السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
النمسـا اليـوممفكـــــرةخدمات & طوارئ النمسـا الوطـنإخترنـا لكإعلانــــــاتحـوار صـريحمجتمــــــعهيئة التحـريرمواقع إلكترونيةتواصـــل
 
 

الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
ج 1

تقديم : د. محمد الرمادى
فيينا / 2022

ج3 2024 >>

ج2 2023 >>

ج1 2022 >>

17- بداية الرؤية

[**١٧**]: الْوَرَقَةُ السَابِعَةُ عَشرَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ
.. لمحها.. لحظة بداية تناوله لوجبة العشاء.. في الصالة الڪبرىٰ بالمنتجع الصحي المشهور ؛ ذي السمعة الطبية الجيدة لإعادة التأهيل البدني والنفسي؛ والذي يُشهد لــ طقم الأطباء بالڪفاءة في دقة التشخيص وحسن المعالجة والڪفاية مع الإجادة لـ طاقم العلاج الطبيعي الذين يراعون المرضىٰ والذين يستحقون إعادة تأهيل جسدي أو نفسي وفق التقارير الطبية..
„ رفيقي ”.. انتبه لها حين كان يرفع أول ملعقة شوربة لشفايفه لما وقفت مبڪراً نسبياً لتغادر القاعة.. فهي لم ترد أن تتناول وجبة عشاءها ڪاملة ڪما يفعل البعض ، وقفت لتودع جلساء المائدة التي رافقتهم عليها لحظات لتناول وجبة عشاءها.. والظاهر أنهم لم يتعارفوا علىٰ بعضهم البعض بصورة جيدة فودعتهم بتحية قصيرة وإيماءة معبرة عن احترام برأسها، ڪأنها تستسمحهم بالمغادرة المبڪرة.. إذ أن التواجد علىٰ مائدة الغذاء أو العشاء -تنظيميا- ضروريا لإثبات وجود المريض بالمنتجع..
وغلبَ علىٰ ظن „ رفيقي ” أنها جاءت في نفس اليوم الذي لمحها فيه ، فلعله اليوم الأول لمجيئها فهو لم يرها مِن قبل علىٰ هذه المائدة ، حيث أنها المائدة الأولىٰ في الصف الأول عند الدخول للقاعة الڪبرىٰ لتناول الفطور أو الغذاء والعشاء ، وقد تبقىٰ له أياما معدوداتٍ في منتجعه الصحي ليتمم علاجه وتأهيله كي يحسن معاودة القيام بعمله..
وقد لاحظ „ رفيقي ” أن المرضىٰ الجدد إما يأتون يوم الثلاثاء أو يوم الخميس..
وحين وقفت مستأذنة بالمغادرة ألقت علىٰ ڪتفيها وشاحها الذي كان أقرب إلىٰ السواد؛ وقد وضعته خلفها علىٰ مسند مقعدها ، غادرت القاعة بخطوات مسرعة فهي قريبة جداً مِن بابها ، وهو مازال في بداية تناوله لعشاءه.. وڪان الطعام طيب المذاق .. وڪعادة أهل البلاد يقدم طبق الشوربة الساخن أولاً ؛ وغالبا يذهب المرء بنفسه إن لم يكن لديه عائق جسدي أو عصبي ليختار أنواع المقبلات أو السلطات فيحضر ما يرغب في تناوله يحمله فوق طبق آخر ويضعه أمامه ثم بعد الإنتهاء من تناول طبق الشوربة يبدء في تقديم الوجبة الأساسية.. وهذا يتم في الغذاء والعشاء..
ومِن عادته -„ رفيقي ” - أن يتناول طعامه ببطء .. ومِن عادته أيضا أنه يحتاج لــ ونيس بجواره إثناء تناوله الطعام يبادله الحديث ، وهي عادات يڪتسبها الأبن الوحيد في العائلة .
.. „ رفيقي ” أعجب بــ طلتها.. إذ هو يبحث عن امرأة بمواصفات خاصة وبمقاييس بعينها فهو لا يرىٰ آيةَ امرأةٍ فالنساء ڪثيرات ، بل يريد امرأةً ذات ملامح خاصة.. ذات جمال جذاب.. ومواصفات بــ عينِها ، لا يريد مجرد ڪائن أنثوي بل يريد ڪما علمته جدته لأبيه : « „ .. إن عشقت.. تعشق قمرا ” »؛ يريد قمرا بازغا منيرا ساطعا ، ڪما أنه تعود أن لا ينقَض مباشرة علىٰ فريسته ـ أنثاه ـ بل يراقبها زمناً ، يسعىٰ أن يُشغلها بنفسه؛ يُسمر نظراته الحادة القوية تجاهها فقط لعينيها ، فــ يَعمل علىٰ إرباڪها ، أو علىٰ أقل تقدير شد انتباهها.. لا ينظر لا لشئ إلا إياها ، يُظهر لها أنه فقط يهتم بها دون الآخريات أن وجدن بجوارها نساء.. وهذا يثير حفيظتها ويغضب الآخريات .. فإذا انتبهت بأن هناك عين رجل مراقب لها نظرت إليه مستطلعة وڪأن عين مَن تحت الرمش الخجول تسأله دون حروف تنطق أو كلمات تسمع أو ألفاظ تستفسر:
: « „ لماذا تنظر إليَّ .. هڪذا .. أيها الرجل !؟ ” »؛ .
فإذا أعيتها المراقبة وانزعجت لفضوله ، فهي تريد أن تعرف ماذا يريد هذا الرجل منها ، فيُسهِل عليه هذا الموقف الذي يشوبه القلق والإرتباك والفضول وأحيانا الاهتمام أن يبدأ حواراً .. يريده أن لا ينتهي ، فالمرأة تنتبه بسرعة أڪثر من الرجل لمن يراقبها أو يلاحظها أو يرمقها بعينه .. فهي تريد أن تعرف ماذا يريد منها! .
قد تڪون في هذه الأمسية لم تلحظ نظراته المتتالية إليها؛ بل بالتأڪيد لم تنتبه لوجوده أصلا في قاعة ڪبرىٰ تضم أڪثر من ثلاثمائة مريضا مثله أو علىٰ أقل تقدير لم تدرك نظراته ، أو اهتمامه بها.. لڪن حتما سيقابلها غداً أو بعد غد فهو مازال أمامه أڪثر من اسبوع زمان في منتجعه .
هذا هو يوم الخميس قد مضىٰ سريعا ، والثلاثاء القادم سيغادر المڪان ڪله ، إذ ستنتهي فترة علاجه الطبيعي لإعادة تأهيله بدنياً؛ فهو يحتاج لتعلم تمارين لــ تقوية عضلات الظهر والرقبة والبطن والساقين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
رواية : » الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ «.
[ ١ . ] الجزء الأول.
١٧ - « بداية الرؤية »
‏‏السبت‏، 24‏ جمادى الأولى‏، 1444هــ ~ 08 ديسمبر 2022م ~‏ 12 : 46 : 04 ص

16 بُرْقُع وخمار

رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
[**١٦**]: الْوَرَقَةُ السَادِسَةُ عَشرَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

« 16 بُرْقُع وخمار »
.. هو „ رفقي ” ؛ يملك الرجولة بمفراداتها المتعددة.. ويتميز بالفحولة فـ يملك جميع عناصرها؛ ويعتني بعطره ودرجة تركيزه ڪما ويهتم بهندامه منذ صغره.. ويروي حڪايةً مجهولة المصدر.. غير أنها من مرويات عجائز نساء العائلة بأنه حين سُئل وهو في الرابعة أو الخامسة مِن زمن طفولته .. سُئل عن سبب ارتدائه قميص سمني اللون حريري الملمس.. فڪان رده علىٰ الفور :
« „ علشان يعجب الستات الحلويين(!) ” » ..
ويجاورهما -الفحولة والرجولة- عظم الخُلق الجميل؛ وكبير النُبل الراقي..
.. دماثةُ خلقٍ غرزتْهُ جدته لأبيه : « „ الحاجة ” » ؛ كما ڪانوا يطلقون عليها وينادونها به دون ذڪر اسمها الحقيقي احتراماً لها وتقديراً لشخصيتها فهي ڪانت تاجرة ذات سمعة طيبة .. وحين يسأل سائل : « „ الحاجة ” » ؛ مين فيهم . . فيأت الرد بــ :
« „ الحاجة أم أحمد ” » ؛
.. غرزت جدته خُلق الأكابر منذ نعومة أطرافه في نخاعه الشوكي ليثبت في الخلايا المخية التي تحمل الــ :" المادة الرمادية (Grey matter) [(*)]"..
.. وبذرت الخُلق الرفيع في ڪافة أنحاء جسده الطري منذ لحظة الولادة وزمن الرضاعة ووقت الطفولة..
بيد أنها ڪانت تمزح لهفواته في صغره بقولها :
« „ الست أيام الأُول من عمره بتوع مستشفى سماعين.. وقابلة الولادة زاغت عينيه! ” » ؛
فتُسأل : « „ لماذا ” » ؛
فتجاوب : « „ إلْمَره إللي وَلَادِتَه -علىٰ رغبة أمه في إلسبتاليه- اصلها ڪانت إنجليزية.. شقراء.. بيضاء.. زرقاء.. صفراء.. فاقع لونها تسر الناظرين.. يعني النسوان الخواجات دول ولاد العِدله ..وأحنا بنات من ولاد المَعْوجَه(!) ” » ؛ وتضحك ضحڪة مدوية في المَقْعَد -غرفة الجلوس- الذي تطل منه البلاڪونة علىٰ الشارع ؛
ارادت : « „ الحاجة ” » ؛ أن تحميه مِن داء جده لأبيه.. „ المزواج المطلاق » ؛ بتاع النسوان.. إللي عاملهم سبحة في إيده المخرومه..
ثم تتنهد مَن تجلس بجوارها مكملة المجلس قائلة : « „ يا خسارته .. يالي عَملهم تجارته ” » ؛ ثم تذڪر خاله : « „ الأسطىٰ ” » ؛ « „ المكانكي ” » ؛ .. فقد ڪان شبيه بجده لڪن بصورة آخرى..
وهما - الجد والخال - تجربتان أمام الناظر لمن هم أقرب إليه في الدم والنسب!..
فهو -في نظر جدته لأبيه وأمه- بالقسيم الوسيم، وضيء الطلعة، أزهر اللون، بديع المحاسن، صافي الأديم.. تخشىٰ عليه من عين الحسود وتخشىٰ عليه من تقلبات الزمان وتخشىٰ عليه من أهل السوء وولاد الحرام وتخشى عليه من بنات الحارة ومن فتنة النساء..
وبالقطع سوف يصيبه ما يصيب بقية البشر؛ ولعل جيناته تقترب كثيراً من جده لأبيه!
هو صديقي القديم علىٰ ڪل حال ـ ويملك موهبة مسرَّحة المواقف وتمثيل الأحداث أمام المرأة التي تروق له بإخراج فني قدير ، وهو القائل دائماً :
« „ نحن البشر نعيش مرة واحدة ، فلنحيا ڪما نبتغي ، ونرسم عالمنا بريشتنا ونزينه باقلامنا الملونة ڪما نريد وفق الآطر المسموح بها(!) ” » .
وڪنتُ أتوقف عند نهاية جملته هذه:
« „ .. وفق الآطر المسموح بها!؟ ” »؛
فــ عن أي آطار يتحدث عنه „ رفيقي ”.. ومدينته الساحلية خليط مِن الآطر .. فما تجده علىٰ بلاج المعمورة والمنتزة لا تجده في شاطئ الأنفوشي وهذا في موسم الصيف فقط وما يحدث في حديقة أوتيل : « بو- ر..ىڤاچ ~ « Beau-Rivage » ؛ لا تجده في حديقة منتزة النُزهة؛ وما يحدث في حارة حَلابو وشارع الحميد السنوسي لا تجده بالقطع في شارع سعد زغلول وتقاطعه مع شارع صفية زغلول؛ وما تسمعه من الشيخ أحمد في درس العصر بمسجد الراوي براغب باشا بالقطع لن تجده في جامع القائد إبراهيم بمحطة الرمل من صوت الشيخ أحمد المحلاوي.
وما يحدث في محرم بك غير ما يحدث في منطقة الشاطبي والرمل .. وتحرك السادة الصوفية أهل الطريقة يغاير تحرك السلفية؛ الأولى في عز قوتها والثانية في مهدها .. وبالطبع قد تغيير الزمان اليوم عن تلك الفترة الزمنية التي قصدها « „ رفيقي ” » ..
وفي زمن صباه ڪان يرىٰ تبرقع عمته « „ عديلة ” » فيعجبه ڪثيراً .. فــ تقنعها بــ : « „ بُرْقُع ” » ؛ علىٰ النمط المِصري الثلاثيني -خلاف الخليجي- فڪان يراها .. وينظر بدهشة عند فڪه وبإستغراب عن إعادة ضبطه على رأسها حين تحضر لزيارة أمها : « „ جدته ” » خلف حجابها وعلىٰ قصبة أرنبة أنفها ترىٰ قصبة بڪامل طول أنفها من الذهب الخالص.. الحجاب الحريري الأسود المشغول والقصبة الذهبية عمولة يد خاص لها ولــ مثلاتها مِن بنات تلك الطبقة المتوسطة لـ ذاك المجتمع في ذاكَ الزَمانِ مع لفة الملاية الْإِسْڪَنْدَرَانيَّةِ من الحرير الحر الأسود .. واسفل الملاية -عند خلعها في البيت- فستان حرير مشجر زاهي الألوان .. فڪانت تتزين هڪذا -عند خروجها- وتفتخر بين قريناتها بما تملك!. وڪأنها مازالت تعيش في ثلاثينيات مِصر.. وإن ڪنا نحن نعيش في الجمهورية المِصرية الأولىٰ زمن الزعيم الخالد صاحب الڪريزيما الطاغية في عيون الجمهور العربي والمتحكمة علىٰ مسامع العرب من الخليج إلىٰ المحيط..
وڪان أترابها يقولن عنها : « „ مين في عياقة عديلة!؟ ” » ؛
„ رفيقي ” نتيجة هذا المناخ العام الذي تربىٰ فيه.. تعلم ڪيف يحترم المرأة ؛ فــ عند عودته إلىٰ البيت من مدرسته - وهذا ما يذڪره- ڪان ينحني أمام جدته لأبيه ليقبل يدها إذ أنها ڪانت تجلس على شلته في المَقْعَد -غرفة المعيشة في شقة أبيه- بالقرب من البلاڪونة..
فينحني ليصل إلىٰ يدها حين ترفعها إليه لتحيته..
تدرب علىٰ إنحناءة الاحترام فقط لجدته...
وتدرب علىٰ تقبيل يد جدته دون سواها..
فـ لما هلَّت : « „ ELLE ” » في سماء حياته ؛ وبزغت شمس نهارها ڪان إنحناءته لها.. أنه يرغب في الاقتراب مِن صدرها ليشم أطيب ريح نابع من أطيب جسد .. ڪما فعل سابقاً مع جدته؛ فقد ڪانت طيبة الريح .. طيبة الجسد لم يشم منها إلا أعطر طيب.. -أما من ينظر إليه فإنه يرىٰ إنحناءة- ڪإنحناءةِ العبد حين يريد أن يحييها ـ وهذا يعجبها ڪثيراً ويرضي ڪبريائها ـ خاصةً أمام جمهور ، ولحظة الإنحناء يُقَبِل يدها إلا إنه إثناء لحظة التقبيل يرسل رسائل غامضة مبهمة تشعر هي فقط بها .. مفادها : أنه يقبل يدها ڪأمير وينحني أمامها ڪملك ـ وإن جَمع الأضداد : ـ العبد ، الذي لا يملك حريته ، وهو نفسه الأمير الذي تُوِّج حالاً علىٰ إمارته في وجودها ، يجمع روح الأسير الذي لا يملك خلاص نفسه ، في نفس اللحظة الذي يظهر فيها ڪملك مغامر قاهر ناصر ظافر ، الذي يعلم الڪل أن رغباته أمر قابل فقط للتنفيذ ، يقبل اليد بُعيّد لحظة الإنحناء أو يسبق فعل أحدهما الآخر ..
فهذا فن يحتاج لإعمال نظر ويقظة ذهن ، ويتحرك بجوارها مشعراً إياها أنها أميرة الأميرات؛ والسيدة المطاعة في مُلكها ؛ إن لم تكن ملڪة الملوك وسيدة القصر الوحيدة .
كان يحسن هذا الدور جيداً فقد ڪان يرافق أمه حين تذهب لزيارة الأقارب أو تسير معه حين تريد الذهاب إلىٰ السينما ، فالوالد ألزمه دون أن ينطق بڪلمة أن يڪون المرافق لها ، وهو ڪان صاحب ڪريزما قوية تحس بها المرأة فإما تقترب منه أو تغادر المڪان فلا تطيق البقاء في مڪان يجمعها معه ..
فــ في آحدىٰ المرات ـ حڪىٰ لي بڪبرياء أو قل بغرور ـ
إذ إثناء رڪوبه في مترو أنفاق المدينة الخط رقم " 4 " صوَّب نظره بشڪل ملحوظ حاد لآحدىٰ النساء التي أعجبته لهندامها التقليدي „Trachtkleid“ والخاص بمقاطعة سالزبورج والذي يسمىٰ „Dirndl“، وهو معجب بهذا اللباس للنساء ، وڪانت تحاول الهروب من ملاحقة نظراته إليها وهو يجلس مقابل لها في نفس المڪان الرباعي المقاعد الذي يلي مباشرة باب الرڪوب وبجوار الشباك ، ولم تستطع البقاء طويلا أسيرة هذه النظرات .. وهمهمت بڪلمات لم يفهمها .. فهي ليست ضاجرة منه بل ـ ڪما فهم لاحقاً - وأحيانا يفهم ڪما يريد أن يفهم هو ـ تريد الجلوس بمفردها فغادرت المقاعد وإن لم يجاورهما آحد وهو الذي رڪب بعدها وڪأن حال لسانها يقول له :
« „ ليس هڪذا ينبغي أن تنظر إليَّ يارجل!!! ومَن حولنا الڪثير من الرڪاب الذين قد يتابعون حالك هڪذا معي ” » ؛
ولعل هذا هو السبب المقنع الذي دعاها بعد لحظات قليلة أن تقرر ترك المقاعد الأربعة خاوية له وذهبت إلىٰ مڪان آخر ، وهي الأريڪة التي تكون في نهاية أو مقدمة القاطرة قائلة :
« „ ارجوك لا تنظر إليَّ مرة ثانية هڪذا ! ” » ؛
غير أنه تبعها مباشرة وسار خلفها ورافقها إلىٰ مقعدها الجديد.. وسألها حين جلس في المقابل لها منحنياً دون أن يقبل اليد :
« „ أرجو أن لا أڪون قد أزعجتك !؟ ” » ؛
فقالت له بهدوء وإعجاب الأنثىٰ بالرجل المهذب :
« „ أنت تنظر إليَّ بشڪل ملفت للإنتباه ، ماذا سيقول الآخرون عني وأنت ترمقني هڪذا وبهذه الحدة ، عيناك شديدتان التأثير وإني اردتُ أن أبتعد عنهما وليس عنك ” » ؛
بيَّد أن الأنثىٰ ولجبلتها ترتجف من داخلها ـ دون أن تظهر ارتجافها أو تبين خوفها ـ إذا أحست بمَن يتعدي بنظراته انسانيتها إلىٰ خصوصيتها .
هو يحسن هذا الدور ـ „ مرافق النساء ” ـ جيداً ، إنه تربىٰ بين حريم العائلة والنساء زميلات جدته ويملك وعياً عاماً بهذا الخصوص والمرأة تلاحظه وهو يحس بذڪوريته أمامهن ويباشرها ڪرجل يحمي النساء ويرافقهن دون قصد ذڪوري فاضح - إلا لمَن يريدها - ويحسن معاملتهن بشڪل جيد ، فمنذ صغره تربىٰ علىٰ أن يظهر هذا الجانب مع النساء فقد تربىٰ منذ صغره علىٰ هذه العلاقة : الحماية.. والونيس مع جدته خلال سنوات طفولته المبڪرة حين ڪانت تذهب للمسجد ، ثم مع أمه علاقة السمير سنوات صباه ومرحلة مراهقته وأيام شبابه ،
.. و.. أدرك بوعي ڪامل ما قالته له جدته فقد ڪانت تقول له دائما :
« „ أنت رَجُلِي ” » ؛ حين مات جده ،
.. فلما ماتت .. جاء دور أمه وهي التي قالت له ذات مرة :
« „ إنني أعيش في هذا البيت مع أبيك مِن أجلك أنتَ ، فأنت رَجُلِي ” » ؛
صحيح أنهما ـ جدته لأبيه وأمه ما نظر إليهما علىٰ أنهما مِن الإناث ، لڪنه تربىٰ علىٰ دور الحامي أو الذي يجب أن يلعب دور الحامي وأجاد دور المرافق المهذب والسمير المؤدب والونيس الذي يحسن الحديث وإلقاء المزاحات والنڪات ولطائف القصص والتي ڪان يتعمد أن لا تنتهي في المشوار الواحد أو المرافقة الواحدة حتىٰ يڪون له - ڪما يدعي ـ شرف المرافق في المشوار القادم .. والواقع أن جدته ڪانت تريده دائماً الرفيق لها عن بقية احفادها وهم ڪثير ، مما اعطاه قناعة أنه " جيد " ويحسن أداء الدور ، بل إنه أڪثر من جيد ، وتتابع وتلاحق المرافقات والمواقف أثبتت صدق هذا الإدعاء .
إذن فالتهيئة النفسية والذهنية لدور متصور في الوجدان والخيال أضف إلىٰ ذلك تلك المشاهد التمثيلية علىٰ الشاشة الفضية قامت بدور محوري لمن يريد أن يجسد الدور علىٰ الواقع الإفتراضي ، أو الواقع المأمول حدوثه ، والفرص ڪانت تأتي متوالية متتابعة .
بعدهما -الجدة لأبيه وأمه - جاءت علاقة من نوع جديد مغاير تماماً لهذه العلاقة ... هي علاقة ذڪر بأنثىٰ ، علاقة المحب الحامي لمن يريد الحماية ومن يقدر عليها ، علاقة القوي بالجنس الضعيف - ڪما يُدعىٰ - إذا نظرنا لڪليهما -الذكر والأنثىٰ- نظرة بيولوجية بحتة من حيث ترڪيب العضلات وعددها وقوتها ، وعلاقة السيد بالسيدة ، وحتىٰ علاقة العمل وإن ڪانت هي زميلته في نفس الموقع فهو لا يفهم الزمالة بالتساوي بينه وبين المرأة هو يفهم الزميلة علىٰ أنها امرأة ، زميلة مع رجل وليس مع زميل مثله إنها ـ الزميلة ـ أنثىٰ ، امرأة وهو زميلها رجل .. فحل ، حام وهو حتما يغيَّر حديثه سواء في العبارات أو نبرة الصوت أو الموضوع أو حتىٰ المزاح حين يتحدث مع زميلة امرأة وليست أنثىٰ ، فالأنثىٰ ترغب في سماع كلمات الإطراء وتخشىٰ أن يزيد الرجل ، والرجل وإن قلمت أظفاره مع تقدم المدنية ومعايشته للحضارة إلا أنه ما زال يحمل شبڪة صيده على ظهره وحربته مازالت في يده لم يترڪها.. وهما -شبڪة الصيد والحرٰبة- داخل معطفه ولديه قدرة الوثب السريع علىٰ مَن يطاردها .
حصر العلاقة بين الجنسين بمظاهر الذڪورة وعلامات الأنوثة ليس غير ، يحول المجتمع إلىٰ غابة من وحوش آدمية تريد أفتراس الڪائنات الضعيفة ڪنمر بنابٍ يتغذىٰ علىٰ لحم غزال يرعىٰ بين الأعشاب ، مع أن المثال يعبر عن مسألة حياة أو فناء للحيوان المفترس ليسد جوعته ومسألة إنماء للحيوان الذي أُفترس ، لذلك فهو ـ رفيقي ـ ينتبه إلىٰ مسألة هامة : أن ليس ڪل النساء حواء .. وليست ڪل حواء أنثىٰ .. وليس ڪل انثىٰ تشتهىٰ ، وليس ڪل ما تشتهيه تجنىٰ ثماره .. فهناك فارق بين الطفل والرجل ،
ويسيطر علىٰ عقل رفيقي ومشاعره تربية جدته - رحمها الله - له من حيث مقياس الحلال والحرام ، وهي التي اصطحبته معها مراراً إلىٰ " سندرة " جامع " سلطان " بشارع " عُمر بن الخطاب "، ممسڪاً بطرف " الملاءة الحرير اللف " الإسڪندرانية ليسمع مع بقية الأرامل - زميلاتها - درس ما بعد صلاة العصر من الشيخ أحمد ،
وهذا جانب يذڪره رفيقي دائماً ڪمثال علىٰ فضل جدته لأبيه عليه من حيث بذر بذور الإيمان والخوف من الرحمن وهي ما ڪانت تسميه التقوىٰ وتشير بيدها إلىٰ موضع قلبه وتقول له :
« „ ها هنا .. ها هنا ” » ؛
وتقرن الدين بالدنيا فلقد ڪان من الدروس الأولية في حياة جدته معه قولها المأثور والذي تحول مع الزمان إلىٰ قاعدة من قواعده الذهبية في إنتقاء النساء :
« „ ... وإن عشقت .. تعشق قمرا ” » ؛
فتعلم أن هناك امرأة يجب أن تحترم ، وهي ليست له ، وأن هناك أنثىٰ قد تعجبه ڪرجل وقد تڪون له ،
وجدته تقرب له المثال - عمداً - في " سندرة " النساء بالقرب من سقف الجامع بأن تفرش ملاءَتها السوداء الحرير ثم تجمعها قائلة له :
« „ افرشُ مِلاءَتي الحرير بحلال ، فهذه الملاءَةُ ، لكَ أن تلمس طرفها ، ولكَ أن تفرشها أو تفترشها ، وهڪذا بقية النساء بالنسبة إليكَ ” » ؛
ثم تضع غطاء رأسها الأبيض في زاوية من زوايا الملاءة الأربع وتقول :
« „ إياكَ أن تطأ خِماري ، فلقد اشتريته من مڪةَ المڪرمة ، ولقد فڪڪته فقط أمامك فأنت ابني ، ولا تفك خمارَ امرأةٍ إلا إذ ملڪتها ” » ؛
وقصت عليه الڪثير من القصص والحڪايات وايضاً الخزعبلات والأساطير .. بل يمڪنني القول أنها حددت له آطر الثقافة العامة التي يتجول بين حنايها والميول الأدبية بصفة عامة ومبادئ التربية الأساسية وقدراً لا بأس به من السلوڪيات ، ثم جاء مِن بعدها مَن أكمل معه المشوار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[(*)] يتكون الجهاز العصبي من مادتين أساسيتين، وهما: المادةالبيضاء؛ والمادة الرمادية (Grey matter).
المادة الرمادية هي مادة تتكون من الخلايا العصبية بشكل أساسي وتتواجد هذه المادة في الدماغ النخاع الشوكي.
توجد المادة الرمادية في الجزء المركزي من الحبل الشوكي بينما تتواجد المادة الرمادية في الدماغ في الطبقة الخارجية وتُعرف بقشرة الدماغ.
تحتوي المادة الرمادية على عدد كبير من الخلايا العصبية، مما يسمح لها بمعالجة المعلومات وإصدار أوامر جديدة تمر عبر لألياف العصبية الموجودة في المادة البيضاء.
تشكل المادة الرمادية نصف الدماغ، بينما تشكل المادة البيضاء النصف الآخر.
مكونات المادة الرمادية
مكوّنات المادة الرمادية هي كالآتي:
1.) الخلايا العصبية.
2.) الخلايا الدبقية (Glial cells) وهي تتكون من الخلايا النجمية (Astrocytes) والخلايا قليلة التغصّن (Oligodendrocytes).
3.) التفرعات الشجرية (Dendrites).
4.) التشابكات العصبية (Synapses).

