت * وَفِي سَبِيل الله مَا لقِيت
﴿ * * * ﴾
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُوالْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنَا أَبُوإِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ قَالَ:" أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عَمَّارٌ وَبِلَالٌ.. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن أَبى إِسْحَاق، سَمِعت الْبَراء [(4)] ابْن عَازِبٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ،
ثُمَّ
قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ نَفرا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ
قَدِمَ النَّبِيُّ -ﷺ ، فَمَا رَأَيْت أهل الْمَدِينَة فرحوا بشئ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -ﷺ ، حَتَّىٰ جَعَلَ الْإِمَاءُ يَقُلْنَ: " قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ ، فَمَا قَدِمَ حَتَّىٰ قَرَأت " سبح اسْم رَبك الْأَعْلَىٰ " فِي سُورٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ.. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بِنَحْوِهِ.
وَهناك تَّصْرِيحُ بِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ هَاجَرَ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَعَمَ مُوسَىٰ بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ بَعْدَ رَسُولِ -ﷺ ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ.
﴿ * * * ﴾
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
. * . ): [مَنْزِلُ طَلْحَةَ وَصُهَيْبٍ]:
فَنَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ عَلَىٰ خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِــ:« السَّنْحِ »؛.
وَيُقَالُ: بَلْ نَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللّهِ عَلَىٰ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ أَخِي بَنِي النّجّار ِ.. [(5)]
* . ] صُهَيْبٌ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ:„ أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا وَبَلَغْتَ الَّذِي بَلَغْتَ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِكِ وَنَفْسِكَ؟ ! وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ”؛.
فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: «„ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟ ”»؛
قَالُوا :„ نَعَمْ ”؛
قَالَ:«„ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي ”»؛.
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ فَقَالَ:«„ رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ ”»؛.
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَافِظُ أَبُوعَبْدِاللَّهِ، إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُوالْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مِيكَالَ، أخبرنَا عَبْدَانِ الاهوازي، حَدثنَا زيد بن الجريش، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ صُهَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي وَعُمُومَتِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ:«„ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ سَبْخَةً بَيْنَ ظَهَرَانِي حَرَّتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ :« هَجَرَ »؛ أَوْ تَكُونُ:«يَثْرِبَ » ”»؛.
يُكملُ صهيب روايته.. قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَىٰ الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُوبَكْرٍ، وَكُنْتُ قَدْ :« هَمَمْتُ » مَعَهُ بِالْخُرُوجِ فَصَدَّنِي فِتْيَانٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَعَلْتُ لَيْلَتِي تِلْكَ أَقُومُ لَا أَقْعُدُ، فَقَالُوا:„ قَدْ شَغَلَهُ اللَّهُ عَنْكُمْ بِبَطْنِهِ ”؛.
«„ وَلَمْ أَكُنْ شَاكِيًا ”»؛ فَنَامُوا.
.. فَخَرَجْتُ ولحقني مِنْهُم نَاس بعد مَا سرت يُرِيدُونَ ليردوني، فَقلت لَهُم :«„ إِن أَعطيتكُم أواقى من ذهب وتخلون سبيلى وتوفون لِي؟ ”»؛ فَفَعَلُوا فَتَبِعْتُهُمْ إِلَىٰ مَكَّةَ.
فَقُلْتُ:«„ احْفُرُوا تَحت أُسْكُفَّة الْبَاب فَإِن بهَا أَوَاقِيَ، وَاذْهَبُوا إِلَىٰ فُلَانَةَ فَخُذُوا الْحُلَّتَيْنِ ”»؛.
وَخَرَجْتُ حَتَّىٰ قَدِمْتُ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِــ:« قُبَاءَ » قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، [(6)]
فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:«„ يَا أَبَا يَحْيَىٰ رَبِحَ البيع ”»؛ فَــ
قُلْتُ:«„ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أحد وَمَا أخْبرك إِلَّا جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ ”»؛
﴿ * * * ﴾
* . ): [مَنْزِلُ حَمْزَةَ وَزَيْدٍ وَأَبِي مَرْثَدٍ وَابْنِهِ وَأَنَسَةَ وَأَبِي كَبْشَةَ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنَّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ ابْنُ حُصَيْنٍ- وَابْنُهُ مَرْثَدٌ الْغَنَوِيَّانِ حَلِيفَا حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِالْمُطّلِبِ، وَأَنَسَةُ وَأَبُوكَبْشَةَ مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ عَلَىٰ كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِــ:« قُبَاءَ »؛ وَقِيلَ بَلْ نَزَلُوا عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ؛ وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِالْمُطّلِبِ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ أَخِي بَنِي النّجّارِ. كُلّ ذَلِكَ يُقَالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* . ):[ مَنْزِلُ عُبَيْدَةَ وَأَخِيهِ الطّفِيلِ وَغَيْرِهِمَا]:
قَالَ: وَنَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِب وَأَخَوَاهُ الطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَحُصَيْنٌ بْنُ الْحَارِثِ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْمُطّلِبِ؛ وَسُويْبِطُ ابْن سَعْدِ بْنِ حُرَيْمِلَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِالدَّارِ، وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَخَبَّابٌ مَوْلَىٰ عُتْبَةَ بْنِ غَزَوَانَ عَلَىٰ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ أَخِي بَلْعَجْلَانَ بِقُبَاءَ.[(7)]
* . ):[مَنْزِلُ عَبْدِالرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ]

وَنَزَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَىٰ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فِي دَارِ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ..
* . ):[مَنْزِلُ الزّبَيْرِ وَأَبُو سَبْرَةَ]:

وَنَزَلَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَأَبُوسَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ بْنِ عَبْدِالْعُزّى، عَلَىٰ مُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بِــ:« الْعُصْبَةِ »؛ دَارِ بَنِي جَحْجَبَى،
* . ):[مَنْزِلُ مُصْعَبٍ]:

وَنَزَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِالدّارِ عَلَىٰ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بْنِ النّعْمَانِ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ.
* . ):[مَنْزِلُ أَبِي حُذَيْفَةَ وعُتْبَةَ]:

وَنَزَلَ أَبُوحُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَالمٌ مَوْلَاهُ- مَوْلَىٰ أَبِي حُذَيْفَةَ-
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَالِمٌ مَوْلَىٰ أَبِي حُذَيْفَةَ سَائِبَةٌ لِثُبَيْتَةَ بِنْتِ يَعَارِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، سَيّبْته فَانْقَطَعَ إلَىٰ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَتَبَنّاهُ.. فَقِيلَ سَالِمٌ مَوْلَىٰ أَبِي حُذَيْفَةَ.. وَيُقَالُ كَانَتْ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارَ تَحْتَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ فَأَعْتَقَتْ سَالِمًا سَائِبَةً. فَقِيلَ سَالِمٌ مَوْلَىٰ أَبِي حُذَيْفَةَ- علىٰ سَلمَة.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بكر بن الْحَارِث بن زُرَارَة ابْن مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا عبدالْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْنَا [مِنْ] مَكَّةَ فَنَزَلْنَا :« الْعُصْبَةَ »؛ - مَوضِع بقباء.[(8)]-، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَسَالِمٌ مَوْلَىٰ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَكَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَىٰ أَبِي حُذَيْفَةَ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: عَلَىٰ خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ أَخِي بَنِي حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ عَلَىٰ عَبَّادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ- أَخِي بَنِي عَبْدِالْأَشْهَلِ فِي :« دَارِ عَبْدِالْأَشْهَلِ »؛ - فِي بَنِي عَبْدِالْأَشْهَلِ،
* . ):[مَنْزِلُ عُثْمَانَ]:

وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّان علىٰ أَوْس ابْن ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي :« دَار بنى النجار ».. فَلِذَلِكَ كَانَ حَسّانٌ يُحِبّ عُثْمَانَ وَيَبْكِيهِ حَيْنَ قُتِلَ.
-وَكَانَ يُقَالُ- قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ الْعُزَّابُ -الْأَعْزَابُ -مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَىٰ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
-*-*//-*-
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشريفة
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
بحوث : « يثرب » الْمَدِينَةَ المنورة دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ السُّنَّةِ »
الزمن:1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة~ الطريق إلىٰ يثرب
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ
( ١١ ) : الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ٢ ) الْبَابُ الثَّانِي : « مَنَازِلُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ. «
حُرِّرَ في يوم‏ الأربعاء‏، ٦ شعبان مِن السَنة الْهِجْرِيَّةِ ١٤٤٣ مِن هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين ~ الموافق ٩ من شهر مارس عام ٢٠٢٢ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول ﷺ.-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
: د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ؛ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِن ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِــالدِّيَارِ المِصْرَية الْمَحْمِيَّةِ -حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى-.

أعلى الصفحة

﴿ ١١٨ ﴾ هجرة الأنبياء:
(١١) [الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ]

﴿ ١ ﴾ مُقَدِّمَات هجرة النبي محمد-ﷺ !
.. مجموعة : „ المبادئ ” التي أُرسلتْ بها الأنبياء؛ وكُلفت بها المرسلين مِن قِبل خالق الإنسان للبشر أجمعين؛ وكتلة : „ القيم ” التي نادوا بها؛ وحزمة : „ المقاييس ” ؛ و : „ القناعات ” التي ساروا عليها.. تجدها واحدة عندهم -عليهم الصلاة والسلام- جميعاً؛ فعلىٰ لسانهم وحياً مِن ربهم -سبحانه- أحلَّ لهم الطيبات مِن الرزق؛ وحرم الخبائث: الخمر -مثلاً: مِن حيث المشروبات- والزنا ومقدماته -مِن حيث الإشباع الجنسي؛كـ ملامسة ذكر لـ أنثىٰ؛ أو اللواط -مِن حيث استعمال ذكر لمثله؛ أو السحاق: استعمال أنثىٰ لآخرىٰ- والخنزير -مثلاً: مِن حيث المطعومات-؛ وتغطية العورة-مِن حيث الملبوسات-؛ والاعتقاد بخالق -من حيث الإيمان باسمائه الحسنىٰ وصفاته العُلا- فهو -سبحانه- موجدُ الأشياء مِن عدم؛ رازقُ كل دابة؛ وهو -عز وجل- فردٌ ليس كمثله شئ؛ صمدٌ لا صاحبة له ولا ولد.. ومِن ثمَّ إخلاص عبادته وحده دون شريك أو مثيل أو شبيه.. كيفما ومتىٰ أمر؛ وبالكيفية التي وردت وبالطريقة التي جاءت عن نبيه -ﷺ .. وبالإجمال اجتمعوا جميعاً -عليهم السلام- علىٰ مبادئ وقيم ومقاييس وقناعات واحدة واتفقوا عليها.. بيد أنه -سبحانه- جعل لكلٍ منهم شرعةً ومنهاجاً.. والتُفصيل يأتي في موضع آخر.. ومن حكمته -سبحانه- أن خصَّ أنبياءَه بأقوامهم دون غيرهم؛ وأُرسل خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ومتمم المبتعثين-ﷺ للناس كافة.. وفي سيرتهم -عليهم الصلوات والسلامات والبركات والإجلال والإنعام- أنهم تقاربوا في أحداث منها:
هجرتهم مِن موطنهم إلىٰ بقعة آمنة..
*. ] وقد قَتل الناسُ مسألةَ : « „ الهجرة النبوية ” » بحثاً وغاصوا في أعماقها، ولم يتركوا زاوية من زواياها إلا أخرجوا خباياها؛ فــ لا أريد[(١)] أن أكتب علىٰ غرار ما كتب من قبل فأعيد ما بدائه غيري وأنا مولع بمعادة المعادات.. وأكره تكرار المعلومات المعروفة؛ والذي أريد أن أكتب عنه في مقدمة هجرة النبي هو : « „ هجرة الأنبياء” » الذين غبروا قبل رسول الله محمد-ﷺ وأنه ليس بدعاً من الرسل -عليهم الصلاة والسلام[(١)]-.
وهجرة خاتم الأنبياء ومتمم المبتعثين وآخر المرسلين-ﷺ هي :
* . ] سُنَّةُ إخوانِه مِن الأنبياء مِن قبله، فما مِن نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته[لم يجد بها قرار.]، فهاجر عنها، بدءاً مِن إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخليلِ الله، إلىٰ عيسىٰ كلمة الله وروحه ونبيه ورسوله، كلهم علىٰ عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أُهينوا مِن عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر علىٰ المكاره ما دام ذلك في طاعة الله -عز وجل-[(٢)]
* . ] فحين نتتبع سيرة الأنبياء سنجد أن الهجرة كانت سُنَّة ماضية علىٰ سائر المرسلين والنبيين.
وهنا يبرز سؤال:
لماذا كتب الله علىٰ أنبيائه الهجرة؟
.. يقول د. عبدالمقصود باشا، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية المتفرغ بكلية اللغة العربية بالقاهرة:
" إن كلمة الهجرة بمعناها الأعم والأشمل تكاد تكون قد كُتبت علىٰ معظم الأنبياء ".
" ولعلنا نتساءل:
لماذا هذا النوع مِن الابتعاد والغربة والبُعد عن الأوطان كُتب علىٰ خير الناس وهم الأنبياء؟[(٣)] ".
لذا فـــ
* . ] مِن أعظم الهجرات وأكرمها وأعلاها مقاماً هجرة الأنبياء وحملة الدعوة، وممن هاجر مِن الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وصالح وموسىٰ ومحمد -عليهم السلام- [(٤)]
فــ
* . ) أولُ الرسلِ الكرام هجرةً هو نوح -عليه السلام- فكانت هجرته حياةً له وهلاكاً لأعدائه[(١)].
ويستطرد د. عبدالمقصود باشا، قائلا: فإذا غصنا فى التاريخ قديما لوجدنا هجرة نبى الله نوح وتركه موطنه والبلاد التي نشأ وترعرع بها، وتكون هجرته فى سفينته إلىٰ أن تهبط علىٰ جبل الجودي[(٦)].
.. دعا نوحٌ قومه إلىٰ عبادةِ الله -تعالىٰ- وترك عبادة غيره من الأصنام والأوثان وصار يغاديهم بالنصح ويراوحهم بالعظات ألف سنة إلا خمسين، وهم لا يزدادون منه إلا بعداً ونفوراً إلىٰ أن ضاق صدره بما يلاقي منهم؛.ولم يجد باباً لهدايتهم إلا طرقه، ولا منفذاً لنصحهم إلا قصده، ولم يجد قومه باباً للنكاية به إلا ولجوه، ولا منفذاً لأغاظته إلا سلكوه. فتراهم يقولون له {.. مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين } [هود:27] فهم يرون أن الرسالة لا تكون للبشر بل للملائكة، والهداية لا يمكن أن ينالها الفقراء وذوو الأعواز، ولكنها وقف علىٰ ذوي الوجاهة والقوة، وأن الذي يريد الله أن يصطفيه إنما يكون من أهل الثراء والغنىٰ..
.. ولقد رد عليهم نوح بقوله: إنه لا يسألهم علىٰ الهداية التي يزفها إليهم أجراً. فهو لا يجرِ بذلك لنفسه نفعاً ولا يحوز مالاً، وإنما يريد أجرَهُ من الله { فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ }.. ولم يقل لهم إن عنده خزائن الله وليس عنده شيء من علم الغيب، ولم يقل لهم إنه ملك، ولا يقول للذين تزدري أعينهم من أتباعه لن يؤتيهم الله خيراً وهو الهدىٰ والاستقامة علىٰ الجادة،{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.. } وأن عِلْمَ ما في أنفسهم عند الله لا عنده {..وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ..} [هود:31] إلىٰ أن ضاق بالقوم وضاقوا به..{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا..} فقالوا له: { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين } [هود:32]، ودعا نوح عليهم: { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح:26] { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح:27] فأنبأه الله أن العذاب سيحل بهم، وأمره ألا يخاطبه فيهم وأنهم مغرقون. وأوحىٰ إليه أن يصنع الفلك لينجو بها من العذاب النازل بهم وليهاجروا بها عنهم.. صنع نوح الفلك وكان قومه يسخرون منه وهو يسخر منهم لغفلتهم عن أنفسهم وتفريطهم في حياتهم وعيرهم بعدم اتباعه إلىٰ أن جاء أمر الله وفار التنور، وتفجرت ينابيع الأرض، وحلت عزاليها السماء، وجاء الطوفان وأبادهم بعد أن نزل نوح والذين آمنوا معه في السفينة، وسلك فيها زوجين اثنين من كل ذي حياة، وانتهت هجرته من الأرض بعد سنة وعشرة أيام بعد أن استقرت السفينة علىٰ الجودي. فكانت هجرته ميمونةً عليه وعلىٰ مَن معه في السفينة وهلاكاً لأعدائه[(١)].
* . ) فعل أبو الأنبياء الأواه الحليم سيدنا إبراهيم- عليه السلام -[(٤)]
بدايةً: فقد ولد فى مدينة زأورس علىٰ شاطئ الخليج العربي، وعاش في العراق { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ..} [العنكبوت:26] [(٨)]
..كانت هجراته -عليه السلام- متعددة،فــ هاجر إلىٰ شمال العراق وبشر بدعوته، ولكنه لم يجد أي آذانٍ مصغية، حتىٰ إنه أُلقىٰ به فى جحيم الدنيا حينما أوقدوا له نارا عظيمة[(٨)].. فكانت هجرته العظيمة من بلاد العراق الىٰ بلاد الشام
.. فـ كانت هجرة إبراهيم بعد ذلك إلىٰ أرض كنعان فى فلسطين[(٨)]، ثم كانت هجرته بعد ذلك الىٰ بلاد النيل.. مِصر[(٨)]..
ثم عاد منها وقد أُهديت إليه السيدة هاجر..
ثم هاجر إبراهيم -عليه السلام- إلىٰ وادي مكة المكرمة مصطحبا ابنه إسماعيل والسيدة هاجر[(٨)].
.. وأودعَ زوجته وولده إسماعيل في وادي مكة•وكان من نسل إسماعيل العرب المستعربة[(٤)]•
.. ثم استكمل مِن بعده المسيرة النبي المصطفىٰ الأمين-ﷺ من مكة إلىٰ المدينة .
* . ) إذاً هجرة إبراهيم وغيره من الأنبياء كانت مكتوبة ومقدرة ومقررة ولا يمكن الفكاك منها[(٨)].
* . ) لوط عليه السلام
آمن بعمه إبراهيم واستجاب إلىٰ عبادة الله -تعالى- وهاجر مع عمه إبراهيم كما قال تعالى: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي.. } [العنكبوت:26] وقد جاء في الحديث أن النبي -ﷺ قال عن عثمان حين هاجر إلىٰ الحبشة ومعه زوجه رقية بنت رسول الله -ﷺ: إن أول مهاجر إلىٰ الله بأهله بعد لوط عثمان بن عفان[(١٠)]
* . ] وسَل القرىٰ التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مُهَاجَرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة[(٢)].
* . ] أما نوح ولوط فقد عاقب الله قوم نوح بالغرق وقوم لوط بالخسف فلم يعد لهما مَن يدعوان ويهديان[(٤)].
* . ] إسرائيل (يعقوب) وبنيه:
يعقوب عليه السلام
كان بينه وبين أخيه عيسو شيء من الخلاف، فهاجر إلىٰ بلاد ما بين النهرين عند خاله لابان، ومكث عند خاله يرعىٰ عليه غنمه، وتزوج من ابنتيه ليئة وراحيل، ومن جاريتيهما زلفىٰ ويلها، ورزق منهن أولاده جميعا، وكانت هجرته خيراً وبركة عليه، فقد صار رب أسرة عظيمة كثيرة العدد، وأموال وماشية كثيرة وعاد إلىٰ فلسطين بعد ذلك، وولد له في هجرته جميع أولاده إلا بنامين[(١)]
.. فَسَلْ مِصر وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بَنِيها ترحيباً بهم، وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المِصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم، خرج بهم موسىٰ وهارون ليتمكنوا من إعطاء الله حقه في عبادته[(٢)].
* . ) هجرة نبي الله يعقوب -عليه السلام- وبنيه من فلسطين الىٰ مِصر حينما كان نبي الله يوسف -عليه السلام- وزيراً علىٰ خزائنها فسطر لنا القرءان الكريم تلك اللحظة في محكم التنزيل { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِين } [يوسف:99].
يوسف عليه السلام
هاجر مرغماً حين ألقاه أخوته في غيابة الجب، ثم التقطه بعض السيارة وأسروه بضاعة وباعوه في مِصر بثمن بخس، واشتراه عزيز مِصر أو رئيس الشرطة بعاصمة الديار المِصرية، وهي مدينة: „ صان ” في الشرقية، ثم امتحن بامرأة العزيز التي راودته عن نفسه فاستعصم، ثم بهتته في وجهه واتهمته بأنه راودها عن نفسه { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِين } { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِين } { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ..} العزيز لها: { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم } [يوسف: 26 و 27 و 28]، والتفت إلىٰ يوسف وقال له: { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا }، والتفت إلىٰ زوجه وقال: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِين } [يوسف:29] إلىٰ أن { بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين } [يوسف:35]، وفي السجن ظهرت آيات فضله، وفسر لساقي الملك وخبازه مناميهما، وأوصىٰ الذي ظن أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه الملك فأنساه الشيطان ذكر ربه، فلبث في السجن بضع سنين { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين } [يوسف:42] إلىٰ أن رأى الملك سبع بقرات سمان حسان يأكلهن سبع بقرات عجاف مهزولة، وسبع سنبلات خضر غلبتهن سبع سنابل يابسات { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون } [يوسف:43] وحار العلماء والسحرة والعرافون في تفسير ذلك المنام { قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِين } [يوسف:44] فذكر الذي نجا مِن الفتيين شأن يوسف وتفسيره للمنام؛ فاستأذن الملك { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون } [يوسف:45] وأتىٰ إلىٰ يوسف واستفتاه فيما رآه المَلك { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُون } [يوسف:46]. ففسر له الرؤيا علىٰ وجهها..
.. وجاء الساقي وقص القصص علىٰ المَلك، { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُون } [يوسف:47] { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُون } [يوسف:48] { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون } [يوسف:49] وكان ما كان إلى أن اصطفاه الملك لنفسه{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين } [يوسف:54] وجعله علىٰ خزائن الأرض { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم } [يوسف:55]..
ودبر أمر مِصر إلىٰ أن جاء سبع سنوات مخصبة خزن فيها ما زاد علىٰ الحاجة؛ ثم جاء السنين المجدبة ففتح مخازن الادخار، وأطعم الناس، وجاء أخوته فداعبهم ودبر عليهم تدبيراً حتىٰ جاءوه بأخيه بنيامين، ثم عرفهم بنفسه وقال: { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِين } [يوسف:59] { .. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين } [يوسف:93] ..
فكانت هجرته القسرية وتغربه خيراً عليه وعلىٰ أهله وعلىٰ الناس أجمعين؛ ولولا تدبير الله وتدبيره لأمر الأغذية لهلك الناس[(١)].
* . ] هجرة كليم الله موسىٰ -عليه السلام- من مِصر الىٰ مَدين ثم بعدها هربا مع قومه من فرعون وملأه.
لا نريد[(١)] أن نتكلم عن أولية موسىٰ -عليه السلام-. وإنما نقول إنه نشأ في بيت فرعون عزيز الجانب؛ ولما بلغ مبلغ الرجال لم يخف عليه أنه دخيل في ذلك البيت وأنه من العنصر العبراني؛ وعرف العبرانيون ذلك فاستعزوا به وانتفعوا بجاهه[(١)]
ويضيف د. عبدالمقصود باشا: فلنأخذ مثلا سيدنا موسىٰ -عليه السلام- الذى ولد ونشأ وتربىٰ فى مِصر حتىٰ صارت له مكانة فى البلاط الفرعوني هو وأخيه هارون.. ثم تحدث المشادة بين أحد أبناء قومه وأحد المِصريين[(١٥)]
..وسار في المدينة يوماً علىٰ حين غفلة من أهلها فوجد رجلين يقتتلان أحدهما عبراني من شيعة موسىٰ والثاني قبطي [قلتُ (الرَّمَادِيُ) يعني مِصري؛ وهذا يدل علىٰ أن سكان مِصر يطلق عليهم أقباط؛ وليس كما يدعي البعض أنه يخص أهل دين بعينه؛ والقصة بكاملها حدتث قبل مجئ النصرانية بأكثر من 1500 سنة] من عدوه، فاستغاثة العبراني علىٰ القبطي، فأغاثه موسىٰ وعمد إلىٰ القبطي فوكزه فقضىٰ عليه، وهو لم يرد قتله، وإنما أراد كف عاديته عن العبراني، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها..
.. لم يشاهد أحد هذه الحادثة سوىٰ العبراني. وعاد موسىٰ بالأئمة علىٰ نفسه وقطع علىٰ نفسه عهداً ألا يكون ظهيراً للمجرمين..