أين توجد المادة الرمادية؟
تتواجد المادة الرمادية في مناطق مختلفة في الدماغ والحبل الشوكي، وتتوزع المادة الرمادية على النحو الآتي:
*الدماغ: القشرة المخية، والمهاد (Thalamus)، والمهاد التحتاني (Subthalamus)، وتحت المهاد (Hypothalamus)، والنّوى القاعدية (Basal ganglia).
*المخيخ: القشرة المخيخية، والنّوى المخيخية العميقة.
*جذع الدماغ: النواة الحمراء (Red nucleus)، والنَّواة الزَّيتونِيَّة (Olivary nucleus)، ونوى الأعصاب القحفية.
*الحبل الشوكي: تنقسم المادة الرمادية إلى أربعة أقسام رئيسية هي القرن الظهري (Dorsal horn) والعمود الوسيط والقرن الجانبي والقرن البطني (Ventral horn).
وظيفة المادة الرمادية
تشكل المادة الرمادية مناطق مختلفة من الدماغ تساعد في التحكم في وظائف مختلفة ومنها ما يأتي:
*.) الوظائف الحركية: تساعد القشرة الحركية في الدماغ (Motor cortex) والمادة الرمادية في الحبل الشوكي على التحكم في عضلات الجسم وحركتها.
*.) الإدراك الحسي: تساعد القشرة الحسية (Sensory cortex) في الدماغ على استقبال المدخلات الحسية وإدراكها مثل: الرؤية، والسمع، واللمس.
* ) الذاكرة: يعد الحصين أحد أجزاء الجهاز الحوفي، ويلعب أدوارًا مهمة في تقوية الذاكرة ونقل المعلومات من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى.
*.) العواطف: يلعب الجهاز الحوفي دورًا مهما في التحم بعواطف الإنسان.
*.) الكلام: تقوم منطقة بروكا (Broca's) في القشرة الأمامية بإصدار الكلام، بينما تقوم منطقة ويرنيك (Wernicke's) في القشرة الصدغية بتحليل معنى الكلام.
*.) اتخاذ القرار وضبط النفس: تعد هذه الوظيفة الأساسية للقشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal cortex) من الدماغ.
*.) ضبط الجهاز العصبي اللاإرادي: يساعد الجهاز الحوفي على ضبط التوازن بين الجهاز العصبي الودّي واللاودّي.
الأمراض التي قد تصيب المادة الرمادية
هناك مجموعة من الأمراض التي قد تصيب المادة الرمادية، ومن هذه الأمراض ما يأتي:
1. ] مرض الزهايمر يسبب ضمورًا في الدماغ بسبب موت الخلايا العصبية في القشرة الدماغية مما يؤدي إلى ضعف الذاكرة وفقدان المهارات الاجتماعية وصعوبة إجراء الأعمال اليومية. يعد مرض الزهايمر السبب الأكثر شيوعا للخرف.
2. ] السكتة الدماغية تحدث عندما يتوقف تدفق الدم للدماغ مما يؤدي إلى موت الخلايا العصبية، وتعد السكتة الدماغية حالة طارئة تحتاج التشخيص المبكر والعلاج السريع لمنع حدوث مضاعفات بسبب موت الخلايا العصبية.
3. ] مرض باركنسون هو داء يصيب النوى القاعدية في الدماغ وتحديدا المادة السوداء (Substantia nigra) مما يؤدي إلى نقص الدوبامين في الدماغ، مما يؤدي إلى ظهور أعراض مختلفة للمرض مثل: رجفة في اليدين، وتباطؤ في الحركة، وقلة العلامات التعبيرية في الوجه، وتشنجات في العضلات..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِنْ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ)
رواية : » الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ «.
[ ١ . ] الجزء الأول.
« 16 بُرْقُع وخمار »
‏الإثنين‏، 05‏ جمادى الأولى‏، 1444هــ ~ 27 نوفمبر 2022م ~ ‏28‏/11‏/2022‏ 12:46:04 ص

15 مدينة الأوهام
مشفىٰ الالآم
نهاية الأحلام

وبعدها .. بمرور يوم .. أيام تبدأ مِن جديد أوجاع الأسقام .. لــ إنك غادرت المنتجع الصحي الموجود في : „ Bad Hofgastein “
رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
[**١٥**]: الْوَرَقَةُ الخَامِسَةُ عَشرَةُ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ
» ” المنتجع الصحي بــ مدينة „ Bad Hofgastein “ „ «
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
« „Bad Hofgastein“ »
أخذت : « ELLE » ؛ الجَمالَ كلَّه ڪــ نصيبٍ لها وحدها ، دون سواها مِن الصبايا الناهدات أو غيرها مِن البنات الحسناوات ؛ وورثته عبرَ الأجيال ؛ فتناقل الحُسن الفتان والجمال الساحر مِن جيل إلىٰ جيل ليخْلُصَ في نهاية الأمر إليها بــ خفةٍ ودلال وسحر وفتنة وجمال مِن منبع الجَمال الأول الرائق دون رتوش أو وضع بودرة الصباح وڪريم النهار أو الليل ؛ ودون أحمر شفاة ؛ أڪتسبته مِن مورد الحُسن الخلاب الرائع الصافي دون مساحيق لتجميل الوجه وبودرة الخدود أو الڪريم الأساسي أو بعد قليل حين يسيح مِن حرارة البدن أو شمس الظهيرة فيعاد تدوير بودرة مُصنّعة في معامل العم سام مستخرجة مِن نفايات ؛ أو حصلت علىٰ جمال زائف في دكان الحلاق وحُسن منقوص مِن فوق ڪرسي المُزين أو معامل التجميل الصناعي مدفوع الأجر ..
اڪتسبت الجمال الطبيعي مِن مصدر الأنوثة الأصلية المتكاملة مِن أُمها الرَءُوم : « حواء » [(*)]، وجدتها الأولىٰ العطوف الرحوم .. أم البشر أجمعين .. فــ يڪفي أنها المرأة الأولىٰ التي سڪنت -أول ما سكنت- الجنَّة .. وخطت بداية خطواتها دون الڪعب العالي الذي يرهق ساقها .. فــ مشت بقدميها الحافيتين بين الرضوان وبين الفردوس .. وشربت أول ما سقيت من يد : « آدم » من نهر عسل مرةً.. ومن نهر لبن مرة آخرىٰ؛ وصدق العلي العظيم حين يقول : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } .
وأغتسلت متوارية خلف الأغصان المتدلية ومختفية بين جذوع الأشجار عنه - « آدم » - مِن أنهار الجِنان ذات الماء العذب ؛ فمن جُملة نعيم مسكنهما بحر الماء ..أي أنهاراً من ماء عذْب تجري تحت قُصور ساكن الجنة .. وتمشت بجواره - فهو الرجل الأول بجوارها والوحيد فلم تر غيره - في رحابها .. هاتيك المخلوقة الأنثىٰ الأولىٰ التي جمعت خصائص النساء في بوتقتها وصهرتها في معدنها النفيس العفيف بطهارة بدن وسمو روح ونظافة جسد .. وخبأت فتنة الڪواعب الساحرات تحت خِمارها ولفت جمالها تحت غطاء رأسها .. وتلحفت بــ شال العفة ووشاح الكرامة .. فــ كرامتها وعفتها وطهارتها في أن تحفظ الصنعة الربانية والإبداع الآلهي وتصوير الخالق في غلالة من نسيج ڪــ غلاف الفواكة الطازجة تحوطها قشرتها لحمايتها من العطب وعيون الحشرات .. ثم بذرتها علىٰ تربة خصبة ـ الرحم الذي تربت فيه : « „ ELLE ” » زمن حمل أمها بها وترڪت الفضلَ لبقية بنات جنسها ، وڪأنها أول الآرام وآخرهنَّ ..
-*/*-
{ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الزُّمَر:6] .
-*/*-
.. عرفتْ - « „ ELLE ” » - ڪيف تتعامل مع „ رفيقي ” ڪــ رجل ..
إنها ڪــ شوامخ الجبال تحتاج لبعض المعاناة في طريق الصعود مِن سفحه لتبلغ قمة الجبل ..
أرادَ القرب منها فجلس أول مرة في المقعد الذي خلفها إثناء القُداس في ڪنيستها العتيقة ، فــ هو لم يذهب للصلاة أو التناول من يد راعي ڪنيستها .. بل كان مرافقاً لـ " سيلفيا " „Sylvia“ ، وظن أنها ستسلم عليه حين تنتهي الصلاة - ڪــ عادتهم- قائلة له ڪـ غيرها:
" سلامُ الآله عليك " „Friede sei mit dir“
ولڪنها لم تلتفت إليه ؛ ولم تنظر خلفها بل إنصرفت في هدوء تام بمفردها ، وهو انصرف مع „Sylvia“ ، فهو كان مرافقاً لها للقداس والتي ظنتها زوجته ـ ڪما أخبرته بذلڪ فيما بعد ـ
.. والمرة الثانية رأته هي فقط حين جلس بجوار „Sylvia“ علىٰ طاولة ضمت غيرهما من نزلاء المنتجع الصحي ، وهو لم ينتبه لذلڪ ولعلها لاحظت الحميمية التي أبداها لـ „Sylvia“ حين يتحدث معها أو يسير بجوارها أو حين صحبها إلىٰ الحفل الموسيقي في يوم إفتتاح المنصة الجديدة في الحديقة العامة بوسط المدينة والتي أفتتحها عمدة مدينة„Bad Hofgastein“ بحشد مِن رجال السياسة والأعمال ووجهاء المدينة .. فــ هو „ رفيقي ” يسير بجوارها وبالقرب منها ، أما „ ماريا ” صديقتها أو جارتها علىٰ مائدة الطعام ـ فتسير بضع خطوات بعيدة عنهما ، وتقترب ڪثيرا منه حين يستفسر عن أشياء متعلقة بثقافة وتقاليد وعادات شعب النمسا ، وبالطبع ڪانت „Sylvia“ تجاوب بحبور وسرور عن أسئلته و „ ماريا ” تڪمل الجواب إذا رأت عدم استفاءه أو لا تستطيع „Sylvia“ بمفردها الإجابة عليه ..
وهو يحسن هذا الدور ويتقنه ، دور السائل وهو يحسن صناعة الديالوج " الحوار " فيقنع المسؤول أو السامع أنه يريد أن يعرف ثقافة الشعب وتقاليد وعادات شعب الإمبراطورية التي أصبحت جمهورية ديموقراطية حديثة .. وانتهت زمن الملكية وقد لاحظ أن الناس عموماً لم تحتفظ بالڪثير مِن التقاليد الموروثة وصارت فقط أوصاف داخل صفحات التاريخ المهمل ڪبقية الجمهوريات حديثة الولادة سواء في القارة الأفريقية السمراء أو الأسيوية ، ونمطية الحياة العصرية أفقدت الڪثير من شعوب العالم خواصها أو تقاليدها وصارت الأمرڪة هي التقليد السائد ليس فقط في دول العالم النامي أو شعوب بلدان العالم الثالث ڪما وصفها المارشال « شارل دي جول » بل وأيضاً في دول القارة الأوروبية " القديمة " و " العجوز " ذلڪ الوصف الذي أطلقه « دونالد رامسفيلد » عليها ، ولڪنه „ رفيقي ” يميل إلىٰ الرومانسية في شؤونه ڪلها بل ويرغب أيضاً في الحوار وحين يسمع الإجابة يبني عليها سؤالا أو بالآحرىٰ استفسارا جديدا ..
.. إنها لعبته المفضلة يريد ان يطيل الحديث مع المرأة التي أعجبته ، ويغذي الحوار بالأسئلة القصيرة..
ڪـ : لماذا !؟ ، وڪيف !؟ ، ومتىٰ!!؟ ..
والضحية عنده أو المسؤول يتبرع بالإجابة ، خاصة و „ رفيقي ” يحمل علامات مشرقية ڪثيرة : ڪلون جلده القمحي وشعره المتجعد وملامح وجهه وشكل جبهته ومخارج حروف اللغة الألمانية حين ينطقها علىٰ مسامع أهل اللغة الأصليين ، إنها عوامل ڪلها تدفع بالمسؤول أن يجاوب ..
ولعل قربهما .. „ رفيقي ” و „Sylvia“ ـ وهما يجلسان متجاوران علىٰ المقعد الطويل أمام الطاولة ، ويشارڪهما لفيف من نزلاء المنتجع ، ويبلل ريقه من حين إلىٰ آخر بقطرات الماء الطبيعي الصحي المثلج من قنينة „ Römer Quelle “ فقد ڪان الطقس صحوا والجو حارا ويظن „ رفيقي ” أنها ڪانت تحتسي ڪوبا من الجعة المثلجة ـ فقد ڪنا في النصف الثاني من أغسطس .. فلقربهما هذا وڪانت „ELLE“ تراقبهما ، وللحميمية الظاهرة بينهما ظنت أنهما زوجان ، وهي ـ ڪما أخبرته فيما بعد ـ ڪانت تتابعهما مِن بعد ..
.. إذن فهو ڪذلڪ لفت انتباهها .
.. „ رفيقي ” مِن طراز الرجال الذين يحسنون معاملة الآخرين خاصةً النساء ، ويتقنون الحديث وفن المجاملة وهو يملڪ ڪل مفردات الرجولة ـ هڪذا يظن .. أو هڪذا ارادت له جدته لأبيه فعلمته أو أمه فربته أو السيدة : « „ فوزية ” » وهذه تحتاج لتفصيل .. أو زملاء الوالد في المحكمة الحقانية أو في مكتب المحاماه .. وهذا تم في صغره وبداية صباه .. وهو الإعداد لدوره ڪــ رجل وليس فقط ڪـ ــذكر كما هو مسجل في شهادة الميلاد .. والفارق كبير جداً بين مقومات الرجولة ومفردات الفحولة وبين -فقط- الذكورة بحكم المولد ونوع الجنس بحكم المظهر ـ فيوظفها - مفردات الرجولة ومقوماتها ومقاييس الفحولة وعناصرها - ببراعة ويظهرها في ڪل لحظة ، فيلاطف جليسته ويداعبها ويلاعبها بڪلماته ويتخير الفاظَه وتراڪيب جمله ويغدق عليها أوصاف المديح ويخترع ويبدع في التغزل فيها .. إذا واتته الفرصة .. وهو يعلم متىٰ ينبغي له أن يتحدث بهمسٍ بالقرب مِن قرط إذنها - خاصة اليسرىٰ- ، ومتىٰ يصلح له أن يتحدث بصوت مرتفع ڪأنه علىٰ خشبة مسرح الحياة وأمام جمهور ، وبعض النساء ـ „ELLE“ منهن ـ تريد هذا المشهد أمام الآخريات لتظهر لهنَّ أنَّها تملڪ ما لا تملڪه بقية بنات جنسها من النساء ، ولأنها تمتاز بهذه الخواص ، الأنوثة المفرطة في الجاذبية والجمال الساحر الذي يشد الرجل إليها والفتنة الطاغية وإن سڪنت مظاهر الرجولة فيه وخبئت ملامح الفحولة في آسارير خريطته الآدمية ، وضعفت الغدد في إفراز الهرمونات المنشطة داخليا ، فلخصائصها هذه وتركيبته النفسية والعقلية واسلوب تربيته استحدث „ رفيقي ” علىٰ مسامعها ڪلمات غير موجودة في قواميس اللغة المعتبرة والمعترف بها والمتداولة .. إنها ڪلمات نحتها من خياله الخصب وابتدعها واخترعها وترجم مفرداته مِن لغته الأم وقراءاته المتعددة وثقافته ذات الغور العميق ، فڪانت تسمع تعبيرات لم تسمعها مِن قبل ولم تتداول في ڪتب العشق وروايات الحب وأفلام الغرام واغنيات الهيام وڪانت تقول له دائما :
« „ أفهم ما تقول ، أدرڪ تماماً ما تفوهت به ، ولڪن هذه الڪلمة ليس لها وجود في لُغَتي أو قاموس عصرنا ، ولم اسمعها من قبل ، بل لا تستخدم هڪذا .. إنڪ تخالف كل قواعد اللُغة وما تعارف عليه الأدباء والڪتَّاب ، ولكن ما أعذبها من ڪلمات حين تخرج من بين شفتيڪ ويحرڪها لسانڪ الرطب فتطير ڪالفراشات فتقع علىٰ مسمعي فتُحيي شيئا ما متعطشة تماما له بداخلي ” » .
.. وحين يتراجع عن ڪلمته التي قالها علىٰ أذنها اليسرى؛ والتي هي اقرب ما تكون لقلبها بصوت خفيض ، متعللاً بقولها:
« „ لا يوجد لها وجود في لُغتي الأم!؟ ” » ، إذ أن المعنىٰ يفهم بصعوبة ولڪنه يدرڪ من سياق الحديث وترڪيبة الجملة ، أدرڪت ما يقول بتڪرار المحاولات وسعدت به ، واعتادت علىٰ سماع تراڪيب جمله ومقاطع تفڪيره بڪلمات منحوتة من أصل موجود لڪن اللفظ غريب بل مهجور بل في حقيقة الآمر غير موجود بالمرة فلا يستخدم اللفظ هڪذا ، وهو الذي يقول لها غير مرة متحدياً علماء اللغة وواضعي قواعدها:
« „ لڪِ ، وحدڪِ اُبدع ڪلمات واصنعها علىٰ مقاس قُطر رأسڪ ڪــ تاج لڪِ .. حال ما ينتهي صائغ السبائڪ الذهبية من الإنتهاء من تاجڪ الذهبي ، ڪلماتي اڪتبها لڪِ علىٰ غلالة رقيقة من الحرير الخالص بقدر طول قامتڪ ، وعلىٰ شال بقدر المسافة بين ڪتفيڪ ، وأطرز لڪِ وشاحاً يحيط بخصرڪ ، ڪلماتي والتي تنبع من سويداء قلبي تعلو فوق قمَتيّ نهديڪ لتتأرجح علىٰ هضبتي مؤخرتك ، فأنت امرأة يجب أن يصنع لها قاموساً خاصاً .
تحرجت قليلاً وانڪسفت لڪلماته الجريئة وخبئت خجلها خلف إبتسامة ساحرة ثم قالت له :
« „ إذن نڪتب معا قاموساً جديداً للحب .. مفرداته .. نصنعها سوياً ” » ،
فقال علىٰ الفور :
« „ سأڪون ڪاتبك الأمين ” ».
إذن ضيفتنا الساڪنة في مهبط رأسها مدينة „Graz“ ستڪون بطلة أحداث قصتها مع : „ رفيقي ”.. والتي أُعجبت به منذ اللحظة الأولىٰ منذ تواجدهما معا في القرية النموذجية ڪمثال رائع لما تعارف وأطلق عليه „Kurschatten“ .
...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[(*)] كلمة حواء في اللغة تحمل معنى السمرة، وكذلك الحمرة التي يخالطها سواد.
قال الجوهري: "والحوّة: سُمرةُ الشفة.
يقال: رجلٌ أحوىٰ، وامرأةٌ حوّاء.
وقال ابن منظور: "يقال: وامرأة حوّاء وقد حويت،
وقال ابن سيده: شفة حوّاء: حمراء تضرب إلىٰ السواد، وكثر في كلامهم حتىٰ سمّوا كل أسود أحوىٰ".
وقال الزمخشري: "الأحوىٰ: لون يضرب إلىٰ سواد قليل، وسميت أمّنا حواء؛ لــ أدمة كانت فيها.
.
:" سبب تسمية حواء بهذا الاسم:
وردت مجموعة من الأقوال في كتب التفسير في سبب تسمية حواء بهذا الاسم،
ومن أبرز هذه الأقوال ما يلي:
أ‌- أنها خلقت من حيّ، وبمثله سميت مرأة؛ لأنها خلقت من المرء.
ب‌- لأنه كان علىٰ شفتيها حُّوة (سمرة الشفة).
ج‌- لأنه كان في ذقنها حُوَّة (حُمرة مائلة إلىٰ السواد).
د‌- لأن لونها كان يضرب إلىٰ السُّمرة.
هـ‌- لأنها أمّ كل حيٍّ.
و‌- لأن امرأة الرجل تحوي عليه وتستحمله، فيسمع منها في أغلب أمره. ".
[(**)] لا تتحمل الرواية هذه والتي اسردها من خيال .. بحث ڪيفية خلق أم البشر أمنا حواء.. خاصةً حين تتعدد تفسيرات وتأويلات خلقها وتختلف وتتباين فهوم الروايات ؛ فيُثار الكثير من النقاش والجدل الفكري واختلاف في وجهات النظر حول قصة بدء الخلق، وكيف خلق الله -تعالىٰ- أول البشر آدم -عليه السلام-، والحقيقة الكاملة في قصة الخلق وخلق آدم -عليه السلام- في القرآن الكريم وما صح عن النبي -ﷺ-. وإن من أكثر المسائل التي يُختلف عليها من حيث ماهية الخلق أو طبيعته، هو ما يُروىٰ عن خلق أمنا حواء من ضلع آدم -عليه السلام-، وعليه فقد خلقت من ضلع أعوج، ويستخدم ذلك الادعاء في سياق الحط من قيمة حواء -عليها السلام- والحط من مكانة جنسها أي النساء بشكل عام. وقد ينطح بعض وعول البشر في جدران أساطير العهد القديم -دون سند- والروايات الإسرائيلية -الإسرائيليات- فيعتمدونها.. وأكتفي بالإستدلال من قول المبعوث رحمة للعالمين :" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّ المرأة خُلِقَتْ مِن ضِلعٍ، وَإنَّ أعْوَجَ مَا في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فَإنْ ذَهَبتَ تُقيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإن تركته، لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء».
وفي رواية: «المرأة [(ڪــ)]ــالضِّلَعِ إنْ أقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإن اسْتَمتَعْتَ بها، استمتعت وفيها عوَجٌ».
وفي رواية: «إنَّ المَرأةَ خُلِقَت مِنْ ضِلَع، لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَىٰ طَريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَها، وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا».
[ الحديث صحيح؛ فالرواية الأولىٰ متفق عليها ؛ والثانية متفق عليها ؛ أما الراوي الثالثة فرواها مسلم ] .
والإجابة القاطعة-عندي- جاءت في الرواية الثانية والتي تقول : «المرأة كـــ الضِّلَعِ ". فجاء التعبير بحرف التشبيه : ( ڪـــ ) " فشبهت المرأة لتقريب المفهوم أنها أقرب شبهاً من الضلع الذي يسهل كسره . فبكلمة ترضيها وبحرف تغضبها .. أو تكون تلك إشارة إلىٰ طبيعة المرأة وفطرتها وروحها وعاطفتها، كما في قوله: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [سورة الأنبياء: 37]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- استخدم ضلع علىٰ سبيل المجاز لا علىٰ الحقيقة؛ ، كما لم نجد في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها مخلوقة من ضلع آدم، بل من ضِلَع، والضِّلَع من معانيها المشقة والتعب والاعوجاج والجور، كما في كتب اللغة:
- ضَلِعَ الرُّمحُ ضَلَعاً اعوجَّ .
- والضَّالع الجائر، وقد ضَلِعَ يضلَعُ مالَ، ومنه ضَلعُك معَ فلانٍ .
- ضَلِعَ عنِ الحق: مالَ وجارَ. وأضلعَ الحِمْلُ ثَقُلَ .
ولقد قرأت وصفاً لهنَّ بــ :" أن النساء :
- قاصرات في العقول، و
- قاصرات في الدين، و
- قاصرات في التفكير، و
- قاصرات في جميع شؤونهن ". [ تجد هذا الوصف لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين [رحمه الله تعالىٰ وأسكنه فسيح جناته]/ / شرح رياض الصالحين- 35b". ] . وهذا ليس برأي كاتب هذه السطور والمسألة برمتها تحتاج إعادة نظر وترتيب في الأفكار وليس هنا -الرواية- موضعها . والنظرة السطحية.. أو بتعبير أدق أخذ حديث واحد في المسألة الواحدة يفسد الاستدلال وعليه يفسد الوصول إلى فهم صحيح صواب فقد قال -صلى الله عليه وسلم- عن النساء : ( إنما هن شقائق الرجال ). أخرجه البزار في مسنده (6418) ، وصححه ابن القطان في "الوهم والإيهام" (5/271)؛ والالباني في "السلسلة الصحيحة" (2863) . أي: أنهما سواء في الواجبات والمحرمات، إلا ما استُثني كسقوط وجوب الجهاد على النساء ، وسقوط وجوب الصلاة حال الحيض والنفاس ".. وقد قال ابن العربي المالكي في "المسالك" (2/423) :" وقد رُوِيَّ ( أن النساء شقائق الرجال ) ؛ يعني: أن الخلقة فيهم واحدة، والحكم فيهم بالشريعة سواء ". انتهى ... وجاء تشبيه آخر في خطبة حجة الوداع بقوله :" فإنَّما هنَّ عوانٍ عندكم"، العواني جمْعُ عانيةٍ، أي: أسيرةٌ، وشبَّهَهنَّ بذلك ".
وأخيراً وليس بأخر نأتي من عند الصحيح بما أخرجه مسلم والبخاري : كانَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في مَسِيرٍ له، فَحَدَا الحَادِي، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: ارْفُقْ يا أنْجَشَةُ، ويْحَكَ بالقَوَارِيرِ. [رواه مَن نال شرف أنه خادم الرسول: أنس بن مالك؛ انظر: البخاري؛ في صحيحه؛ (6209)؛ وخرجّه مسلم (2323) ".. فيروي أنَسُ بنُ مالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان في سَفَرٍ، وكان غُلامٌ يَحدُو بِهِنَّ -أي بالنِّساءِ- وكان اسمُه: أَنْجَشَةُ، والحَدْوُ: سَوْقُ الإبلِ والغِناءُ لها لتخِفَّ في الحركةِ وتُسرِعَ المشيَ، فقال له النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «رُوَيْدَكَ» .. أي: أَمْهِل «يا أَنْجَشَةُ سَوْقَك بالقَوَارِيرِ»، فــ هل المرأة خلقت مِن الزجاج الذي تصنع منه القوارير؟ .. بالطبع لا، ويقصِدُ بهِنَّ [ أي: القَوَارِيرِ ] ضَعَفةَ النِّساءِ، والقَوَارِيرُ: جمعُ قَارُورُةٍ، سُمِّيت بذلك لاستِقرارِ الشَّرابِ فيها، وكَنَىٰ عن النِّساءِ بالقَوَارِيرِ (مِن الزُّجَاج)؛ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ ورِقَّتِهِنَّ ولَطَافَتِهِنَّ . ويفهم من الحَديثِ: مَشروعيَّةُ الحُداء والترنُّم بالأرجازِ في مَواضعِها؛ مِن سَوقِ الإبلِ، وقَطْعُ الأسفارِ، وإنشادُ الرَّقيقِ مِن الشِّعرِ بالأصواتِ الحَسَنةِ " .. والمقام لا يتسع لمزيد بحث وتوضيح.. فالفرقان المبين الذكر الحكيم والقرآن الكريم والسنة المحمدية العطرة علىٰ صاحبها الصلاة والسلام والتكريم والإنعام يحتاجا إلىٰ إعادة تدبر وفهم دون إجحاف حق السادة العلماء الأوائل ومن تلاهم في إجتهادتهم أو فهمهم.. والله تعالى أعلم.

‏الخميس‏، 23‏ ربيع الثاني‏، 1444هــ ~ 16 نوفمبر 2022 م؛‏17‏/11‏/2022‏ 03:40:06 م

14 مرآة الحب

رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
 أرادت : « „ LE ~ EL ” » أن تتميز عن قرينتها .. وتتغاير عن أترابها .. وتختلف عن زميلاتها .. وتعلو كعبها عن مَن يشابهها فــ في نظرها لا يصح لأحد من بنات „ آدم ” أن تقترب من مملكتها سواء الحقيقية أو في أوهامها الخيالية ..
فــ لم تكتفِ بأنها تملك مقومات الجمال وعوامل الحُسن ومقاييس ملكات الإغراء ..
و لم تكتف بأنوثتها الطاغية .. وجمالِها الباهر .. وحسنِها الخلاب .. ورقتها الظاهرة .. وملمسها الحريري الناعم .. وطِيب عطرها .. ومسك رائحة أعطافها .. وذهبية جدائلها .. وصفاء زرقة عينيها .. فزدادا صفاءاً فوق صفائهما بــ كحلها الإثمد .. فــ هي تملك ملامح وجهٍ صبوحا .. يبزغ الفجر مِن تحت معاطف رمشها .. وتسطع الشمس مِن زاوية ركن جفنها .. وتتناسق أعضاء بدنها ڪــ آحدىٰ بنات آلةِ الإغريق وربة مِن ربات أثينا عاصمة اليونان .. ولكي تخلد عبر الأعصار ومر الدهور .. نحتها بيده ڪبير الآله .. وخِلقتها المتڪاملة .. التي هي في أحسن تقويم ؛ فقد ابدع صانعها في تشڪيلها .. فــ: « „ سبحان الله الخالق المبدع المصور ” » .. فأفردها مِن بين ڪل وڪافة مخلوقاته بحسن جمال وروعة حُسن ودقة تنسيق مِن مفرق رأسها الذهبي الذي تطل منه كل صباح باكر شمس النهار إلىٰ أخمَص قدميها حين يَتَجَافَىٰ عن الأرض فترتفع إلىٰ عنان السماء ومع علوها وشموخها تعبث بــ طرف خنصر القدم بــ رمال وحصىٰ بحيرات الإمبراطورية النمساوية و الملكية المجرية .. ثم ينسدل ليلٌ علىٰ قدر حاجتها ..