.. ظهر أمر القبطي ولم يعلم قاتله. فلما كان اليوم الثاني خرج موسىٰ في مثل ذلك الوقت فوجد ذلك العبراني بنفسه في معركة مع قبطي آخر يريد أن يسخره وهو يأبىٰ، فاستغاثه كما استغاثه بالأمس فقال له موسىٰ أنك لغوي مبين. وأراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ويكف عاديته عنه. فظن العبراني أنه إياه أراد. فقال له: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين، وصالح القبطي واتخذ موسىٰ خصما..
.. حينئذ ظهر قاتل القبطي وهو موسىٰ وانتهىٰ الخبر إلىٰ فرعون فاجتمع ملأ فرعون وقومه علىٰ قتل موسىٰ. فجاء إليه رجل من آل فرعون من أقصىٰ المدينة يسعىٰ وقال له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، ونصح له بالخروج لينجو بنفسه فخرج من المدينة خائفاً يترقب قائلاً رب نجني من القوم الظالمين، ويهاجر فرارا من الفراعنة عبر أرض سيناء إلىٰ مدين، ويظل هناك عشر سنوات..
.. ولىٰ وجهه شطر مَدْين علىٰ خليج العقبة. ولعلها كانت أقرب بلاد يجد فيها مأمنه لخروجها عن قبضة الحكومة المِصرية - ولما كان خروجه علىٰ عجل لم يترو في الأمر ولم يأخذ معه زاداً ولا ما يساعده علىٰ قطع المسافة من مطية ولا رفقة له في هذا السفر الشاق ولا دليل لأنه إنما يريد أن ينجو بخيط رقبته..{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل } [القصص:22] فحقق الله -تعالى-أمنيته وبلغ ماء مَدين بعد الجهد الشديد والجوع المضي فوجد علىٰ الماء أمة من الناس يسقون ووجد امرأتين تذودان غنمهما عن الحوض، فلم يعجبه أن يتقدم أولو القوة ويتأخر المرأتان فسألهما عن شأنهما. فقالتا لا نسقي حتىٰ يصدر الرعاء لأننا ليس بنا قوة علىٰ التقدم والمزاحمة، وأبونا شيخ كبير لا يقدر علىٰ رعي ماشيته ولا سقياها. { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير } [القصص:23] فنحىٰ الرعاء بما بقىٰ له من فضل قوة وسقىٰ لهما ثم تولىٰ إلىٰ الظل يشكو إلىٰ الله حاجته إلىٰ القوت وما به من مخمصة قائلاً: {.. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير } [القصص:24]
.. أراد الله أن يكافئ موسىٰ جزاء توكله عليه وفعله الخير ابتغاء وجه ربه فلم يلبث أن جاءته إحدىٰ المرأتين تمشي علىٰ استحياء { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء } حتىٰ وقفت عليه وقالت له في خفر: {.. إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا..} لبى موسىٰ الدعوة؛ وجاء إلىٰ أبيها الشيخ؛ وقص عليه قصصه. فقال له الشيخ لا تخف نجوت من القوم الظالمين {.. فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين } [القصص:25]
.. أرادت إحدىٰ بنات الشيخ أن يقوم موسىٰ عنهما برعي الماشية لأنه أقدر علىٰ ذلك لما رأته من قوته في النزع بالدلو وأمانته إذ أخرها وقال لها اسعي ورائي وانعتي لي الطريق؛ فقالت لأبيها { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} [القصص:26]
.. نشط الشيخ لما أشارت به ابنته، وطلب إلىٰ موسىٰ أن يستأجره ثماني حجج علىٰ أن يزوجه من إحدىٰ ابنتيه { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ..} فإذا رضى أن يتم الثماني.. عشرا كان ذلك علىٰ أن يكون بالخيار في قضاء أحد الأجلين {.. عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ } [القصص:27]
.. تقول التوراة إنه بقى عنده إلىٰ أن كانت سنه ثمانين سنة؛ والقرآن الكريم ليس فيه تحديد قاطع في المدة التي أقامها..
.. والمهم في الأمر أنه لما قضىٰ الأجل وصار حرا صادفه أن أبعد في الرعي وضل الطريق في ليلة مظلمة باردة؛ وحاول أن يقدح نارا فصلد زنده ولم يور نارا؛ وبعد لأي { إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } [طه:10]. { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُون } [القصص:29] فلما جاء إلىٰ النار نودي { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى } [طه:11] { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه:12] { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:13] { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه:12] { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:13] ؛ { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } [طه:14]
.. وبعد حوار أرسله الله نذيرا إلى فرعون وملئه لإخراج بني إسرائيل؛ فكان ما كان مما قصه القرآن من شأنه مع فرعون وشأنه مع بني إسرائيل؛ فكانت هجرته خيرا وبركة عليه وعلىٰ بني إسرائيل؛ كما أجاب فرعون بقوله { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِين } [الشعراء:21] [(١)].
.. ثم يعود عبر جنوب سيناء مرة ثانية.. ثم يُرسل فى عودته من مهجره إلىٰ مِصر ويُكلف بالرسالة. ثم يضطر موسىٰ إلىٰ الهجرة ثانية مصطحبا قومه، وينفلق له البحر بعد أن يضربه بعصاه وفرعون وجنوده يتبعونه، ويتراءى الجمعان، حتىٰ قال أصحاب موسىٰ «إنا لمدركون» { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون } [الشعراء:61]..
وفى التوكيد بـ «إن» -هنا- دلالة علىٰ قرب المسافة بين الفريقين، وينجي الله بنى إسرائيل، والقصة معروفة فى عدد من سور القرآن.. ويتوفىٰ موسىٰ دون أن يمكنه الله من دخول بيت المقدس[(٨)].
* . ] هجرة داود عليه السلام
هو داود بني يسي من سبط يهوذا. كان له اخوة يحاربون الفلسطينيين مع طالوت الذي هو شاول أول ملك من ملوك بني إسرائيل. وكان في الفلسطينيين جندي جبار اسمه جالوت قد هابته الأبطال وتحامت الشجعان لقاءه خوف الهلاك..
.. وكان لداود اخوة في الحرب؛ فأرسله أبوه بطعام لاخوته ولينظر حالهم ويعود إلىٰ أبيه بما يطمئنه عليهم. فبينا هو سائر إلىٰ اخوته نظر في البرية إلىٰ أحجار ملس راقته فوضعها في كنفه (الكنف كيس الراعي) ولما ذهب إلىٰ اخوته والحرب علىٰ قدم وساق نظر إلىٰ الفلسطيني وهو يعير بني إسرائيل إحجامهم عنه، فاستشاط الفتىٰ داود غضبا وسأل ما الذي يناله من قتل هذا الأغلف الفلسطيني. فأجيب بأن الملك يغنيه ويغدق عليه ويزوجه ابنته ويجعل بيته أكبر بيت في إسرائيل. فذهب إلىٰ الملك واستأذنه في لقاء جالوت فضن به الملك أن يقتل في غير فائدة وهو صغير السن لا يقوىٰ عليه. فقال له داود: إن عبدك (يعني نفسه) قتل أسدا تعرض لغنم أبي وقتل دبا أيضا. فأذن له وأعطاه لأمة حربه فلم يحسن داود المشي فيها فخلعها وذهب إلىٰ جالوت بمقلاعه وأحجاره. وقد هزأ منه جالوت ونصحه أن يعود من حيث أتىٰ فلم يفعل، ووقف قبالته ووضع حجرا من تلك الأحجار في المقلاع رماه به فارتز الحجر في جبهة جالوت وخر لليدين وللفم، فأخذ داود سيف جالوت وفصل رأسه به وجاء به إلىٰ الملك وانهزم الفلسطينيون شر هزيمة..
... ولكن طالوت ضن علىٰ داود بابنته التي وعد أن يزوجها من قاتل جالوت وزوجه من ابنة له أخرىٰ وقدمه علىٰ رؤساء جنده..
.. تغير بعد ذلك طالوت لداود وعمل علىٰ إهلاكه بيد الأعداء خوفا من أن يوليه بنو إسرائيل الملك، فكان يكلفه بالقدوم إلىٰ الحرب وكان داود يظفر دائما. فعمد إلىٰ إهلاكه بنفسه، ونجا داود منه مرات وهو يتبعه في كل مكان، وتمكن داود من قتل الملك مرات ولكنه لم يفعل ويخبره بتمكنه من قتله وأنه أبقىٰ عليه، فيندم الملك ثم يعاوده خوفه علىٰ الملك فيطارده إلىٰ أن خرج داود من ملك إسرائيل وأقام مع الفلسطينيين برضاء ملكهم إلىٰ أن قتل طالوت وابنه... فجاء إلىٰ قرية أربع -وهي مدينة الخليل- وبويع فيها بالملك. وكان لطالوت ولد بويع بالملك أيضاً إلىٰ أن قتل ابن طالوت الملك وانفرد داود بالملك واشترىٰ قلعة صهيون التي عند باب الخليل وسماها مدينة داود، ثم اشترىٰ جبل الموريا الذي عليه الحرم القدسي ومدينة أورشليم القديمة المعلومة اليوم بأسوارها وحدودها..
.. وفي أواخر أيام داود نزا علىٰ الملك ولده ابشالوم وبايعه العدد العظيم من بني إسرائيل. ورحل داود إلىٰ شرق الأردن وجلس ابشالوم علىٰ كرسي الملك وحارب أباه فقُتل أبشالوم وعاد داود إلىٰ مقر ملكه..
فــ .. هاتان هجرتان لداود وكانت العاقبة له علىٰ خصومه فيهما[(١)].
المسيح عيسىٰ ابن مريم وأمه ويوسف النجار :
* . ] ويتابع: د. باشا: فإذا تأخرنا عن عصر نوح وموسىٰ قليلا لوجدنا هجرة السيد المسيح الذى لم يجد علىٰ وجه الكرة الأرضية مكانا يأوى إليه ويحميه من بطش أعدائه، فكانت هجرته هو وأمه مريم العذراء ويوسف النجار إلىٰ أرض مِصر.. وهو صغير.. ويمكث فى مِصر سنوات عدة، ثم يعود إلىٰ بيت لحم وهو كبير لتدبر له المكائد ويسوقونه للصلب فيرفعه الله ويلقىٰ الله شبهه عليه[(٨)] .
يلتقط الشيخ النجار خيط الأحداث فيكمل القول :
* . ] هجرة المسيح -عليه السلام-
أما المسيح عيسىٰ ابن مريم عليه السلام فله هجرة ليست كهجرة سائر الأنبياء الذين هاجروا من بلادهم..
.. ذلك أنه لما وُلِدَ كان هناك ملك من قبل الرومان أُخبر أن ملك اليهود ولد في بيت لحم، فجد في قَتل الأولاد الذين ولدوا في بيت لحم في تلك الأيام. فأُمرت مريم بأن تهاجر بابنها ومعها خطيبها يوسف النجار.. فذهبت إلىٰ مِصر وأقامت فيها مدة..
.. قيل إنها كانت سبع سنين.. أو أقل..
.. إلىٰ أن أُمرت بالرجوع إلىٰ فلسطين، لأن الذي كان يطلب نفس ولدها قد هلك، فعادت..
.. وهذه الهجرة نص عليها في إنجيل متي وإنجيل برنابا ولا وجود لها في سائر الأناجيل الثلاثة الأخرىٰ المعروفة؛ فهجرة المسيح كانت تابعة لهجرة أمه خوفاً عليه ولم تكن بإرادته[(١)].
.. وهرب المسيح -عليه السلام- من اليهود حينما كذَّبوه، فأرادوا الفتك به حتىٰ كان مِن ضمن تعاليمه لتلاميذه: « طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ »[(١٥)]. « طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ »[(١٦)] ثم قال : « اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ »[(١٧)].[(٢)]
* . ] فلا غرابة أن هاجر -عليه الصلاة والسلام- من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله { سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62][(٢)].
* . ] محمد -ﷺ
.. مِن ذلك كله نرىٰ أن محمداً لم يكن بدعا مِن الرسل والأنبياء الذين هاجروا مِن قبل، فقد جاهد جهاد الأبطال في إذاعة دعوته بين الناس، وقد أوذي في الله -تعالى- هو وأتباعه. حتىٰ إذا لم يبقَ في قوسِ تصبرِهِم منزعٌ.. سهل الله -تعالى- إسلام أهل يثرب = المدينة فأقبلوا علىٰ الدين بمحض اختيارهم، حتىٰ إذا كثروا.. جاءوا إليه وبايعوه علىٰ النُصرة، فأذنَ لأصحابه في الهجرة.. وبقىٰ هو وأبوبكر وعلي والمستضعفون. فلما مكر به كفار مكة ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه وصحت منهم العزيمة علىٰ ما بيتوا، أمره الله -تعالى- بالهجرة (وكان أبوبكر يعد لها العدة) فامتثل الرسول أمر ربه وآذن أبابكر بذلك ففرح وحاول أن يدعوا صهيب بن سنان للسير معهما فلم يُقَدر له ذلك، وخرجا إلىٰ غار ثور فأقاما به ثلاثا. وقد جهد كفار قريش في العثور عليهما فصرفهم الله عن ذلك، وقد كانا منهم قاب قوسين أو أدنىٰ؛ ثم ذهبا إلىٰ المدينة بعد أن هدأ الطلب يدل بهما عبدالله بن اريقط وهو علىٰ شركه إلىٰ أن وردا قُباء ثم المدينة.. فبدل الله حالهم أمنا، ومكن لهم في الأرض، وأرى كفار قريش منهم ما كانوا يحذرون، وأتم الله نعمته علىٰ أهل الإسلام، مكن لهم دينهم الذي ارتضىٰ لهم إلىٰ أن مضى رسول الله لسبيله، وقام خلفائه من بعده يحملون عبء تبليغ الرسالة والتمكين للدين؛ وانتشر الإسلام شرقاً وغرباً؛ وكانت الهجرة علىٰ رسول الله وأمته خيرا وبركة كما كانت هجرة الأنبياء خيراً وبركةً عليهم مِن قبل؛ ولله عاقبة الأمور؛ لا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه؛ وهو العزيز الحكيم[(١)]
* . ] ومحمد - عليه السلام - مكث يدعو قومه في مكة ثلاثة عشر عاماً فما استجاب لدعوته إلا القليل.. القليل ولم يكتفِ قومه برفض الهداية بل آذوه.. ومن أسلم معه..
.. وصفوه بأنه كاذب لأن دينهم الباطل، هو الحق، فمن آمن بسواه فهو كاذب في زعمهم..
.. وزعموا بأنه ساحر لأنه استطاع أن يغير دين بعض مواطنيهم فأسلموا ومن كان قادراً علىٰ تبديل إيمان الغير فهو ساحر في نظرهم..
.. وقالوا انه كاهن لأن النبي - عليه السلام - أخبرهم بأمور غيبية ماضية كأخبار الماضين من الأقوام ورسلهم وأخبرهم بما سيحصل لمن يكفر بالله يوم القيامة ومن يخبر بالغيبيات هو كاهن، والكاهن عند العرب شخص يعرف الغيب في زعمهم فإذا سأله سائل عما سيحصل له أخبره، وقالوا انه لا يستحق النبوة لأن الله لو أراد إرسال نبي لاختار فلاناً وفلاناً من أصحاب المقام الرفيع عندهم{ وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم } [الزُّخرُف:31] وقالوا: إنه طامع في الرئاسة والسلطان لذلك عرضوا عليه الملك.. وقالوا.. وقالوا مما لا يتسع المقام لذكره ورغم كل ما قالوه فإن محمداً - عليه السلام - ظل ثابتاً كالطود العظيم لا يحيد عن دعوته، وكان قومه كلما مرت السنين ازدادوا أذىٰ له ولأتباعه إلىٰ حد لا يطاق من الناس العاديين لكن المؤمنين كان إيمانهم شديداً فلم يرتدوا عن دينهم، وطلب بعضهم الهجرة إلىٰ الحبشة فأذن لهم، وكانت هذه الهجرة أولىٰ الهجرتين أما الهجرة الثانية فكانت إلىٰ (يثرب)[(٤)]
وقرر النبي بعد معاناة ثلاث عشرة سنة أن يغير مكان الدعوة فحاول دخول الطائف لكن صدّه سفهاؤها ومراهقوها ورشقوه بالحجارة حتىٰ دميت قدماه فعاد إلىٰ مكة آسفاً حزيناً علىٰ قومه لأنه يريد لهم الهداية وسعادة الآخرة ويأبون إلا الكفر والضلال[(٤)].
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحوث السيرة النبوية الشريفة
(١١) [ الْمُجَلَّدُ الْحَادِيَ عَشَرَ ]
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
الزمن:1 هـ ~622 م
آخر أحداث العهد: المكي
المكان: مكة المكرمة
« يثرب » [الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ ]
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ « يثرب » الْمَدِينَةِ
(١) الْبَابُ الْأَوَّلُ : : ﴿ ١١٨ ﴾ هجرة الأنبياء
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)
‏السبت‏، 25‏ رجب‏، 1443هــ ~ ‏السبت‏، 26‏ شباط‏، 2022م

أعلى الصفحة

(١١٧) [ هِجْرَةُ عُمَرَ وَقِصّةُ عَيّاشٍ مَعَهُ ]

قصة هجرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.. هل كانت هجرته علانيةً وجهراً !؟.. أم كانت سراً وخِفيَّةً!؟.. ومن آخىٰ بينه النبي صلى الله عليه وسلم؟
.. في قصة هجرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توجد رواية:" درجت علىٰ ألسنةٍ كثيرٍ مِن الوعاظ والقصاصين وبعض الإخباريين الذين يلقون الكلام علىٰ عواهِنه؛ مِن غير تمييز لصحيح القَصص مِن سقيمها.. ودون تحقيق لما رُويَّ.. أو تدقيق قبل النقل.. قصةٌ مشهورةٌ علىٰ الألسن.. وفي بعض المراجع والمصادر والكتب.. والقصص، وفي خطب الجمع.. والمحاضرات؛ وبين العامة.. والخاصة؛ وقد تجد مِن طلبة العلم مَن يستشهد بها، ألا وهي : ( قصة هجرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- علانيةً وجهراً إلىٰ المدينة النبوية.
-*//*-
الْمُقَدِّمَة :
.. فنحن -جميعاً- ما زلنا نقف أمام : مقدمات الهجرة وأول مَن هاجر مِن المسلمين مِن مكة -بداية نزول الوحي ومهد الرسالة ومنطلق الدعوة- إلىٰ يثرب والتي ســ تسمىٰ المدينة المنورة -مركز الإنطلاق ومكان بناء الكيان التنفيذي الأول لأحكام الإسلام-..
.. فــ الأمة الإسلامية.. ومنذ بداية عهد الرسالة المحمدية الخاتمة لرسالة السماء إلىٰ البشر وعبر تاريخها وحتىٰ كتابة هذه السطور امتازت بوجود رجال عظماء.. ونساء.. كبقية الأمم والشعوب؛ ضحوا بالغالي والنفيس لِمَا اعتقدوا صحته وأيقنوا قوة برهانه وعلموا حقاً بأنه كلام الله -عز وجل- وحياً باللفظ والمعنىٰ وهو القرآن الكريم أو بالمعنىٰ دون اللفظ وهي السنة النبوية..
.. ثم تميزت هذه الأمة بشكل ملحوظ بوجود عباقرة أفذاذ كبقية الشعوب والأمم في كافة التخصصات النظرية والعملية والفقهية والعلمية..
.. ثم تباينت -بصورة ليس لها نظير ولا مثيل- عن الجميع في كل العصور والأزمان والأحقاب ومر الدهور فتميزت بوجود وحي مِن السماء بين أيديها حُفظ[(*)] مِن قِبل السميع العليم علىٰ مدار الأيام وكر السنين..
.. حُفظَ مِن التغيير والتبديل؛ ومُنِعَ عنه التعديل والتحريف؛ وتمت صيانته مِن الزيادة والنقصان.. ثم رافق الوحيُّ المنيفُ الهديّ النبوي الشريف.. وهو الطريقة المحمدية والكيفية الرسولية.. فتميز مَن أمن بالإسلام عقيدة ومنهاجاً وشريعة ونبراساً في كافة المجالات وعلىٰ كل الأصعدة.. إذ أكتمل بنيان الإسلام بشقيه[(**)] : القرآن الكريم والسنة المحمدية العطرة..
.. ثم -لعوامل عدة- خبا وهج شعلة الإسلام لإنارة الطريق لابناءه ولغيرهم من بني الإنسان نتيجة تراجع طرأ في كيفية حمل تلك الشعلة الوهاجة المنيرة؛ ولوجود ضعف شديد طرأ علىٰ الأذهان في فهم الإسلام..
.. وهناك فارق -كالفارق ما بين الثرىٰ والثريا- في ضعف يطرأ علىٰ فهم الإنسان بصفته البشرية وكينونته الآدمية؛ وبين فساد الفكر الأساسي في عقل إنسان لمبدأ وبين ضعف فهم أحكام الدين! ..
فــ فساد العقيدة واركانها وإدخال ما ليس منها فيها يتبعه فساد في الإيمان.. وانحراف عن الصراط المستقيم.. وتراجع في التطبيق وسطحية في العرض.. فحين يُبنىٰ دين علىٰ عقيدة فاسدة وإيمان منحرف ينهدم الدين -بالكلية- علىٰ رؤوس معتنقيه؛ أما إذا طرأ ضعف في فهم عقيدة ما في ذهن مَن يحملها مع بقاء أركانها ثابتة.. وبقاء عناصرها راسخة مع عدم ضياع مصادرها الأصلية أو تبديل منابعها الأساسية الصافية.. فيسهل العودة إلىٰ تقوية العقيدة في قلوب أصحابها وتنقية الإيمان في أذهان متبعيه وإدراك حقيقي لمَن يؤمن.. فيصفو إستيعاب قواعد الدين ويعود ضياء شعلة الدين/المبدأ إلىٰ الوجود مِن جديد.. وهناك ثلة تعمل لذلك!
...
(إذْنُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمُسْلِمِي مَكَّةَ بِالْهِجْرَةِ)
فــ قَالَ -صلى الله عليه وسلم- : « إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا » فَخَرَجُوا أَرْسَالًا [أي: متفرقين]. [(سيرة ابن هشام: 1/468)]
وتحققت رؤيا نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقد جعلها ربي حقًا، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأىٰ رؤيا بهذه الهجرة من قبل، كما في الحديث عَنْ أَبِي مُوسَىٰ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَىٰ أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي[ظني] إِلَىٰ أَنَّهَا اليَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ » [رواه البخاري: (3622/7035)، ومسلم: (2272)].
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ » [اللابة: الأرض ذات الحجارة السود] [(رواه البخاري: (3905)].
وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ » [(رواه مسلم: (2473)].
وسبحان من استأثر بعلم الغيب وحده لا شريك له! فقد ظنَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن الهجرةَ
ستكون للـــ
- يمامة،
أو
- هَجَر، ولكنَّ اللهَ -عز وجل- أراد أن يعزَّ بها :
- أهل المدينة،
وما هو -صلى الله عليه وسلم- إلا وحي يُوحى، فقد أمر أصحابه -رضي الله عنهم- بالهجرة..
يقولُ ابْنُ إسْحَاقَ : „ فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ -تَعَالَىٰ- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فِي : « الْحَرْبِ »؛ وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنْ : « الْأَنْصَارِ » عَلَىٰ : « الْإِسْلَامِ »؛ وَ : « النُّصْرَةِ » لَهُ وَلِمَنْ اتَّبَعَهُ، وَ : « أَوَىٰ » إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِالْخُرُوجِ إلَىٰ الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إلَيْهَا، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ، ثم تتابعت هجرة الصحابة علىٰ المدينة : « دار الإيمان »؛ ثم قَدِمَ المهاجرون أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا حتىٰ اكتمل أمرهم. [(انظر سيرة ابن هشام: (1/472)؛ خطبة: (22): سيرة النبي-صلى الله عليه وسلم- الإذن بالهجرة للصحابة؛ إبراهيم الدويش]
-*//*-
... ثم هاجر عُمَرُ بن الخطّاب -رضي الله عنه- وكانت هجرة الفاروق -رضي الله عنه- وعياش بن [أبي] ربيعة" المخزومي "
-*//*-
تمهيد لهجرة عمر :
تعرض عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد إسلامه للإيذاء مِن قِبل مشركي قريش، ولم يكف عنه المشركون حتىٰ أجاره العاص بن وائل السهمي، فلما أذن الله -عز وجل- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلىٰ المدينة كان -رضي الله عنه- مِن المهاجرين الأولين علىٰ الرغم مِن منزلته ومكانته بمكة التي تنكر لها القرشيون بعد إسلامه.
قصة عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصــ(ـي) [بن وائل السهمي] وإعادتهما]
فــ
- حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
هاجر -رضي الله عنه- مستخفيًا (سرًا) كالمهاجرين قبله والمهاجرين بعده ومنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبوبكر -رضي الله عنه-.
والصحيح في خبر هجرة عمر -رضي الله عنه- ما رواه ابن إسحاق [(2/ 129 - 131)] ونقله عنه ابن هشام :" قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : „ ثُمّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ، حَتّىٰ قَدِمَا الْمَدِينَةَ ”.
قال -رضي الله عنه- وهو يحكي قصة هجرته:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : „ فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَىٰ عَبْدِاللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ”.
" وتواعدوا جميعًا "
قَالَ عُمَرُ بْنِ الْخَطّابِ : اجتمعنا للهجرة:
البيان :
« اتّعَدْتُ؛ لَمّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ، [أوعدت أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ[وَاسْمُهُ عَمْرٌو وَيُلَقّبُ ذَا الرّمْحَيْنِ]، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ ". التّناضِبَ [أن يلتقوا عند التناضب [اسم شجرة أو موضع] [وقيل: موضع فوق سَرِف على مرحلة(*) من مكة] مِنْ [الميضاة] أَضَاةِ بني غفار (حي علىٰ بعد 13 كيلو مِن مكة؛ أرض تمسك الماء فيتكون فيها الطين)، فَوقَ سَرِفٍ..
وَقُلْنَا: أيكم [أَيُّنَا] لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ [احتبس] حُبِسَ ، فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ..
قَالَ الفاروق -رضي الله عنه- :" فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التّنَاضُبِ، وَحُبِسَ عَنّا هِشَامٌ وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ ».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[انتهى من سيرة ابن هشام" (2/ 85) ، وصحح إسنادها الحافظ في "الإصابة" (6/ 423)]؛ انظر سيرة ابن هشام: (1/474). وابن سعد: الطبقات (3/271، 272)
(*) المَرْحَلَة هي وحدة قياس مسافات عربية قديمة، تعادل المسافة التي يقطعها المسافر في يومٍ سيرًا علىٰ الأقدام، أو علىٰ الدواب سيرا معتادا. والجمع مراحل. عند الحنفية والمالكية: (44.520) كيلومترا. وعند الحنابلة والشافعية: (89.04) كيلومترا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
« فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ [منزلنا] نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ ».
[ * ] تَغْرِيرُ أَبِي جَهْلٍ وَالْحَارِثِ بِعَيّاشٍ:
أكملُ رواية الفاروق عمر: « وَخَرَجَ أَبُوجَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَىٰ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ ابْنَ عَمّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمّهِمَا، حَتّىٰ قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ »
وتوضيح الرواية :
« وقدمتُ „ الحديث ما زال علىٰ لسان عمر ” أنا وعيّاش فلمّا كنّا بالعقيق عَدَلنا إلىٰ العُصبة حتّىٰ أتينا قُباء فنزلنا علىٰ رُفاعة بن عبدالمنذر .. فَقَدِمَ علىٰ عيّاش بن أبي ربيعة أخواه لأُمّه: أبوجَهل والحارث.. ابنا هشام بن المغيرة.. وأمّهم أسماءُ ابنة مُخَرّبة من بني تَميم، وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [بعد] بِمَكّةَ [لم يخرج] فأسرعا السَّيْر فنزَلا معنا بقباءَ، فقالا لعيّاش:
« فَكَلّمَاهُ.. وَقَالَا له : „ إنّ أُمّك [قَدْ] نَدَرَتْ أَنْ لَا [يَمَسّ] رَأْسَهَا مُشْطٌ [ولا يمسّ رأسَها دُهْنٌ] حَتّىٰ تَرَاك..
فنذرت أمه أن لا يظلّها [ظِلّ] سقف بيت حتّىٰ يرتدّ، وَلَا تَسْتَظِلّ مِنْ شَمْسٍ حَتّىٰ تَرَاك ”؛
„ فَرَقّ لَهَا ”؛
فَقُلْت „ أي عمر” لَهُ: „ يَا عَيّاشُ إنّهُ وَاَللّهِ[إنْ يَرُدّاك إلاّ عن دينك] إنْ يُردكَ [يُرِيدَك] الْقَوْمُ إلّا لِيَفْتِنُوك عَنْ دِينِك فاحذرهم.. فوالله لو قد آذىٰ أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة.. أحسبه قال لامتشطت[لَاسْتَظَلّتْ] ”.
قَالَ : „ عمر ” فَقَالَ : „ عياش ”: „ أَبَرّ قَسَمَ أُمّي ”.
قال „ عياش ”: „ إن لي هناك [بمكّةَ] مالًا [لعلّي] فآخذه [فيكون لنا قوّة وأَبَرُّ قَسَمَ أُمّي ”.
قال : „ عمر ” : „ والله إنك لتعلم أني مِن أكثر قريش مالًا.. ذلك [فَلَك] نصف مالي، ولا تذهب معهما، فأبى [عَلَيّ] إلا يخرح معهما ”.
فَلَمّا أَبَى إلّا ذَلِكَ قَالَ „ عمر ” لَهُ: [لما أبي علي] „ أَمّا إذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْت، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ فَإِنّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ ”؛ فــ : „ الزم ظهرها.. فإن رابك من القوم ريب فانخ عليها ”.؛
.. فخرج معهما عليها حتىٰ إذا كان [كَانُوا] ببعض الطريق [فلمّا كانوا بــ : „ ضجنان ”؛ قال [لَهُ] أبوجهل بن هشام: [ : „ يَا ابْنَ أَخِي] والله لقد استبطأت [اسْتَغْلَظْتُ] بعيري هذا، أفلا تحملني[تُعْقِبَنِي] علىٰ ناقتك هذه؟ ”؛
قال: „ بلىٰ ”؛ [: „ فأناخ.. وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا [عَدَوْا] عليه فأوثقاه[وَرَبَطَاهُ ”؛ ورواية آخرى : „ لمّا كانوا بضجنان نزل عن راحلته فنزلا معه فأوثقاه رباطًا حتّى دخلا به مكّة]، ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتن ”؛
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : „ فَحَدّثَنِي بِهِ بَعْضُ آلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنّهُمَا حَيْنَ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ دَخَلَا بِهِ نَهَارًا مُوثَقًا، ثُمّ قَالَا: „ يَا أَهْلَ مَكّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا ” .[„ ثمّ حبسوه ”؛[انظر : الطبقات الكبير؛ وأسد الغابة ] .
[ * . ] .[كِتَابُ عُمَرَ إلَىٰ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي].
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : „ وَحَدّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ قَالَ عمر: فَكُنّا نقول : „ والله لا يقبل الله [مَا اللّهُ بِقَابِلٍ] ممن افتتن صرفا ولا عدلًا، ولا يقبل توبة قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم ”.
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
قال عمر[بْنُ الْخَطّابِ]: فكتبتها [بِيَدِي] في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاصــ[ــي] بمكة [فَقَالَ] هشام [بْنُ الْعَاصِي] : „ فلم أزل [فَلَمّا أَتَتْنِي جَعَلْت] أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه [وَأُصَوّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا [فوجد صعوبة في فهمها]، حَتّىٰ قُلْت : „ اللّهُمّ فَهّمْنِيهَا ”؛ [فدعا الله أن يفهمه إياها]؛ قَالَ : „ فَأَلْقَىٰ اللّهُ -تَعَالَى- فِي قَلْبِي أَنّهَا إنّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا، وَفِيمَا كُنّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا.[فألقىٰ الله في قلبه أنها نزلت في أمثاله] حتىٰ فهمتها، قال: فألقي في نفسي أنها إنما نزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا..
[قَالَ] فرجعت[إلَى بَعِيرِي،] فجلست[عَلَيْهِ] على بعيري، فلحقت برسول الله -ﷺ - [وَهُوَ]بالمدينة ”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أشار إلى صحة هذه الرواية: الهيثمي في المجمع: ( ٦/ ٦١) رواه البزار ورجاله ثقات. كشف الأستار رقم: ( ١٧٤٦: ٢/ ٣٠٢)، ابن هشام في السيرة: ( ١/ ٤٧٤ – ٤٧٥ )، بسند رجاله ثقات صرح في ابن إسحاق بالتحديث فقال حدثني نافع مولى ابن عمر عن عبدالله بن عمر بن الخطاب[بإسناد حسن،]، ورواه البيهقي في الدلائل: (٢ / ٤٦١ – ٤٦٢ )، وفي السنن: ( ٩ / ص ١٣ – ١٤ )، من طريق ابن إسحاق. وصححه ابن حجر في الإصابة (3/602) فالحديث صحيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ودلالة القصة واضحة في أن هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت : «„ سرية ”»؛ فليس فيها أي إشارة إلىٰ إعلان الهجرة، بل إن تواعدهم في التناضب من أضاة بني غفار - وهي علىٰ عشرة أميال من مكة - ليؤكد إسرارهم بهجرتهم.
وفوق هذا فقد جاء الأمر صريحاً في رواية ذكرها ابن سعد في طبقاته (3/271) حول هجرة عمر بن الخطاب : «„ سراً ”»؛ حيث ساق نحواً من رواية ابن إسحاق -السابقة- وزاد فيها قول عمر : «„ وكنا نخرج سراً ”»..
وأيضاً : التأكيد علىٰ صحة الرواية الثانية أولىٰ من التكلف[كما فعل السباعي-مثلا-] في استخراج الدروس والعبر في قضية قد لا تكون ثابتة أصلاً -كهذه التي بين أيدينا- .
ولحق بعمر -رضي الله عنه- عددٌ مِن قرابته وحلفائهم وعددهم عشرون.
قال البراء بن عازب -رضي الله عنه-: أول من قدم علينا -يعني المدينة- مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن هاجر مع عمر -رضي الله عنه- ابنه عبدالله، فلما فرض عمر -رضي الله عنه- العطاء فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له : „ هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ ”؛ فقال : „ إنما هاجر به أبواه ”؛ يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه.
منزل عمر وعياش بالمدينة :
ولما وصل عمر -رضي الله عنه- المدينة[قال : „ وقدمت أنا وعيّاش فلمّا كنّا بالعقيق عَدَلنا إلىٰ العُصبة حتّىٰ أتينا قُباء ”؛ نزل ومن معه العُصبة، وهي من منازل الأوس، وجاء في رواية أنه نزل على رُفاعة بن عبدالمنذر. ولا تعارض في ذلك فرُفاعة من الأوس سكان العصبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيح البخاري: (2/ 335، 337، 3/214 وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[خُرُوجُ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَىٰ مَكّةَ فِي أَمْرِ عَيّاشٍ وَهِشَامٍ]:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ؛ فَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ: «„ مَنْ لِي بِعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامِ بْنِ الْعَاصِي؟ ”»؛ فَــ
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: „ أَنَا لَك يَا رَسُولَ اللّهِ بِهِمَا ”؛ فَخَرَجَ إلَىٰ مَكّةَ، فَقَدِمَهَا مُسْتَخْفِيًا، فَلَقِيَ امْرَأَةً تَحْمِلُ طَعَامًا، فَــ
قَالَ لَهَا: „ أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللّهِ؟ ”؛
قَالَتْ: „ أُرِيدُ هَذَيْنِ الْمَحْبُوسَيْنِ ”؛ - تَعْنِيهِمَا- فَتَبِعَهَا حَتّىٰ عَرَفَ مَوْضِعَهُمَا، وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ فِي بَيْتٍ لَا سَقْفَ لَهُ فَلَمّا أَمْسَىٰ تَسَوّرَ عَلَيْهِمَا، ثُمّ أَخَذَ مَرْوَةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ قَيْدَيْهِمَا، ثُمّ ضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُمَا، فَكَانَ يُقَالُ لِسَيْفِهِ : « ذُو الْمَرْوَةِ »؛ لِذَلِكَ ثُمّ حَمَلَهُمَا عَلَىٰ بَعِيرِهِ وَسَاقَ بِهِمَا، فَعَثَرَ .. فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إلّا أُصْبُعٌ دَمَيْتِ * وَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقَيْتِ
ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا عَلَىٰ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم- الْمَدِينَة."
-*//*-
ثم يأتي: الكلام علىٰ الخبر المشهور في هجرة عمر -رضي الله عنه-، وبيان ضعفه .