..
أرادت أن تنفرد بأمور عدة عن سواها مِن بنات جنسها ، فــ عملت علىٰ تميّزها بڪل ما أوتيت مِن قوة ، سواء مِن حيث عذوبة حديثها وحُسن ورقة مخارج حروف كلماتها حين تتزحلق من فوق طرف لسانها .. أو تطل بدقة نطقها مِن بين أطراف ورباعيات أسنانها .. وڪيفية نطقها لِلُغتها الأم .. لغة جوته الشعرية : « Johann Wolfgang von Goethe[(*)] » وڪــأن مقاطع حروفها سيمفونية موتسارت ــ: « Johannes Chrysostomus Wolfgangus Theophilus Mozart » ..‏ [(**)] فوفلجانج أو روائع موسيقىٰ بيتهوفن ــ: « Ludwig van Beethoven » ..[(***)] .. وڪيفية رص الڪلمات ڪــ عُقْدٍ فريد بأحجار كريمة بوسطه لؤلؤة يتيمة رصع في أغلىٰ قواميس اللغة وأفخم معاجم اللغات .. في جملٍ متناسقةٍ مع إلتفاتة بحرڪة أطراف اصابع يد تڪاد تڪون عفوية .. ولكنها تلفت انتباه السامع فتجبره علىٰ كمال الاصغاء ..
.. أرادات أن تتميز بڪل ما أوتيت مِن قوة ..
.. سواء القوة الشرائية مِن حيث المال .. وإن علمَ „ رفيقي ” أنها لا تشتري هندامها بمبالغ طائلة لڪن قدرتها علىٰ أختيار الجيد الممتاز الراقي بارخص الأثمان وأقل الأسعار . أو مِن حيث قوة إتقان الصناعة ومتانتها .. أو قوة تأثير لون القماش على عين الناظر .. أو طريقة حياڪته علىٰ قرنية المشاهد .. فاختارت أفضل الثياب المعروضة في السوق .. وارتدت أغلىٰ الجوارب الحريمية .. وتزينت بذوق خاص .. يخصها هي عن بقية بنات: « حواء » ڪما وجعلت اڪسسواراتها -مڪملات زينتها- خاصة لها وحدها فلا تجدها عند بائع في محلات اقتناء مڪملات الزينة للنساء ..

* * * * * * * *

.. وهذه أوصاف „ رفيقي ” لها .. أقتربت من التمام .. كما أخبرني .. وصدق مَن قال بأن: « مرآة الحُب خشب » ..
والغريب العجيب المبهر المريب الذي لم يسطع „ رفيقي ” حل لغزه أو فهم مكنونه ..
.. إذ مع ما يبدو عليها مِن إناقة عصرية .. وحسن هندام .. وجاذبية انثىٰ شدت „ رفيقي ” إليها ..
.. إلا أنها كانت تملك دمعة حزن مخزونة(!) .. تخفيها خلف أهدابها الطويلة التي غطتها بكحلها الإثمد ... فقد كانت تخفي ظلال حزن ولكنه عميق .. وعلامات ألم بيد أنه دفين .. مع أنها لم تحمل صليباً قط بين نهديها البارزين .. ولم تضعه علىٰ صدرها الناهد ، غير أنها حملت آلام وعذابات السيد المسيح كما صُوِّرت وجُسِدَت .. خاصة في عقيدة الروم الڪاثوليڪ .. فحملت تلك التصاوير وهاتيك المنحوتات ڪافة جدران معابد المسيحيين .. ورُسمت فــ عُلقت ڪــ لوحات الكنائس وتماثيل دَيْر ڪــ بيت العبادة عند النَّصارى؛ وما يخبئه المتعبَّد الناسك ومنار الرّاهب، في الصوامع .. معبد الرُّهبان في الأماكن النَّائية .. كما وتجدها في سقف وحيطان ڪل ڪاتدرائية ، وفي كل زاوية منها وفيها ، كما تواجه عند مدخلك لأي دار عبادة نصرانية : « „ 14 ” » لوحة زيتية تمثل رحلة آلام وعذاب السيد المسيح .. „ أربِعَةُ عَشرَةُ ” صورة تشاهدها في طريق عذاب و الآلام .. قُبيل الصلب ..
وفارق كبير بين عذابات وآلام السيد المسيح وآلامها .....
ولعل „ رفيقي ”.سيخبرني الفارق بينهما .. فهو الذي عاشرها ورافقها زمنا طويلاً .. ويكفي أن أول لقاء بينهما تم بعد أنتهاء القداس وقبيل المناولة ..
. . و „ رفيقي ” عند لقاءه الأول بها ڪأنه لمح تلك الملامح الحزينة علىٰ خطوط تقاطيع وجهها دون تفصيل .. والفارق أن رحلة السيد المسيح قُدمت ڪأعمال فنية علىٰ الشاشة الفضية أو شاشة التلفاز .. و إن أعترضت النيافة البابوية وشجب الكرسي البابوي مثل هذه الأفعال أو علىٰ الأقل بعض المشاهد كما تم الاعتراض علىٰ فيلم من إخراج ــ: « ميل جيبسون » .. بعد أن أُخرج الفيلم بإتقان فنان مبدع .. وأن تراه متجسد أمامك علىٰ تقاطيع وجهها ، فقد ڪانت بنظراتها -ڪأنها- تناديه بإستغاثة .. عالية درجة الإنسانية فيخرج من بين شعاع عينيها نداء يقول له :
" أنقذني مما أنا فيه ، أنقذني مما أتألم منه وأعانيه " ، ترسل له إشارات متتالية متلاحقة تقول له :
" أنتظرتڪ طويلا ڪي تنقذني مما أشعر به " ،.
.. فهي لا تنام جيداً ..
وتريده قبل أن يستدل الستار علىٰ نهاره أن يڪون صوتها آخر من يلمس طبلة أذنه ..
وفي نهاية الليل وقبل أن يغفو القمر فقد سهر أڪثر الليل أو ڪله .. وأُرهق مِن تنهيدات العشاق طوال ظلمته .. فتريده أن يظل مستيقظأ لينادي علىٰ القمر فيفيق من سباته ويستيقظ مِن نعاسه ،
وفي السحر ترغب أن تتحدث معه قبل تغاريد الطيور ، وقبل بزوغ الفجر .. فــ تلمس لوحة أرقام الجوال علىٰ هاتفها ليغرد صوتها قبل أن يغرد الڪروان ،
وعند تباشير الصباح ينبغي أن تڪون أول طارق علىٰ باب نهاره ..
وفي أستراحة التاسعة ضُحاً حين يرتشف أول قطرة مِن فنجان قهوته الصباحية وفق بعض التقاليد في تجمعات العمل والوظائف النمساوية .. تريد أن تصبها هي له ، بل تريد أن تمر أولاً علىٰ طرفي شفتيها ..
وقبل منتصف النهار تذيب روحها بين حبيبات العصير الطازج قبل أن يتناوله قبيل الغذاء ،
وعند الثانية ظهراً تذڪره أن لا يفڪر إلا فيها ،
وعند الخامسة عصراً تضع له حبات السكر في ڪوب الشاي .. وتلمس بلسانها العذب وريقها المشرب بعسل نحل بعض قطع البسڪويت قبله ، وتحلب بيدها حليب بقرته لتتساقط قطرات الحليب في كوب شايِهِ..
وعند مغرب الشمس التي أخذت لونها مِن شعرها الذهبي .. فهي أول مَن يستقبل معه بداية الليل الطويل فهي لا تنام جيداً ... فــ تتمنىٰ له عشاءً هنيئاً .
.. وهڪذا ..
فهو الرجل الوحيد -أمامها- في هذا العالم .. فحين تستيقظ الشمس مِن مرقدها تتحدث معه ..
وحين تشتد في ڪبد السماء فهو رفيقها في طريقها حين تريد ابتياع أشياء لها ،
وحين تتأذن بالغروب فــ „ رفيقي ” معها علىٰ خط الهاتف المحمول.
امرأةٌ أشعرته ، بل ترغم الدنيا علىٰ الإعتراف بأنه الرجل الوحيد أمامها ومعها ولها وبجوارها في هذا العالم ،
فإذا تحرڪت هبت نسائم الربيع في حر أغسطس لتنعشه ،
وإذا مشت تسارعت حبات المطر لترش طريقه فتلطف له المناخ القائظ في نهاره ،
وإذا نظرت إليه شعر بالدفء وإن سڪن القطب الشمالي المتجمد في صقيع الشتاء الأوروبي ،
و .. هي ساعته الصيفية / الشتوية والربيعية
و .. هي ساعته البيولوجية ، ينعس ثم يبدء في نوم عميق وفقا لجدولها هي له ..
وهي التي تُوَلِد أيامَه من خُصلات جدائلها ،
أما إذا لمست يده فهو في توازن داخلي وخارجي .. فتملؤ ڪيانه بــ طمأنينة النفس .. وهدوء الروح .. واستقرار القلب وسعادة فؤاده.. فتسري بڪامل جسده سعادة أهل الفردوس ورضا سڪان جنة الرضوان .
..
أينما رحل أو حلَّ فهي ترافقه ،
يعلق „ رفيقي ” بالقول
: « „ وهڪذا ينبغي أن تكون المرأة العاشقة .. أو التي يبحث عنها الرجل العاشق بين النساء ” » ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] يوهان فولفجانج فون جوته [Johann Wolfgang von Goethe]، ولد في 28. أغسطس 1749 في فرانكفورت، توفي في 22. مارس 1832 في فايمار.
كان شاعراً وعالماً طبيعياً وواحداً من أهم مبدعي الشعر باللغة الألمانية، ومن أشهر أعماله : آلام فيرتر، وفاوست، وغوتس فون برليشنغن، ومسرحيات : نزوة عاشق، المتواطئون، كلافيغو، إيغمونت، ستيلا، إفيجينا في تاورس، توركواتو تاسو ، ومن قصائده: بروميتيوس، المرثيات الرومانية، والديوان الغربي والشرقي..

.. وما يهمني في ترجمته أنه ظهر تأثره بالفكر العربي والفارسي والإسلامي .
[(**)] فولفجانج أماديوس موتسارت [Johannes Chrysostomus Wolfgangus Theophilus Mozart)‏ ] ولد في سالزبورج بالنمسا في : 27. يناير 1756 - ومات يوم 5. ديسمبر1791 ..
مؤلف موسيقي نمساوي يعتبر من أشهر العباقرة المبدعين في تاريخ الموسيقى رغم أن حياته كانت قصيرة، فقد مات عن عمر يناهز الـ 35 عاماً بعد أن نجح في إنتاج 626 عمل موسيقي. قاد أوركسترا وهو في السابعة من عمره.
[(***)] لودفيج فان بيتهوفن [ Ludwig van Beethoven ] كان ملحنًا وموسيقارًا وعازف بيانو ألماني، وهوَ أحدُ الشخصيّات البارزة في الحقبة الكلاسيكيّة التي تَسبِق الرومانسيّة؛ ويُعتَبرُ من أعظَم عباقرة الموسيقى في جميعِ العصور وأكثَرهُم تأثيراً، وأبدَع أعمالاً موسيقيّة خالِدة، كما له الفضلُ الأعظم في تطوير الموسيقى الكلاسيكيّة. وتَشمَلُ مُؤلّفاتُه تِسعَ سيمفونيّات وخَمسَ مقطوعاتٍ على البيانو وأُخرى على الكمان، واثنينِ وثلاثينَ سوناتا على البيانو وسِتّة عَشر مقطوعةً رُباعيّة وتريّة؛ كما ألّف أيضاً أعمالاً للصالونِ الأدبيّ وأُخرى للجوقة وأغانٍ أيضاً.
وُلِدَ بيتهوفن في مدينة بون في 17 ديسمبر 1770 .. والتي كانَت عاصمة انتخابية كولونيا وجزءاً من الإمبراطورية الرومانية المقدسة .. وتوفيَّ يوم:- 26 مارس 1827 .
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *

الإثنين : 06 ربيع الثاني 1444 هــ ~ 31 أكتوبر 2022 م

13 تربية رجل المستقبل

: رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
[**١٣**]: الْوَرَقَةُ الثَالِثَةُ عَشرَةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
١٣. ] « „تربية طفل اليوم .. شخصية رجل المستقبل ”»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
« تربية طفل اليوم شخصية رجل المستقبل »
.. حكى „ رفيقي ” ليَّ بالتفصيل المريح .. والتبيان الصريح مع التوضيح .. فــ غاب عن سرده التلميح وبلسان عربي فصيح .. ڪــ أني أعرفه أڪثر مِن نفسه .. إذ أنه فقد اطمئن لصداقتي له ..
.. حــڪــىٰ لي عن سنوات طفولته بمرافقة جدته لأبيه الحاجة: « السيدة » ؛ ودورها في إحسان تربيته وتثقيفه وفق العادات والتقاليد السائدة في تلك الفترة الملكية وتأثير المجتمع برمته برجال الدين سواء الأزهري أو الكنيسة المرقسية .. مع احتفاظ كل فريق منهما بخصوصيته من حيث العقيدة والإيمان ومن حيث العبادات ومراسم الأعياد والاحتفالات مع ملاحظة عدم تواجد لون ما من الكراهية للآخر .. إذ قد ساد عند الجميع مقولة لا يعلم „ رفيقي ” منشأها ملخصها تقول : « الدين لله .. والوطن للجميع » ؛ ومقولة .. وكأنها خرجت من افواه أحد خريجي الأزهر الشريف تؤكد سابقتها وفحواها : « موسىٰ نبي .. عيسىٰ نبي .. محمد نبي .... وكل مَن له نبي يصلي عليه » .. ثم يردف أن تاريخ حقبة بعينها المدون والثابت قبل إنفتاح رجل العلم والإيمان .. صاحب نصر أكتوبر وقبل إنتشار أفكار ما يطلق عليه خطأ من حيث المسمى : « الوهابية » ؛ أو لعل الدقة في التعبير تسمية : « السلفنجية الحديثة » ؛ كي نبتعد عن صحيح الوصف ودقة التعبير : « السلفية » ؛ ومصطلح : « السلف الصالح » ؛ وما كانوا عليه مِن صحيح العقيدة وسليم الإيمان وصحة النية ومحلها وسلامة العبادات من الدواخل ..
ثم حــڪــىٰ ليَّ عن فترة دراسته في مسقط رأسه .. الثغر : « „ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ” » المطلة علىٰ البحيرة المتوسطية.. المدينة «الكوزموبوليتانية[(*)]» ، خاصةً مرحلة الإعدادي فــ الثانوي ، وكثيراً عن مرحلة التعليم الإلزامي الإبتدائي والتي تحوي التأهيل العلمي .. بدءً من الحرف العربي ومبادئ الحساب ؛ والتثقيف التاريخي وبدايات معارف العلوم .. وتحدث قليلاً جداً عن معهد : „ حسين ” .. إذ لا يذكر كثيراً عنه سوىٰ كراسة وقلم رصاص وممحاة وأبلة (معناها : الأخت الكبرىٰ باللُغة الترڪية [واصطلح علىٰ أنها مدرسة]).. لا يذكر اسمها .. وهناك تعلم الحرف العربي كتابةً ونطقاً بلهجة عامية والتحدث بطريقة ركيكة .. ضعيفة .. سخيفة الألفاظ ضحلة المعاني ! ..
.. وهذا ما يغلب علىٰ المتبرعات في تعليم براعم التجمعات العربية في جمهورية الألب(!؟)..

.. تعرفنا علىٰ بعضنا البعض في بداية السنة الأولىٰ مِن مرحلة التعليم الجامعي ، إذ أول حرف مِن اسمه واسمي واحد وفق جدول التقسيمات للمجموعات الدراسية ..
وإثناء رحلاته معي سواء سافرنا إلىٰ فرنسا : „ باريس ” .. عاصمة النور[(**)].. ڪما يحلو لمَن تأثر بالثقافة الفرنسية أن يسميها .. خاصةً مَن يؤڪد رؤيته هذه بالقول أنه عُرف عنها قدراً مِن التحضر والثقافة والتسامح والتعايش بين مختلف الجنسيات التي تعيش بها .. أو هڪذا يراد أن يتصور الرائي للغرب .. أو عاصمة الحب .. ڪما يهوىٰ البعض ويرغب أن يطلق عليها .. وڪأن بقية عواصم الدنيا أو أمهات المدن في العالم مظلمة وتعلوها كراهية ..
.. وقد اشتڪىٰ مُر الشڪوىٰ فضيلة الدڪتور أحمد معبد عبدالڪريم[(***)] مِن سرقة مخطوطات مِن جامع الأزهر الشريف .. لا يوجد مثلها الأن بمڪتبة الجامع .. وكان يقول فضيلته -ابقاه الله تعالىٰ لنا ذخراً واستفدنا من علمه - : « „ ڪان : « الخواجة » يأخذ المخطوطة دون رقيب أو حسيب ” » .. وقد قصد فضيلته حملة نابوليون بونابرت العسكرية علىٰ مِصر.. ولم اسمعه يستخدم لفظة: « الفرنجة » ..
.. وفي المقابل تسمع هناك مَن تغنىٰ عن : « „ أم القرىٰ ” » بقوله :
.. يا : « „ مكةُ ” »
يا عاصمةَ النور
حُبُّكِ يا مكةُ
يا قلبَ الإسلام
ما زالَ ... وما زال
يحدوكِ ويُذكىٰ
أفئدةً ورِحال
فتُضيءُ قلوبٌ
كــ الأفلاكِ تدور
وتذوبُ ذنوبٌ
بحِماكِ المعمور

ومطلعها يقول :

كم غنّتكِ طُيور
وتمنّاكِ شُعور
يا قلبَ الإسلام
يا : « مكةُ ” »
يا عاصمةَ النور

أو ..
السفر إلىٰ اليونان..
.. أما أول رحلة زهيدة التكاليف كانت إلىٰ الشقيقة ليبيا..
.. والرحلة الأولىٰ تلك كانت في أشهر الراحة الصيفية عبر البحيرة المتوسطية ناصعة البياض ..
.. إما بقية الرحلات فكانت علىٰ متن خطوط الطيران الفرنسية أو الأجنبي .. وعجباً لم نسافر علىٰ الخطوط الوطنية المِصرية .. وتلك عقدة الــ : « خواجة / فرنجة » كما صرح فضيلة الدكتور معبد عبدالڪريم..
وهذه -السفرة إلىٰ الغرب- لوثة أصابت شباب العرب في تلك الحقبة (نهاية الستينات وبدايات السبعينات مِن القرن الماضي وحتىٰ كتابة هذه السطور .. وكأن خروج الاستعمار البريطاني أو الفرنسي وتحرير البلاد مِن سيطرتهم .. ألزم العباد بمتابعتهم.. والرحيل معهم والذهاب إليهم .. فكأن جلاء الأجنبي المستعمر ألجأ أبناء البلد أن يفرحوا بتسميتهم بــ الجاليات(!) العربية وتواجدهم كــ أقلية لاجئة في بلاد الاستعمار .. ويدفع مقابل ذلك المال الوفير !..
.. وأذكر أنه في صيف عام 1973 م [ أو 1974 شكٌ مِن: „ رفيقي ” .. ] قد تم ما يشبه اعتصام بمقر السفارة المِصرية بعاصمة النور احتجاجاً .. أو بتعبير أكثر دقة طلباً لــ تدخل الدولة المِصرية لتسفير الطلاب المِصريين علىٰ نفقة الحكومة لعدم توفر شُغل للطلاب .. وكان خطاب الطلبة موجه إلىٰ الرئيس الراحل : « „ محمد أنور السادات ” » .. وبالفعل تم الاتصال بوزارة الخارجية ومِن ثم الاتصال بشركة مِصر للطيران .. وتكليفها .. وتم تسفير مَن يرغب منهم .. بناءً علىٰ توصيات رئيس مِصر وقتذاك : « „ بابا السادات ” » كما كان يلقبه: „ رفيقي ” » ..
.. أما أنا و : „ رفيقي ” فرفضنا العودة دون تحصيل ثمن تذكرة السفر بالكامل .. هذا أولاً .. وبعض الهدايا لأهلنا وبالطبع ملابس ماركة غربية وأجهزة ڪهربائية صُنعت في بلاد : « „ الخواجة / الفرنجة ” » .. وهذا ثانياً ..
رفضنا العودة علىٰ نفقة الدولة .. فقد أضعنا ثمن تذكرة [ السفر ] الطيران مِن جيوبنا وما بقي معنا مِن أموال حولت إلىٰ الفرانك الفرنسي للأكل والشرب .. وقررنا مع آخرين السفر إلىٰ اليونان ~ أثينا
.. وكانت فكرة: „ رفيقي ” » ، وإشكالها الوحيد أن تذكرة العودة أنتهىٰ مفعولها ولم تعد صالحة للسفر .. وسوف نحصل بعض الجنيهات المِصرية فرق مسافة سفر بين أثينا والقاهرة عند العودة .. فكان لازم .. وواجب .. وحتما .. ولابد العمل لتحصيل ثمن تذكرة العودة لأرض الوطن ..
ويذكر „ رفيقي ” أنه لم ير مِن أثينا شيئا سوىٰ الشارع العام ومطبخ المطعم الذي كان يعمل به وبدروم غسيل الصحون .. وبالطبع بنت صاحب المطعم الإغريقية (!) ولم يكن يحسن الحديث معها لإختلاف لُغة التخاطب ..
ومع كل هذا فما زالت وجهة شباب العرب .. وللأسف المسلمين منهم تيمم إلىٰ الغرب ..
-*/*-
„ رفيقي ”.. حكىٰ لي قصصاً وحكاياتٍ لم يتمكن مِن إخباري إياها وقت دراستنا أمام الزملاء.. ولم تكن فترة زمن رحلة المواصلات المؤدية إلىٰ جامعتنا تصلح لمثل تلك الروايات .. أو إثناء العودة إلىٰ بيوتنا..
-*/*-
.. كنا في فترة الشباب نظن أننا نصنع المستقبل أو سنصنعه ، ونفكر كيف سنبني أمةً ونقود دولةً.. فنحن مِن أبناء جيل صاحب الكريزما القوية ، وتربينا فترة طفولتنا وزمن صِبانا وجزء من مرحلة مراهقتنا في عهده .. فــ هو قائد العروبة ، ونبي القومية العربية ، الزعيم الأوحد ، وقد تجمعت فينا عدة عوامل تحتاج لشرح وتبيان ..
.. وقد شعرنا وقتها اننا سادة العالم ورجال الغد مع آمال كبيرة عظام لا تتحملها بنيتنا البدنية الضعيفة ..
ويكفي أن يتذكر المرء على كراسة المدرسة شعار
: « أنت : „ سيد ” في ظل الجمهورية » ..
ولكن هذا التفكير الصبياني .. كان محاولة ذهنية لم تتعد الخيال خطوةً إلىٰ الواقع ، مع العلم أننا لم نكن نفهم في السياسة شيئاً ما يذكر .. ولم نكن مِن شبيبة الحزب الحاكم أو مِن المقربين أو من فئة المرضي عنهم .. كما ولم نكن مِن الشبان المسلمين داخل أروقة المساجد وحنايا الزوايا .. وإن كان يوجد ملتقىٰ رياضي تحت مسمىٰ الشبان المسيحيين ، وإن تم الحاقنا بهما ( تجمعات الشبان المسلمين أو المسيحيين ) كمشاركة رياضية أو ما يشبه هذا .. دون أدنىٰ تأثير علينا سواء مِن حيث الفكرة أو الطريقة .. والظاهر أنه لم تكن هناك فكرة واضحة -عندهم- أو طريقة معتمدة -لديهم- أو كيفية ثابتة .. بل مجرد خدمات تقدم سواء دروس تقوية في مواد دراسية أو طبية أو مساندة أرملة ومواساة مطلقة .. ولم نكن في حاجة إلىٰ تلك الخدمات ..
وقد شاركنا -أحيانًا- الطُرقية في موالدهم وموائدهم دون التواجد في حِلق الذكر .. إذ كانت بالنسبة لنا تحوي كبار السن ؛ وكانت هناك مسيرة .. يغلب علىٰ ظن „ رفيقي ” أنها إما بخصوص المولد النبوي الشريف أو مولد سيِّد مِن أسيادهم أهل طريقة ما (!).. وانطلقت مِن مسجد و مقام سيدي: « „ أبي العباس المرسي ” » .. وما حوله من أضرحة ومقامات.. ولم نستفد قليلاً أو كثيراً مِن الخدمات التي تُقدم مِن كل الأطراف .
-*/*-
.. بعد تخرجنا توقفنا عن الحديث فلا قصص تحكىٰ .. ولا حكايات تروىٰ .. بل نريد أن نثبت الذات وأن يكون لنا ظلاً تحت الشمس .. وموضع قدم فوق الأرض ..
.. فاتجه كل منا في طريق خلاف الآخر سواء في الدراسات العليا وتحضير الدراسات لنيل الدرجة العلمية .. أو الإهتمامات الخاصة أو العمل الإجتماعي أو التحرك السياسي أو النشاط الحزبي أو الانخراط في تكتل مؤسسي ، غير أن الصداقة التي ربطتنا معاً منذ بداية الدراسة الجامعية مازالت قائمة وتجمعنا ، فقد ظهرت إتجاهات واضحة ومختلفة في طريقة تفكيرنا تختلف قليلاً أو كثيراً حسب الموضوع المبحوث ، فهو „ رفيقي ” اتجه بكليته إلىٰ العمل الحزبي الإسلامي ذي التوجه السياسي المبني علىٰ مبادئ ثابتة مِن الكتاب الكريم والسنة الصحيحة سواء في الفكرة أو الطريقة ، يجاور هذا العمل المؤسسي سعة الفضاء الفكري والعقلي في الوسائل والأساليب لتحقيق الأهداف ، مع قدر كبير من التراث الفقهي.. „ رفيقي ” يصف نفسه أنه تربىٰ بين رجالات التفكير الاستراتيجي وغَرِف من منبعهم .. وبحكم الممارسة الفكرية والفعلية العملية صار واحداً مِن رجال الإستراتيجيات ـ يلاحظ هذا بصورة واضحة في عمله المهني أو نشاطه السياسي "المشبوه" (وهو المصطلح المنبعث من دهاليز أجهزة المخابرات وعناصر التجسس لحساب الجهاز الأمني) ـ فهو يسير في المعترك السياسي علىٰ ساقين ..
الساق الأولىٰ منهما :
الساق الناصرية التعبوية .. وتلك القامة السامقة التي أرتفعت فــ علت وطالت..
ارتفعت .. فكل مَن حولها أقزام بالنسبة إلىٰ صاحبها ..
وعلت بين اقرانها ..
وطالت عَنَان السَّحاب ، إذ أن عَنَان السَّماء هو ما يبدو للناظر إليها .. فما بالك إذا تعدتها فأخترقت اليَعْبُوب .. سحاب السماء ..
والساق الثانية :
الأفكار المبدئية الدينية المنبثقة من الڪتاب الڪريم وصحيح السنة .. ثم يلحقها التركة التراثية بمراجعة واعية ورؤية عصرية ..
.. وكنت أتساءل كيف يجمع „ رفيقي ” بينهما!؟ ..
إذ من العسير الجمع بين افكار ناصرية سرعان ما طمست وبين مبدأ محمد الرسول بشقيه القرآن الكريم والهدي النبوي(!؟؟.)..
بيد أن هذا أمر يخصه ، فهو مِن أهل الإختصاص والتخصص ويميل إلىٰ الخصوصية ... وقد يجمع بين النقيضين ..
.. ولعلها سِمة ابن آدم .. قدرته علىٰ الجمع بداخله بين ما يعرفه أنه حرام نظرياً وله عقوبة أو حد يقام على رقبته أو يجلد علىٰ ظهره وبين القيام بهذا الفعل الحرام !
-*/*-
.. سافرنا للغرب - هو سبقني وأنا لحقته - فالغرب وقتها كان لنا النافذة الواسعة التي تمكنَّا مِن دراسات عليا لنعود للوطن بشهادة الدكتوراه ..
.. كنا نريد أن نقوي الجانب العلمي الأكاديمي لنتمكن مِن الحصول علىٰ كرسي الأستاذية في الجامعة المِصرية .. وبعد حصولنا علىٰ الشهادة أغلق أمامه باب القبول والتعيين لنشاطه السياسي المعادي لنظام الدولة ورفضه شكل الحكم .. كما صرح بذلك وكيل النيابة والإدعاء العام ضده لما قُدم للمحاكمة ، وظهوره بياقته البيضاء التي لوثتها دعارة السياسة مِن خلال تقارير المخابرات العامة وتوصيات مكاتب أمن الدولة ومرتزقة التجسس للتقرب مِن قنصل عام للبلاد ، وأُغلق أمامي لظروف مالية ومعيشية وأسباب حياتية فقررنا أنا و „ رفيقي ” البقاء في الغرب .. وإن أكدنا لمشرف رسالة الدكتوراه عزمنا علىٰ العودة بمجرد إنتهاء الدراسة .. فسهل -قدس الله روحه- لنا المرحلة التمهيدية ومرحلة التحضير كما ويسر لنا الدفاع عن الأطروحة فلم يكثر مِن الأسئلة الحرجة ولم يبحث عن نقاط الضعف فيها إثناء مناقشتها ، وإن كنا بذلنا قصارىٰ الجهد لتقديم بحثٍ يرتفع لمستوىٰ الدراسات العليا التي تضيف شيئاً جديداً نافعاً للبشرية .. خاصةً ونحن تخرجنا مِن جامعة أوروبية عريقة وكلية لها وزنها العلمي والأكاديمي في بلاد الغرب والعرب ، ويكفينا فخراً كما قيل لنا: " أننا بحثنا جزئية لم تبحث مِن قبل في كبرىٰ معاهد أوروبا العلمية " .
.. كنا عندما نعود في أشهر الراحة الصيفية لأرض الوطن " المتروك قصداً " .. كنا نملك الوقت الكافي للحديث ومراجعة أوراق ملفات مازالت مفتوحة عندي وعنده ، وفوق رمال الثغر وعلىٰ آريكة الإعتراف والمراجعة التحليلة دون طبيب معالج للحالات النفسية التي أصابتنا ، كان يتحدث معي كثيراً .. وذاكرتي وعت الكثير مِن تفاصيل حياته لم أعلم عنها شيئاً وإن كنت أشاطره السكن في نفس المدينة .
.. وفي غياب الزوجة " الأولىٰ(!) " بالنسبة إليه .. والأولاد .. يبدأ يحڪي روايات حدثت له ، وڪأننا أمام فيلم هوليودي أحسن إنتاجه .. أما السيناريو والإخراج فمن طرف „ رفيقي ” وهو بالطبع البطل الأول فيه ..
-*/*-
.. وما أنا بصدد نشره الأن ترددتُ ڪثيراً قبل ڪتابة ڪلمة أو سطر عن علاقة ملئت ڪيانه فادخلته جنة الفردوس المنشود ، وسبب ترددي يعود لحساسية المسألة وخصوصيتها ، فلم أخبره بما يدور في خلدي ، غير أن مداخلة لي علىٰ الصفحة الإلڪترونية ذڪرتُ فيها ما دار بيني وبينه من حوار إثناء سيرنا إلىٰ أمسية قصصية في مرڪز الثقافة العربية ، ڪمقدمة مع عرض موجز للقصة التي قُرأت علىٰ مسامعنا من القاص وشخصياتها وإلقاء بعض الضوء علىٰ السيدات والسادة ضيوف الأمسية وخاصة آحدىٰ الشابات من الجيل الثاني لتجمعنا العربي ؛ إذ أنه لم يكن مِصرياً خالصاً ، ونجحت الأمسية أيما نجاح ففي نهايتها استمعنا لعزف منفرد علىٰ العود وإنشاد بعض الأغاني القديمة ذات الشجون والذڪريات لأبناء الجيل الأول ـ عجائز التجمع المِصري ـ والتجاوب الإيجابي والمشاركة في الغناء مع المنشد ، أما بخصوص مداخلتي فقد نشرت تحت عنوان " صالون الأربعاء " ، وما ڪتبته اعجبه .. وأثنىٰ عليه .. فاخبرته بنيتي في سرد أحداث مر هو بها .. وآثرت بالفعل في حياته الزوجية وعلاقته بأبناءه ، بل وتعدت إلىٰ وضعها كــ أطباق فتح شهية علىٰ موائد نهش لحوم البشر بـ " القيل والقال " والغيبة والنميمة، وهل علمت ماذا فعل فلان (!؟).. وهل علمت ماذا فعلت فلانه (!؟)" ، ونشرة مفصلة وكاملة بالغيبة والنميمة تطرح في " صالونات " فضح الأعراض ليل السبت صباح الأحد .. وليال العطلات وأيام الأجازات بدلا مِن تقديم النصيحة ووضع الخط المستقيم بجانب الخط المعوج ..
.. أخبرته بنيتي فرد قائلا :
" دون أن تذڪر اسماء ، بلاش فضائح " ، ثم نظر إلىٰ السماء ڪأنه يبحث عن دليل وأردف :
" ... نحن الجيل الأول في الغرب وخاصة أصحاب الدراسات التخصصية ، تلك الفئة التي أمتلڪت لغة العرب .. وتحمل ثقافتهم في عقل تملك لغة الدراسة الجامعية الغربية ويقف علىٰ شاطئ الثقافة الغربية ، هذه الفئة لها خصوصيتها فنحن صرنا ڪالغراب الأبيض فأردنا أن نغرد كالڪروان فخرج صوت نشاز وأردنا أن نقلد الحمام فتعثرنا في الطريق ، وقد يستفيد الجيل الثاني مِن تجاربنا ... " ..
.. „ رفيقي ” .. كان يحلم ڪثيراً في اليقظة ، ولعل هذا ما أعطاه قدراً ڪبيراً من حرية الحرڪة الفڪرية والتخيلية ...
فلنشارڪه أحداث " ظله المنتجعي " دون غيبة أو نميمة(!) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *

‏الخميس‏، 20‏ تشرين الأول‏، 2022 م ~ ‏الخميس‏، 25‏ ربيع الأول‏، 1444 هــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)]الإسكندرية «الكوزموبوليتانية»
مدينةٌ كانت هي تاريخياً بوابة مصر للعالم ، وبوابة العالم لمصر؟.. الإسكندرية تاريخياً نموذج للمدينة «الكوزموبوليتانية» متعددة الأعراق .. والأديان .. والألوان .. والثقافات .. واللغات .. واللهجات، هي أول مدينة عربية عرفت السينما بعد 11 شهراً فقط مِن انطلاقها في باريس علىٰ يد (الأخوين لويس وأوجست لوميير).
قدمت الإسكندرية لمصر الموسيقار العبقري سيد درويش .. ورسامين بحجم الأخوين (سيف وأدهم وانلي) ومحمود سعيد .. ومخرجاً مثل يوسف شاهين وغيرهم، ولم تتوقف أبداً، عن إرسال أو استقبال المبدعين من كل بقاع المعمورة.
[(**)] في 13 من سبتمبر الماضي، من هذا العام : 2022 م ، وفي حادثة لم تشهدها عاصمة الأنوار باريس والتي تعد أكبر المدن الأوروبية التي يقصدها السياح في العالم، أعلنت رئيسة بلدية باريس “آن هيدالغو” يوم الثلاثاء الموافق: 13-9-2022م، أن إضاءة مبنىٰ البلدية وبرج سان جاك والمتاحف البلدية وقاعات البلديات في دوائر العاصمة ستتوقف في الساعة 10 ليلاً اعتبارا 23 سبتمبر 2022 م.. بسبب أزمة الطاقة التي تمر بها الدولار الأوروبي بعدما أوقفت روسيا امداد الغاز للقارة. كما وصرحت عمدة العاصمة الفرنسية باريس عن رغبتها في تقليص وقت إضاءة برج إيفل لتوفير الكهرباء، مع رفضها وقف إنارة الشوارع لأسباب “أمنية”، وأما عن المتاحف والمباني الأثرية فسيتم اطفاء تلك الأماكن لترشيد استخدام، في خطة وضعتها فرنسا من أجل ترشيد الطاقة لموجة الشتاء الذي ينتظر أن يكون قاسي وشديد البرودة..
[(***)] أحمد مَعبد عبدالكريم سليمان حسن كُلَيْبَاتِي،ولد في1359 هـ ~ 1939م في مِصر بقرية الشيخ سعد تبع بلدة العجميين ، مركز أبشواي ، محافظة الفيوم . أستاذ بكلية أصول الدين والدعوة بالزقازيق جامعة الأزهر الشريف. عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف وأستاذ الحديث وعلومه بكلية أصول الدين ~ القاهرة .

12 لحظات ... ما قبل تحليق الفراشات

رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
[**١٢**]: الْوَرَقَةُ الثَانِيةُ عَشرَةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
١٢.] « „ لحظات .. ما قبل تحليق الفراشات ” »
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ 12 ] „ELLE“

« لحظات ... ما قبل تحليق الفراشات »
مر زمنٌ علىٰ „ رفيقي ” لا يدري كم عدد ساعاته التي أستغرقت مِن عمره الكثير دراسةً وتأهيلاً وإعادةَ بناءٍ علمي لمستقبله .. زمنٌ طوىٰ مِن حياته أياماً بكدها وتعبها وليال بسهرها وقلة نومه كي يثبت أنه يستحق ترقية في الكادر الوظيفي أو درجة أكاديمية أعلىٰ .. وزمنٌ سحب من رصيد عمره شهوراً وفق فصل الخريف برياحه الممطرة .. أو فصل الشتاء بصقيعه وهطول الثلوج فوق قمم الجبال .. أو فصل الربيع بزهوره وورده .. أو فصل صيف بإستراحةٍ علىٰ شاطئ البُحيرة المتوسطية ناصعة البياض كــ الحليب حين يداعب موجها رمال ناعمة كــ الحرير تحت سماء زرقاء صافية بــ هوائها الذي يشفي العليل ويبرء الجراح والثآئيل.. كي يبدء مِن جديد رحلة علمية تؤهله لتثبيت ما حصله من علوم .. والتأكيد علىٰ صحة ما ذهب إليه..
مر زمنٌ .. وجاءه مِن طبيب العائلة اقتراح بالذهاب لمنتجع صحي مرة ثانية لأنه مِن حقه الأن وفق نظام التأمينات المعمول به في البلاد ؛ والرعاية الصحية المتوفرة ذات المستوى الممتاز ؛ والتأهيل البدني والنفسي أن يتلقىٰ علاجاً طبيعياً في آحدى مراكز التأهيل .. كي يعاود نشاطه أفضل من الأول .. فَقَبِل الإقتراح .. وقُدم الطلب إلىٰ الموظف المختص بهيئة التأمينات .. وبعد حين .. جاء الرد بقبوله وسافر ..
.. وهناك حدث ما لم يخطر علىٰ خلده أو يمر علىٰ باله ..
فقد وجدها .. امرأةٌ جمعت أنوثة نساء العالمين .. الأولين منهنَّ والقادمين بأكملها ووزعتها علىٰ أنحاء جسمها المتناسق الرشيق .. وبدنها الفَارِع الممشوق .. فهي تلك المرأة الغَانِيَةُ الحسناء .. وهي التي تجدها -في كل أحوالها- دائماً في شَرْخ الشباب ورَيعَانِه وعُنفوانه ومَيْعَتِهِ غلوائه .. أي في أوَّلِهِ .. غير قابلة لتغيرات مرور السنين على ملامح وجهها أو انحداب الظهر أو انحناء العمود الفقري..
.. إنها أنثىٰ الحريم منذ أن انجبت حواء -أم الحسناوات المليحات الجميلات – الصبايا الناعمات والبنات الفاتنات .. هي أنثى ٰالحريم في كل زمان وعصر وأوان .. وكــ أنها منذ لُحيظة قيل عنها أن تلك الصبية الجارية بلغت عُرُوكها فــ هذا أوَّل بلوغها مبلغ النساء ..
..
.. ولعل أفضل ما أطلق عليهنَّ مِن تشبيهٍ يصف حالهنَّ كلمة « „ قوارير ” » ، والقارورةُ تكون مِن الزُّجاج الرقيق الشفاف الذي يُسْرِع إِليها الكسر ولا تقبل الجَبْرَ .. أو يراد بها حَدَقة العين علىٰ التشبيه بالقارورة مِن الزجاج لصفائها.. وأَن المتأَمّل يرىٰ شخصه فيها ، ـكــ بياض الفضّة وصفاء الزجاج .. وكأن مَنْ خاطب أَنْجَشةَ وهو يَحْدُو ويرتجز بنسيب الشعر والرجز بالنساء قائلا له : « „ رِفْقاً بالقَوارير ” » .. خاطبه هو نفسه ، فكان „ رفيقي ” رفيقاً جداً بكل قارورة أقترب منها أو أقتربت منه ..
.. وجدتها الأولىٰ « „ حواء ” » .. أم البنات الحسناوات والصبايا المليحات ادخرت لهذه المرأة أن تبقىٰ علىٰ الدوام عروس الصبايا وحسناء الملاح وأجمل الفتيات ، وقارورة : « „ القوارير ” » ، فكان جمالُها يُؤثِرُ „ رفيقي ” ..
.. ومنذ اللحظة الأولىٰ التي بزغ علىٰ عالمه محاسن وجهها .. ليلاً بــ نور قمرها .. وفجراً ونهاراً بـ ضياء شمسها ، فيلغي مِن حوله المكان فيغيب الزمان تحت معطفها وتختفي الناس دونها في دولاب الزينة ، فلا يرىٰ إلا شعاع عينيها يملؤ حوله الكون فيضئ له جنبات حياته .. فيضئ له سكة سفره .. فلا يرىٰ إلا ما تريد هي أن يراه ، ولا ينظر إلا إلىٰ ما تريد هي أن ينظر إليه .. كــ „ آدم مع حواء ” لا يوجد غيرها في كل الكون .. لا يوجد غيرها في المكان ولا تسير دقائق الزمان وثوانيه إلا من خلال شهيق وزفير رئتيها .. سواء مكثا قليلاً في جنة الرضوان أو هبطا معاً لأرض السكنى المؤقتة .. أرض الميعاد .. إذ لا يوجد غيرها في هذه الحياة .. فليس أمامه في الجنة إلا سواها .. ولا تمشي علىٰ الأرض امرأةٌ غيرها .. فلا يوجد في عالمه جنس نساء ؛ ولا في معجمه نون نسوة ؛ ولا في قاموسه لفظة امرأة آخرىٰ أو ثانية .. ولا كتب في قرطاسه هاء تأنيث ، و „ رفيقي ” لا ينظر .. فلا يعلو بصره إلا إلىٰ زُرقة سماء عينيها ، ولا يتغطىٰ إذا اشتد البرد وقرصه صقيع الشتاء .. أو أراد أن يتقي لسعة حرارة الشمس إلا بشعرها الذهبي الأشقر .. كأن شمسها تغطي شمس الدنيا .. فبجوارها لا يوجد برد أو شتاء ولا زمهرير .. وبقربها لا حر ولا قيظ ، لا يتذوق طعم الفاكهة ومذاقها إلا مِن قطف يديها ، لا يرتوي مِن فرات الماء وعذبه إلا مِن نبع أصابعها .. قطرات ريقها عسل جبلي مصفىٰ شهي المذاق يتقاطر مِن أعالي ثناياها مُزج بمسك رائحة فمها الذكي مس الجميع مستكة لسانها وقرنفل حلقها .. فـ إذا تحدثت اختلط العسل الشهي والشهد الصفي بمعاني كلمات تنطقها بعد أن عجنتها بأحاسيسها تجاهه ، فلا يدري أيتذوق „ رفيقي ” حبات عسل حروف كلماتها لجمال حديثها وعذوبته .. أم لأنها تدحرجت للتو مِن بين نبع العسل الأصلي : مقدمة ثنايا أسنانها وطرف لسانها فبتلت في حنكها ، وإذا تحدث معها لا يلمح إلا بياض يديها المشربتين بالحُمرة حين تلوحهما في الفضاء كأنها في سماء صافية بمفردها فهي لا تتحرك إلا في الأعالي ، ولا ينظر منها إلا شمسها الساطعة مِن مفرق رأسها الذي توّج بشعر الحسناء الشقراء الذهبي ، ولرقتها معه لا يحتاج لنظارة شمسية ، فهي الشقراء الحُميراء التي تهدي له النسمات الربيعية بغض النظر عن تواجده في موسم الشتاء أو وسط الخريف أو في صميم الصيف ..
.. إنها امرأة تضع كل لحمها وشحمها وعظامها في راحة كفه وتقول له:
« „ احملني ... يا رَجُل ، فأنت رَجُلِي ، احملني لعالمك الخاص بك ، وأنا سأسير معك طواعية ” »...
تبحلق جيداً وبإمعان في عينيه .. تريد قراءة ما بداخله وتُكمل :
« „ وهذا قلبي .. وتلك روحي .. وهاتيك نفسي تملكتهم جميعاً ، فماذا أنتَ فاعل .. يا رجلي ... في كل هذه الأمانات !؟ ” »..
.. هكذا المرأةُ ، تتسرىٰ مع رجلها بليل لأنها نور قمر سبيله على طول طريقه ، فـ تجاوره الطريق فهي ضياء وشعاع شمس دربه في نهاره ..
.. وإن استخدم الرجل لفظة « „ الرديف ” » تعبيراً عن ملازمتها له فيقول :
« „ اردفتها خلفي علىٰ حصاني الأبيض ، ولكنها في كل لحظة .. أمامي أحميها وأحرسها.. فهي ترافقه علىٰ كل حال .. وفي كل زمان .. أينما سار فــ هي رفيقته!
* * * * * * *
.. « „ Elle ” ».. امرأةٌ ولدت مِن رحم أقوىٰ نساء أوروبا وخرجت مِن صلب رجل لا تقدر نسائها علىٰ الوقوف أمام إغوائه أو إغرائه ، وإن كان مِن رجال أوروبا ، وعاش في زمن تحرير المرأة إلا أنه تعامل مع نسائها كأنهنَّ حريم السلطان يسكن الحرملك وجواري مملوكات قصر السلطان فيذلهنَّ لأنه يعلم أنهنَّ يردنَّه لوسامته ، فيقترب بسرعة البرق مِن قلب مَن يريدها لليلته .. ويغادر المكان اسرع من سرعة الضوء! ..
.. « „ Elle ” ».. وُلدت مِن امرأة لها إرادة قوية .. حطمتها رغبتها .. إذ رغبت في الإقتراب منه .. ولـ حبها الكبير لهذا الرجل سعت في محاولة ترويضه ، فلم يروض .. وأبوها لم يردْ أمها إلا للحظات جنونه وقضاء رغباته .. لم يلتفت إليها كثيراً .. ليس أكثر مِن لحظة الإستمتاع .. ويغادر عالمها لحظة إنتهاء الوطر ، وبغريزة المرأة .. وهنا يكمن ذكاؤها الفطري وحفاظاً علىٰ جنينها منه .. طلبت الاقتران الشرعي = الزواج أمام راعي الكنيسة .. الذي يقوم بدور الواعظ والمرشد في زمنٍ لم يعد الوعظ والإرشاد ينفع .. وبيت الآله هذا يقع علىٰ أطراف مدينة « „ جراتس ” » .. قرب الحدود مع الجارة السلوفينية .. ومِن ثم زيارة سريعة للــ مكتب الرسمي لــ توثيق العقود الحكومي .. وافق -أبوها بعد التثبت مِن الحمل منه- علىٰ مضض للإنتهاء مِن هذه الطقوس التقليدية البالية والإجراءات الرسمية التي قد تقيده ، بيد أنه تركهما معاً بُعيّد ولادتها .. ولم تراه منذ طفولتها المبكرة حتىٰ أُخبرت بموته .. عندما أصبحت شابة وزوجة وأم لطفلةٍ في العاشرة مِن عمرها لتدفع رسوم جنازته ويحصل منها أجرة رسوم الدفن ، ولعل هذا المشهد آحدىٰ محطات الآم عاشتها في حياتها ، والمحطات المؤلمة في حياتها كثيرة وسيلقي „ رفيقي ” بعض الضوء عليها إثناء حديثه العفوي عنها..
-*/*-
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية : » الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ «.
[ ١ . ] الجزء الأول
الْوَرَقَةُ الحَادِيةُ عَشِرَة مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ١٢ . ] » „لحظات .. ما قبل تحليق الفراشات ” «
-*/*-
:" ".
-*/*-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حُرِّرَت هذه الورقة : سَنَةَ ١٤٤٤ مِن الْهِجْرِةِ الْمُقَدَّسَةِ يوم : ‏الثلاثاء ٩ ربيع الأول ~ الموافق : ٤ أكتوبر ٢٠٢٢ مِن سنة الميلاد العجيب!

11 نَصِيحَةٌ رَسْميَّةٌ

رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
الْوَرَقَةُ الْحَادِيةُ عَشِرَةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
١١.] « „ نَصِيحَةٌ رَسْميَّةٌ ” »...
--------------------------------------- :