.. ما نُشر ويُنْشَر في العديد المصادر والمواقع الإلكترونية: مِن أحداث وأقوال وأفعال ضعيفة لم تصح تنسب تارة إلىٰ رسول الإسلام -ﷺ وهو ما يسمىٰ في علم المصطلح بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة؛ وقد تصدىٰ لها رجال أعلام مِن علماء هذه الأمة الخيرية في قديم الزمان وحديثه وبينوها؛ ورحم مَن قال :« أن للــــ أحاديث الضعيفة أو الموضوعة آثرها السئ علىٰ الأمة »؛ وتارة تنسب تصرفات أو أقوال للصحابة الكرام - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- وبين فسادها وضعفها علماء أجلاء.. ومنها قصة هجرة الفاروق عمر بن الخطاب من مكة إلى يثرب-المدينة!!!
تقديم :
.. جاءَ في روايةٍ أن عمرَ -رضي الله عنه- هاجرَ علانيةً وجهراً.. وهي روايةٌ مشهورة ولكنها لم تأتِ من طرقٍ ثابتة.. لذا فقد تجرأَ آحدُهم -جهلاً منه- لتأثير تلك الأخبار عليه؛ فسأل يقول :
- هل يمكن القول أن الرسول -ﷺ أقل جرأة من عمر بن الخطاب ؟...
ثم يُبين دعواه الباطلة بقوله: فــ حين اشتدت وطأة كفار قريش بالمسلمين وبالغوا في إيذائهم واضطهادهم، أتىٰ أمر الهجرة، وكانت لكل مسلم طريقته بالخروج إلىٰ المدينة المنورة، فكانت طريقة الرسول -ﷺ : أن يهاجر خفية، والكفار متربصون به، بينما عمر -رضي الله عنه- هاجرَ جهراً، بل متحدياً وقائلاً :„ مَن أراد أن يثكل أمه أو يرمل زوجته أو ييتم ولده فليلقني وراء هذا الوادي ”.[!!؟؟؟..] .
تحقيق المسألة :
قلتُ(الرَّمَادِيُ) : هذه الرواية لا تصح كما ذكرتُ سلفا..
أولا : هذا الخبر المشهور في هجرة عمر -رضي الله عنه- ضعيف الإسناد لا يصح، فقد رواه برمته كل من:
١ . ] ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 51-52) ،
٢ . ] ابن الأثير في أسد الغابة (4/152)،
٣ . ] ابن السمان في الموافقة، انظر : شرح المواهب (1/319) و
٤ . ] السيرة الحلبية: (2/ 29)؛
٥ . ] سيرة الصالحي (3/315) و
ونَقلَ عنهم :
٦ . ] محمد بن محمد بن سويلم أبوشُهبة (المتوفىٰ: 1403هـ) في كتابه: السيرة النبوية علىٰ ضوء القرآن والسنة
وخطب آحدهم مِن مَن ينتمي لتيار إسلامي[خطبة للسيد/ دويش؛ ونقل النص من السيرة الحلبية: (2/ 29)].. فقدح في رسول الله -ﷺ ؛ إذ يقول : „ أما عمر فلم يخرج -رضي الله عنه- سرًّا كما خرج عياش، ولا كما خرج غيره مِن المهاجرين -رضي الله عنهم- بل خرج مجاهرًا -رضي الله عنه- ”.
قلتُ(الرَّمَادِيُ): ولعله نقلها مِن اسلافه :
٧ . ] انظر إلىٰ تكلف السباعي -رحمه الله- و
٨ . ] البوطي -مثلاً- في استخراج العبر منها. [السيرة النبوية دروس وعبر (ص 80)]؛ و[فقه السيرة للبوطي ( ص 135-).
قلتُ(الرَّمَادِيُ): وهذا إشكال النقل دون المراجعة والتحقيق والتدقيق.. وهذا يؤثر سلباً علىٰ عموم المسلمين..
تجد الروايةَ عند ابن الأثير في :« أسد الغابة » [(4/ 145؛ ط. دار الكتب العلمية)] من طريق أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ، ثنا أبوروق أحمد بن محمد بن بكر الهزاني - بالبصرة -، من طريق -ثنا- الزبير بن محمد بن خالد العثماني [بمصر سنة خمس وستين ومائتين :«٢٦٥»] نا عبدالله بن القاسم الأيلي عن أبيه عن عقيل بن خالد عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن عبدالله بن العباس قال : قال لي علي بن أبي طالب :„ ما علمتُ أن أحدا مِن المهاجرين هاجرَ إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هَمَّ بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضىٰ[استخرج من كنانته] في يده أسهما (أي: أخرجها)، واختصر عَنَزَته (شبه العكازة؛ وهي الحربة الصغيرة علَّقها عند خاصرته)، ومضىٰ قِبَل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا [متمكناً]، ثم أتىٰ المقام فصلىٰ [متمكناً] ثم وقف علىٰ الحلق واحدة واحدة ”؛ فقال لهم :„ شاهت [قبحت] الوجوه لا يرغم [يذل] الله إلا هذه المعاطس[الأنوف]، مَن أراد أن تثكله[تفقده] أمه أو يُيتم (ويُؤَتَّم) ولده أو يرمل[تُرمل] زوجه[زوجته] فليلقني وراء هذا الوادي ”.
قال علي -رضي الله عنه- :„ فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم وأرشدهم و[ثم]مضىٰ لوجهه ” .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه :
- ابن عساكر: تاريخ دمشق (ص45)،
- ابن الأثير: أسد الغابة (4/58).
في إسناده عندهما الزبير بن محمد بن خالد العثماني وعبدالله بن القاسم الأيلي وأبيه القاسم لم أجد لهم تراجم .
وقال ناصرالدين الألباني: وهؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين فإن أحدًا من أهل الجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقًا، [دفاع عن الحديث النبوي والسيرة (ص42،43)].
وأشار د. أكرم العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة إلى ضعف هذه القصة (1/206).
وهذه القصة لم يذكرها :
- ابن إسحاق و
- ابن هشام و
- ابن كثير في السيرة؛
- والذهبي في السيرة
- وابن حجر في الإصابة في ذكرهم لهجرة عمر -رضي الله عنه-.".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا إسناد ضعيف لا يحتج به؛ فــ هذه القصة ضعيفة معلولة:
- الزبير بن محمد؛ وشيخه؛ وأبو شيخه [الزبير بن محمد بن خالد العثماني، وعبدالله بن القاسم الأيلي، وأبوه في عداد المجهولين؛ إذ لا ذكر لهم في كتب الجرح والتعديل] : فهم مجهولون لا يعرفون .
قال الألباني -رحمه الله- :„ مداره على الزبير بن محمد بن خالد العثماني: حدثنا عبدالله بن القاسم الأيلي عن أبيه بإسناده إلىٰ علي . وهؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين؛ فإن أحدا من أهل الجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقا ”. [انتهى مِن "دفاع عن الحديث النبوي" (ص 42)].
*.) وكذا أشار إلىٰ ضعفها الدكتور الفاضل أكرم ضياء العمري - وفقه الله - في "السيرة النبوية الصحيحة" (1/ 206).
*.) وراجع المصادر التالية:
(1) "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" للدكتور مهدي رزق الله أحمد (1/ 308 - 309 - ط. دار إمام الدعوة).
(2) "دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية -رضي الله عنه-" للدكتور عبدالسلام بن محسن آل عيسىٰ. (ص161).
وضعف هذه القصة الألباني -أيضاً- في كتابه: "دفاع عن السيرة النبوية" (ص43) - في رده علىٰ جهالات الصوفي محمد سعيد رمضان البوطي.
قلتُ(الرَّمَادِيُ): رحم الله -تعالىٰ- الجميع وتجاوز عن زلاتهم؛ وهي بالقطع عن غير قصد؛ ولعله لم تتوفر لديهم الأدوات في الحكم علىٰ صحة الرواية من ضعفها.
*. ) „ هذه الرواية مع مخالفتها لما هو أثبت منها، فهي لا تسلم من الكلام علىٰ سندها، إذا يكفي لإسقاطها وجود راو مجهول فيها، فكيف وفيها ثلاثة مجاهيل ؟! ”.
قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في رده علىٰ البوطي في سيرته :„ جَزْمُهُ :«أي البوطي» بأن عمر -رضي الله عنه- هاجر علانية اعتماداً منه علىٰ رواية علي [بن أبي طالب] المذكورة، وجزمه بأن علياً رواها ليس صواباً.. لأن السند بها لا يصح وصاحب : « أسد الغابة » لم يجزمْ أولاً بنسبتها إليه -رضي الله عنه- ، وهو ثانياً قد ساق إسناده بذلك إليه لتبرأ ذمته، ولينظر فيه من كان من أهل العلم، وقد وجدتُ [أي: الألباني] مداره علىٰ الزبير بن محمد بن خالد العثماني: حدثنا عبدالله بن القاسم الأملي [كذا الأصل ولعله الأيلي] عن أبيه، بإسناده إلىٰ علي، وهؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين فإن أحداً من أهل الجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقاً .. ) [دفاع عن الحديث النبوي والسيرة (ص 42- 43)] .
قلت(الرَّمَادِيُ): ونحن لا ننكر شجاعة عمر وهيبته -رضي الله عنه- ، وقد قال النبي -ﷺ كما في الصحيح :«„ ما سلك عمر فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً غيره ”»؛ ولكن العبرة بما صح وحسن سنده.
والقصة الصحيحة في ذكر هجرته رضي الله عنه ما رواه ابن إسحاق؛ قال حدثني نافع مولىٰ عبدالله بن عمر عن عبدالله عن أبيه -عمر رضي الله عنهما- .. لذا فــ هذه القصة مخالفة لما روى ابن إسحاق ". والصحيح في خبر هجرة عمر -رضي الله عنه- ما رواه ابن إسحاق[(2/ 129 - 131)]
... ... قد اثبتها في بداية البحث -ولله الحمد وله الشكر ومنه الفضل والعون-
-*/*-
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: „ لما قدم المهاجرون الأولون من مكة إلىٰ المدينة نزلوا بالعصبة (من جهات قباء) إلىٰ جنب قباء، فأمهم سالم مولىٰ أبي حديقة لأنه كان أكثرهم قرآنًا، فيهم عمر بن الخطاب، وأبوسلمة بن عبدالأسد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه ابن سعد: الطبقات (2/ 352 ،3/87، 88)، وابن أبي شيبة: المصنف (1/302، 303)، وابن شبه: تاريخ المدينة (1/48 ،49).
وكان وصول عمر - رضي الله عنه - المدينة قبل وصوله -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث البراء بن عازب المتقدم الذكر حيث ذكر وصوله -صلى الله عليه وسلم- بعد قدوم عمر.
وروي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال وهو يصف حال المسلمين بالمدينة قبل مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم: „ كنا قد استبطأنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القدوم علينا، وكانت الأنصار يغدون إلىٰ ظهر الحرة، فيجلسون حتىٰ يرتفع النهار، فإذا ارتفع النهار وحميت الشمس رجعت إلىٰ منازلها ”؛ قال عمر: „ وكنا ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رجل من اليهود قد أومأ علىٰ أطم من آطامهم، فصاح بأعلىٰ صوته: „ يا معشر العرب، هذا صاحبكم الذي تنتظرون ”؛ قال عمر: „ وسمعت الوجبة في بني عمرو بن عوف فأخرج من الباب، وإذا المسلمون قد لبسوا السلاح، فانطلقت مع القوم عند الظهر، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات اليمين، حتىٰ نزل في بني عمرو بن عوف ”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه البزار: المسند (1/406).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-*//*-
أما الآثر السئ لمثل هذه الروايات غير الصحيحة والتي لا يجوز روايتها فهو ما يتعلق باهتزاز صورة نبي الملحمة..
وثانيا : كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس، وأشدهم جرأة في الحق، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا اشتد البأس في الحروب : اتقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
فروى البخاري (2820) ، ومسلم (2307) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ : «„ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ”».
قال الحافظ -رحمه الله- : „ فَجَمَعَ صِفَاتِ الْقُوَىٰ الثَّلَاثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَالشَّهْوَانِيَّةِ، فَالشَّجَاعَةُ تَدُلُّ عَلَىٰ الْغَضَبِيَّةِ، وَالْجُودُ يَدُلُّ على الشهوانية، وَالْحُسْنُ تَابِعٌ لِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ الْمُسْتَتْبِعِ لِصَفَاءِ النَّفْسِ الَّذِي بِهِ جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ الدَّالِّ عَلَىٰ الْعَقْلِ، فَوُصِفَ بِالْأَحْسَنِيَّةِ فِي الْجَمِيعِ ”؛ انتهى .
وروىٰ مسلم (1776) عن الْبَرَاء -رضي الله عنه- قال: „ كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ”.
قال النووي -رحمه الله-: „ وَفِيهِ بَيَان شَجَاعَته -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِظَم وُثُوقه بِاَللَّهِ تَعَالَى ”؛ انتهى .
وإنما فعل ما فعل بشأن هجرته -صلى الله عليه وسلم- : لأنه يشرع لأمته، وليس من الحكمة ولا من العقل، ولا من الشرع أيضا في شيء: أن يقدم علىٰ أمر خطير كهذا، لم يأخذ له أهبته، ولم يعد له عدته؛ وإنما هذا: كأكل الطعام للجائع، وغير ذلك من الأسباب التي شرعها لأمته.
قلت(الرَّمَادِيُ) : سأفصل في هذا الموضوع في المجلد القادم من بعد إذنه تعالىٰ
..وإذا قُدر أن عمر -رضي الله عنه-: قد صح عنه ذلك الأمر(وقد بينتُ فساد الاستدلال وضعفه)؛ فإنما عمر رجل واحد، إذا هلك: هلك رجل واحد، وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو المبلغ عن ربه، إمام الناس في دينهم.
وإنما عمر أيضا رجل واحد، لا يشرع لأحد بفعله أو قوله، ولا يتأسىٰ به غيره، وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : فقوله، وفعله، خاصة في مثل ذلك: تشريع لأمته .
" ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة الحث علىٰ الأخذ بالأسباب مع التوكل علىٰ الله، فمن أخذ بالأسباب واعتمدها فقط، وألغىٰ التوكل علىٰ الله فهو مشرك، ومن توكل علىٰ الله وألغىٰ الأسباب: فهو جاهل مفرط مخطئ، والمطلوب شرعا هو الجمع بينهما " .
لذا فإنني أجد أن مسألة المراجعة والتحقيق والتدقيق في الروايات الموجودة في صحائف العلماء -مع تقديري العظيم لمجهوداتهم- من الأهمية بمكان لتنقية ذلك التراث الرائع.. وأتفق مع مَن قال أن هذا الدور-المراجعة والتحقيق والتدقيق لا يتمكن منه شخص بمفرده بل مؤسسة!
ويكفي قول عمر بن الخطاب : «„ وكنّا إنّما نخرج سرًّا ”».
-*//*-
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
وبعد وصول النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة شرع الله له المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في السنة الأولىٰ من الهجرة، وذلك بسبب ما لقيه المهاجرون من فقد أموالهم، وهجرهم لأوطانهم وأهليهم وإصابتهم بالحمىٰ. فأصبح لكلّ مهاجري أخًا من الأنصار. وترتب علىٰ المؤخاة حقوق خاصة كالمواساة والتعاون علىٰ أعباء الحياة بين الاثنين وكذلك توارثهما دون ذوي الرحم. فلما ألف المهاجرون الحياة في المدينة، وعوضهم عن بعض ما فقدوه من أموالهم بعد موقعة بدر ألغىٰ الله -تعالىٰ- التوارث ورفع حكمه ونسخه بنزول قوله -تعالىٰ-: { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأحزاب: 6].
وقد جاءت روايات متعددة في ذكر من آخىٰ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
فــ
روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخىٰ بين عمر -رضي الله عنه- وبين بعض الصحابة،
فــ
روي أنه -صلى الله عليه وسلم- آخى بين عمر وبين أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-،
و
روي أنه آخىٰ بينه وبين عتبان بن مالك
و
قيل بينه وبين عويم بن ساعدة -رضي الله عنهما-.
و
قيل آخىٰ بينه وبين معاذ بن عفراء -رضي الله عنه-.. فالله أعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر هذه الروايات في: ابن إسحاق: السيرة النبوية لابن هشام (2/173، 4/274)، والبلاذري: أنساب الأشراف (ص: 157)، وابن سعد: الطبقات (3/272). البخاري: التاريخ الصغير (1/69)، وابن شبه: تاريخ المدينة (2/229).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله- أنه كانت هناك مؤاخاة أولىٰ بين المهاجرين بعضهم بعضًا، لأن بعضهم كان أقوىٰ بالمال والعشيرة، فعلىٰ هذا يحمل ما ورد من مؤاخاة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب مع أبي بكر، وهي مؤاخاة أولىٰ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن حجر: فتح الباري 07/271).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمّا أخو عمر -رضي الله عنه- من الأنصار فلم يرد في تحديده نصّ ثابت. ولا شكّ أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- آخىٰ بينه وبين أحد الأنصار، والذي يُرجح -والله أعلم- أنه عتبان بن مالك، لأنه ثبت عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان له جار من الأنصار يتناوب معه النزول إلىٰ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ووضح العلماء أن هذا الجار هو عتبان بن مالك، وذكر ابن حجر أنه ورد في كتاب الصلاة من صحيح البخاري أن عمر قال: „ كان لي أخ من الأنصار ”؛ وهذا هو الذي رجّحه ابن كثير وتابعه ابن إسحاق فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري في الصحيح (1/28، 3/258). وابن كثير: السيرة النبويّة (2/325).
ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] نطق القرآن الكريم يقول : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون } [الحِجر:9]
[(**)] قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثٍ : „ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «„ أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ (1) ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ ”». صحيح؛ رواه أحمد في المسند (28 / 410) (17213) (17173)؛ وأبوداود في سننه باب لزوم السنة، (4 / 200) (4604) وغيرهما.
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعنى "ومثله معه" أن الله أعطاه وحياً آخر وهو السنة، التي تفسر القرآن وتبين معناه، كما قال الله -عز وجل-: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - أوحىٰ الله إليه القرآن وأوحىٰ إليه أيضاً السنة، وهي الأحاديث التي ثبتت عنه -عليه الصلاة والسلام- فيما يتعلق بالصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات وغير ذلك. فالسنة النبوية وحي ثان أوحاه الله إليه -عليه الصلاة والسلام-، وهو يعبر عن ذلك بأحاديثه التي بينها للأمة، وتلاها علىٰ الأمة، فأحاديثه -صلى الله عليه وسلم- وحي ثان، غير وحي القرآن، فالوحي علىٰ هذا أنواع ثلاثة:
- القرآن الكريم: وهو الذي جعله الله معجزة عظيمة مستمرة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-، لفظه ومعناه، وبيَّن الله فيه أحكامه -سبحانه وتعالى- وهو كلامه عز وجل: { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }.
و
- الوحي الثاني: أحاديث قدسية من كلام الله -عز وجل-، أوحاها الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وليس من القرآن
و
- الوحي الثالث: وحي أوحاه الله إليه، وأخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبينه للأمة فهو من الله وحي، وهو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا من كلام الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[الْمُجَلَّدُ الْعَاشِرُ]
بحوث قُبيل الهجرة النبوية الشريفة
بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ الْمَدِينَةِ
» مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةُ «
[الْمَدِينَةُ المصطفوية * دَارُ الْهِجْرَةِ * *وَدَارُ السُّنَّةِ]
ما يُذكر مِن هجرة أصحاب الرسول قبل هجرته الشريفة
[السابقون إلىٰ الهجرة مِن الصحابة إلىٰ -يثرب- المدينة المنورة]
(١١٧) [ هِجْرَةُ عُمَرَ وَقِصّةُ عَيّاشٍ مَعَهُ ]
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ)
‏الإثنين‏، 13‏ رجب‏، 1443هــ ~ ‏الإثنين‏، 14‏ شباط‏، 2022م

أعلى الصفحة

( ١١٦ ) هِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ

بَدْءُ الْهِجْرَةِ إلَىٰ الْمَدِينَةِ
:" بحوث ما قُبيل الهجرة النبوية الشريفة!
» مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةُ «
(إذْنُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمُسْلِمِي مَكَّةَ بِالْهِجْرَةِ) : [(1)]
مدخل :
.. سبقَ هجرةَ المصطفىٰ إلىٰ مدينته المنورة طلائعُ مِن صحابته الكرام.. مهدوا التربة الخصبة لغرس نبتة الإسلام الناشئة.. وتهيئة المناخ العام لقدوم آخر الأنبياء كي تحتضن البيئة الصالحة افكار الإسلام الجديدة وتُفعل مبادئه السامية وترسخ قيمه الراقية وتنشر مقاييسه الرائعة وقناعاته السامقة.. فنعلم أن :" مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُاسَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَاسْمُهُ: عَبْدُاللَّهِ، هَاجَرَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ بِــ سَنَةٍ.. ".. حين " بَلَغَهُ إسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ.. ".. بعد أن " قَدِمَ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ .. " خَرَجَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا "[(2)] ..
" .. بعده جاءت: (هِجْرَةِ عَامِرٍ وَزَوْجُهُ إلىٰ يثرب -المدينة المصطفوية-..
.. فــ. : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ: عَامِرُ ابْن رَبِيعَةَ، ومَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَىٰ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ[(3)]..
.. ثم حصلت: هِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ..
وَذَكَرَ هِجْرَةَ بَنِي جَحْشٍ، وَهُمْ:
- عَبْدُاللهِ(*).. بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَثِيرِ [«كَبِير»] بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِشَمْسٍ، احْتَمَلَ بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ
- أَبي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ.. وَاسْمُهُ: عَبْدٌ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقِيلَ ثُمَامَةُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ[(4)] ..
وَكَانَ أَبُوأَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ مَكَّةَ، أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، بِغَيْرِ قَائِدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الفرعة..[" الْفَارِعَةُ بِنْتُ "[(5)].. بنت أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ-[عمة محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب]
وَ
قَدْ كَانَ أَخُوهُمْ عُبَيْدُاللهِ أَسْلَمَ ثُمّ تَنَصّرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ،
- وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ.. أُمّ الْمُؤْمِنِينَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَنَزَلَتْ فِيهَا: { فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها }[الْأَحْزَابَ]
- وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تُسْتَحَاضُ(!)، وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِالرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،
- وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ(!)أَيْضًا،
.. وَقَدْ رُوِيَ أَنّ زَيْنَبَ اُسْتُحِيضَتْ(!)أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِالرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ(!)، وَلَمْ تَكُ قَطّ زَيْنَبُ عِنْدَ عَبْدِالرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ وَالْغَلَطُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ بَشَرٌ(!)، وَإِنّمَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِالرّحْمَنِ أُخْتُهَا أُمّ حبيب..وَيُقَالُ فِيهَا أُمّ حَبِيبَةَ، غَيْرَ أَنّ أَبَا عَبْدِاللهِ مُحَمّدَ بْنَ نَجَاحٍ، أَخْبَرَ أَنّ أُمّ حَبِيبٍ كَانَ اسْمُهَا: زَيْنَبَ..
إذاً.. فَهُمَا زَيْنَبَانِ غَلَبَتْ عَلَىٰ إحْدَاهُمَا الْكُنْيَةُ، فَعَلَىٰ هَذَا لَا يَكُونُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ وَهْمٌ وَلَا غَلَطٌ (وَاَللهُ أَعْلَمُ).
.. وَكَانَ اسْمُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: بَرّةَ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ، وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سلمة ربيبته -عليه السلام-، كان اسمها بَرة، فَسَمّاهَا زَيْنَبَ كَأَنّهُ كَرِهَ أَنْ تُزَكّيَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِهَذَا الِاسْمِ،
.. وَكَانَ اسْمُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ: بُرّةَ بِضَمّ الْبَاءِ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.:„ يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ غَيّرْت اسْمَ أَبِي، فَإِنّ الْبُرّةَ صَغِيرَةٌ ”؛ فَقِيلَ: أن رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا.:«„ لَوْ أَبُوك مُسْلِمًا لَسَمّيْته بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِنَا أَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَكِنّي قَدْ سَمّيْته جَحْشًا ”»؛.. وَالْجَحْشُ أَكْبَرُ مِنْ الْبُرّةِ..
.. ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْنَدًا فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ أَبُوالْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ. ". [(6)]..
-*-/
غلق دار بني حجش:
.. فَغُلِّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً، فَمَرَّ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ؛ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ؛ وَأَبُوجَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهِيَ دَارُ أَبَانَ ابْن عُثْمَانَ الَّتِي بِالرَّدْمِ (الرَّدْم: مَوضِع بِمَكَّة)، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إلَٰى أَعَلَىٰ مَكَّةَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا (اليباب: القفر)، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ،..
ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ.:„ أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا ”؛.. فَقَالَ أَبُوجَهْلٍ.:„ وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ مِنْ قُلِّ بْنِ قُلٍّ ”؛
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.:„ الْقُلُّ: الْوَاحِدُ ”؛.
وَ قَرأتُ رواية.:„ وَمَا تبكي عَلَيْهِ من فل بن فل ”؛ [ الفل: الْوَاحِد]
.. ثُمَّ قَالَ.. يَعْنِي لِلْعَبَّاسِ.:„ هَذَا مِنْ عَمَلِ ابْنِ أَخِيكَ، هَذَا فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَقَطَّعَ بَيْنَنَا ”؛.
.. ثم ذَكَرَ الْبَيْتَ الّذِي تَمَثّلَ بِهِ أَبُوسُفْيَانَ حِينَ مَرّ بِدَارِ بَنِي جَحْشٍ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا، ثُمَّ قَالَ:
وَكُلُّ [بَيْتٍ] دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا [سَلَامَتُهُ] * يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا [سَتُدْرِكُهُ] النَّكْبَاءُ وَالُحُوبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.:„ وَهَذَا الْبَيْت لأبى دؤاد الْإِيَادِيِّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. [وَاسْمُهُ: حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقِيّ،].. وَقِيلَ جَارِيَةُ [وَقيل حَارِثَة] بْنُ الْحَجّاجِ ذَكَرَ دَارَ بني جحش، وَأَنّهَا عِنْدَ دَارِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بِالرّدْمِ، والرّدم.. حفر ردم بِالْقَتْلَىٰ فِي الْجَاهِلِيّةِ، فَسُمّيَ: الرّدْمَ، وَذَلِكَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي جُمَحَ، وَبَيْنَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، وَكَانَتْ الدّبَرَةُ فِيهَا عَلَىٰ بني الحارث، ولذلك قلّ عددهم، فهم أفل قُرَيْشٍ عَدَدًا ”.[(7)]
وَالُحُوبُ: التَّوَجُّعُ، (وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْحَاجَةُ، وَيُقَالُ: الْحُوبُ: الْإِثْمُ)
وبقية الأبيات:
كل امرىء بِلِقَاءِ الْمَوْتِ مُرْتَهَنٌ * كَأَنّهُ غَرَضٌ لِلْمَوْتِ مَنْصُوبُ
عدوان أبي سفيان.:
فعدا أبوسفيان علىٰ دارهم فتملكها وكانت الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب تحت أبي أحمد بن جحش.. فباعها من عمرو ابن علقمة أخي بني عامر بن لؤي.. فذكر ذلك عبدالله بن جحش لما بلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم.:«„ ألا ترضىٰ يا عبدالله أن يعطيك الله بها داراً في الجنة خيراً منها ”»؛
قال.:„ بلى ”؛
قال.:«„ فذلك لك ”»؛
.. فلما افتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبوأحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس لأبي أحمد.:„ يا أبا أحمد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله ”؛
فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.[(8)]
منزلهم بالمدينة المنورة .:
.. فَكَانَ مَنْزِلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالْأَسَدِ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ، عَلَىٰ مُبْشَرِ بْنِ عَبْدِالْمُنْذِرِ بْنِ زُنْبُرٍ بــ.:«„ قُباءٍ ”»؛ فِي.:«„ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ”»؛ ثُمَّ قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ أَرْسَالًا [أَرْسَالًا: جمَاعَة إِثْر جمَاعَة]، وَكَانَ بَنُو غَنْمِ ابْنِ دُودَانَ أَهْلَ إسْلَامٍ، قَدْ أَوْعَبُوا [يُقَال: جَاءُوا موعبين: إِذا جمعُوا مَا اسْتَطَاعُوا من جمع] إلَىٰ الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هِجْرَة رِجَالهمْ ونساءهم.. وهم:
- عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَ
- أَخُوهُ أَبُوأَحْمَدَ ابْن جَحْشٍ، وَ
- عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَ
- شُجَاعٌ، وَعُقْبَةٌ.. ابْنَا وَهْبٍ، وَ
- أَرْبَدُ ابْن حُمَيِّرَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ ابْنُ حُمَيْرَةَ
(هِجْرَةُ قَوْمٍ شَتَّى) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
- وَمُنْقِذُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَ
- سَعِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَ
- مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَ
- يَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَ
- قَيْسُ بْنُ جَابِرٍ، وَ
- عَمْرُو بْنُ مِحْصَنٍ، وَ
- مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَ
- صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَ
- ثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَ
- رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، وَ
- الزُّبَيْرُ بْنُ عُبَيْدٍ[ة]، وَ
- تَمَّامُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَ
- سَخْبَرَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَ
- مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَحْشٍ.
وَ
ذَكَرَ فِي نِسَاءِ بَنِي جَحْشٍ:
(هِجْرَةُ نِسَائِهِمْ) :
وَمِنْ نِسَائِهِمْ:
- زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَ
- أُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ جَحْشٍ، وَ
- جُذَامَةُ بِنْتُ جَنْدَلٍ، وَ
- أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مُحْصَنٍ، وَ
- أُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ ثُمَامَةَ، وَ
- آمِنَةُ [قَالَ أَبُوذَر: «قَالَ الأقشى: صَوَابه: أُمَيْمَة» .] بِنْتُ رُقَيْشٍ، وَ
- سَخْبَرَةُ بِنْتُ تَمِيمٍ، و
- حَمْنةُ بِنْتُ جَحْشٍ.
(شِعْرُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ فِي هِجْرَةِ بَنِي أَسَدٍ) :
وَقَالَ أَبُوأَحْمَدَ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَهُوَ يَذْكُرُ هِجْرَةَ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ قَوْمِهِ إلَىٰ اللَّهِ -تَعَالَى- وَإِلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِيعَابُهُمْ فِي ذَلِكَ حَيْنَ دُعُوا إلَىٰ الْهِجْرَةِ:
وَلَوْ حَلَفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أُمُّ أَحُمَدٍ * وَمَرْوَتِهَا باللَّه بَرَّتْ يَمِينُهَا
لَنَحْنُ الْأُلَى كُنَّا بِهَا ثُمَّ لَمْ نَزَلْ * بِمَكَّةَ حَتَّى عَادَ غَثًّا سَمِينُهَا
بِهَا خَيَّمَتْ غَنْمُ بْنُ دُودَانَ وَابْتَنَتْ * وَمَا إنْ غَدَتْ غَنْمُ وَخَفَّ قَطِينُهَا [القطين: الْقَوْم المقيمون]
إلَىٰ اللَّهِ تَغْدُو بَيْنَ مَثْنَى وَوَاحِدٍ * وَدِينُ رَسُولِ اللَّهِ بِالْحَقِّ دِينُهَا
وَقَالَ أَبُوأَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ [(9)] أَيْضًا:
لَمَّا رَأَتْنِي أُمُّ أَحْمَدَ غَادِيًا * بِذِمَّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ وَأَرْهَبُ[الذِّمَّة: الْعَهْد]
تَقُولُ: فَإِمَّا كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا * فَيَمِّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ ولتَنْأَ يَثْرِبَ[يمم: قصد. وتنأى: تبعد]
فَقُلْتُ لَهَا: بَلْ يَثْرِبُ الْيَوْمَ وَجْهُنَا[مَا يَثْرِبٌ بِمَظِنَّةٍ][(10)] * وَمَا يَشإِ الرَّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إلَىٰ اللَّهِ وَجْهِي وَالرَّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ * إلَى اللَّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيَّبُ
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ * وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعٍ وَتَنْدُبُ
تَرَى أَنَّ وِتْرًا[الْوتر: طلب الثأر]نَأْيُنَا عَنْ بِلَادِنَا * وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الرَّغَائِبَ نَطْلُبُ
دَعَوْتُ بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ * وَلِلْحَقِّ لَمَّا لَاحَ لِلنَّاسِ مَلْحَبُ[ملحب: طَرِيق بَين وَاضح]
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللَّهِ لَمَّا دَعَاهُمْ * إلَى الْحَقِّ دَاعٍ وَالنَّجَاحُ فَأَوْعَبُوا[أوعبوا: اجْتَمعُوا وكثروا]
وَكُنَّا وَأَصْحَابًا لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى * أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ وأجْلَبوا[وَفِي أ: «فأحلبوا» . وَمن رَوَاهُ بِالْجِيم، فَمَعْنَاه: صاحوا. وَمن رَوَاهُ بِالْحَاء الْمُهْملَة، فَمَعْنَاه: أعانوا.]
كَفَوْجَيْنِ: أَمَّا مِنْهُمَا فَمُوَفَّقٌ * عَلَى الْحَقِّ مَهْدِيٌّ، وَفَوْجٌ مُعَذَّبُ[الفوج: الْجَمَاعَة من النَّاس]
طَغَوْا وَتَمَنَّوْا كِذْبَةً وَأَزَلَّهُمْ * عَنْ الْحَقِّ إبْلِيسُ فَخَابُوا وَخُيِّبُوا
وَرِعْنَا إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ - فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقِّ مِنَّا وطُيِّبوا
نَمُتُّ بِأَرْحَامٍ إلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ * وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا نُقَرَّبُ
فَأَيُّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنَّكُمْ * وَأَيَّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِي تُرْقَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمًا أَيُّنَا إذْ تُزَايِلُوا * وَزُيِّلَ أَمْرُ النَّاسِ لِلْحَقِّ أَصْوَبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ «وَلْتَنْأَ يَثْرِبَ» ، وَقَوْلُهُ «إذْ لَا نَقْرَبُ» ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.[(11)]..
[قال أبوعمر وهاجر جميع بني جحش بنسائهم]..[(12)]:"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أمير المؤمنين... عبدالله بن جحش
(أول من دعي بأمير المؤمنين)
الصحابيّ الذي نسوق عنه الحديث الآن وثيق الصلة برسول الله صلى اللهعليه وسلم ، وواحد من أصحاب الأوليات في الإسلام. فهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأن أمه أميمة بنت عبد المطلب كانت عمة النبي عليه الصلاة والسلام. وهو صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك لأن أخته زينب بنت جحش كانت زوجة النبي الكريم، وإحدى أمهات المؤمنين. وهو أول من عُقد له لواء في الإسلام. وهو بعد ذلك أّول من دعي أمير المؤمنين… إنه عبد الله بن جحش الأسديّ.
أسلم عبدالله بن جحش، قبل أن يدخل النبي عليه الصلاة والسلام دار الأرقم، فكان من السابقين إلى الإسلام. ولما أذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى المدينة فراراً بدينهم من أذى قريش، كان عبدالله بن جحش ثاني المهاجرين إذ لم يسبقه إلى هذا الفضل إلا أبوسلمة. على أن الهجرة إلى الله، ومفارقة الأهل والوطن في سبيله لم تكن أمراً جديداً على عبدالله بن جحش، فقد هاجر هو وبعض ذويه قبل ذلك إلى الحبشة؛ لكنّ هجرته هذه المرّة كانت أشمل وأوسع، فقد هاجر أهلُه وذووه، وسائر بني أبيه رجالاً ونساءً، وشيباً وشباناً وصبية وصبيات، فقد كان بيته بيت إسلام، وقبيلُه قبيل إيمانٍ. فما إن فصلوا عن مكة حتّى بدت ديارهم حزينة كئيبة، وغدت خواءً خلاءً كأن لم يكن فيها أنيس من قبلُ، ولم يسمر في ربوعها سامرٌ.
ولم يمض غير قليل على هجرةِ عبدالله ومن معه حتّى خرج زُعماءُ قريش يطوفون في أحياء مكّة، لمعرفة من رَحَل عنها من المسلمين ومن بقي منهم، وكان فيهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة، فنظر عتبة إلى منازل بني جحش تَتَنَاوح فيها الرياح السافيات (التي تثير التراب) وتخفق أبوابها خفقاً وقال: أصبحت ديار بني جحشٍ خلاءً تبكي أهلها، فقال أبو جهل: ومن هؤلاء حتّى تبكيهم الدِّيارُ؟! ثم وَضَع أبو جهل يده على دار عبد الله بن جحش، فقد كانت أجمل هذه الدور وأغناها، وجعل يتصرَّف فيها وفي متاعها كما يتصرَّفُ المالك في ملكِه. فلمّا بلغ عبد الله بن جحش ما صنع أبو جهل بداره، ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: «ألا ترضى ياعبد الله أن يعطيك الله بها داراً في الجنّة؟». قال: بلى يارسول الله. قال: «فذلك لك». فطابت نفس عبد الله وقرّت عينه.
ما كاد عبدالله بن جحش يستقر في المدينة بعدما تكبّده من نصبٍ في هجرتيه الأولى والثانية، وما كاد يذوق شيئاً من طعم الراحة في كنف الأنصار، بعدما ناله من أذى على يد قريش، حتّى شاء الله أن يتعرّض لأقسى امتحان عرفه في حياته، وأن يعاني أعنف تجربة لقيها منذ أسلم.
فلنرهف السمع لقصّة تلك التجربة القاسية المرّة:
انتدب الرسول صلوات الله عليه ثمانية من أصحابه للقيام بأول عملٍ عسكري في الإسلام، فيهم عبدالله بن جحش وسعد بن أبي وقاص وقال: «لأؤمرنَّ عليكم أصبركم على الجوع والعطش» ثم عقد لواءهم لعبدالله بن جحش، فكان أول أمير أُمّر على طائفةٍ من المؤمنين. (وروي أن أول لواء عقد في الإسلام كان لحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه وقيل غير ذلك).
حدّد الرسول الكريم لعبدالله بن جحش وجهَتَه وأعطاه كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد مسيرة يومين. فلما انقضى على مسيرة السرية يومان نظر عبدالله في الكتاب فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا، فامضِ حتّى تنزل «نَخلَة» بين الطائف ومكّة، فترصَّد بها قريشاً، وقف لنا على أخبارهم». وما إن أتمّ عبدالله الكتاب حتّى قال: سمعاً وطاعة لنبي الله، ثم قال لأصحابه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرني أن أمضي إلى نخلة لأرصد قريشاً حتى آتيه بأخبارهم، وقد نهاني عن أن أستكره أحداً منكم على المضي معي، فمن يريد الشهادة ويرغب فيها فليصحبني، ومن كره ذلك فليرجع غير مذموم. فقال القوم: سمعاً وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، إنما نمضي معك حيث أمرك نبي الله.
ثم سار القوم حتّى بلغوا نخلة وطفقوا يجوسون (يدورون ويبحثون) خلال الدروب ليترصدوا أخبار قريش. وفيما هم كذلك أبصروا عن بعد قافلة لقريش فيها أربعة رجالٍ هم: عمرو بن الحضرميِّ، والحكم بن كيسانَ، وعثمان بن عبدالله، وأخوه المغيرة ومعهم تجارة لقريش فيها جلود وزبيب ونحوها مما كانت تتجر به قريش.
عند ذلك أخذ الصحابة يتشاورون فيما بينهم، وكان اليوم آخر يوم من الأشهر الحرم ، فقالوا: إن قتلناهم فإنما نقتلهم في الشهر الحرام، وفي ذلك ما فيه إهدار حُرمة هذا الشهر والتعرض لسخط العرب جميعاً. (الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، وكانت العرب تحرم فيها القتال). وإن أمهلناهم حتى ينفض هذا اليوم دخلوا في أرض الحرم ( أي أصبح قتالهم محرماً علينا بسبب دخولهم في أرض الحرم المكّي) وأصبحوا في مأمن منا. ومازالوا يتشاورون حتّى أجمعوا رأيهم على الوثوب عليهم وقتلهم وأخذ ما في أيديهم من غنيمة. وفي لحظات قتلوا واحداً منهم وأسروا اثنين، وفرّ الرابع من أيديهم.
استاق عبدالله بن جحش وصحبه الأسيرين والعير متوجهين إلى المدينة، فلمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف على ما فعلوه استنكره أشد الاستنكار، وقال لهم: «والله ما أمرتكم بقتال، وإنما أمرتكم أن تقفوا على أخبار قريش، وأن ترصدوا حركتها». وأوقف الأسيرين حتّى ينظر في أمرهما، وأعرض عن العير فلم يأخذ منها شيئاً.
عند ذلك سُقِطَ في أيدي عبدالله بن جحش وأصحابه، وأيقنوا أنهم هلكوا بمخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزاد عليهم الأمر ضيقاً أن إخوانهم من المسلمين طفِقوا يكثرون عليهم من اللوم، ويزورون عنهم كُلّما مرُّوا بهم ويقولون: خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ازدادوا حرجاً على حرج حين علموا أن قريشاً اتخذت من هذه الحادثة ذريعة للنيل من رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، والتشهير به بين القبائل، فكانت تقول: إن محمداً قد استحل الشهر الحرام؛ فسفك فيه الدم، وأخذ المال، وأسر الرجال…
فلا تسلْ عن مبلغ حزن عبدالله بن جحش وأصحابه على ما فرط منهم، ولا عن خجلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوقعوه فيه من الحرج. ولمّا اشتد عليهم الكرب وثقُل عليهم البلاء، جاءهم البشير يبشرهم بأن الله سبحانه قد رضي عن صنيعهم، وأنه أنزل على نبيّه في ذلك قرآناً. فلا تسلْ عن مدى فرحتهم، وقد طفق الناس يقبلون عليهم معانقين مبشرين مهنئين وهم يتلون ما نزل في عملهم من قرآن مجيد.
فلقد نزل على النبي قول الله علت كلمته: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
فلّما نزلت الآيات الكريمات طابت نفس الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه؛ فأخذ العير وفدى الأسيرين، ورضي عن صنيع عبدالله بن جحش وأصحابه إذ كانت غزوتهم هذه حدثاً كبيراً في حياة المسلمين؛ فغنيمتها أول غنيمة اُخِذت في الإسلام، وقتيلها أول مشرك أراق المسلمون دمَه، وأسيراها أول أسيرين وقعا في أيدي المسلمين، ورايتها أول راية عقدتها يد رسول الله صلوات الله عليه، وأميرها عبدالله بن جحش أول من دُعي بأمير المؤمنين.
ثم كانت (بدر) فأبلى فيها عبدالله بن جحش من كريم البلاء ما يليق بإيمانه. ثم جاءت (أحد) فكان لعبدالله بن جحش وصاحبه سعد بن أبي وقاص معها قصة لا تنسى، فلنترك الكلام لسعد ليروي لنا قصته وقصة صاحبه:
قال سعد بن أبي وقاص: لما كانت أحد لقيني عبدالله بن جحش وقال: ألا تدعو الله؟ فقلت: بلى. فخلَونا في ناحية فدعوت فقلت: يارب إذا لقيت العدو فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده (غضبه وثورته) أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمن عبدالله بن جحش على دعائي، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديداً بأسه أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غداً قلتَ: فيم جُدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقتَ…
قال سعد بن أبي وقاص: لقد كانت دعوة عبدالله بن جحش خيراً من دعوتي، فلقد رأيته آخر النهار، وقد قُتل ومثِّل به، وإن أنفه وأذنه لمعلقان على شجرة بخيط. استجاب الله دعوة عبدالله بن جحش، فأكرمه بالشهادة كما أكرم بها خاله سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب. فواراهما الرسول الكريم معاً في قبر واحدٍ، ودموعه الطاهرة تُروِّي ثراهما المضمخ بطيوب الشهادة [(13)]".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[الْمُجَلَّدُ الْعَاشِرُ]
[الْمَدِينَةُ المصطفوية * دَارُ الْهِجْرَةِ )* )*وَدَارُ السُّنَّةِ ]
ما يذكر مِن هجرة أصحاب الرسول قبل هجرته الشريفة
[ السابقون إلىٰ الهجرة مِن الصحابة إلىٰ -يثرب- المدينة ]
( ١١٦ ) هِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ
‏الخميس‏، 24‏ جمادى الثانية‏، 1443هــ ~ ‏الخميس‏، 27‏ كانون الثاني‏، 2022م

أعلى الصفحة
فهرس

115 هِجْرَةُ عَامِرٍ وَزَوْجِهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ

وأُمُّ عَبْدِالْلَّهِ بْنِ عَامِرٍ؛ لَيْلَىٰ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ.. الْقُرَشِيَّةِ الْعَدَوِيَّةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-
بحوث قُبيل الهجرة النبوية الشريفة
»مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةُ «
ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