[ 12 ]
« نَــصِــيحَــةٌ رَسْميَّةٌ »
.. راعي البناية التي تتبع الوزارة التي يعمل فيها „ رفيقي ” .. هذه البناية آحدىٰ فروع الوزارة التي عُين بها منذ حين ..
.. ذلك الراعي هو المسؤول عن تنظيفها ورعاية كافة شؤونها الداخلية واحضار مستلزاماتها ونظافة ما يحيط بها خارجها ؛ وأيضاً حمل البريد الهام والمستعجل للجهة الحكومية التي تتبع فرع الوزارة ..
.. هذا الراعي نصحه ذات مساءٍ وفي غياب جميع العاملين بهذا الفرع .. وبعد أن وطد علاقته به ولأمور لا يعلم حقيقتها .. خاصةً وأن „ رفيقي ” يَحضر مبكراً لمكان شغله عن بقية زملائه في العمل بهذا الفرع .. وهو آخر مَن يترك مكتبه بعد غروب شمس نهار عمل صيفاً والنهار طويل .. أو شتاءً مع قصر ساعاته .. لكنه يبقىٰ في مكتبه لنفس ساعات نهار الصيف ..
.. ففي الصباح الباكر يقابله علىٰ درج البناية إثناء تنظيفه لها .. أو كنس مدخل البناية مِن أوراق الشجر الساقطة .. أو زبالة المارة من أعقاب السجائر وأوراق مهملة وبقايا طعام الوجبات السريعة فوق الرصيف العام بالشارع العمومي .. أو يحمل شيئاً ما مِن مكان إلىٰ آخر .. فيتقابلا في الصباح الباكر .. ويتبادلا تحيةَ الصباح ويتكلما حديثا قصيرا عابرا عن الطقس أو أهم الأحداث الخارجية أو خبر الساعة ..
.. وأيضا في نهاية الدوام اليومي يقابله .. إما في غرفة مكتبه لينظفها ؛ ويفرغ سلة المهملات .. أو في غرفة الاستراحة حين يُحضر „ رفيقي ” لنفسه كوباً مِن الشاي أو فنجاناً مِن القهوة .. فيتناولا معاً فنجاناً مِن الشاي أو القهوة ؛
و „ رفيقي ” كان يبتاع إثناء زياراته لآحدىٰ أمهات عواصم المشرق العربي أو مدنه قهوةً مطحونة مِن البن اليمني ذي السُمعة العالمية الراقية والنكهة الطيبة الخاصة .. أو قهوة محوجة علىٰ الطريقة المِصرية[(*)] وهي الطريقة الدائمة التي يعتمدها لــ شرب قهوته الصباحية أو القهوة بالنكهة العربية وهذه نادراً .. وأحيانا قليلة التركية .. أو يَشتري توليفةً خاصة مِن الشاي الهندي/السيلاني المحضر خصيصاً في بريطانيا .. وكلاهما -القهوة أو الشاي- يعجبا زملائه كثيراً .. إذ أنه لا يستسيغ كثيراً شرب القهوة المحضرة بطريقة الفلتر الورقي ومصبوب علىٰ البن المطحون قطرات من ماء ساخن ..
.. وأخيراً استقر تذوقه علىٰ بُن مِن نوع خاص يستطعمه وهو : « „ AFRICAN BLUE ” » .. وهو المزروع علىٰ الضفة الشرقية في أرض بركانية علىٰ ارتفاع 2,500 مترا عن سطح البحر مِن القارة السمراء أفريقيا الغنية بكل شئ والمقابلة لموطن الابن الأصلي : اليمن ..
و „ رفيقي ” لا يخجل مِن تحضير وتقديم فنجانِ قهوة أو كوب شاي لراعي البناية .. أو لــ مَن تروق له مِن الزميلات .. وإن كان تحضير فنجان من القهوة يستلزم بعضاً من الوقت إذ ينبغي أن تكون نار الطبخ هادئة .. ويستثمر هذا الزمن في الحديث مع صاحبة الحظ التي سيقدم لها قهوته من صنع يديه .. ويعجبه كثيراً كلمات الثناء إثناء تناولها الفنجان والذي يحضره ويقدمه بعناية فائقة .. وبجواره قطعة من الحلوىٰ!
* * * * * * * * * * *
.. يوماً ما .. وليس علىٰ عادته .. اقترب راعي البناية كثيراً .. وكاد كتفه -لقصره- يلامس رابطة عنقه .. اقترب كثيراً مِن أذنِ „ رفيقي ” .. مع ملاحظة : عدم وجود أحد في غرفة الاستراحة بل في البناية بأكملها سواهما ..
وقال هامساً :
« صديقي العزيز .. السيد الدكتور .. » ؛ وبكلمة صريحة ومفاجئة : قال بصوت خافت : « لا تقم علاقة غرامية بزميلةٍ لكَ في العمل ، فأنتَ ينظر إليكَ كــ : „ فاكهة الشتاء في الصيف ” ؛ وكــ : „ معطف فرو في الشتاء ” » ..
.. وبعد ثوان كــ ساعات انتظار تحت المطر المنهمر في ليلة ظلماء وريح عاصف .. ارتبك فيها الطرفان .. تابع الراعي القول :
« هذا ليس فقط رأيي أنا الشخصي .. بل كذلك رأي حضرة المدير العام ، وأنت تعلم أن سيادة المدير يقدرك جداً ويعتز بك زميلا ، ويحترمك.. و : „ الفضيحة ” بعد أن تنتهي .. » ؛
.. ثم صحح راعي البناية اللفظة بصوت اقل درجة من سابقته بالقول:
« „ النزوة ” ستصيب ياقة قميصك .. ناصع البياض بقطرات مِن حبر التصحيح الأحمر في ملفات الوزارة.. فانتبه!! » ؛
.. ارتبك أكثر راعي البناية بعد هذا التصريح الذي قاله وبدون مقدمات أو أمثلة أو توضيح .. ولم يكمل فنجان قهوته الذي قدمه له „ رفيقي ” .. وتراجع خطوات في غرفة الاستراحة الواسعة ولكنها ضاقت عليهما معاً فاحتبست الأنفاس وضاق الصدر وتزغللت الأبصار .. ليكمل بقية تنظيف غرفة الآستراحة علىٰ عجل .. ثم اسرع بالانصراف!
.. بُلغَ هذه النصيحة الشبة رسمية بعد وقت قليل مِن تعينه في إحدىٰ مقاطعات جمهورية النمسا الإتحادية بمجرد تخرجه ، ولعله جرىٰ شيئ ما .. حدث أمر ما .. لم يعلمه „ رفيقي ” ، وكأن رئيسه في العمل علم بهذا الشئ أو أخبر به الأمر أو أنه تخمين وحدس لما قد يحدث في المستقبل نتيجة خبرة مدير لمؤسسة لسنوات طوال جرىٰ فيها ما يجري بين البشر ويحدث ما يحدث بين أنثىٰ وذكر حين يتم التقابل لساعات طوال قد يتخللها ملل أو ضجر فيحتاج المرء لــ لحظة إنعاش ليكمل العمل ..
لذا فقد أخبر المدير راعي البناية بهذه الرسالة شبه الرسمية ليوصلها بهدوء دون شوشرة إليه ..
* * * * * * * * * * *
„ رفيقي ” بدء العمل -رسمياً- في مؤسسته بمقاطعة النمسا السفلىٰ في نهاية شهر أغسطس.. بعد أن تدرب لعدة اسابيع ..
وبعد مرور برهة من الوقت وفي منتصف أكتوبر .. عزمه مديره علىٰ كوب مِن عصير العنب الطازج .. علىٰ طريقة « حق الضيافة » كي يقتربا أكثر ويجلسا منفردان ليكشف المدير بعض جوانب شخصية „ رفيقي ” منبهاً أياه أن مشروب الضيافة عصير عنب طازج وليس نبيذ معتق كي يطمئن „ رفيقي ” أن مشروب الاستضافة حلال!
كانا - رفيقي ومديره - يذهبا معاً في نهاية سبتمبر وبداية أكتوبر -بعد ذلك- مِن كل عام إلىٰ القهوة الشعبية المعتادة „Heuriger“ والتي كان يسامر مديره فيها رفاقه بعد إنتهاء العمل ، فيشرب „ رفيقي ” عصير العنب الطازج قبل أن يختمر .. ومديره يحتسي ما أعتاد عليه مِن كأس النبيذ الأحمر المعتق ، ويتبادلان الحديث في أهم النقاط المحورية ويتناقشان في الأفكار لوضع الخطط المستقبلية ، في جو مغاير لطبيعة العمل ومناخ أقل توترا مِن وجودهما في فرع الوزارة .. وكان سعيداً جداً بهذه الخصوصية فهو يتقن عمله ويحسن وظيفته ، بل كان يصرف جل وقته في مؤسسته وكأنه يقوم بعمله مرتين :
فيُحسن العمل في المرة الأولىٰ لأنه يعمل في مثل هذه المؤسسة الرسمية الحكومية .. وكان ترتيبه السابع مِن بين الأجانب غير حاملي الجنسية الأوروبية وهو حامل الكادر الأكاديمي الغربي والبورد كــ شهادة تخصصية مهنية يصلح للعمل والتوظيف علىٰ مستوىٰ الوزارة بأكملها .. -كما بُلغ مِن قبل إثناء آحدىٰ مرات تكريمه- .. وهو صاحب تلك الملامح المشرقية الواضحة .. فبشرته ولون عينيه وشعره وعطره الخاص جداً تنبؤ عنه قبل أن يفتح فمه وقبل أن يقرأ أحد الشارة الموضوعة علىٰ صدره فــ تُخبر عن درجته العلمية الأكاديمية واسمه الصريح إسلامياً ..
فــ
هو..
.. يُحسن العمل مرة ثانية لأنه عربي يريد أن يثبت للكل أنه " جيد " بل أكثر مِن جيد، بل هو „ ممتاز ” .. فالعيون جميعها تبحلق فيه وتراقبه ؛ واللسان يتحرك بسرعة الريح وقوة الإعصار ليصف خطأً ما قد يحدث منه أو مِن غيره في مجموعته ، لذا فكان يحسن العمل مرتين ،
ويحسن العمل لأنه يتقاضىٰ راتباً علىٰ ما يؤديه مِن عمل ..
وكان يزيد بينه وبين نفسه إضافة عامل ثالث لإحسان العمل واتقانه أنه المسلم الوحيد في هذا الفرع مِن الوزارة .. وما يزيد علىٰ ذلك تلك الثقة العالية في نفسه وشموخ أنفه ..
وبالطبع كان هو المرافق الدائم لمديره إذا جاء وفد مِن دولةٍ ما أو ضيف لولائم الغذاء التي تُعقد بعد إنتهاء زيارة المؤسسة، فــ „ رفيقي ” يحسن الاستقبال بوجه بشوش وهو متحدث لبق ، يحسن الحديث في موضوعات شتىٰ .
كان ذلك في مقاطعة " النمسا السفلىٰ "
„ das
Bundesland Niederösterreich “
في مدينة
„Sankt Pölten“
die Landeshauptstadt“
الكبيرة وقد سكن في ضاحية علىٰ طرفها ، وكان سعيداً جدا بشقته والتي كانت ضمن : « Bauernhof » مهجور .. بعد التجديد .. وخاصةً تلك المساعدات التي كانت تقدمها له ربة البيت كإشعالها الحطب في الشتاء قُبيل أن يعود لشقته بعد يوم عمل شاق ، وإرسال مديرة بيت تنظف الغرف وتكوي قمصانه ، وبعض الإمتيازات الخاصة له مِن جيرانه كــ الحليب الطازج والبيض البلدي وبعض الأطعمة الجيدة والتي تعد في المناسبات الدينية التي اعتاد الكاثوليك الإحتفال بها مع مراعاة معرفتهم أنه لا يأكل لحم الخنزير ، لأنهم كانوا يطلقون عليه فيما بينهم بأنه الــ : « „ محمدي ” » وتقول عنه آحدىٰ عجائزهم أنه يشبه الــ : « „ يهود ” » وإن تم التصريح بشكل عفوي ذات مرة أن الطبخ قد يكون بدهنه دون لحمه .. والشوربة قد تكون مِن عظامه لتعطي مذاقاً خاصاً وطعما طيباً .. وقد أُخبر أن فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي في زيارة له للنمسا تكلم فقال : « „ بجواز تناول طعام أهل الكتاب ” » .. ولعل المهم في إكمال قوله هو : « „ دون أن تسأل عن تركيبة أو كيفية طبخ الطعام المقدم .. بل تسمي الله وتأكل! ” » ..
وبقية الرواية .. كما نقلها لي „ رفيقي ” والعهدة علىٰ الراوي .. أن فضيلة الشيخ انزعج لأن اهتمامات الشباب -وقتذاك- .. وغالبهم عزاب ليس معهم زوجة أنه صرح بالقول : « „ إنتم مهتمين باللحمين الأبيضين .. لحم الخنزير .. ولحم النساء ” » .. إذ أن الأسئلة حُصرت بين إشباع المعدة أو السماح بالعمل في مطاعم تقدم هذا النوع مِن اللحم .. أو إشباع غريزة!
* * * * * * * * *
.. علىٰ كلِ حالٍ فالحياة في المدينة الصغيرة أو القرية مريحة جداً وتختلف تماماً عن الحياة في العاصمة أو المدن الكبرىٰ .. فتوجد العلاقة القريبة الإنسانية في الأولىٰ والحميمية الراقية في الثانية أما في الثالثة ـ المدن الكبرى كالعاصمة ـ فمن يجاورك تربطك به العلاقة البشرية فقط .. أو قد لا توجد أدنىٰ علاقة!.. ولعل علاقة الجار بــ « كلبه » أو « قطته ».. أكثر متانة .. وأشد قوة مِن علاقته بجاره الإنسان!
* * * * * * * * * * *
تذكر „ رفيقي ” هذه النصيحة الرسمية حين غادر مدينته التي عمل بها عدة سنوات حين طُلب منه أن يَعمل في العاصمة „ فيينا ” ..
تم هذا بعد التقارير الجيدة التي كُتبت عنه ـ دون علمه ـ بخط مديره وإمضاء رئيس فرع المقاطعة ، ورفعت إلىٰ الوزارة ، وبالتالي كان يقول لي :
« سبقتني سمعتي الطيبة إلىٰ فيينا قبل أن أغادر مدينتي الصغيرة » ؛
فــ تركها وكانت له بحق بستان مِن الجنة .. وقطعة مِن النعيم الأبدي ، ودع ربة المنزل والجيران وزملاء العمل ووعدهم جميعاً بتكرار الزيارة ..
.. ركب سيارته متجهاً إلىٰ العاصمة وكل ما بدخله يرتجف ، فــ
الجديد علىٰ المرء غريب ، والغريب مريب ، والمريب أسئلته تحير اللبيب !
.. تذكر „ رفيقي ” النصيحة الرسمية التي قالها راعي البناية ومنظفها له مِن مقاطعة النمسا السفلىٰ وكأنها خطاب رسمي مِن المدير دون توقيع منه أو ختم المؤسسة أو تاريخ إصدار ، تذكرها -بعد عدة سنوات- حين قالت له : « أندريا » ـ زميلته الجديدة في العمل في عاصمة جمهورية الألب : « فيينا » ، المطلة على الدانوب الأزرق .. ذات يوم :
« „ كم أنت لطيف ، وعطرك يفوح بالمكان الذي أنتَ تجلس فيه ؛ وهندامك متناسق وتحسن الحديث والمداعبة والمزاح ، ولكني أعلم أنني لا أصلح لك ! ، وأنت كذلك لا تصلح لنا ” » ؛
توقف „ رفيقي ” قليلاً عند لفظة : « لنا! » ؛
فلماذا لم تقل: « „ لي!؟ ” » ؛
فهل هي قصدت المرأة الغربية بوجه العموم(!) أو النمساوية(!!) علىٰ الخصوص!؟ ،
.. لم يفكر كثيراً ولم يسأل ، فيكفيه مساعدتها له منذ أن قدم لعمله الجديد وفي كل الأحيان .
أما المرأة .. « „ القيصرية ” » ذات الهندام المَلكي « آنا ليزا » كانت تروق دائما له .. ويتودد إليها بحديث خفيف قبل بداية ساعات العمل ، فهي غالباً تأتي مبكرة .. وهو كذلك ، وهي تملك قواماً ممشوقاً متجانسَ الأعضاء تحافظ علىٰ رشاقتها .. وتهتم بملابسها .. ولديها حقيبة تجميل تلازمها ، فــ بعد الإنتهاء مِن عملها وقبيل أن تغادر مقعدها تتزين كأنها الملكة التي ستقابل مبعوث دولة عظمىٰ .. وتتجمل كأنها سيدة القصر الوحيدة إذ أن هناك مِن سيلتقط لها صورةً مِن خلف النوافذ ذات الستائر السميكة ومن خلف الأبواب المغلقة وستُنشر علىٰ العامة في الصحف السيارة ، فتترك المكان جاهزة ومتجهزة ..
و „ رفيقي ” يقول لها دائما قبل الإنصراف مِن عملهما :
« „ سأنتظرك غداً ، والغدُ قريب ” » ؛
فــ
تترك علىٰ قرنيته ابتسامتها المشعة بالأمل ، رموزها تفك هكذا :
« „ ادعو لكَ -زميلي- واتمنىٰ ليلةً هادئة ونوما عميقا فصباحا مشرقا وحياة سعيدة .. ولعل في الأفق أمل جديد ليوم مقبل جميل ” » .
المرأة « القيصرية » .. تجيد عملها بدقة متناهية كما وأنها تجيد الحديث .. وحين يخاطبها تعطيه كامل جوارحها وتبرز له كل اهتمامها به وبكلامه .. أذن صاغية لما يقول .. وعين واعية لجمله وراعية .. وكأنه الرجل الوحيد في هذا العالم ..
وحقيقةً هو الرجل الوحيد في فرع الوزارة بتلك البناية ..
وما تفعله .. هذا كله مِن مفردات قاموسه حين يكون الحديث مع امرأةٍ تعجبه ؛ وتلاحظ المرأة بسهولة أنها موضع إهتمام عنده ، ولكنها تعلم أنه مشرقي المزاج ، عربي الطباع ، يحمل بين جنبيه تقاليد لم يتعارف عليها بعد قومها .. ويلتزم بــ عادات تكاد تكون غريبة عن أهل الغرب .. وتتسيد عليه أعراف غير الأعراف التي تعارف عليها أُناس يضع قدميه علىٰ أرضهم ويعيش بعقله بينهم .. بحكم دراسته .. وترتبط معدته بالمطبخ: « „ الْإِسْكَنْدَرَانيَّ ” » إن صح التعبير وجاز .. ووجد أو يوجد بالفعل مطبخ بهذه الصفة .. والأصعب عند بنات آدم أن دينه يبيح له تعدد النساء ويسمح به وأن حصرهنَّ في أربع[(**)] .. وهذا كثير بالنسبة للمرأة العربية .. فالثانية ضُرة للأولىٰ .. فــ هناك ستوجد مَن تقاسمها فراشه ؛ وتستقطع جزءا مِن طعامه وقد يطيب له مطبخها .. وقد تستحوذ علىٰ كثير مِن اهتمامه .. وقد تحصل علىٰ نصيب المحظية من ود قلبه والمحبوبة في فؤاده.. ونظرياً الفكرة مرفوضة عند المرأة الغربية ؛ والتعدد لا يقره القانون في دول العالم الأول كـ أمريكا وأوروبا ؛ بيد أن وجود العشيقة أو الخليلة أو امرأة في الظل أو رجل ينتظر خلف الباب أو مضايقات في العمل يكاد أن يكون معروف للجميع ؛ ولكن لم يتكلم دينها عن مسألة التعدد .. لا بالسماح ولا بالرفض مع وجود قصص للسابقين عن واقع التعدد في الكتاب المقدس دون تحديد عدد ؛ وحالة يحيىٰ بن زكريا تحتاج إلىٰ إعادة دراسة ؛ وهناك شبه غموض لم يرد أحد أن يفصح عنه في علاقة المسيح بالآخرىٰ . وكذلك القبر الكبير والصغير يحتاج إعادة نظر ، ودينها وإن كان يقول بالتثليث .. ولكنه تثليث الواحد وهو الآله ، وليس تثليث المرأة[(***)] ، وتوجد مسائل وقضايا عدة شائكة لا يصح أن يُسأل عنها ولا ينبغي أن تجد لها إجابة فتظل عالقة ومن المسكوت عنها وغالب الديانات توجد بها مساحة ضيقة مظللة بخطوط بين الأبيض والأسود يشوبها اللون الرصاصي ..
فــ
هذا العربي سيظل ودينه غريبان ينظر إليهما بريبة ومسائل عدة يشوبها الغموض لمَن يسكن علىٰ أرض الديانة المسيحية „ أوروبا ”، وهي .. « آنا ليزا » كما كانت تقول أمه عن أمثالها : « امرأة متفرنجة » : « „ دي واحدة خواجاية ” » ؛ فكتفىٰ بالمداعبات الخفيفة والممازحات المؤدبة، أو ما يطلق عليه : « „ تلطيف المناخ المحيط بهما ” » ؛ وتلك الخصوصية في الخطاب معه وقليل من الإقتراب علىٰ منضدة شرب القهوة صباحاً مستمتعاً بطيب عطرها أو علىٰ مائدة الغذاء ظهراً أو قبلة علىٰ جبينه أو أكثر في العام الواحد قبيل عطلة نهاية السنة واحتفالات الــ „Heiliges Christfest“ ، وحين تَسمع منه في احتفال عيد ميلادها قوله: « „ أنتِ المرأةُ الوحيدة التي أراها تصغر عن العام الماضي بسنة كاملة .. حين نحتفل بعيد ميلادك الجديد ! ” » ؛ ـ فــ تعانقه طويلاً، وهي « آنا ليزا » ؛ و « اندريا » يعلما أنه رجل في كامل حسن هندامه .. يمزج عطره بيده في صباحه الباكر ، لذلك فلا شبيه له ، يملك زمامَ فرسِ لم يحضره مِن صحراء العرب وإن شعرت المرأة بفروسيته ونبله ، ويضع علىٰ مكتبه ـ ليس اعتقاداً بل من باب الإعلام والإظهار : « „ أهرامات ” » ؛ الجيزة فيظنه من يراه أنه يتربع علىٰ قمتها ؛ كما ترىٰ في ركن من أركان غرفة مكتبه صورة معلقة على الحائط لــ : « „ شابةٍ بالملاية اللف الإسكندرانية ” » ؛ وخلفها : « „ كورنيش البحر .. وقلعة قايتباي .. والعربية الحنطور بحصانين ” » ؛ فــ إذا جاء وفد من بلد صديق لمؤسسته في زيارة يرافقهم كما يرافق السياح بداخل معبد أبي سنبل في وادي الملوك ، فأحسن تمثيل حضارة آلاف السنين وأتقن دور المضيف فتركت له هذه المهمة في المؤسسة ، ومديرته أرادت أن تظهر بجلاء أن جمهوريتها في قلب أوروبا أرض صالحة لتعدد الحضارات وحوار وتقابل الأديان وتنوع الثقافات ، و „ رفيقي ” مثلي ـ تملكَ العلم الغربي الحديث فامسك بزمام تخصصه في يمينه فيتحرك حاملا لقبه الأكاديمي علىٰ شارة تساعده في وضعها له دائماً بشكل صحيح : « اندريا » ؛ أعلىٰ بزته علىٰ جانبها الأيسر أو يعلقها في حمالة فتضعها: « آناليزا » أمام رابطة عنقه ، وهي الزميلة الوحيدة التي تجرأت في أول مرة علىٰ ضبطها حول عنقه والإقتراب منه كثيراً حين جاء وفد الولايات المتحدة الأمريكية لزيارة المؤسسة وقد أحسن المرافقة ، كل هذا يتم بلا غرور ولكن بعزة .. ويمسك في يسراه عادات وتقاليد وأعراف وقيم المشرقي الأصيل ..
وهو الذي يتعمد أن يقدم لهنَّ ـ زميلاته ـ هدايا في مناسبات الأعياد النصرانية أو أعياد ميلادهن ، ويوم المرأة .. كأنه قادم علىٰ ظهر ناقة من حُمر النعم ذات الصيت الشائع وغالية الثمن وباهظة التكاليف ، وهو يعلم أن مروض الإبل وراكبها يحتاج لمهارة غير متوفرة عند الجميع ويفلسف لهم مصطلح „Kameltreiber“ ، و „ رفيقي ” يحاكي أصحاب الكريزما الطاغية الجبارة المؤثرة فهو لا يقبل أن يقف خلف الرجال، فهو مقدم دائما ومكانه الصف الأول ..
فــ في طفولته استيقظ علىٰ تردد صوته في خطبه الجماهيرية مِن خلال المذياع، فــ إذا طلَّ مِن التلفاز توقف السير في الميادين العامة والشوارع والحواري والأزقة والبيوت وداخل غرف المنازل ليس في بر مِصر وحده بل في عواصم البلدان العربية الشقيقة .. خطيبه الرجل صاحب الكريزما المؤثرة والطاغية فيختفي بجواره الجميع والقائد العربي الوحيد والزعيم الأوحد الخالد ، نبي اشتراكية الدولة ورسول القومية العربية وعملاق العروبة مؤسس دول عدم الانحياز ، الذي أمم قناة السويس وهي تحت وصاية التاج البريطاني وداحر العدوان الثلاثي ومخزيه ، الرجل الذي قُتل[(****)] بسهم السياسة المسموم وليس بسهم العشق المحموم ، والموتتان ليستا سيّان وإن كانت النهاية واحدة ..
وحين أراد „ رفيقي ” في مهده أن يقف تعلقت أطراف أصابع يده الطرية بمعاطف امثال هذا الرجل ..
وفي صباه المبكر اعتمد في تكوين شخصيته علىٰ سواعدهم، فقرأ لــ طه حسين .. ولكنه مال أكثر إلىٰ عباس محمود العقاد .. وألزمه والده أن يقرأ مقال محمد حسنين هيكل كل يوم جمعة „ بصراحة ”.. دون أن يحفظ كلماتهم أو يرددها .. وقبل أن يبلغ سن رشده غرزت فيه رجولتهم مجتمعين غير أنه اختار طريق آخرىٰ وصاحب فكر غير فكرهم واستتر بمئزر يخصه .
*/*-*//*-
والمرأة في حياته دائماً تلعب دوراً أساسياً، وسؤال المرأة „ القيصرية ” عن ظله في المنتجع الصحي يؤرقه .. بيد أن عزاءه الوحيد أنه لم ير في منتجعه الأول المرأة الأنثىٰ التي يبحث عنها أو يريدها، فالمسألة ليست مجرد امرأة، بل امرأة مِن طراز خاص وذات نكهة معينة أو امرأة تناسبه هو ، ولعل هذا ما سيخبرنا عنه في المنتجع الصحي التالي ....
-*/*-
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية : » الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ «.
[ ١ . ] الجزء الأول
الْوَرَقَةُ الحَادِية عَشِرَة مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ١١ . ] « „ نَصِيحَةٌ رَسْميَّةٌ ” »...
--------------------------------------- ".
ملحق توضيحي لهذه الورقة:
[(*)] مكونات عمل القهوة العربية المضبوطة:
*أربع ملاعق مِن القهوة العربية المطحونة.
*نصف ملعقة من الزعفران.
*حبتان من القرنفل.
*ملعقة من الحبهان او الهيل.
*3 أكواب ماء.
*سكر حسب الرغبة.
أما : مكونات تحويجة القهوة؛ فتتكون بهارات القهوة السبعة من :
*قرفة مطحونة.
*هيل او حبهان مطحون.
*قرنفل مطحون.
*زنجبيل مطحون.
*زعفران مطحون.
*زر الورد المطحون.
ويمكن إضافة مستِكة ".
وحسب المذاق يضاف :" رشة صغيرة من جوز الطيب. ".
و:" مكونات البن المحوج المِصري
½ كيلو بن فاتح.
7 فصوص حبهان مطحون.
معلقة صغيرة قرنفل مطحون.
معلقة صغيرة مستِكة مطحونة.
معلقة صغيرة زر ورد مطحون ناعم. ".
[(**)] { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا } [النساء:3] .
[(***)] كُتب هذا البحث فى مايو سنة 1958م؛ وأعيد نشره بعد عشرين عاما: 1978م :" شريعة الزوجة الواحدة ".
MONOGAMY
لــ
صاحب القداسة والغبطة البابا المعظم
By H.H.pope shenouda III
الانبا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية
pope Alexandria & ppatriarch of the See of the see of st . mark
" شريعة " الزوجة الواحدة " في المسيحية وأهم مبادئنا في الأحوال الشخصية؛ وبدءَ حديثه بالقول:" ربما يكون شرح البديهيات هو إحدى المعضلات ، كما يقول المثل . وشريعة الزوجة الواحدة فى المسيحية هى إحدى هذه البديهيات ، ولكن شرحها لم يكن معضلة .. بل كان فرصة جميلة للتأمل فى روحانية الزواج المسيحى ، وحكمة الله فى وضعه هذا القانون منذ بدء الخليقة ، حينما خلق حواء واحدة لأبينا آدم ... " .
وكي أنهي هذه المسالة .. فقد كانت :
1. ] زوجات سيدنا إبراهيم -عليه السلام-
١ .) سارة
٢ .) هاجر
٣ .) قنطورا
٤ . ) حجّون.
2. ] زوجات النبي إسماعيل -عليه السلام -
للنبي إسماعيل -عليه السلام- زوجتان هما:
١ .) عمارة: وهي عمارة بنت سعد ابن أمامة بن أكيل العماليقي، وقد تركها النبي إسماعيل رغبة من أبيه إبراهيم -عليهما السلام-.
٢ .) السيدة: وهي من زوجات النبي إسماعيل -عليه السلام-، وهي السيدة بنت مضاض بنت عمرو الجرهمي .
3.] أسماء زوجات سيدنا يعقوب
يُذكَرُ في كُتُبِ العلماء أنّ نبيَّ اللهِ يعقوب -عليه السلام- كان له أربع زوجاتٍ، اذكرهنّ علىٰ النّحو الآتي:
١ .) زوجته لِيا؛ وقد أنجبَت منه أربعة أولاد.
٢ .) زوجته راحيل؛ وهي أمُّ نبيُ اللهِ يوسف -عليه السّلام- وأخيهِ بنيامين، وُيقالُ إنّها أختُ لِيا الصغرىٰ، وأنّ زواجَ الأختين كان مُباحاً وقتها، وكانتا بنات خالة يعقوب، وقد تزوّج لِيا ثمّ تزوجَ راحيل بعدها بسبعِ سنوات.
٣ .) زوجته زلفا؛ وقيل إنّها أنجبت له من الأولاد ثلاثة.
٤ .) زوجته بلها؛ ويقال فيها أيضاً أنّها كانت جارية، وأنّها قد أنجبت له من الأولادِ ثلاثة.
4. ] وقد ذكر بعض أهل التفسير والتاريخ في كتبهم أنّ يوسف -عليه السلام- تزوّج بعد خروجه من السّجن.
حيث أورد ابن عاشور في تفسيره أنّ عزيز مصر قرّب إليه يوسف، وزوّجه امرأةً عظيمة الشأن، وهي ابنة أحد الكهنة، ويُقال لها
١ .) "أسنات"، وكان عمره حينئذ 30 سنة، وتبقى هذه من المرويات ظنّية غير الثابتة، ولا يُجزم بصحّتها أبداً.
ونتساءل : هل تزوّج النبي يوسف مِن امرأة العزيز؟
٢ .) قيل إنّ امرأة العزيز اسمها راعيل،
و
قيل زليخة،
ونقل بعض أهل العلم في كتبهم مِن أهل الكتاب، وممّا نُقل في ذلك:
رواية محمد بن إسحاق كان يتحدّث عن تمكين الله لسيدنا يوسف في الأرض، ثم قال: "فذكر لي -والله أعلم- أن إطفير هَلَك في تلك الليالي، وأن الملك الرَّيان بن الوليد زوَّج يوسف امرأة إطفير راعيل"، وحينها سألها النبيّ يوسف: "أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين؟". ثمّ ردّت عليه زليخة: "أيُّها الصديق، لا تلمني، فإني كنت امرأة كما ترى حسنًا وجمالاً، ناعمةً في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلكَ الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي على ما رأيت"، فقيل إنّها كانت عذراء، فتزوّجها وأنجب منها ولدين.
وأيضاً ما ذكره ابن القيم ؛ فقد تحدّث ابن القيم عن تعويض الله لِمن ترك شيئاً لوجهه الكريم، فهذا سيّدنا يوسف اختار السّجن على الفاحشة، فكان جزاؤه التمكين في الأرض، ومجيء امرأة العزيز صاغرة تطلب الزواج بالحلال، فتزوجها وقال لها: "هذا خير مما كنت تريدين ".
5.] تزوج النبي داود -عليه السلام- من تسع نساء، وهنَّ:
٢ .) معكة بنت تلماي.
٣ .) مجيث.
٤ . ) أبيطال.
٥ . ) أبيجال الكرملية.
٦ . ) عجلة.
١ .) ميكال ابنة شاول: وهي الزوجة الأولى
٧ . ) أخينعوم البزرعيلية.
٨ . ) مقلة بنت تلماي.
٩ . ) يتشوع بنت عميئيل ".
6. ] :" عدد زوجات سليمان -عليه السّلام- هو أحد أنبياء بني إسرائيل، وقد حكم قومه بعد وفاة أبيه النّبي دواد -عليه السّلام-:
ما ورد في السّنّة النّبويّة الشّريفة عن عدد زوجات النّبي سليمان -عليه السّلام- ففي الحديث،
(قال سليمانُ بنُ داودَ نبيُّ اللهِ : لَأَطوفنَّ الليلةَ علىٰ سبعينَ امرأةً، كلهنَّ تأتي بغلامٍ يقاتلُ في سبيلِ اللهِ،
فقال له صاحبُه، أو الملكُ: قل إن شاء اللهُ، فلم يقل ونسِي، فلم تأتِ واحدةٌ من نسائِه، إلا واحدةٌ جاءت بشقِّ غلامٍ.
فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ولو قال: إن شاء اللهُ، لم يَحنَثْ، وكان درَكًا له في حاجتِهِ) [صحيح مسلم]، و
في رواية أخرىٰ عند البخاري أنّ سليمان تزوّج من مئة امرأة. وهناك قول آخر يزيد على هذا العدد بكثير!
7.] زوجات النبي موسى -عليه السلام- تزوج موسى -عليه السلام- من أربع نساء، وهنَّ:
١ .) سفورة: وهي أم جيسون والعيزر.
٢ .) بنت قيني.
٣ .) جبشية.
٤ .) بنت حباب ".
الرد :" { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ.. } .. {.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا .. }.. {.. وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون } [المائدة:48] " .
[(****)] ذكرى وفاة الزعيم المِصري جمال عبدالناصر تصادف يوم الأربعاء 28 سبتمبر!.. إثناء كتابة هذه الصفحة .. وهو من الموافقات العجيبة !

-*/*-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية : » الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ «.
[ ١ . ] الجزء الأول
الْوَرَقَةُ الحادية عَشِرَة مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ١١ . ] « „ نَصِيحَةٌ رَسْميَّةٌ ” »...
حُرِّرَ سَنَةَ ١٤٤٤ من الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ ‏الأحد ٢٩ صفر ~ ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٢ من سنة الميلاد العجيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

10 قِصْةُ عِشْقٍ

رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
الْوَرَقَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
١٠.] « „ قِصْةُ عِشْقٍ ” »...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

« „ قِصْةُ عِشْقٍ “ »
.. العِشْقُ حالةٌ إنسانيةٌ فريدةٌ مِن نوعها .. تحدث مِن ضمن ما يجري بين البشر مِن علاقات متعددة ومواقف لا متناهية .. قد يعيشها المرء في حياته بصدق ووفاء -ولو لمرةٍ واحدةٍ- وبكل أحاسيسِه وبكامل مشاعره وجُلِّ عواطفه ؛ بل بكل جوارحه ؛ وبعقله وإدراكاته وفهمه لحالة العشق الذي يعيشها .. بل بكل كيانه الآدمي الروحي والفكري .. وكيانه النفسي والذهني .. وبنيته البدنية والعضوية والجسدية ..
.. فيصادف المرءُ مَن تــ(ــيــ)ستحق أكثر مِن الاعجاب ؛ وهو متاح للجميع .. وأعلىٰ مِن الحب وهو مسموح ؛ وأكبر مِن الغرام وهو عزيز ؛ وأعظم مِن الهيام .. وهذا نادر .. فهذه الكلمات وأمثالها ليست مترادفات بل كل كلمة لها معناها الخاص بها ومذاقها المتميز ومضمونها المعين ..
ولعل في زمن ما .. روجَ لمصطلحٍ حين أُطلق عليه : « العشق الآلهي » .. وهذا غير واضح بل غير مفهوم أو مدرك .. وتميزاً بل وبدلا عن العشق الآدمي .. البشري .. الإنساني .. وهذا ملاحظ ومعقول ومفهوم .. وهذا المصطلح : « العشق الآلهي » غريبٌ جديد علىٰ الثقافة العربية أو الدقة في القول مستحدث في الثقافة الإسلامية .. فلم يتحدث عنه صاحب الرسالة الخالدة ؛ وهو أولىٰ مِن الجميع بالكلام عنه -إن وجد بالفعل- ولم يتحدث عنه صحابته وهم أكثر من 14,000 ولا تابعيهم في كافة اقطار المعمورة المسكونة .. وهو اقرب ما يكون لــ مصطلح : « الصوفية » ؛ مستورد مِن ثقافة أجنبية .. هندية كانت أو فارسية .. يونانية.. ووسائل النشر كــ قصص القهاوي وقصاصها ؛ ومجلات الرصيف ؛ وسينما جمهور الشباك جسدت هذا المفهوم الذهني : « „ الصوفية أو العشق الآلهي أو جماعات الإسلام السياسي أو الطوائف أو الخوارج... إلـــخ...” » فكاد يترسخ في ذهن ومفهوم العامة دون إدراك ووعي لحقيقته..
وفي الحقيقة ليس له وجود بين البشر وأوجد في حقبة كثرة فيها الجواري وزيادة القيان وتواجد المغنيات وشراء العبيد مِن كل لون وصنف والعربدة والسكر بشتىٰ أنواع الخمور وليال السهر والمجون فتأتي ردة -لآحاد الناس- مخالفة ومعاكسة لما عليه شريحة عريضة مِن مجتمع ما في مكان ما .. كما حدث في أمريكا -علىٰ سبيل المثال وليس الحصر- أم الحريات ومولدة التقليعات وبجوارها بعض مناطق في الغرب فبَعد موجة العري والتفسخ الإجتماعي نادى البعض -في الغرب- بالعفة وترك الرذيلة ولا علاقة جنسية قبل الزواج أو خارجه .. ولكنه الإنسان!
- * * * * * * -
.. „ العِشْقُ ” حالةٌ إنسانيةٌ فريدةٌ مِن نوعها مِن بين علاقات البشر .. وبمعنىٰ آخر فالعشقُ لــ امرأةٍ تستحق كاملَ الاهتمام الذهني والفكري والمشاعري ؛ ومزيداً مِن عظيم الاحترام .. فيُنظر لها لــ إنسانيتها أولاً .. قبل أنوثتها .. ولأنها تمتلك كتلةً مِن الأحاسيس والمشاعر ولها فكر وعقل ومكلفة وليس -فقط- كتلة بدنية جسدية وتراكمات شحوم فوق لحوم ثانياً ..
فمثل تلك المرأة -صاحبة مواصفات إنسانية راقية وأحاسيس بشرية رفيعة وإدراك صحيح وفهم عميق وعقل مستنير- تأتيه -العاشق/الشاعر- معانٍ جميلة -مِن خلالها وعن طريقها- لم يسبقه إليها إنس ولا جان بما يطلق عليه الإلهام ليعبر عن مكنون نفسه ودواخل خواطره .. كــ فطاحل شعراء الجاهلية أو أصحاب المعلقات أو من كُتبت أبيات شعره وأحاسيسه بماء الذهب فسُميت بالمذهبيات .. أو مَن قاربهم علىٰ مر العصور أو شاكلهم علىٰ كَر الدهور أو رافقهم علىٰ مرور الأزمان ..
فالعاشق الصادق الوفي غاص في إدراك أحاسيسه البشرية فنبع بين يديه كلمات ظلت خالدة سميتْ بــ الشعر الغزلي العفيف العذري .. وهو -الشاعر/العاشق- لم يلمس -قط- شعرةً واحدة مِن رأس معشوقته .. فــ يكفيه نظرةً عابرة -مِن تحت رمش ساحر- ليست مقصودة له .. أو هبة ريح خفيف -لم تقصده- حين مرت بعطرها فلامس مراكز الإحساس عنده هو فقط .. ويتتبع غبار نعليها ليدله علىٰ مساكن قومها .. وأخيراً قلة مِن شعراء زمن الشبكة العنكبوتية أو مَن يتسلق جدران التعبير العذري في زمن الماديات والصور الفاحشة العارية .. يمكنه الحديث عنها باحترام وتقدير!
.. العشقُ حالةٌ بشرية بيد أنها غير طبيعية ؛ إذ أنها أعلىٰ مِن الحب وأرقىٰ مِن الإعجاب واسمىٰ مِن الاستلطاف وأعظم مِن التودد .. حالةٌ قد تكون مؤلمة أحياناً فيستلذ بما يعانيه .. ولا يعلم مصدره .. وكثيراً هي حالةٌ مبهجة فيسعد ويسعد مَن حوله ولا يدري ما الداعي لبهجته .. حالةٌ مفرحة أحياناً فيرىٰ الدنيا كلها افراح ومسرات .. وأحياناً موجعة فيطيب له البقاء تحت مشرط جرح الرموش وتغمره سعادة الأولين والآخرين عند ملامسة أطراف يد الحبيب في سلام عابر إثناء التحية عند مرورها وإن أطال اللمس دون العمد وتمكن مِن الإمساك بمعصم صاحبة سعادته وملكة بهجته وأنيسة فرحته .. وكما قال بعض الفقهاء ليس عليه إعادة وضوء [(*)].!
وقد يصاب صاحب حالة العشق بفترةِ قلق أو زمن خوف يتلوها حالة سعادة غامرة وابتهاج لا يوصف .. فتراه مترنحاً -بعشقه- بين أمواج عاصفة لا تهدأ حين تغيب وهنا مكمن القلق .. أو مستلقياً بين خدود أوراق الورود وعطور الزهور وهذا لحظة اللقاء ..
و .. العشقُ حالةٌ من الاضطراب النفسي المحمود إذ يرىٰ المرء الدنيا وردية .. والأزهار مفتحة الأكمام ندية وإن كان الآخرين ما زالوا في صقيع الشتاء .. تملوءه نشوة الفرح ساعة انتظار .. وشوق للقائها لحظة رؤية الحبيبة ..
والمذموم مِن هذا الاضطراب النفسي -في نفس الوقت- الذي لُطخ بلون البنفسج الغامق لِحالة الضيق والحزن لفراقها والابتعاد عنها وانتظار قادم اللقاء ..
.. العِشقُ حالة من عدم الاتزان البدني فسيولوجياً .. فيتصبب عرقاً .. يتعرق الإنسان بشديد العرق في عز البرد ومع هطول أمطار الشتاء القارص وإثناء سقوط ثلج القارة القطبية .. وتجمد الماء .. بل تجمد هواء الاستنشاق وتجمد العروق في بدن الإنسان ..
ويصيبه حالة مِن القشعريرة بين كتفيه وصدره لبرودة أطرافه وهو قاعدٌ وسط صيف الصحراء القاحلة ويجلس منفرداً في الربع الخالي .. لخلوه مِن الأحياء -سواه- والأموات -دونه- .. وهي التي تحييه وتميته قربا وبُعداً ..
فكل خلية مِن خلايا جسده الناشطة والعاملة والتي مازالت حية تتحرك في اتجاه معاكس عن الآخرىٰ .. وحالة مِن عدم التوافق بين الأعضاء الحيوية ..
.. فـ .. القلب تزداد سرعة نبضاته فيحتاج لكميات أكبر وهائلة مِن الدم المحمل بــ الأوكسجين .. فيرتفع عدد مرات التنفس عن الطبيعي ..
والعكس .. -وفي نفس اللحظة- .. الرئة تحتاج لهدوء نسبي كي يتمكن العاشق مِن أخراج زفير صدره والذي كالمرجل يغلي بعد الحصول علىٰ هواء نقي ليحسن إكمال الحديث والذي مكث ساعاتٍ يرتبه لــ يتمكن مِن تنسيق الكلمات التي ظل أوقاتٍ طويلة ساهرا ليله .. قلقا في نهاره .. ليتخير حرفا حرفا لــ يتقن إخراج الكلمات وتحسين مخارج الحروف !..
والجهاز العصبي -الإرادي والــ لا إرادي- بأكمله مرتبك منذ الصباح الباكر .. إن لم يكن مِن اللحظات الأولىٰ قبيل الخلود إلىٰ نوم يظنه هادئاً .. الليلة السابقة..
والفم تشوبه حالة جفاف .. واللسان بداخله يتلعثم في ترتيب إخراج الحروف ويتخبط بين جوانب الفم الداخلية والأسنان لأنه يرغب في اتساقها مع الكلمات في التعبير بجمل مفيدة ذات معنىٰ ..
جفافٌ في الحلق -قلقا أو خوفا- إذ أحيانا كثيرة تزدحم الأفكار وتزداد التعابير ولا يتمكن العاشق مِن ترتيب الجمل حين التعبير عن افكاره التي تزدحم فتتراكم بدورها علىٰ الخلايا المخية الرمادية .. مصدر التفكير ومنبع التركيز الذهني .. وهي التي تقوم بعملية الإدراك للتفكير .. بيد أن عقله يرتبك قليلا حين رؤيتها -المرأة التي عشقها- وقدماه أحياناً كثيراً لا تملكان حمله فتتخبط ركبتاه .. إثناء مشيه إذ عيناه قد أبصراها أو تخيلاها .. فهل هي في الحقيقة أمامه .. أم أنها وهم وحلم الرغبة في رؤيتها ..
.. حالةٌ من الاضطراب النفسي تصيب العاشق مع عدم الاتزان العصبي وارتباك بدني يظهر للرائي ويدركه السامع يلاحظه علىٰ إنسان سوي يعيش بين بشر لا يفهمونه .. فلا يتألمون لما يتألم له ، ولا يجدون مبرراً مقنعاً فيبتهجون لما يبهجه أو يفرحه ، ولا يشاركونه المعاناة فيحزنون لما يحزنه ، فهم لا يشعرون بحالهِ ، فــ هناك غموض ما لا يدركه الرائي ولا يستوعبه السامع ، فقط يفهمه العاشق ، ومَن علىٰ شاكلته ومنواله .. وهو لا يستطيع أن يوضح لهم ما اصابه ، وعلىٰ كل حال .. هذه ليست مهمته .
* * **********
.. لغة العرب الأقحاح ابدعتْ حين عبرتْ بــ كلمات [(**)] عن مشاعرِ رجلٍ بكاملِ رجولتِهِ وتمامِ خلقتِهِ .. معتدلٍ .. سويٍ ليس عنده تراكمات سلبية تجاه الآخر .. أو تجارب سيئة طفولية .. أو ضغوط نفسية نتيجة نمط معين في الحياة أو شكل مخصوص في العيش .. أو روتين يخضع له بحكم الوظيفة أو المهنة ..
.. وايضاً عبرتْ -لغة العرب الأقحاح- عن حالِ امرأةٍ عاشقة .. امرأةٍ بــ كامل أنوثتها أَحْسَنَ خالقُها التقويم فــ التكوين فــ ابدع التشكيل وبرع في الإخراج -سبحان الخالق مِن عدم وتعالىٰ عن العبث- ..
ابدعتْ اللُغة العربية الفصحىٰ حين عبرتْ عن تلك العلاقة الراقية العالية الزكية العذرية البهية النقية كــ قطرات هطول الندىٰ الصابح علىٰ خد الوردة الناعسة بين أحضان الطبيعة .. فعبرت -لغة العرب- عن العشق العفيف بأكثر مِن 60 ستين مصطلحٍ وحالةٍ ووصفٍ وتعبيرٍ وكلمة .. فذكرها ابن الجوزي ..
والغريب العجيب واللافت للــ إنتباه .. إنه ذلك العالِم الإسلامي الجليل والفقيه النحرير .. ذكرها في آحدىٰ كتبه[(**)]! ..
.. لذا فــ البعدُ عن لُغة راقية عالية أحتوت كافة المعاني البشرية ذات ذوق إنساني رفيع وإحساس بشري عال وإرهاف آدمي بديع وجرس في الأذن يستلذه السامع فــ يتسرب إلىٰ الروح مِن خلال القلب كــ العربية الفصحىٰ -وليس الدارجة العامية المحلية- .. فـ هذا بُعد .. ثم التقرب مِن ثقافة شعوب وقيم أمم تبحث عن المادة ومحسوسات الإشباع -وإن كنتُ لا أنكره بالمرة- وتتخبط في سرداب الإشباع الجسدي بغض النظر عن الكيفية والوسيلة .. ولحظة الإحساس الوقتية وتغيير في النمط الطبيعي للبشر كــ رهبانية ابتدعوها أو إنعزالية اخترعوها ..
أقولُ -نقلاً عن : „.رفيقي.” - : البعدُ عن لغة الضاد أصابنا بخروج كامل عن الخلقة السوية والهيئة الآدمية والبنية الفكرية والجسدية الروحية للطبيعة البشرية!..
.. إذ أنها اللُغة التي اعتمدها الخالق في تبليغ آخر رسالات السماء للبشر .. وهذا وحده يكفي لــ كي نهتم بتلك اللُغة!
„ رفيقي ” يخبرني .. أنه إثناء راحة شتوية في المدينة المصطفوية المنورة أراد شراء كتاب : « „ روضة المحبين .. ونزهة المشتاقين ” » ؛ لــ مؤلفه الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين : « ابن القيم الجوزية » ؛ (المتوفىٰ: 751هـ) وليس الجوزي [جمال الدين أبوالفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفىٰ: 597 هـ) .. مِن مكتبة عمومية إثناء زيارته لدولة خليجية محافظة جداً قبل الانفتاح الثقافي والإجتماعي والتطبيع السياسي.. فما كان مِن البائع إلا أنه نظر إلىٰ : „ رفيقي ” شَزْراً.. وكأن البائع مع وجود الكتاب في مكتبته اعترض علىٰ الشراء وذلك إبان ما أطلق عليه بــ الصحوة الإسلامية قبل أن تُخمد .. ولعل هندامه وبقية طلبات الكتب والتي أختارها بعناية وجد -البائع- أن هذا الكتاب لا يناسب الطالب!
والغريب العجيب مَن يقرأ لابن الجوزي كتابه : « صيد الخاطر » ؛ أو « أخبار النساء » ؛ ولــ آخر اسمه : « أحكام النساء » ؛ أو « طوق الحمامة » ؛ لــ محمد بن علي بن حزم .. لا يصدق أن هؤلاء علماء شريعة وفقهاء أحكام إسلامية .. إذ أنهم يتحدثون عن تلك العلاقة العفيفة بهذا الوضوح والتفصيل ..
واللافت أيضاً أن في كل موسوعات الفقه علىٰ المذاهب المعتبرة -كافة- وليس الأربعة -فقط- تجد الموسوعة تحتوي علىٰ كتابٍ عن أحكام : « آداب النكاح » ؛ وآخر عن كيفية : « عشرة النساء » .. وهذا لا تجده في أي ثقافة آخرىٰ أو كتب فقه لشعوب وأمم آخرىٰ.. ولولا الهجمة الاستعمارية العسكرية ثم الفكرية والتضبع بالغرب عند بعض أبناء العرب والمسلمين (!) لما كان حال العرب والمسلمين اليوم كما هو عليه الأن .. وهذا بالطبع يعود للبُعد الشاسع أو الضعف الشديد الذي طرأ علىٰ الأذهان في فهم لغة الخطاب العربي بشقية القاموسي والقرآني/النبوي واضف منهجية الإسلام .. -فقط- انظر إلىٰ آيات الأحكام المتعلقة بالإعجاز الإجتماعي في الإسلام .. وأيضاً أحاديث الأحكام المتعلقة بنفس الموضوع ..
وهذا يتطلب دراسة تفصيلية تعليمية لأبناء الجيل الثاني والثالث الذين ولدوا في الغرب لمعرفة أوجه الإعجاز الإجتماعي الإسلامي .. وكيفية ممارسة العلاقة مع الآخر ..
..
„ رفيقي ” يؤكد أن كل امرأةٍ في العالم لها مذاقها الخاص ونكهتها التي تصاحبها أينما سارت وهي بجوار رجلها وحين تحدثه وتترك خلفها عطرها عندما تودعه ، فيبقىٰ عالقا بأنفه قبل ان يغادر ثيابها ..
و .. المرأةُ الغربيةُ طرازٌ خاص يعجب المشرقي ..
.. وهذا ما نقده آحد ابناء العرب المتولد في الغرب لملاحظته أن القادم مِن المشرق يُفتن بالشقراء البيضاء الزرقاء الحميراء .. وإن لم تكن جميلة أو فاتنة .. والمسألة .. بل القضية أذواق !
فــ كم هو جميل أن تعشق امرأةً من دين الحب بعد أن فرغ رجاله مِن الحروب الصليبية وحروب الإخوة الأعداء في مناطق من القارة الأوروبية وحروب تصفية السكان الأصليين في شبة القارة الجديدة الأمريكية وإساءة معاملة إنسان فقط لسمرة بشرته أو الحصول علىٰ باروكة شعر أصلي جيد .. ثم إنتهاء عهد الاستعمار الشكلي .. وإن لم تنتهِ بعد صور التمييز العنصري والعرقي والديني والثقافي وهي نوع آخر من قضية الإستعلاء وهي الوجه الآخر من عملة الاستعمار ..
بل .. وغير مفهوم أن تعشق امرأة تدير لك خدها الأيمن بعد ان تلطمها علىٰ الأيسر كما يقول راعي كنيستها[(***)] ..
وغير مفهوم أنه في نهاية شهر أغسطس من هذا العام [2022م] -مر نصف سنة (ستة شهور)- تصل حالات القضاء علىٰ ~ قتل النساء في جمهورية الألب إلىٰ 26 حالة ..
وكم هو إحساس نبيل كــ فارسٍ .. حين تنحني وتمد يمينك لترفعها أمامك علىٰ جوادك عندما ترافقها إلىٰ مَعْبَدِها في الصباح الباكر وتحضر القداس معها دون أن تشاركها فيه .. وقبيل الصلاة .. تصاحبك فتمر علىٰ أربع عشرة محطة .. رُسمت أو نُحتت علىٰ جدران كل الكنائس تُبين مسيرة ابن الآله الأخيرة .. وهو في طريق الألآم .. ليخلّص الإنسان .. مِن الخطيئة الأزلية والتي وُلد بها وفق عقيدتهم -ولا اعتراض- .. فترىٰ -ابن الآله- جسداً نحيلاً مطعوناً في جانبه تسيل منه دماء وعلىٰ رأسه تاج مِن أشواك .. معلقاً علىٰ خشبة صليب الألآم .. تعبده فهو ربها وفقاً لعقيدة الثالوث .. ليموت ابن الإنسان ليحي الإنسان بلا خطيئة ، والمرأةُ ذاتها تريد أن تعلقك أنتَ علىٰ خشبة عشقها لــ تعبدك فأنتَ رجلها وسيدها .. هذا بخلاف الآخرىٰ والتي تعلم منذ نعومة أظافرها أنها -قد تكون- رابعة في سبحة سي « „ السيد ” » ولا أحد مِن كلا الفريقين تقبل بوجود الضرة .. ثم نترك هذه وتلك بخلاف المرأة والتي تدفع لذكرٍ ما مهرها نقوداً كي يتزوجها .. وتحرق معه إن قضىٰ نحبه .. !
* * * ” * * .
هذه .. قصةُ عشقٍ بدأت حيت قابل „ رفيقي ” والذي كان يُشَبِهُه والده بـ : « عُمرَ » فتىٰ الشاشة الفضية المِصرية: « الشريف » ثم مِن بعدها بــ العالمية ، وعمر الشريف هذا ، هو اليهودي الذي أمن بالإسلام ليتزوج سيدة الشاشة العربية ـ الأولىٰ ـ المسلمة كما قصَّ له الوالد قصته ، والتي غضبت مريم فخرالدين مِن هذا اللقب فعلقت قائلة: „ إن كانت فاتن سيدة الشاشة فهل نحن خدم.. ولا آيه! ” ..
روىٰ لي „ رفيقي ” هذه القصة حين أن اشترىٰ له بدلةً جديدة .. زرقاء غامقة اللون .. ليحضر حفل عرس في قاعة الإحتفالات بــ أوتيل : « سيسل » ؛ بمحطة رمل ثغر المتوسط ، الإسكندرية ، أمام تمثال الزعيم الخالد سعد زغلول وهو يُيممُ وجهه تجاه البحر شاخصاً بصره علىٰ الطريق البحري تجاه أوروبا خاصةً فرنسا وليست بريطانيا ، والحفل افتتحه العروسان بالرقص علىٰ موسيقى : „ Wiener Walzer” ، ثم تلاحقت الرقصات وكان أجملها رقصة التانجو سواء : „ Tango Argentin ” ، أو „ Tango Andaluz ” ،
و „ رفيقي ” كان يقول لي :
« ... رقصة التانجو تشعرك برجولتك .. حين تراقص امرأةً علىٰ قدر كبير مِن الجمال والفتنة خاصة حين تعشقها .. »
تحدث معي عن هذا الشعور الغامض وهو لم يحسن بعد أي رقصة غربية أو حتىٰ شرقية !!..
.. خيوط القصة بدأ غزل نسيجها حين قابل في احدىٰ ورش عمل النقابة - وهو أحد أعضاءها - في الحي السادس عشر الفييناوي ، زميلة له بعد مرور سنوات دون لقاء بينهما أو اتصال ، فهي تعمل منذ سنوات في دولة المجر ، جارة النمسا والتابعة سابقاً للأمبراطورية النمساوية المجرية القيصرية الملكية :
„ Donaumonarchie, k. & k. = kaiserlich und königlich ”
ولحظة أن قابلها أقتربت منه متخطية عدة صفوف في القاعة الكبرىٰ .. وبكامل جسدها المتفجر أنوثة رغم تعديها العقد الخامس فهي امرأة في كل العقود والمواسم ، تلك المرأة ذات الملامح القيصرية والهندام الملكي تقدمت إليه لتحيّه ـ فهو زميل عمل ـ كــ عادة أهل الغرب تقبل المرأة الرجل ـ إن ارادت ـ ، وقبل أن تضع قبلة التحية -واسلوب الغرب في السلام بين رجل وامرأة- علىٰ وجنته أمام الزملاء الكُثر ، بادرته بسؤاله :
« أيحق لي أن أحيك ـ أيها الزميل وأنت تحمل الجنسية النمساوية وتعيش في الغرب منذ أكثر مِن عشرين عاماً مع أنك مِن أهل الجنوب ـ ، أيحق لي أن أحيك يا زميلي بقبلة أمام الزملاء وأمام المشرقيين أمثالك ، أم ستتحرج!!!؟ » ،
أجابها وهو يسبقها بوضع قبلة السلام والتحية علىٰ وجنتها البيضاء الناعمة :
« لا حرج ، سيدتي ، أنا مسلم متمدن !! » ،
ثم أكمل مردفاً :
« أنا أحيكِ وفق التقاليد الغربية » ،
وفي اعتقاده أنها ليست قبلة ذكر لأنثىٰ بل هي اسلوب تحية وطريقة سلام تعارف عليه بشر في منطقة ما ، فأين الحرج !؟ . تماما مثل العرب .. هناك مَن يقبل الكتف وهي تحية الملوك .. أو قبلة علىٰ الخشم .. أو قبلتان علىٰ الخدين .. أو قبلة فوق ظهر اليد للعلماء ..
تبادلا التحية حسب الأعراف المعمول بها داخل جمهورية الألب في قلب أوروبا ثم أنهالت عليه بأسئلة سريعة وقصيرة في نفس الوقت ، وهي تمسك بمعصمه :
« كيف حالك !؟ » ،
: « واين تعمل الآن!؟ » ؛ ،
: « أفي نفس فرع المؤسسة الذي كنا نعمل فيه سوياً منذ سنوات !؟ » .،
: « وكيف حال أبنك !؟ » ؛ .
أجابها :
« أنا بخير ، نعم اعمل في نفس المكان » ؛ .
: « ابني بخير ، الآن .. صار رجلا !؟ وأبحث له عن عروس ، ورغم أنه ولدَّ في مدينتك غير أنه يريدها عربية وليس غربية » ؛ .
فأجابت :
« نعم إنها حياته هو! » ؛ .
.. إنها « آناليزا ~ ANNA-LISA» المرأة المتحررة مِن القيود الإجتماعية والبروتوكولات المعقدة الرجعية التي وضعها البشر ، إنها المرأة الوحيدة التي كانت تأتي إلىٰ مكان عملها مِن بين الزميلات بكامل هندامها الأنيق ، ذي القطعة الواحدة كــ فستان مِن أرقىٰ بيوت الأزياء العالمية خاصة الإيطالية وليس الفرنسية .. أو ذي القطعتين كــ " تايور " ، امرأةٌ لم ترتدِي يوماً ما الجينز الأمريكي ولم تُر يوماً بــ بنطَلون ، فهي تحتفظ بأنوثتها ، وهندامها يُعبر عن أنوثتها أو قل هو جزء مِن شخصيتها ،
كانت ترتدي دائما أغلىٰ وأفضل أنواع الجوارب الحريمي ، امرأة تدرك أنوثتها ،
و „ رفيقي ” ؛ مغرم بتلك الفئة مِن النساء ، المرأةُ التي تعتز بأنوثتها ولا تتحرج منها ، بل تظهرها بشكل أنيق جذاب ، فهندام العمل أو ما يطلق عليه ملابس تناسب المهنة لم تكن في أجندتها ، وإن كان بعض المراهقين مِن الذكور في العمل ينتظرونها في دور سفلي عنها وهي نازلة لإحضار فنجان مِن القهوة مِن غرفة الإستراحة ، ليتحدثوا بعد ذلك عن لون ملابسها الداخلية إن استطاعوا رؤيتها ويتضاحكون بعد ذلك ، ولا أدري إن كانت تعلم ذلك أم لا فهي علىٰ كل حال امرأة مِن الطراز القيصري ، امرأة تشعرك بأنها ملكة ، وترغمك أن تحترمها .. وهي تجيد عملها بشكل جيد ، وهي ذات خصوصية تغايّر بقية الزميلات ومع إن العلاقة بين „ رفيقي ” وبينها كانت علاقة زمالة وإحترام ، غير إنها تلمح مِن حين إلىٰ آخر نظرات رجل معجب بهندامها وطريقة حديثها ومشيتها ، وكيفية تناولها فنجان قهوة الصباح ، ومص قطع الشيكولاته البيضاء التي كان „ رفيقي ” مغرم بتذوقها منذ أن كان في عاصمة النور باريس في عطلته الصيفية منذ أعوام عدة زمن دراسته في جامعة الإسكندرية ..
وأطال الحديث معها في مسائل ليس لها صلة بعملهما ، فهو بالفعل معجب بها وبذاتها .
مناخ العمل في مؤسستيهما يعتبر ممتازاً وعلاقة الزمالة كانت ذات مستوىٰ راق ، ولعل هذا يعود لمديرة المؤسسة التي يعملا بها ، فــ المديرة امرأة ، مَن ينظر إليها يلحظ أنها تحمل سمات الحقبة القيصرية فترتدي هنداماً طُرز لها ؛ خُصص لها فقط ، فهي تتردد علىٰ ترزي خاص للعائلة كما أخبرت „ رفيقي ” وقت احتساء القهوة في راحة التاسعة صباحاً ودرشة في مسائل عدة خارجة عن روتين العمل ومشاكله .. امرأة قوية الشخصية ترغمك أن تقبل يدها حين تحييك في الصباح الباكر .. وغالبا يأتي مبكراً .. وهي أيضاً ، والرجل الضعيف يجد ذل الانحناء كــ رمز للــ خنوع حين يحترم المرأة ويتذوق مرارته حين يتفوه بكلمة رقيقة لها ، أما الرجل القوي يقبل يدها لأنه يحترمها ، ويريد أن يظهر مدىٰ تقديره لها ، أو إذا أرادها لنفسه فهو يلثم البشرة الناعمة بشفة الشوق لأنه يعلم أن بوابة العروج لما هو أكثر مِن ذلك يبدأ برسائل ذات مغزىٰ ، فهي ـ قبلة اليد ـ تعبير عن رجولة كائن بجوار امرأة محترمة ، والمديرة تتخيَّر طاقمها فهي تريد إدارة فريق عمل لتقدم نتائج جيدة للوزارة مِن خلال المديرية التي تتبعها ، لذلك ارتاحت لــ „ رفيقي ” في العمل معه ووصفته في احدىٰ الإجتماعات الهامة بأنه :
« يدها اليمنى! ، ويمثلها حال غيابها » ،
فهو علىٰ كل حال الرجل الأوحد والوحيد في مجموعته ، والثاني هو راعي البناية ومنظفها ، ولعل ما دعاها ان تقول هذا عنه فطنة المرأة وتجربة الأنثىٰ وقدرات المديرة الناجحة ، فهي شعرت بأن „ رفيقي ” رجل يرتدي البدلة المختارة بذوق ، وبعناية يعقد رابطة العنق التي تناسبها ، فهو يصلح أن يستقبل ضيوف في حال غيابها .. ومديرته كانت تتصور أن الأعراب لا يحسنون سوىٰ ارتداء « „ الثوب/الدشداشة ” » التقليدي والشماخ ويضع علىٰ رأسه عقالاً ، ويتجول بين اصقاع الجزيرة بــ جمل أو ناقة .. وكانت تعتذر بأدب جم عن قلة معلوماتها عن الآخر ـ تقصده ـ أو سوء التصور عن أهل الجنوب ـ وهو منهم ـ ، والأهم ما جعله مقرب لها أنه يتقن عمله ونادراً ما يخطئ ، ولغته جيدة يحسن الحديث كما يحسن الاصغاء .. وسمعته طيبة مع مَن يعمل معهم ، وهي مواصفات جيدة لتمثيلها في حال غيابها ..
إنه مِن جيل تربىٰ علىٰ أيدي رجال المحاماة واساتذة القانون ومستشاري القضاة في المحكمة العدلية بــ الإسكندرية ..
.. هكذا اراد له والده أن يكون .. وهكذا هُم الذين تخرجوا مِن مدرسة الحقوق زمن ملك مِصر والسودان ، أحدهم قال له وهو ما زال صبيا يزوره في مكتبه في وسط مدينة الثغر بشارع سعد زغول :
« يجب أن تمتلئ قليلا ، فأنت نحيف ولا تصلح أن ترتدي بدلة وأنت بهذه النحافة ، يجب أن تكون رجلا » .
وحين بدأ حياته العملية بعد تخرجه مِن الجامعة الفييناوية قَدِمَ علىٰ رجلٍ متخصص يملك مهارات وتجربة مِن أهل الأفغان ليدربه ، لكنه دربه -فيما دربه أيضاً- علىٰ أمر آخر بجوار العمل ، اراد له أن يكون رجلا بمقياس الغرب .. وعلىٰ منوال الشرق .. معا ، وهي خلطة صعبة التوليف والإخراج ، والمدرب الأفغاني ، سليل آحدىٰ الأسر الحاكمة هناك ، تزوج الغربية الشقراء في مستهل حياته ولم يستطع أن يكمل معها المسيرة وحين بدأت أوراق خريف عمره تتساقط وفي عمر الشيخوخة عاد ليعاشر الأفغانية ذات الشعر الأسود لينهي حياته كما بدأها : أفغاني المنبع والمصب ، فقال لرفيقي ذات مرة :
« لا تذهب إلىٰ عملك أبداً كالآخرين في أماكن عملهم فأنت يُنظر إليك دائماً وأبداً ! » ،
ويتذكر كلمته :
« عليك أن تكون : « „ شامة ” » بين الناس » .
كما :
« ولا يصح لك أن ترتدي الجينز الأمريكي » ؛ .
الفارق بينهما أن رفيقي بدأ مطلع حياته مقترناً بـ امرأة عربية مِن مسقط رأسه .. والآن يعاشر الغربية في موضع قدمه .
* **
نعود إليه لنغزل نسيج قصته مِن البداية فزميلة عمله « آناليزا ~ ANNA-LISA » سألته منذ سنوات طوال وبعد أن عاد مِن فترة نقاهته وتغيب عن العمل ثلاثة أو أربعة أشهر وأحرجته في نفس الوقت ، إذ سألته في أول يوم عمل له وفي أول لقاء بينهما علىٰ دَرج البناية التي يعملا فيها :
« كيف كانت ظلال منتجعك الصحي !!؟ » ؛ .
.. حملقَ في وجهها ملياً ، لم يستطع الرد ، فهو قد سمع كلمات السؤال لكنه لم يفهم مغزاه ولم يفهم مقصدها ، فــ المسألة ليس رص الكلمات بجوار بعضها البعض ، ولم يدرِ بما يجيب ، أيقول :
« نعم » ؛
حين تستلزم الإجابة لا ، أم يقول:
« لا » ؛
والإجابة ينبغي أن تكون نعم ، وهو لا يميل إلىٰ السهولة بإجابات الموافقة إلا إذا كان الأمر غير مهما ، فهو يريد أن يعرف فحوىٰ الكلام ومقصد السؤال وليس مفردات الجمل .
.. المرأة القيصرية أدركت موقف الحرج الذي أوقعت „ رفيقي ” فيه ، وأدركت ببداهتها أنه لم يدرك السؤال وإن فهم كلماته ، وتحججت بضيق الوقت ، فكان رد فعلها أن توارت مِن أمامه بهدوء الأنثىٰ التي تركت خلفها سحابة كثيفة مِن الإستفسارات فــ غابت كــ ضوء الشمس خلفها ، فارتبك الرجل الذي يظن في نفسه أنه قوي أو ذكي ، تركته في حيرة مِن أمره ، فـ انصرفت وهو يردد عدة مرات كأنه يريد أن يسمعها قبل أن تفارقه :
« سمعت سؤالك .. ولكني لم أدرك معناه! ، هل تساعدينني!؟ » ؛ .
تركته مرتبكاً متحيرا ،
و „ رفيقي ” لا يقبل هذا الحال ، كما وأنه لا يريد أن تبقىٰ بعض المسائل بلا نهاية .. معلقة بلا إجابة ، فقد اعتاد منذ صغره أن المسائل المتعلقة بالمرأة يجب أن تحل جذرياً ، ولو بعد حين ، والسائل امرأة .. ولكنها ماذا قصدت !؟.
أتجه إلىٰ غرفة عمله وهو الذي يتنقل مِن موضع إلىٰ آخر علىٰ مدار يوم العمل الواحد ، وفكره مشغول بالسؤال وليس بالإجابة فهو لم يفهم فحوىٰ السؤال حتىٰ ينشغل بــ مفردات الإجابة وإن أدرك كلماته ، وسأل نفسه :
« مَن يسأل !؟ » ؛
وحين أعياه فهم السؤال ، قرر أن يسأل زميلة عمل لهما ، وهو دائما كان يقترب مِن النساء اللآئي لديهن الصبر الجميل وطول بال ليسألهنَّ عما يريد معرفته ، وبعضهنَّ يجدنَّ سروراً لسؤاله ، خاصةً كبار السن منهن فــ لديهن وقت أو مَن تستأنس بــ قربه ، فما زال هرمون الأنوثة يجري في دمها ، قال محدثاً نفسه :
« إنها اندريا ، سأفهم منها دون حرج » ؛
في الإستراحة التالية ـ وقت تناول الغذاء ـ ذهب إليها قاصداً أياها لا يلوي علىٰ شئ آخر غيرها ، سألها مباشرة:
« أندريا ~ ANDREA ! ما معنىٰ هذا الكلمة :
« „ ظلال المنتجع الصحي ” !؟» ؛
وأردف مباشرة:
« أفهم الكلمات ولكني لا أدرك المعنىٰ ، أهذا مصطلح تعارف عليه قومك وأنا لا أعرفه » ؛ .
ابتسمت ثم سألته بدهاء الأنثىٰ :
« مَن تلك التي سألتك !!؟ » ؛
فــ فهم أن القضية ذات مغزىٰ ، هناك اصطلاح لم يدركه ولكن تعارف عليه القوم ، المسألة ليس إتقان لغة أجنبية لــ قوم أو ضعف فهم اللُغة أو صعوبتها ، المسألة هي إصطلاح شاع منذ زمن فتجذَّر في ثقافةٍ شعب مازال هو يقف علىٰ شاطئها لم يبحر فيها بعد ، فردَّ بهزات متتاليات في نبرة صوته :
« التي سألتني ... وهز رأسه ... إنها آناليزا » ؛
فضحكت بخبث المرأة اللعوب فهي تعرفها ، إنها زميلة لها .. والمرأة تفهم المرأة ، فشرحت له معنىٰ السؤال ، وظهر علىٰ وجهه إثناء الشرح السريع علامات الغضب ترافقها إبتسامة بلهاء مِن رجل ظن في نفسه أنه مِن هؤلاء الذين يفهمونها قبل أن تطير مِن عقل صاحبها حين يفكر وتقف الكلمات علىٰ طرف لسانه ، وأندريا فهمت بالتالي بما لا يدع مجالا للشك أن زميل العمل :
« „ الرجل المشرقي ” » ؛
لم يكن له ظل يتبعه في مصحته ، وهو القادم مِن الصحراء العربية والذي يحسن فيها نصب الفسطاط .. وبجواره خيمته الخاصة به .. فهذا للضيوف والسهر والسمر .. وهذه تخصه هو فقط .. ويشعل الحطب ويرتجل الشعر تحت ضوء القمر مع ندمائه ، وفي الصباح الباكر يرتحل إلىٰ أقرب نبع صاف ، وهو كذلك صاحب ألف ليلة وليلة ، والمرأة ترافقه كــ ظله في كل هذه الأحوال ـ هكذا يعرف الغرب عنا ـ ، أضف إلىٰ ذلك أنه يحسن الحديث ويحسن انتقاء الكلمات كما يحسن إختيار الهندام والعطر ، فمع كل هذا ولا يملك ظلاً .. لغياب ثقافة القوم عنده!
قال بصوت مبحوح صدر مِن أعماقه المجروحة :
« وذُلاه! » ؛ .
وقال لها قبل أن يشكرها :
« لذا أرى أن صحتي مازالت عليلة » ؛
ضحكا وافترقا وشدت علىٰ يده قائله له:
« إذن في المرة القادمة » ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
... ولعله اسلوب جديد حديث مبتكر أن تأتي في نهاية أبواب الرواية حواشي أو إضافة اسفل الصفحة لتوضيح الفكرة عند كاتب الرواية!
وأذكر أن سبقني كاتب رواية لهذا الاسلوب! ...
[(*)] اختلف العلماء في انتقاض وضوء مَن لمس امرأة بدون شهوة، فــ :
- ذهب الحنفية إلىٰ أن اللمس لا ينقض مطلقاً،
كما قال ابن نجيم في البحر الرائق :" مس بشرة المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، سواء كان بشهوة أو لا:"، انتهى ، و
- ذهب المالكية إلىٰ أن اللمس ينقض بشروط لخصها الشيخ عليش في كتابه :" منح الجليل شرح مختصر خليل" ، ومفاد ما قاله:" أن لمس المتوضئ البالغ لشخص يلتذ بمثله عادة -ذكراً كان أو أنثىٰ- لا ينقض الوضوء إلا إذا قصد التلذذ بلمسه وإن لم يجد لذة عند لمسه، وكذا ينقض إذا وجد لذة عند لمسه ولو لم يقصد التلذذ بلمسه، فإن لم يقصد ولم تحصل له لذة، فلا نقض ولو وجدها بعد اللمس، و
- مذهب الشافعية ذكره النووي في المجموع، ونصه ما يلي:" إذا التقت بشرتا رجل وامرأة أجنبية تشتهىٰ، انتقض وضوء اللامس منهما، سواء كان اللامس الرجل أو المرأة، وسواء كان اللمس بشهوة أم لا، تعقبه لذة أم لا، وسواء قصد ذلك أم حصل سهواً أو اتفاقاً، وسواء استدام اللمس أم فارق بمجرد التقاء البشرتين، وسواء لمس بعضو من أعضاء الطهارة أم بغيره، وسواء كان الملموس أو الملموس به صحيحاً أم أشل، زائداً أم أصلياً، فكل ذلك ينقض الوضوء عندنا، وفي كله خلاف للسلف ". اهـ ، و
خلاصته:" أنه إذا لمس الذكر البالغ أنثىٰ تشتهىٰ بالضوابط المذكورة انتقض وضوؤه ، وأما
- مذهب الحنابلة، فلا ينقض عندهم وضوء اللامس إلا بشرطين وهما:
1. ) أن يكون بلا حائل،
وأن
2. ) يكون بشهوة .. قال المرداوي في الإنصاف :" الخامس -يعني مِن نواقض الوضوء:" أن تمس بشرته بشرة أنثىٰ لشهوة، [هذا المذهب]، وعليه جماهير الأصحاب " اهـ ، و
اختار ابن تيمية أن اللمس لا ينقض مطلقاً، كما ذكر صاحب الإنصاف عنه ، و
- دليل مَن قال بأن اللمس بدون شهوة لا ينقض الوضوء ما :
- رواه البخاري و مسلم عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها - قَالَتْ:" كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا،. قَالَتْ: وَالبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ". و
في مسند أحمد :"
- فإذا أراد أن يسجد غمز -يعني رجلي- فضممتها إليَّ ثم يسجد".، [وصححه الأرناؤوط] ،
قال ابن قدامة في المغني:" ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله "؛ اهـ، وما
- رواه مسلم في صحيحه عن عائشة قالت:" فقدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة مِن الفراش فالتمسته فوقعت يدي علىٰ بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان"... الحديث، و
- الظاهر أن مسها كان بغير حائل، وهو يدل علىٰ أن اللمس غير ناقض للوضوء ما لم تصحبه شهوة، و
أما دليل مَن قال بأن اللمس ينقض الوضوء مطلقا -وهم الشافعية- فهو عموم قوله تعالى: { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ:} [النساء: 43]، وحقيقة الملامسة ملاقاة البشرتين، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود: { أو لمستم،} فإنها ظاهرة في مجرد اللمس مِن دون جماع، وهذه القراءة سبعية -يعني مِن القراءات السبع المتواترة- والراجح عدم النقض مطلقاً ما لم يخرج شيء. والله أعلم..
[(**)] قدم ابن الجوزي في مقدمة كتابه روضة المحبين .. ونزهة المشتاقين .. أن : هذا الكتاب يصلح لسائر طبقات الناس، فإنه يصلح عونا على الدين وعلى الدنيا، ومرقاة للذة العاجلة ولذة العقبى، وفيه من ذكر أقسام المحبة، وأحكامها ومتعلقاتها، وصحيحها وفاسدها، وافاتها وغوائلها، وأسبابها وموانعها، وما يناسب ذلك من نكت تفسيرية، وأحاديث نبوية، ومسائل فقهية، واثار سلفية، وشواهد شعرية، ووقائع كونية، ما (١) يكون ممتعا لقارئه، مروحا للناظر فيه، فإن شاء أوسعه جدا، وأعطاه ترغيبا وترهيبا، وإن شاء أخذ من هزله وملحه نصيبا، فتارة يضحكه، وتارة يبكيه، وطورا يبعده من أسباب اللذة الفانية، وطورا يرغبه فيها ويدنيه. فإن شئت وجدته واعظا ناصحا، وإن شئت وجدته بنصيبك من اللذة والشهوة ووصل الحبيب مسامحاه وهذا حين الشروع في الابواب، والله سبحانه الفاتح من الخير كل باب، وهو المسؤول سبحانه ان يجعله خالصا لوجهه الكريم، مدنيا من رضاه والفوز بجنات النعيم، والله متولي سريرة العبد وكسبه، وهو سبحانه عند لسان كل قائل وقلبه. { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } .. ثم يذكر في :
الباب الأول
في أسماء المحبة
لما كان الفهم لهذا المسمى اكثر[أشد]، وهو بقلوبهم أعلق، كانت اسماؤه لديهم أكثر. وهذا عادتهم في كل ما اشتد إلفهم له، او كثر خطوره على قلوبهم؛ تعظيما له، او اهتماما به، او محبة له. فالاول: كالاسد، والسيف.
والثاني: كالداهية،
والثالث: كالخمر. وقد اجتمعت هذه المعاني الثلاثة في الحب، فوضعوا له قريبا من ستين(١) اسما: وهي المحبة، والعلاقة، والهوى، والصبوة، والصبابة، والشغف، والمقة، والوجد، والكلف، والتتيم، والعشق، والجوى، والدنف، والشجو، والشوق، والخلابة، والبلابل، والتباريح، والسدم، والغمرات، والوهل، والشجن، واللاعج، والاكتئاب، والوصب، والحزن، والكمد، واللذع، والحرق، والسهد، والارق، واللهف، والحنين، والاستكانة، والتبالة، واللوعة، والفتون، والجنون، واللمم، والخبل، والرسيس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) لم يذكر المؤلف منها غير خمسين. وانظر بعضها في: "الغريب المصنف" (١/ ١٥٣ - ٥٤ ١) ، و "تهذيب الالفاظ" (ص ٤٦٤ - ٤٦٩) ، و "نظام الغريب" (ص ٠ ٧ - ٧١) ، و "الواضح المبين" (ص ٦٩ - ٠ ٧) . وترتيبها في "فقه اللغة" للثعالبي (ص ١٧١) ، و "الواضح المبين" (ص ٩ ٥ - ٠ ٦) ، و "تزيين الاسواق" (١/ ١ ٥ - ٩ ٥) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم يكمل ص: (25) فيقول: والداء المخامر، والود، والخلة، والخلم . ( ليس الخلم بمعنى الحب، بل هو بمعنى الصاحب والخدن، انظر كتاب "الالفاظ" لابن السكيت (١ ٣٤، ٣٩٨) .). والغرام، والهيام، والتدليه، والوله، [والتعبد] (زيادة)..
وقد ذكر له اسماء غير هذه، وليست من اسمائه، وإنما هي من موجباته وأحكامه، فتركنا ذكرها.!!! . [انتهى النقل من روضة المحبين لــابن القيم الجوزية]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(***)] تقرأ هذا المعنىٰ في العهد الجديد؛ إنجيل متى الخامس ؛ الآيات 39 وما بعدها :
"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ." (مت 5: 38).
"وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا." (مت 5: 39).
"وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا." (مت 5: 40).
"وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ." (مت 5: 41).
"مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ." (مت 5: 42).
:" سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ." (مت 5: 43)..
:" وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،" (مت 5: 44).
:" لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ." (مت 5: 45)
وكلمة آخيرة : كاتب الرواية استشهد بالآيات الكريمات وهي نصوص مقدسة مِن العهد الجديد ؛ ومن ضمنه : الإنجيل المعتمد عند المسيحين وهي مذكورة في أنجيل متىٰ ... ولا يحق لأحدٍ أن يعترض .. فهذه نصوص مقدسة .. والرواية لا تحتمل مناقشة مثل هذه الأراء ؛ ومناقشة ما يوجد في الكتب المقدسة عند أهلها أو العقائد ليس من بحوث الرواية !.. وهذا للــ إحاطة والعلم..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية : » الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ «.
[ ١ . ] الجزء الأول
الْوَرَقَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ

[ ١ . ١٠ . ] ” » قِصْةُ عِشْقٍ « „
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية بقلم : د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ؛ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِن ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِــالدِّيَارِ المِصْرَية الْمَحْمِيَّةِ -حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى-

9 محور رواية

رواية : الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
الْوَرَقَةُ الْتَاسِعَةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ٩ ] « „ محور رواية ” »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

.. محورُ قصةِ :« „ رفيقي ” » يدور حول لحظات معدودة - قد تطول لزمنٍ معلوم أو مجهول لحيثيات لم توضع في الحسبان - فــ يتعمد الإنسان في تلك اللحظات أن يُغيّب ضميره .. ويَنسىٰ مبادئَه .. ويتجاهل أخلاقه التي تربىٰ عليها حينا من الدهر .. ويفقد مقعده الدائم تحت ظل العادات الحميدة ؛ والتي اكتسبها من محيط بيئته .. فيتمرد علىٰ موروث التقاليد الطيبة التي أحاطته من كل جانب بحكم معيشته في مجتمع محافظ بطبيعته ؛ ومتدين بحكم نشأته .. ويجمد الأعراف المعمول بها ؛ وهي الظاهرة علىٰ سطح مجتمعه دون الخوض أو الغوص في خبايا ما خلف الأبواب ومتواجدة في عشش الصفيح ومعلومة في المساكن العشوائية الشعبية .. فــ يُلقي خلف ظهره مسؤوليته الرعوية تجاه الآخر .. خاصةً المقربين منه ومن له علاقة أو صلة بهم ؛ أو الأشخاص الغرباء .. ويُلغي -ولو لحين- أنه يقوم برعاية مَن هم في عنقه ويحتاجونه دائماً ؛ ولا يتذكر أنه سيتحمل أعباء تصرفاته .. ومآلات افعاله .. وتبعات اقواله ..
.. بل .. قد يضع - في لحظة ضعف آدمي وخوار بشري وترهل في العلاقة بين العبد وربه بحكم خلقته الأولىٰ الأصلية ؛ وتكوينته الآدمية الابتدائية .. من تراب .. من طين .. من حمأ مسنون .. من صلصال ؛ أو مني يمنى من الصلب والترائب .. مِن ماء مهين - .. قد يضع تعاليمَ السماء وأوامر ونواهِ الرب في العلياء فوق رف يعلوه تراب الزمان وغبار الأيام في صالون النسيان .. دون تجديد صرح الإيمان وإصلاح أركان بنيان إيمان الإنسان متغافلا العقوبات التي منها ما طبخت في برلمان تصوت مجموعة لصالحه وتشجب آخرىٰ ضده .. أو حدود وتعزيرات رب الإنسان .. ينسىٰ كل هذا لــ لحظات تفريغ شحنات لــ تتلوها حسرة تستمر لـ أيام وساعات إن لم تتحقق توبة نصوح وذرف ساخن الدمعات ..
ينسى كل هذا -فقط- لإشباع رغبة مكبوتة لم تشبع بطريقة سليمة صحيحة مدروسة سوية .. إذ يتميز الإنسان بقدرته على التمييز بين الصواب والخطأ حين يسترجع معلومات سابقة تحثه علىٰ الإقدام على الفعل الصحيح أو تزجره فتمنعه من فعل الحرام من خلال الكتاب المحفوظ في الصدور أو معلومات موثقة بتجريم الفعل وقبحه من علماء في الكتاب الذي في الكون منشور ..
.. الإنسان لحظة طمس عقله وتغيب إدراكه وضعف فهمه يضل طريق الهداية .. لحظتها يريد أن ينتقل إلىٰ عالم آخر يصنعه في معمل خياله ، ويبتكره في مصنع أحلامه ، ويزرعه .. فيزهره .. فينميه في حدائق أوهامه ، لعدم تمكنه من تفعيله وإيجاده في واقع مُعاش .. ويعيش حياته -ولو لــ لحظات منها قد تطول أحياناً- كما يهوىٰ دون قيد .. أو يرغب فيها دون شرط .. فيعبث في زمن وجيز -نسبياً- لا يحق له العبث فيه ، في زمن قوته وجبروته - كــ أمراء الأوهام وجنرالات المقاهي وضعفاء العزيمة حين يحلمون .. وكم دمرت الأوهام والخيال عزائم الرجال - وزمن ظنه -العابث- إنفلاته من الحساب وما يترتب عليه من عقاب .. أو إثناء غفلته وقد تطول لحظة الغفلة ويطول زمن الأوهام والأحلام..
ولكل عصر من العصور وزمن من الأزمان ودهر من الدهور تقليعته الخاصة به ونمط خاص من العيش في الظلام وخلف الجدران والأبواب مغلقة وتحت الأقبية في سرداب الخطيئة ..
فــ في العصر الحديث -وغالباً- في عصر غياب الضمير .. أُطلق مصطلح : „ فترة النقاهة ” من مرض ما ، أو ما يسمىٰ : „ إعادة التأهيل ” بعد جراحة اصابت عضو ضروري من أعضاء الإنسان الحيوية .. فينتقل إلى عالم آخر يصنعه في معمل خياله فيقيده في شباك أوهامه فيعبث في زمن وجيز لا يحق له العبث فيه ، وهي فكرة قديمة قدم وجود الإنسان علىٰ ظهر البسيطة ..
.. فوجدت ليال السمر حول موقد نار وجمر .. وعصر الجواري والمغنيات والطرب والعازفات .. وسهرات المجون المنفلتة من كل قيد بل جنون في جنون والجنون فنون .. ومعاشرة عاهرات الخلاعة .. ومعاقرة كاسات الخمور .. والتنفس مع الاستنشاق في جو سحابات الدخان ومداخن النرجيلة وسحب دخان الشيشة يعلوها حجارة فحم مشتعل رصت حول المحترق منه والمشتعل ثلاث قطع من حشيش ملفوف أو مضغة بريق مسطول من أفيون مخلوط مع تعاطي كميات المغيبات وقدر من المخدرات والحبوب والأقراص .. بل صارت هذه تجارة رابحة ومصدر دخل مالي وعلاقات ومرابحة ..
لم أكن أظن أو يخطر علىٰ البال أن تفتح في عاصمة الدانوب في وسط القارة الأوروبية محلات خاصة لبيع فازات الشيشة باشكال متنوعة وأحجام مختلفة وأيضاً مستلزماتها حسب الكيف والذوق ..
كما وتعد إحصائيا أوكار الفساد وبيوت ممارسة البغاء وشقق الدعارة ومنازل السعادة المشتراة بثمن بخس من بائعات الهوىٰ ومقدمات الملذات من أعلىٰ مداخيل المال والغناء الفاحش ..
.. وفي المقابل وبشكل ألطف قليلا .. وأرق من السابق أبدع الرجل فكرة :« „Mätresse ” » أو : « „ ظله ” » ؛ ويغلب على ظني أنه أبتدعها منذ زمن طويل ، وليس فقط زمن الإمبراطورية النمساوية المجرية أو الإمبراطورية الفرنسية .. أو قصر اللذة في طريق عربات تجرها الخيول بالقرب من مدينة سالزبورج في الاستراحات إلىٰ عاصمة إيطاليا لحضور القداس .. فيعبث بامرأة آخرىٰ ، غير زوجته أو خليلته ، غير سانيته أو سيدة بيته أو راعية شؤونه ، المهم امرأة آخرىٰ ، تنتظره خلف الجدران .. لا يعرفها ، فقط جاورته ..
..وحديثاً - خلال فترة النقاهة في مقعد المائدة التي يتناول عليها طعام الفطور والغذاء والعشاء في صالة المطعم الكبير أو سارت معه بضع خطوات من غرفة علاج أو تأهيل عضلي أو نفسي إلىٰ آخرىٰ أو بعد إنتهاء يوم العلاج المُجَدْوَل له فــ يتبقىٰ لديه بعض الوقت فكيف يصرفه! .. وبأي شكل يقضيه ، فيبحث عن امرأة رسمها في خياله المريض .. أو ساقها له قدره التعيس .. ولعله وجدها في منتجعه ، وهو - واحياناً كثيرة هي أيضاً - يــ(ــتــ)ــريد الراحة من الحياة الروتينية المملة والمزعجة ذات ضجر التي يــ(ــتــ)ــعيشها فيعيش كما يظن لــ بعض الوقت أو كما يحلو لهــ(ــا) ..
ومن هنا جاء فكرة عرض أحداث هذه الرواية تحت خط عريض سأطلق عليه :
” ».KURSCHATTEN « „
:« „ ظل المنتجع الصحي ” »..
.. لكن الحقيقة أن الكثير من الرجال والنساء في حياتهم العادية اليومية الروتينية يريدون أن يخرجوا منها ومن مللها ؛ وضجرها ولو قليلاً .. فيبحث الرجل عن ظلٍ له ، وهي تبحث عن ظل لها ..
.. الدراسات الإجتماعية الحديثة جداً والموثقة تُظهر فداحة وعظم هذه القضية .. وخطورتها .. وأنها لم تنفك عن عصر ما إلا ووجدت فيه لحظات يغيب الإنسان عن آدميته ويتراجع عن إنسانيته[(*)] ..