.. نقترب رويداً.. رويداً.. مِن بدايات أحداث العهد المدني الميمون؛ ذٰلك العهد الذي سيصبحـ كيانا تنفيذيا لـ مجموعة الأفكار الإسلامية المنزلة من السماء لمعالجة مسائل الإنسان المغايرة تماماً عما هو سائد وموجود في كل المجتمعات وقتذاك.. ذٰلك الكيان التنفيذي لــ تطبيق كتلة المبادئ وتنفيذ حزمة القيم وإيجاد المقاييس في كافة العلاقات وتفعيل المفاهيم عند الفرد والمجتمع والدولة وإنزال القناعات الإسلامية في الحياة الخاصة والعامة..
ونتشرف مِن خلال موقع آستروعرب نيوز بــ تواجدنا عبر الأثير في موضع اللبنة الأولىٰ للكيان التنفيذي الأول للدولة الإسلامية في »يثرب الأنصار «: مدينةِ الرسول؛ والتي نقىٰ الله -تعالىٰ- هواءها بمقدمه-عليه السلام-.. وطيَّبَ ثراها حين داس بقدميه الشريفتين ترابها.. ثم بمرقده حين انتقل إلىٰ الرفيق الأعلىٰ في غرفة أم المؤمنين.. أم عبدالله عائشة بنت أبي بكر!.. وبجواره صاحبيه الصديق والفاروق -رضي الله تعالى عنهما وارضاهما- ..
سنبدء نتعايش مع الكيان الجديد.. الدولة الإسلامية الأولىٰ
.. تشرفنا بمصاحبة طلائع الهجرة في الحلقة الماضية مع أبي سلمة المخزومي.. واليوم نتشرف بسيرة آحدىٰ الــ : » نساء الــــ رائدات «باعتبارها أول مسلمة تجر ذيلها الطاهر بــ قُباء فتطأ قدميها -قبل الرسول الكريم مع زوجها- المدينة! لــ يتم التمهيد لاستقباله ومن ثمَ بناء الكيان الجديد!
-**-
الْمُقَدِّمَة:
الثابتُ والآكيدُ أن جميع ما قال به نبي الهدىٰ ورسول الإسلام؛ خاتم النبيين؛ وآخر المبتعثين؛ ومتمم المرسلين محمد بن عبدالله [ﷺ].. والمعروف أن جميع ما جاء به [ﷺ] وحيا من ربه مِن قضايا متعلقة بالعقيدة والإيمان سواء بالآله الواحد الأحد الفرد الصمد وصفاته وخواصه واسماءه.. أو بقية أركان الإيمان وأسس العقيدة.. أو مسائل العبادات البدنية: كــ الصلاة والصيام ولباس المسلمــ(ــة) والمالية: كــ الصدقة والزكاة أو الإثنين معاً في عبادة واحدة كــ الحج والعمرة.. وكافة المعاملات سواء معاملة الإنسان مع ذاته أو غيره مِن البشر وبقية المخلوقات.. أو إذا ارتكب معصية أو جريرة وعلم بها القاضي الشرعي؛ وما يتعلق بها من كيفية التعزير والعقوبات والحدود..
.. الآكيد والمعروف أن جميع ما هو متعلق بأفعال وأقوال وتصرفات الإنسان وفق القاعدة الشرعية والتي تقول : « الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي »؛ وتجاورها قاعدة آخرىٰ تقول : « الأصل في الأشياء الإباحة ما يرد دليل التحريم »؛ وعليهما -القاعدتين الشرعيتين المستنبطتين من آيات كريمات وأحاديث شريفة- يتم وفق أحكام الإسلام..
والثابت أن تكون أفكار الإسلام مرافقة لمعالجات عملية وطريقة تطبيقية في إيجادها وكيفية تنفيذها.. فهي » الأفكار والمبادئ والقيم والمقاييس والمفاهيم والقناعات «ليست أفكار مثالية أو تصورات خيالية أو نظريات خالية مِن المضمون وفاضية مِن المحتوىٰ..وإن تمكنت نظرية فلسفية ما مِن التواجد في الحياة العملية.. فسرعان ما تسقط كالشيوعية -مثلاً- والتي انهارت وقُضي عليها بأيدي أمناء الفكرة.. وكذا الرأسمالية الديموقراطية والتي تترنح مِن حين إلىٰ آخر عند أساءة التطبيق أو ظهور المفسدين..
فالإسلام بشقيه : الدعوة.. وطريقة إيجادها في الواقع المعاش يحتاج إلى أرض صلبة لقيام هذا الكيان.. وبما أنه لم يصلح المجتمع المكي فلم يتبقىٰ سوىٰ الخروج منها للبحث عن موضع تحت الشمس يصلح فكان الخروج إلىٰ الطائف(أولاً)؛ بيد أنه -سبحانه وتعالى- قدَّر أن يكون قيام الكيان الإسلامي الجديد في يثرب الأنصار.. مدينة المصطفىٰ!
.. لذا فإسلامُ النبي الخاتم [ﷺ] وجهةُ نظر معينة في الحياة؛ وطرازٌ خاصٌ مِن العيش وكيفيةٌ معينةٌ في كافة العلاقات والمعاملات والتصرفات تحمل في طياتها طريقة التنفيذ وترافق النظرية(الفكرة) كيفية عملية لــ إيجادها في واقع الحياة والمجتمع والدولة؛ وأعترفُ أنه قد حدثت وتحدث تجاوزات أو اساءة تطبيق مِن القائمين عليها لحظة التنفيذ.. لكن سرعان ما يتم تصحيح الإعوجاج مِن داخل نظام الإسلام نفسه وليس بترقيعه بــ نظريات غريبة عنه؛ أما الانحدار المستمر الذي اصيبت به الأمة الإسلامية في مجموعها منذ حين يعود لحالة الضعف الشديد؛ والتي : « طرأت » علىٰ الأذهان في فهم الإسلام.. وخيرُ دليل علىٰ هذه الحالة تلك التجمعات والتكتلات والحركات -وما أكثرها اليوم كــ غثاء السيل- ذات الوشاح الإسلامي والتي تصدرت المشهد في كثير مِن بقاع العالم لم تتمكن من إبراز صحيح الدين وأن :„ دندنت ” حوله بمقولات إسلامية.. وشعارات جوفاء.. وإن شاء الرحمن الرحيم -عزَّ وجلَّ- في نهاية هذه البحوث تكون هناك ملاحق.. منها دراسة تلك التكتلات والتجمعات والحركات.. مع بحث سبب الإخفاق.
.. أقول (الرَّمَادِيُّ) : رافق المصطفىٰ المجتبىٰ المرتضىٰ المحتبىٰ في العهد المكي رجالات ونساء مِن الطراز الأول من البشر في زمن الرسالة الأول؛ ثم تعايش رجال ونساء في العهد المدني: الزمن الثاني للرسالة -وهو ما سيبحث بإذنه –تعالىٰ- في قادم الصفحات- .. هؤلاء الصحابة والصحابيات الكرام سُطرت أعمالهم في سجل الخالدين؛ مع وجود بعض السقطات والهفوات والمخالفات من أفرادٍ منهم -سيشار إليها في موضعها-.. فهم ونحن بشر؛ بيد أنه تتبقىٰ المدرسة النبوية الرائدة مع هذا الرعيل الأول مِن الصحابة والصحابيات والمعاشرة الحية معه -عليه السلام- والتفاعل الحي.. مع ملاحظة الاستعداد النفسي والعقلي والقبول الروحي والإدراك الذهني لما يتنزل مِن الوحي علىٰ قلوب أمثال هؤلاء جميعاً.. لذا فقد وجد مصطلح :
- « أم المؤمنين .. الصحابي.. الصحابة.. اصحاب رسول الله.. الصحابيات .. الصحابية»..
كما وجد مصطلح.:
.-. « الأنصاري.. الأنصار.. الأنصاريات»..
كما وجد مصطلح :
.-. « التابعي.. التابعات » وهكذا.. وهي مصطلحات لها مفهوم في الثقافة الإسلامية بل والعالمية.. ومن هنا جاء مصطلح :
- «„ الشخصيات المحورية ”» في عموم الرسالة المحمدية بعهديها المكي والمدني.. والتي لعبت تلك الشخصيات دوراً جوهرياً.. وهي ملحق -بإذنه تعالىٰ- هام مِن ملاحق بحث السيرة النبوية!
واعتقد أنه مِن الخطأ وتجاوز الحد والتعدي في الأدب عقد مقارنة بين جيل الصحابة وبين جيل هذه الألفية؛ فهم -رضوان الله عليهم أجمعين- أبناء وبنات بيئتهم ومناخهم وزمنهم وعصرهم بما فيه وما عليه.. ونحن أبناء وبنات عصرنا بما فيه وعليه.. والمقارنة ليست متوفرة بنص القرآن الكريم؛ غير أنه تتبقىٰ مدرسة النبوة الرائدة؛ وتتبقىٰ دراسة سيرتهم الحسنة ؛ وأيضا سيرة مِن عصىٰ وارتكب إثماً يحاسب عليه.. فتصور حال صحابته وإدركه بصورة ذهنية نقية تساعد علىٰ إمكانية بناء جيل اشبه أو يقارب جيل الصحابة..ولعلها محاولة!..
-*-*
الهجرة إلىٰ يثرب- مدينة المصطفىٰ
قال ابن اسحٰق:" فلما تمت بيعة الأنصار -رضي الله عنهم- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة العقبة وكانت سراً عن كفار قومهم.. وسراً عن كفار قريش.. أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَن كان معه بالهجرة إلىٰ المدينة فخرجوا أرسالاً.. "
- أولهم فيما قيل » أبوسلمة ابن عبدالأسد « المخزومي.. وحبست عنه امرأته » أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم

انظر آستروعرب نيوز:] : «„ ١١٤ هِجْرَةُ أَبِي سَلَمَةَ وَزَوْجِهِ ”»؛

» هِجْرَةُ عَامِرٍ وَزَوْجِهِ «

-*-*-قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- كان » عَامِرٌ «مهيأ نفسياً لرؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان بدينه، وذٰلك بناءً عما قيل عَنْ عَامِرِ بن رَبِيعَةَ.. فقد قَالَ: سَمِعْتُ » زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ «يَقُولُ: „ أَنَا أَنْتَظِرُ نَبِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ.. ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ.. وَلا أراني أدركه.. وأنا أؤمن بِهِ وَأُصَدِّقُهُ وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ.. فَإِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ يا عامر فَرَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ. وَسَأُخْبِرُكَ مَا نَعْتُهُ حَتَّىٰ لا يَخْفَىٰ عَلَيْكَ ”.
قُلْتُ: „ هَلُمَّ! ”.
قَالَ:„ هُوَ رَجُلٌ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ وَلا بِكَثِيرِ الشَّعْرِ وَلا بِقَلِيلِهِ. وَلَيْسَتْ تُفَارِقُ عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ. وَخَاتَمُ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَاسْمُهُ أَحْمَدُ. وَهَذَا الْبَلَدُ مَوْلِدُهُ وَمَبْعَثُهُ. ثُمَّ يُخْرِجُهُ قَوْمُهُ مِنْهُ وَيَكْرَهُونَ مَا جَاءَ بِهِ حَتَّىٰ يُهَاجِرَ إِلَىٰ يَثْرِبَ فَيَظْهَرَ أَمْرُهُ. فَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ عَنْهُ فَإِنِّي طُفْتُ الْبِلادَ كُلَّهَا أَطْلُبُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. فَكُلُّ مَنْ أَسْأَلُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسِ يَقُولُونَ هَذَا الدِّينُ وَرَاءَكَ. وَيَنْعَتُونَهُ مِثْلَ مَا نَعَتُّهُ لَكَ. وَيَقُولُونَ لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ غَيْرُهُ ”.
قَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ:„ فلما أسلمتُ أخبرت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قَوْلَ » زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو «وَأَقْرَأْتُهُ مِنْهُ السَّلامَ ”.
فَرَدَّ السَّلامَ وَرَحَّمَ عَلَيْهِ.. وَقَالَ:«„ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُولا ”» .
وهكذا -أيضاً- كانت ليلىٰ مهيأة لقبول الدين الجديد.. لأن زوجها كان يردد كثيراً قول » زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ «، فلما سرىٰ في مكة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلىٰ الله الواحد الأحد.. أقبل عامر وليلىٰ وأسلما فــ أسلم عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ قَدِيمًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ – دار الأرقم بن أبي الأرقم.. وقبل أن يدعو فِيهَا.
وكانا -عامر وزوجه- في طليعة المهاجرين إلىٰ الحبشة لما اشتد أذىٰ قريش .
.. لذا فــ أمهات المؤمنين -زوجات النبي-والصحابيات - رضي الله عنهن جميعاً- يصلحنَّ أن يكنَّ قدوة حسنة للنساء المسلمات، بعد الإِسوة برسول الله.. فقد ضربنَّ أروع الأمثلة في التضحية في سبيل الله والجهاد، سواء أكنَّ أمهات أو زوجات فقد صبرنَّ علىٰ الملاحقة والتعذيب والاضطهاد.. وفَقْد الأزواج والأبناء والإخوة، أو مجاهدات شاركنَّ في الغزوات بتمريض الجرحىٰ، وسقي العطشىٰ، وإعداد الطعام أو راويات للأحاديث ومحفظات للقرآن.. ومعلمات للنشأ.
كانت ليلىٰ مِن المُكرمات اللاتي جلسنَّ مع رسول الله، فتعلمتْ علىٰ يديه ونهلت مِن علمه، كما أنها واحدة من الأوائل الذين دخلوا الإسلام، وهاجرت إلىٰ الحبشة، ومن بعدها المدينة المنورة، لذلك حظيت بمكانةٍ خاصةٍ..
فــ الحديث عن سيرة الصحابية ليلىٰ بنت أبي حثمة، شقيقة سليمان بن أبي حثمة، وزوج الصحابي عامر بن ربيعة، وولدها عبدالله بن عامر بن ربيعة.
تميَّزت » ليلى «بالعقل الراجح، ويؤكد ذلك أنها في بداية الدعوة ورغم أن دخول الإسلام في مكة، آنذاك، كان يتم في الخفاء، خوفًا من العذاب الذي كان يتعرض له المسلمون، علىٰ أيدي أشراف قريش، والمشركين بالله، وعابدي الأصنام، والرافضين لدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنها ولفراستها العالية وقوة ذكائها، تأكدت أن عبادة الأصنام لا تنفع بل تضر، وأن الإسلام هو الدين الذي يجب أن تكون عليه، لذلك لم تتردد لحظة في إعلان إسلامها.
أسلمت هي وزوجها عامر بن ربيعة، ليكونا من السابقين إلىٰ دخول الإسلام، وكانا يتعرضان للإيذاء ليل نهار من عشيرتهما، إلا أنهما تمسكا بالصبر وقوة الإيمان، وعندما ازداد العذاب ذهبا إلىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منهما الهجرة إلىٰ أرض الحبشة، فهاجرا.
الحديث عن : سيدةٍ من نساء الإسلام الأوائل الخالدات اللاتي تحملنَّ مِن أجله كل مكروه كي ترتفع رايته، ويسعد بظله كل إنسان علىٰ ظهر الأرض لما فيه من نجاة وسعادة، فقد هاجرت ليلىٰ مع زوجها تاركةً دارها ومالها وبلدها، وفضلت ما عند اللَّه علىٰ ما عند البشر.
فــ :" الحديث عن:
- لَيْلَىٰ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ [بن حذيفة] بْنِ غَانِمِ [ بن عامر ] بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ [بن عويج ] بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ [بن لؤي ] القرشية العدوية..
امرأة عامر بن ربيعة.
وهي أم ابنه عبدالله بن عامر، وبه كانت تكنىٰ.
وكانت من المهاجرات الأُوَل.
هاجرت الهجرتين إلىٰ الحبشة وإلىٰ المدينة،
وصلت القبلتين.
روت عنها الشفاء.
يقال: إنها أول ظعينة دخلت المدينة [من المهاجرات] مهاجرة، وقيل: أم سلمة"...
فقد كان أول المهاجرين أبوسلمة.. ثم تبعه عامر بن ربيعة وزوجه ليلىٰ، وتعد أول ظعينة تهاجر إلىٰ المدينة. ويظن الكثير أن أول مهاجرة كانت أم سلمة ولكنها كانت ليلىٰ وليست أم سلمة.
ولم تكن هجرة ليلىٰ بنت أبي حثمة إلىٰ يثرب المدينة مجرد انتقال من مكان إلىٰ مكان ولكن كان لها دور إيجابي هي وباقي المهاجرات والمهاجرين في توطيد دعائم الدين الإسلامي في قلوب اليثربيات واليثربيين، وليس أدل علىٰ ذلك مما رأيناه من خروج الأنصار والمهاجرين ونسائهم للقاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بهجرته المباركة. ".
-*-*
ولنستحضر الأدلة علىٰ ما ذكرته:
جاء عند ابن إسحاق: مَنْ هَاجَرُوا الْهِجْرَةَ الْأُولَىٰ إلَىٰ الْحَبَشَةِ.. وذكر.. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ :
عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، مِنْ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ - ( قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ : مِنْ عَنَزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ ) - مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَىٰ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ ( بْنِ حُذَافَةَ ) بْنِ غَانِمِ ( بْنِ عَامِرِ ) بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ.
فــ :" كانت واحدة من النسوة الأربع اللاتي هاجرن إلى أرض الحبشة الهجرة الأولىٰ ".
وَ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ‏:‏ مَا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ أَوَّلُ مِنْ لَيْلَىٰ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ مَعَ أَبِي، وَهُوَ زَوْجُهَا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ‏.‏
وجاء عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: « أَوَّلُ ظَعِينَةٍ قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ».
- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ المدينة مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ : عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ [ بن مالك بن عامر بن ربيعة بن حجر بن سلامان بن مالك بن ربيعة بن رفيدة بن عنز بن وائل بن قاسط: حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَىٰ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ .
وروي عنه أنه قال :„ ما دخل المدينة في الهجرة أحد بعد أبي سلمة بن عبدالأسد قبلي، ولا قدمتها ظعينة قبل ليلىٰ بنت أبي حثمة”.
- فَكَانَ مَنْزِلُعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَلَى مُبْشَرِ بْنِ عَبْدِالْمُنْذِرِ بْنِ زُنْبُرٍ بقُباءٍ . فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
-*-*-
قال أنه:" مات بعد مقتل عثمان بأيام. وكان لازماً لمنزله، فلم يشعر الناس إلا وجنازته قد أخرجت. وكان يكنىٰ أبا عبدالله. وكان الخطاب بن نفيل لما حالفه عامر بن ربيعة العنزي، تبناه فكان يقال له عامر بن الخطاب، حتىٰ نزل: { ادعوهم لآبائهم } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
( ١٠ ) : [ الْمُجَلَّدُ الْعَاشِرُ ]
السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ العطرة
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
" ذِكْرُ أَوَائِلَ الْمُهَاجِرِينَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ "
١١٥» هِجْرَةُ عَامِرٍ وَزَوْجُهُ «
‏الأحد‏، 20‏ جمادى الثانية‏، 1443هــ ~ ‏الأحد‏، 23‏ كانون الثاني‏، 2022م

أعلى الصفحة
فهرس

 ١١٤ هِجْرَةُ أَبِي سَلَمَةَ وَزَوْجِهِ

« مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةُ »
:" ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ "
﴿ » „١١٤ ‟ « ﴾ هِجْرَةُ أَبِي سَلَمَةَ وَزَوْجِهِ أم سَلَمَةَ، وَحَدِيثُهَا عَمَّا لَقِيَا "
تَمْهِيدٌ :
*.) " إذنه -صلى الله عليه وآله وسلم- لمسلمي مكةَ بالهجرة ".
مِن الثابت لمَن يقرأ أحداث السيرة النبوية ويتتبع مجريات الأمور؛ وتسلسلها.. ويدرسها دراسة منهجية علمية تشريعية فقهية ليحسن تطبيقها في حياته اليومية العملية.. وليس دراسة تاريخ مضىٰ وولىٰ وانتهىٰ.. فارغ المضمون..إذ أن " الفترة الزمنية أو المرحلة التأسيسة؛ والتي هي الأحق بالبحث والدراسة والتحليل باستمرار، هـي مرحلة السيرة النبوية العطرة.. وتليها فترة الخلافة الراشدة، وحقبة خير القرون، بنص وحي السماء المنزل بواسطة أمين السماء علىٰ قلب أمين السماء والأرض رسول الله محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب -صلى الله عليه وآله وسلم- حين يقول : ( خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونهم ) [(1)].
.. لأنها تُصوِّب المسار، وتمثل المرجعية والمعيار، وتشكل نقطة البداية والانطلاق، وتحقق الارتكاز القيمي والمقياس الحضاري، وتوضح الملامح والقسمات المميزة للشخصية الحضارية الإسلامية التاريخية.. بشقيِّ تلك الشخصية النفسي والعقلي، كما تمثل البُعدين الإنساني والعالمي للرسالة الإسلامية الخالدة، والفترة الأمينة والمأمونة والسابقة، لتحويل أفكار المبادئ إلىٰ برامج عملية، والقيِّم الحياتية إلىٰ خطط مطبقة، والفكر النظري إلىٰ فعل تنفيذي، أي تحويل النظرية إلىٰ تطبيق، وإدراك كافة مقاصد الدين، والانطلاق في الاجتهاد بما يجد من مسائل في كل عصر ووفق كل زمان، والحوار مع الآخر سواء المعاند أو الجاهل، والمشاورة مع أهل العلم التخصصي في كافة مجالاته والمشورة والشورىٰ مع أهل الرأي وأهل الحل والعقد، والمفاكرة فيما يستجد، والمناظرة في المبادئ المستحدثة والأراء المستجدة، إلىٰ الآفاق والأبعاد المستقبلية، التي تتلاءم مع خلود الإسلام كنظام حياة ومرونته وإن كان طراز خاص من العيش طالما أن هناك وجهات نظر متباينة وأراء له مخالفة، مع قدرته علىٰ العطاء في كل زمان ومكان.. فتجربة هـذا الجيل الرباني -جيل الصحابة-، واجتهادهم، وفعلهم، وتنزيلهم للقيم علىٰ الواقع، جزء من خلود هـذا الدين، ووسائل إيضاح معينة وخالدة لكيفية التعامل مع النصوص في الكتاب والسنة، في الظروف والأحوال المختلفة.". [(2)] .
فــ الدارس لمنهجية السيرة النبوية يجد أن النبي المصطفىٰ -ﷺ- حين الربط بين مفاصل العهد المكي للإنتقال إلىٰ العهد المدني قد سمح لــ مسلمي مكة الأوائل بالخروج منها رغم مكانتها في قلوب المسلمين المعروفة.. ورغم مجاورتهم للبيت العتيق.. ورغم حالة الاستقرار التي عايشوها قبل الإعلان عن الرسالة والجهر بالدعوة ومعرفة أفراد الثلة المؤمنة الأولىٰ لكفار مكة وصناديد قريش[(3)].
وقد تنوع شكل الخروج وتغيرت صورة المغادرة.. فمرةً تكون المغادرة إلىٰ أرض غريبة بعيدة كــ الحبشة؛ وتارة تكون مغادرة قريبة مثل : شعب أبي طالب إثناء المقاطعة والحصار[(4)]؛ وتارة آخرىٰ بعيدة عدة كيلومترات فيكون الخروج إلىٰ الطائف.. وأحيانا تكون جماعية مثل ما حدث في الهجرة الأولىٰ والثانية عند مَلِكٍ لا يظلم عنده أحد «„ النجاشي ”» بالحبشة[(5)] .
.. فـ عن أم سلمة -رضى الله عنها-، أنها قالت : „ لما ضاقت مكة وأوذىٰ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفتنوا ورأوا ما يصيبهم مِن البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شئ مما يكره ومما ينال أصحابه ”[(6)، فقد قال -عليه السلام- لهم -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- : « لو خرجتم إلىٰ أرض الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد؛ وهي أرض صدق؛ حتىٰ يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه »..
.. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلىٰ أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلىٰ الله بدينهم.. فكانت أول هجرة في الإسلام.. وآخرىٰ فردية كما حدث مع أبي بكر بن أبي قحافة[(7)] .
.. وهنا ينبغي أن نفرق بين الهجرة المؤقتة لزمن قد يطول.. -كما ورد في الحديث النبوي الشريف-: « حتىٰ يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ».. وبين مَن يحمل جنسية غربية ويصبح مواطنا من رعايا الدول الغربية!؟..
.. وقضية الخوف علىٰ النفس والعرض أو ضياع المال والمتاع مما يلزم المرء فيضطر الشخص إلىٰ المغادرة والسفر مع وجود مخاطر الطريق.. هذه القضية يعاني منها سكان المنطقة العربية؛ ومَن يقف علىٰ رمال ساخنة وأحياناً ملتهبة في مناطق يقطنها مسلم غُلب علىٰ أمره.. ومشاهد سكان افغانستان بعد خروج جنود العم "سام" واستيلاء تنظيم طالبان علىٰ منافذ ومخارج البلاد.. ورغبتهم الهرب من أبناء جلدتهم بل أبناء عقيدتهم ودينهم لا يمكن أن يفارق مخيلة المتتبع لأحداث العام الماضي [ 1443/2021 ] خاصةً؛ وما يحدث لأكراد العراق في الحادث الأخير المؤلم عند عبور بحر المانش مِن ضفته الفرنسية إلىٰ شاطئه البريطاني.. أو مَن يريد أن يغادر بزوارق مطاطية مِن الضفة الجنوبية للبحيرة المتوسطية في اتجاه الضفة الشمالية علىٰ الأرض الأوربية؛ والتي يعتقد الكثير مِن الشباب أنها بلد السمن والعسل.. لكن -للأسف- الفارق كبير.. وكبير جداً بين مَن يفارق مِن أجل حماية عقيدته وحفظ إيمانه وحسن تبليغ رسالة ربه وبين مَن يترك موطنه مِن أجل حفنة مِن الدولارات.. مقابل تنازلات عدة.. وإن كان السفر وترك مكان إلىٰ آخر مِن حيث الأصل مباح.. ولكن حالات كثيرة مما تُعلم تخالف هذا الأصل الشرعي!.. وبمعنىٰ آخر :" ينبغي توضيح مسألة : « مَن يفر بدينه خوفاً من الفتنة ».
وواقع المسلم -على كافة المستويات: سواء مَن جاء لطلب العلم؛ أو البحث عن لقمة خبز- في الغرب يحتاج مِن أهل العلم إعادة نظر.. إذ صار عدد المسلمين يتعدى 58 مليوناً في القارة الأوربية بمفردها!!
-*-*
الْمُقَدِّمَة
*.] اشتدَ الأذىٰ علىٰ المؤمنين الأوائل في مكةَ حتىٰ صارت جحيماً لا يطاق، فأذِن النبي -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين بالهجرة إلىٰ يثرب -مدينته المنورة؛ والتي طيب الله تعالى ثراها بمرقده الشريف وبجواريه صاحبيه- حتىٰ يأمنوا علىٰ أنفسهم، ويقيموا شعائر دينهم، فاستجاب المؤمنون لله ورسوله فهاجروا، وكان منهم سابقون إلىٰ الهجرة،
فمن أول مَن هاجر مِن الصحابة ؟[(8)].
*.] إذْنُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِمُسْلِمِي مَكَّةَ بِالْهِجْرَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ -تَعَالَىٰ- لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَرْبِ، وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَىٰ الْإِسْلَامِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ وَلِمَنْ اتَّبَعَهُ. وَأَوَىٰ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِالْخُرُوجِ إلَىٰ الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إلَيْهَا، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ :« „ إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا ”»؛ فَخَرَجُوا أَرْسَالًا، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ- بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالْهِجْرَةِ إلَىٰ الْمَدِينَةِ[(9)] .
تنبيه:
يظهر بوضوح تام أن كافة مسائل الإنسان -مَن يؤمن بالإسلام الخاتم ديناً- وقضاياه وتصرفاته وأفعاله تبنىٰ علىٰ أوامر آلهية وتكاليف شرعية.. إذ وجد -وفق نصوص الوحي- منهجية بعينها لكافة المسائل.. وكيفية خاصة لكل مسألة ولكل قضية وهذه في بحوث بعينها وفي المقابل هناك حكم الإباحة في مسائل آخرىٰ.. فالنبي المصطفىٰ والرسول المجتبىٰ والخاتم المحتبىٰ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ- ينتظر إذن ربه له!.. وهذا ما يسمىٰ أن الإسلام نظام حياة.. ويطلق عليه طراز خاص من العيش.
[ ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ ]
*.] فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ- مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَبُوسَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَاسْمُهُ : عَبْدُاللَّهِ، هَاجَرَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةٍ، وَكَانَ قَدِمَ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ، خَرَجَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا[(10)].
بيد أننا نقرأ أن :" أولَ مَن قدمَ المدينة من المهاجرين : مصعب بن عمير بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار بن قصي بن كلاب العبدري؛ فقد روى البراء بن عازب أنَّ أوّل من قدم علينا ـــ يعني: في الهجرة إلىٰ المدينة ـــ مِن أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مُصْعَب بن عُمير، وابنُ أمّ مكتوم. "[(11)]
والحقيقة أنه لا يوجد تعارض بين الروايتين.. إذ أن الصحابي الجليل مصعب ذهب إلىٰ يثرب بعد البيعة والتي تمت بالعقبة في المرة الثانية.. ثم مِن بعده ابن أم مكتوم..
أما عبدالله أبوسلمة فقد ظهر من رواية ابن إسحاق أنه قبل حادثة البيعة تقريباً بسنةٍ ".
الدكتور /أكرم ضياء العمري يقول في بحث له :" يتفق موسىٰ بن عقبة و ابن إسحاق علىٰ أن أباسلمة بن عبدالأسد هو أول من هاجر من مكة إلىٰ المدينة بعد أن آذته قريش إثر عودته من هجرة الحبشة، فتوجه إلىٰ المدينة قبل بيعة العقبة بسنة "[(12)].
ثم يعقب بعد ذلك فيقول : " وكذلك فإن مصعب بن عمير و ابن مكتوم كانا من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن". [(12)]
.. وقد تتابع المهاجرون.. فقدم المدينة بلال بن رباح و سعد ابن أبي وقاص و عمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة.
وقد سعت قريش بشتىٰ الطرق إلىٰ عرقلة الهجرة إلىٰ المدينة، وإثارة المشاكل أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم مِن حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلىٰ مكة، لكن شيئاً من ذلك كله لم يعق موكب الهجرة، فالمهاجرون كانوا علىٰ أتم الاستعداد للانخلاع عن أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لداعي العقيدة"[(13)].
قالت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- واثبتُ روايتها.. فقد: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ :« لَمَّا أَجْمَعَ أَبُوسَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ، فَقَالُوا :„ هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَكَ هَذِهِ؟ عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ؟” ».
قَالَتْ :« فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ ».
قَالَتْ :« وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِالْأَسَدِ، -رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ-، فَقَالُوا : „ لَا وَاَللَّهِ، لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا ”..
قَالَتْ : فَتَجَاذَبُوا بَنِي سَلِمَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّىٰ خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِالْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُوسَلَمَةَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ »..
قَالَتْ :« فَفَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي ».
قَالَتْ :« فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّىٰ أَمْسَىٰ سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتَّىٰ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَرَأَىٰ مَا بِي فَرَحِمَنِي »..
فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ : „ أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ، فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا ”»..
قَالَتْ :« فَقَالُوا لِي : „ الْحَقِي بِزَوْجِكَ إنْ شِئْتِ ”..»..
قَالَتْ :« وَرَدَّ بَنُو عَبْدِالْأَسَدِ إلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي »..
قَالَتْ :« فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ »..
قَالَتْ :« وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ »..
قَالَتْ :« فَقُلْتُ : أَتَبَلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّىٰ أَقْدَمَ عَلَيَّ زَوْجِي، حَتَّىٰ إذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيتُ :«„ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِالدَّارِ ”»..
فَقَالَ لِي :„ إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ ؟ ”..
قَالَتْ :« فَقُلْتُ : أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ ”»..
قَالَ : „ أَوَمَا مَعَكَ أَحَدٌ ؟ ”..
قَالَتْ :« فَقُلْتُ : لَا وَاَللَّهِ، إلَّا اللَّهُ وَبُنَيَّ هَذَا »..
قَالَ : „ وَاَللَّهِ مَا لَكَ مِنْ مَتْرَكٍ ”..
فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي،
.. « فَوَاَللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطُّ، أَرَىٰ أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، حَتَّىٰ إذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرَةِ، ثُمَّ تَنَحَّى ( عَنِّي ) إلَىٰ شَجَرَةٍ، فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا، فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ، قَامَ إلَىٰ بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ فَرَحَلَهُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي »..
وَقَالَ :« „ ارْكَبِي ”..
.. « فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَىٰ بَعِيرِي أَتَىٰ فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَهُ، حَتَّىٰ يَنْزِلَ بِي »..
.. « فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّىٰ أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ »..
.. « فَلَمَّا نَظَرَ إلَىٰ قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ »..
قَالَ : „ زَوْجُكَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ - وَكَانَ أَبُوسَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا - فَادْخُلِيهَا عَلَىٰ بَرَكَةِ اللَّهِ ”؛ ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَىٰ مَكَّةَ .
قَالَ : فَكَانَتْ تَقُولُ :« وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ »؛
وَ تَقُولُ:
« مَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ ».[(14)]
..
وينبغي للعاقل أن يعقد مقارنةً بين حال مَن سلفَ ووضع مَن خلف في هذه المسألة.. وما أكثر المسائل التي تحتاج لإعادة النظر ومعرفة الحكم الشرعي المتعلق بها!!!.
*(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(1)] (رواه البُخاري ).
[(2)] كتاب الأمة؛ عمرو بن العاص؛ (القائد المسلم والسفير الأمين) [الجزء الأول]؛ اللواء الركن / محمود شيت خطاب؛ المحرم 1417 هـ.
[(3) يجب عَليَّ رفع الشكر والتقدير للمجهود الذي قام به المدير التنفيذي لموقع آستروعرب نيوز حيث قد أعانني وساعد القارئــ(ــة) في ترتيب وترقيم مسائل بحث السيرة النبوية العطرة علىٰ صاحبها أفضل الصلاة وأكمل السلام وعظيم البركات وخالص الدعوات وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته وسار علىٰ طريقته والتزم هديه :
[ترقيم خاص لـ آسترو عرب نيوز: (يبدءُ 80 إلىٰ 88:"
http://www.aymanwahdan.at/austria_today/1_ramadi_sira_nabwia.htm
80.] الإيذاء على يد سفهاء المشركين
81.] الإيذاء البدني لصاحب الدعوة !
82.] الْأَذِيَّةُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الأوائل
83.] المستضعفون
84.] أَبَو يَحْيَىٰ؛ صُهَيْبٌ بن سنان
85.] عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَة
86.] أَبُو فُكَيْهَةَ
87.] جَارِيَةٌ مِنْ بَنِي الْمُؤَمَّلِ
88.] صحابِيَّةٌ رُومِيَّةٌ ﴿ زِنِّيرَةُ ﴾.
[(4)] ترقيم آستروعرب نيوز:
(96:" مُقَاطَعَةُ قُرَيْشٍ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِب".)].
[(5)] ترقيم آستروعرب نيوز:
(94: " الْهِجْرَةُ الْأُولَىٰ إلَىٰ أَرْضِ الْحَبَشَة !")؛
(95: "الْهِجْرَةِ الثَّانِيَة ".).
[(6)] أبوالفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى: 774هـ)؛ السيرة النبوية (مِن البداية والنهاية)؛ تحقيق: مصطفىٰ عبدالواحد؛ (مجلد: 2؛ ص: 18 ) الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان؛ 1395 هـ - 1976 م.
[(7)] [ترقيم آسترو عرب نيوز:
(93):" عَزْمَ الصِّدِّيقِ عَلَىٰ الْهِجْرَةِ إِلَىٰ الْحَبَشَةِ ".
[(8) د. العمري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ١٠ ) : [ الْمُجَلَّدُ الْعَاشِرُ ]
السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ العطرة
مُقَدَّمَاتٌ فِي الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
:" ذِكْرُ أَوَائِلَ الْمُهَاجِرِينَ إلَىٰ الْمَدِينَةِ "
١١٤ » هِجْرَةُ أَبِي سَلَمَةَ وَزَوْجِهِ أم سَلَمَةَ، وَحَدِيثُهَا عَمَّا لَقِيَا «
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏السبت‏: ٢٨‏ جمادىٰ الأولىٰ‏، 1443هــ ~ ‏١‏ يناير‏، ٠٢٠٢٢م
‏الأحد‏، 29‏ جمادى الأولى‏، 1443د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ؛ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِن ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِــالدِّيَارِ المِصْرَية الْمَحْمِيَّةِ -حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى

أعلى الصفحة
فهرس

كتاب & مراسلون

أوسترو عرب نيوز

شروط نشر الأعمال الفنية و الأدبية (المؤلفة أو المنقولة) فى أوسترو عرب نيوز :

عدم التعرض إلى (الذات الإلهية) .. الأديان السماوية .. المذاهب الدينية .. القوميات .

عدم التعرض بالسب أو الانتقاص من شخصية خاصة أو اعتبارية  .. بشكل مباشر أو بالتورية حال النقد .

أن لا ينشر فى أي وسيلة إعلامية صادرة بالعربية من النمسا .. خلال فترة النشر بـ أوسترو عرب نيوز .

أن يضمن المؤلف أو المراسل نشره فى النمسا مذيلا بعبارة : منقول عن أوسترو عرب نيوز (كلمة شرف)

ما ينشر في أوسترو عرب نيوز .. يعبر عن رأي كاتبه أو ناقله أو راسله ..
أوسترو عرب نيوز .. لا تتحمل المسئولية الأدبية أو القانونية .

أوسترو عرب نيوز .. تهيب بحضراتكم الإبلاغ عن أي تجاوز .. لعمل الإجراء المناسب على الفور .. بالحذف مع الاعتذار .

أعلى الصفحة


الموقع غير مسئول عن تصحيح الأخطاء الإملائية و النحوية

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رئيس التحرير : أيمن وهدان




أخبار عرب النمسا