فـ في العصور القديمة كانت المسألة (شبة) محلولة ، فوجد نظام التعدد ؛ فكل الحضارات القديمة والشعوب عرفت نظام التعدد ؛ سواء الرومانية أو الفارسية أو شعب الصين أو الهند ، والديانات سواء اليهودية أو المسيحية فلم يمنعا بصريح العبارة وفي الإسلام جاء فقنن ؛ وبجواره - نظام التعدد - وجدت حالة ما أطلق عليه السبايا ما بعد الحروب للمنتصر والغالب .. أو العبيد والجواري ؛ حتىٰ أمريكا ناشرة الديموقراطية وحقوق الإنسان ما زال المواطن الأبيض -اليوم- يشعر بزهو وعلو أمام المواطن الزنجي من أصول افريقية إذ أن أجداده كانوا عبيد لجد هذا الأبيض ؛ وعملية أنتخاب أسمر البشرة ما هو إلا تبيض لتاريخ أسود لقارة بحجم أمريكا ، وما زال جيل كامل في بلاد خسرت الحرب العالمية الثانية تنظر إلىٔ الأجنبي علىٰ أنه
” »؛ Gastarbeiter:« „
مع غرابة المصطلح وتعقيده من حيث البناء اللُغوي .. وتزايد أعضاء تنظيم النازية الجدد المدجج بالسلاح وفق مصادر من وزارة الداخلية ثم واكب ذلك انتشار وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة ضد الإنسانية دليل آخر ..
وفي الماضي -واليوم- وضعت شارات علىٰ بعض أبواب البيوت تبين أن هذه الدار للمتعة المحرمة ، ثم جاء عصر شيّد فيه قصر للحريم والعازفات والمغنيات .. وفي العصر الذي يليه وجدت الخليلة أو العشيقة ... وسماه البعض :« „ علاقة في السر ” » .. ثم جاء عالم الإتصالات السريعة ؛ والشبكة العنكبوتية العالمية والتي قصرت المسافة بين البشر وبين قارات العالم الخمس .. فهو أو هي تريد ما لم تجده في حياتها اليومية ..
.. السينما العالمية والمِصرية أظهرت العاهرة بصورة ضحية ينبغي أن يتقبلها المجتمع .. ولعل هذا ما أفسد الذوق العام عند الجمهور.!
...
هذه الرواية التي سنقرأها .. هي حقيقية في بنيانها ، تشرح أو تفضح مجتمعا في اركانه ؛ خيالية في إخراجها ، سعيتُ لروايتها كما حكيت لي .. وتتبقى الحبكة الدرامية وعنصر التشويق وحسن صياغة قصة تمتزج فيها واقعية الحدث وخيالية الكاتب ..
وهي القضية القديمة الجديدة التي تتكرر طالما وجدت امرأة أنثىٰ تحتاج لرجل بحكم طبيعتها .. وطالما وجد رجل لا تقف أمامه حدود ؛ وهو الذي يرسمها على جلود البشر . الكلام هنا ليس عن حالة إشباع غريزة ذكر بأية امرأة أو رغبة أنثىٰ بالقرب من ذكر سواء أكان ذلك إثناء الحروب أو حالات الإغتصاب ، الحديث هنا عن رجل بكامل إرادته يريد امرأة .. وهي تقبل أن تنشئ معه هذه العلاقة .
-*/*-:
” ».KURSCHATTEN « „
:« „ ظل المنتجع الصحي ” »..

.. الغريب أن تطول هذه الفترة -العلاقة- عن المسموح به من قبل مؤسسة التأمينات الإجتماعية النمساوية فهي سمحت بـ 22 يوماً أو تزيد أسبوعاً آخر للعلاج ..
والأغرب من ذلك أن يوصي أحد كبار أطباء المنتجع الصحي بالعلاج في :« „ الظل ” » . لإنجاح عملية التأهيل.
وأوضح بدون لبس أن المؤسسة الرسمية لا تتحمل ما ينتج عنه من أعراض جانبية ، أما الغريب العجيب حقاً أن تطول شهورا وسنوات فهذا قد لا يعطي الدقة الكافية في استخدام المصطلح التي تم التعارف عليه ،
والطريف أن هزل لعبة الحب جد ،
والذي سعىٰ أن يعبث بأمراة قد يقع في حبها والذي رسمه في مخيلته ويبحث عنه فينسىٰ حاله ووضعه وحياته التي اعتاد عليها سنوات طوال قبل فترة نقاهته ،
والظاهر أن بيوت المتعة وأوكار اللذة لن تغلق أبوابها ، فالرجل لا يجد لها قفلاً والمرأة خبئته في حقيبة يدها ، وخلال مسيرة الإنسان عبر التاريخ استعملت مسميات جديدة وأشكال وقوالب متعددة ، والأمر ينصب في نهايته : كيف يشبع الإنسان غرائزه وحاجاته العضوية بصورة مقبوله عند غيره فتسن كقانون ، أو غير معلومة فتظل تحت الطاولة مطروحة للنقاش أو الإبتزاز .
و :« „ الصديق الرفيق ” » الذي روىٰ لي قصته ـ وقد تقع للعديد منا ـ لم يبحث عن بيت متعة أو وكر لذه ، بل شاهد مَن كان يبحث عنها فوجدها في منتجعه ، ولعل خلو البال من إنشغالاته وتفرغه التام سواء الذهني أو الجسدي عاملان ساعدا :« „ رفيقي ” » علىٰ الوقوف طويلا تحت :« „ الظل ” » ، فــ :« „ رفيقي ” » موجود في المنتجع إما لتلقي العلاج أو مراجعة بعض ملفات عمله أو قراءة كتب أراد أن ينتهي من مراجعتها ، بيد أن ملابسات عدة ساعدته بشكل مباشر فصار العاشق الذي قرأ عنه في كتب مكتبته وله خيال في ذهنه ، وهو تألم بحق وحزن علىٰ أن فترة نقاهته انتهت غير أنه سعيد بالتجربة .
إنه الرجل ، بيد أن اللحظة المرصودة في روايته عنها :« „ ظله ” » سبقتها مراحل إعداد لهذا الرجل المقصود والذي نتعامل معه الآن ،
فـ :« „ رجلنا المشرقي ” » يروي لنا قصة عشقه و :« „ رفيقه ” » كتب ديباجة لها ..
فادعوكم لقراءة الرواية .

* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
: د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ؛ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِن ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِــالدِّيَارِ المِصْرَية الْمَحْمِيَّةِ -حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية : „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ”
[ ١ ] الجزء الأول
» الْوَرَقَةُ الْتَاسِعَةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ٩ . ] « „ محور رواية ” »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحد 29 المحرم 1444هـ ~ 28 أغسطس 2022م ~ 28/08/2002م ~ 12:39:14 ص
--------------------------------------
[(*)] في إحصائية صادمة تؤكد أن عدد المواليد الجدد في كل من بريطانيا؛ وفرنسا؛ وهولندا الذين يولدون خارج إطار المؤسسة الزوجية قد يصلون إلى 40 في المائة.. وهم في ازدياد، ويحق لأي امرأة لم تتزوج أن تلقح نفسها في مختبر يحتفظ بحيوانات منوية يتبرع بها بعض الرجال، وينتسب المولود لأمه تلقائياً، كما أن بعض الأزواج العقماء يذهبون مع زوجاتهم للحصول على ذلك التلقيح كذلك. والآن يبحث شاب هولندي من مدينة نوتردام عن إخوته الألف بعد أن أبلغ منذ نحو 5 سنوات من قبل أبويه اللذين تبنياه، أنه ابن لأحد المتبرعين. لهذا لم يكن لهذا الشاب بد من إجراء عدد من الاختبارات بالفعل التي نجح من خلالها في الوصول إلى والده البيولوجي الفعلي، وحوالي 60 أخاً واختاً من هذا الوالد. واتضح أن ذلك الوالد غير الشرعي ما فتئ منذ أكثر من 20 عاماً وهو يتردد على ثلاثة مختبرات، ويقدم تبرعاته لقاء أجر متفق عليه.
ولا أدري أيهما أكرم؛ أهو ذلك المتبرع السخيف، أم ما فعله زعيم إحدى القبائل الأفريقية في دولة الكاميرون، حيث إن له 100 زوجة وقد ورث 72 زوجة منهن عن والده، وهو تقليد متعارف عليه في منطقة (بافوت) غرب الكاميرون، وقد بلغ حتى الآن من ينتمون إليه أكثر من 500 من الأبناء والبنات، والبقية قد تأتي .
وتقول (كونستانس) الزوجة الثالثة للزعيم وهي تبتسم فرحة: إن الزوجات الأكبر سناً يقمن بتعليم الزوجات الأصغر العادات والتقاليد - انتهى.
وأورد مثالاً واقعياً ومختلفاً (Completely) عن كل ما أوردته سابقاً، لتعرفوا أن الإنسانية ما زالت بخير.
فهذا رجل بريطاني(!) يدعى (جاك) ويبلغ من العمر 94 عاماً، ما فتئ كل أسبوع أن يقدم لزوجته باقة من الزهور، ولم ينقطع عن تلك العادة الرائعة أسبوعاً واحداً منذ زواجه منها، رغم أنها عقيم لا تنجب.
وقد أكدت زوجته (ميلي) البالغة من العمر 91 عاماً، أن زوجها يعرف تعلّقها بالزهور، ويحرص كل أسبوع على أن يجثو (يركع) عند قدميها ويقدم لها الباقة.
وختمت كلامها قائلة: إن ما شدني إلى (جاك) هي (رومانسيته) المفرطة - انتهى.
فتعلموا أيها الرجال - ولكن ما في فائدة: (علّم بالمتبلّم يصبح ناسي). [المصدر: مشعل السديري؛ تعلمّوا أيها الرجال؛ الخميس - 27 المحرم 1444 هـ - 25 أغسطس 2022 م – الشرق الأوسط؛ رقم العدد [15976]. ].

8 - „ Raubtier “ (*)

رواية الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
الْوَرَقَةُ الْثَامِنُةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
« Raubtier »
« المنقض على فريسته »
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

.. ينبغي أنْ أقول أنَّ „ رفيقي “ كان دائم الحركة .. دائم الترحال .. دائم السفر .. دائم التجوال ..
لذا فهو لا ينظر إلى الخلف ..
فهو لا يقدر أن يبقى طويلا في مكانه .. لا يقف كثيرا في موضعه ، أو يمكث كثيراً في مجلسٍ ، أو يجلس في مكانه مستمعاً -فقط- ..
فإذا كان متحدثاً .. أو محاضراً أو ملقياً لكلامه على مسامع حضور .. أو متحدثاً عن افكاره .. ويوجد مَن يتجاوب مع أطروحاته .. أو مَن يسأله ليجيبه .. فلا بأس ببقاءه جالساً -وإن طال زمن الجلوس- لإنهاء محاضرته وإتمام كلامه ، بل هذا ما يريده ويرغبه .. أذنٌ صاغيةٌ وجمهورٌ يستمع إليه .. كأنه يحمل رسالة ينبغي عليه تبيلغها ..
وكذلك في مؤسسته العلمية والتي يعمل بها منذ سنوات بعد تخرجه مباشرة من جامعته .. فهو يختلق حديثاً ما مع زميلةٍ له في العمل .. يروق له شكلها أو يعجبه هندامها أو تلفته تسريحة شعرها .. وما أكثر الزميلات بجواره ..
فهو لا يبقى .. بل لا يصح أن يبقى أمام مكتبه جالساً في مقعده .. بل يتنقل من دور علوي إلى طابق سفلي .. ثم يذهب من فرع إلى آخر لعدة أسباب ..
.. ولعل طفولته المبكرة وزمن مراهقته لعبتا دورا مهما مكملاً في تركيبته المزاجية -هذه- من حيث كثرة ترحاله وسفره .. وإحسانه افتتاح حديث ما .. والتكلم في موضوع يعجب السامع .. وغالبيتهن من النساء ..
وهذه مسألة قد تحتاج إلى تبيان!
.. فكان يسافر(!) كثيرا واعتاد عليه ..
إما مع والدته لعمةِ أمهِ زيارةً لها .. وهي تسكن في „البر “الثاني .. كما كانوا يطلقون عليه سكان المدينة إذ يُفصل بينهما ترعة المحمودية .. وكانوا يعتبرونه سفراً .. فهو .. كأنه خارج مدينته الساحلية المطلة على البحيرة المتوسطية .. وهنا يَعبر من خلال جسر يمر فوق النيل الفضي .. فــ ينتهي الشارع المسفلت ويبدء الشارع الترابي ..
وكأنه ذاهب لآحدى الأقاليم المجاورة لمدينته ..
.. أو ترحاله معهما معاً أي : الوالد والوالدة.. حين يريدا قضاء نهاية الإسبوع في منطقة -وقتها- تعتبر نائية .. إذ هي نهاية خط ترام الرمل تسمى „ سيدي بشر “ .. وكان يملك والده „كابينة “ للإستجمام في فصل الصيف قريبة من البحر الذي عشقه كمدينته ..
واقع هذه المنطقة اليوم تغيَّر تماماً ..
و „ رفيقي “ كان دائم السفر والترحال وقت دراسته في الجامعة بــ „ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ “ .. فكان يقضي فصل الصيف كله ويزيد عليه بضع إسابيع في رحلة شبابية تحفها المخاطر ويصحبها فشل الحصول على عمل إلا كــ غاسل صحون في مطاعم باريس أو اثينا .. أو في جمع محصول العنب بالجنوب الفرنسي ..
كان دائم الترحال والسفر.. و بحكم طبيعة عمله أو بحكم تواجده في مركزه في جماعته أو مؤسسته الخيرية ؛ فهو إما دائم السفر لتقديم بحوثه ، وهذا خلال الإسبوع ، فإذا عاد .. ففي عطلة نهاية الإسبوع .. وهي عنده تبدأ بعد ظهر يوم الجمعة لصباح يوم الإثنين .. فيمكنه الترحال ؛ خاصة ووسائل النقل متيسرة وسهلة ميسورة وغير مكلفة من حيث ثمن التذكرة ، وهو يتمكن من إكمال تنظيم افكاره أو ترتيب مقابلاته خلال زمن رحلة القطار أو إثناء الانتظار في صالة المطار ليستقل الطائرة أو إثناء تحليقه في السماء تجاه مقصده ..
ولعلها عادة اكتسبها منذ شبابه الباكر حين كان يغادر مدينة „ الْإِسْكَنْدَرِيَّة “ إلى بلاد الغرب .. القارة الأوروبية ،
ثم حين أستقر في القارة العجوز بدأت رحلاته إلى الشمال الأفريقي كــ „ تونس “ الخضراء وهي كذلك مطلة على البحيرة المتوسطية .. وكان معجباً بقرطاجة كثيراً .. ثم تعرف على ترزي رجالي جيد كان يحيك له ملابس الخروج على مزاجه ..
كما حدث هذا أيضا في ضاحية خارج زغرب في طريقه لقضاء العطلة الأطول في أشهر الصيف على البحر الأدرياتيكي ؛ هو أحد فروع البحر المتوسط .. في بلاد الكروات .. وهو مغرم بـ أي مكان يقترب أو يتجه إلى مدينته „ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ “ .. وبما أن الأدرياتيكي يعتبر فرعا للمتوسط فهو كأنه يمد قدمه تجاه رمال „ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ “ فإذا سبح في فرع المتوسط الشمالي فهو على شاطئ مدينته يسبح ..
.. أو يخير أمه بين أن تزور „ الْإِسْكَنْدَرِيَّة “ وتقابل أهلها أو مَن تبقى منهم أو تذهب لآداء عُمرة في الحجاز .. فالطبع كانت تفضل العُمرة خاصة حين كبر سنها وأرادت ان تعبده -سبحانه- بجوار بيته .. وكانت تطلق على نفسها أنها ذاهبة كي تكون آحدى „ المجاورات “ .. و „ الْمجاور “ مصطلح قديم لمن يريد أن يمكث زمناً بجوار البيت العتيق ..
.. أو كان يزور الجزء الأوروبي من تركيا أتاتورك .. وهذا لم يعجبه كثيرا كما صرح لي بنفسه ولعل لأسباب سياسية ليس أكثر ..
.. أو شبة جزيرة الهند في القارة الأسيوية ..
إنه يريد أن يرحل .. يريد السفر ..
وفي سفره .. وما يعانيه من بُعد عنها .. „ EllE “ وشوق لها يأخذ معه أدوات الكتابة بل يأخذ معه بعض الخيوط الرفيعة الحريرية الملونة؛ وأبرة خياطة؛ وقطع من قماش الحرير بالوانه الزاهية؛ وورقات ملونة كثيرة يَعدُها حسب طول أيام فترة السفر أو قصره ليرسم بأبرته وخيطه الحريري الملون إطار وثيقة حبه ، ويرسلها بالبريد على عنوانها ، أو صندوق بريد الحي الذي تسكنه خشية الجيران .. وأيضا يلون المظروف ، الذي يكتب عليه اسمها الحقيقي ولقبها الذي تحمله منذ وقت زواجها في مكتب توثيق العقود في مدينة جراتس ويلونه وإن طلقت من زوجها ،
.. كان يريد أن يشغلها أكثر من 24 ساعة في اليوم الواحد .. يريد أن يستحوذ عليها بكاملها .. يريدها له وحده .. لا يقترب منها هواء .. فالهواء مذكر .. لا تمسك بيدها فنجان قهوة أو شاي .. فالفنجان مذكر .. لا تستطعم حبة سكر .. فالسكر مذكر .. لا تسير في الشارع بمفردها يجب أن يكون معها زميلة لها .. فالشارع مذكر .. يَغيرُ عليها حين يلامس فستانها بدنها ففستانها مذكر .. يريدها لنفسه لا تراها إلا عينه.. فالعين حين تتجسس عليها عند الآخرين مذكر .. بمعنى الجاسوس!
-*/*-
.. ولعل هذا ما دعاني إلى القول أن „ رفيقي “ كما سألته آحداهن بخبث ودهاء ومكر :" إذا وددت أن تكون كائناً آخر .. فماذا ترغب أن تكون!!؟ ..
.. وقبل أن يفكر في الإجابة وقبيل أن يجيب .. نعتته ووصفته -زميلته في مؤسستهما- بقولها : „ Raubtier “ ، ينبغي أن تكون „ المنقض على فريسته “ ..!
ثم أردفت:" أنت تهجم على من ترغب فيها من النساء فتنقض كــ نمر مفترس أو كــ أسد مزمجر على غزال رقيق وديع أراد أن يروي ظمأه من عين ماء " ..
والنساءُ .. كل النساء يردن هكذا أن يكون الرجل العاشق .. فلا يرى مثلها .. ولا ينظر إلى غيرها .. فلا تتحمل امرأة بحكم غريزتها التي غرزت بين قلبها وبين روحها أن تسمع مجرد سماع أنه يعجبه آخرى ؛ وإن كانت اقل جمالا واقل دلالا ..
.. المُخبرة ، زميلته في العمل .. امرأة تراقبه ولم يستطع أن يفتح فمه بكلمة عند هذا الوصف والنعت ..
.. ويبدو أنه أعجبه نعتها ، واستحسن وصفها .. فهي أحسنت الوصف .. وهو بحق ينطبق عليه هذا الوصف „ المُنْقَض “ ...
.. زميلته هذه لم تطمع يوما أن ترافقه .. فهي لاحظت أنها ليست ممن يرغب في إطالة الحديث معهن .. بيد أنها كانت تساعده كثيراً في تصحيح ما يكتبه بلغتها الأم .. وكانت تَسعد بهذه المساعدة كثيراً .. وكانت بالنسبة إليه ليس أكثر من زميلة تقدم خدمات علمية له في مجال تخصصها .. وفي ترجمة موضوعاته الخاصة وتمكنها -بالقطع وبالطبع- من لغتها الأم خاصة التحدث والكتابة بـ „ Hochdeutsch “ ! . وكان يحسن هذا الأمر كثيراً ؛ فمعلمه الأول في فيينا أخبره من الدرس الأول قائلا:" فلنتحدث لُغة „ جوته .. Johann Wolfgang von Goethe ..“ .. ويكمل فلا نتحدث لغة العوام الذين يفترشون الأرض تحت الكباري "..
وهنَّ -زميلاته- كنَّ يتحدثن عنه كثيراً .. إذ كان بعضهن يسربن له ما يقال عنه ..
فهو خلال فترة وجيزة تمكن من وضع بصمته في مكان عمله .. وكان يتحدث صراحة أنه يتقن عمله مرتين ..
الأولى لأنه يأخذ راتبا مقابله ..
والثانية كي يقال أن الذي يقوم بمثل هذا العمل ويتقنه أنه „ رفيقي “ ..
.. أدرك غلبيتهن أي أنماط النساء يرغب „ رفيقي “ في الكلام معهن .. ويطول نفس الحديث ويخلق موضوعات ويبتكر مسائل ويستحدث مرويات ويخترع قصص .. وبعضهن أدرك أنهن لسن نمط رغباته ..
وإشكالية „ رفيقي “ وأمثاله أنه يحسن الحديث مع مَن تروق له .. وأنه يتخير مَن تعجبه .. ويسرع الخطى تجاهها .. خاصة إذا كانت -مثلا- تريد تحضير فنجان قهوة في استراحة المؤسسة أو ترغب في وضع ملعقة سكر أو أكثر في فنجانها أو بعض قطرات الحليب فيقوم بهذه الخدمة المجانية ومن هنا يفتح باب الحوار .. كما يتخير اي الموضوعات والمسائل التي يصح أن يتحدث عنها معها .. ويتم هذا أمام الآخريات وهذا بالطبع يغضب تلك الآخريات ويحقدن عليه .. وعلى مَن تروق له !
ورغم هذ الوصف الذي ينزعج منه الكثير إلا أنه كان يبدو عليه الوَداعَة والاستئناس .. لكن المرء منا لا يعلم كثيرا أو في الحقيقة ماذا يقول عنه الآخرين!..
ــــــــــــــــــــــــ
(*) كلمة إلمانية الترجمة الحرفية تعني „ الحيوان السارق “ ، والمقصود فصيلة السباع ؛ كالأسود والنمور وما شابهها.. وكيفية تمكن هذا النوع الصائد من الإمساك بفريسته .. وهي مسألة القنص .. وهنا صفة مدح .. ونعت حميد .. إذ في التراث العربي تقول الفتيات في أحلامهن : „ اريد فارساً يأتيني على حصانه الأبيض يسرقني (يخطفني) ويذهب بي بعيدا إلى قصرهِ المنيف في أعلى قمة الجبل “..
والنساء جمعيهن وإن وصلنَّ إلى سن القعود وتعدينه وصرن من العجائز .. إلا أن بداخل كل واحدة منهن مازالت هناك طفلة صغيرة وفتاة شابة تحب أن تسمع كلمات المديح وابيات الشعر يتغزل في جمالها وسحرها -وإن ولى- رجل محب أو عاشق ولهان.. وإن أبيض شعره أو تحول إلى اللون الرمادي .. حين يختلط الأسود الداكن بالأبيض الفاتح!..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ١ ] الجزء الأول
رواية «... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ... »
الْوَرَقَةُ الْثَامِنُةُ مِنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ٨ . ] „ “ Raubtier
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحد 24 المحرم 1444هـ ~ 21 أغسطس 2022م~21/08/2002م~‏22‏/08‏/2022‏ 12:39:14 ص

7 - إحسان .. إتقان

رواية الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
الْوَرَقَةُ الْسَابِعَةُ مَنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

.. أشار „ رفيقي ” بــ اصبعه في الفضاء الــ لا مُتناهٍ أمامه.. في غرفةٍ.. ملئت رفوفها بكُتب التاريخ والدين والمعارف.. ولكنها ليست بالواسعة.. إذ مساحة غرفته تڪفيه ليسبح في ڪونه الافتراضي ڪما يحلو له.. وڪأن هناڪ لوحة ڪبيرة ڪاملة.. نتيجة إطلاعه على العديد من المصادر والمراجع وتنوع المعارف.. أمامه لوحة رسمها التاريخ خاصةً له لأحداث متناثرة في أنحاء المعمورة المسڪونة وتلك الأرض المهجورة بڪافة جوانب هذا التاريخ.. أسوده ومشرقه.. وقضاياه ومسائله..
وابرزت لوحة „ رفيقي ” ڪافة ملامح الصورة أمامه.. واستوضحت ڪل المشاهد.. والتي يريد أن يراها ليتحدث عنها.. ويريد أن يحدد موضوعاً منها.. أو يتكلم عن حدثٍ بعينه؛ ڪي يبدء حديثه.. عنه أو من خلاله.. مع سامعه.. فأخذ يعيد وضع أجزاء الصورة أمام ناظريه ڪي يحسن الحديث ويتقن التڪلم عنها..
فــ „ رفيقي ” في حديثه يحسن مزج أو قل خلط الجانب الإنساني بالجانب البهيمي والسياسي بالجانب الديني.. والجانب الاقتصادي بالجانب الإجتماعي.. بالجانب الطبي العلمي بجانب الخزعبلات والدجل والشعوذة والأوهام.. والجانب العقائدي الصحيح والإيماني السليم بجانب موروثات الأجداد والأوهام والأحلام وانحراف بعض الطرق والجماعات..
يخلط „ رفيقي ” بذكاء وحنكة ومهارة الصورة بكل أبعادها التي يريد أن يتحدث عنها بمزيج قد لا تنتبه إليه عند السماع إليه من الوهلة الأولى.. ودائما يسعى إلى الفصل بمشرط جراح ويصر على التنقية بطريقته بين الصحيح السليم وبين الخطأ والفاسد.. وبين الوهم والحلم والخيال وبين الحقيقة المؤكدة بصحيح الدين أو متين العلم.. أو ڪما يقول :" وضع الخط المستقيم بجوار الخط المعوج ليصحح وضع الصورة التي رُسمت في الأذهان من خلال رجال الدين الكهنوتي أو مرتزفة التدين وروجها الدجال فتقبلتها العامة!. فبعد العرض بكافة جوانب المشهد يعطيڪ المحصلة الصحيحة السليمة لتطمئن !
وهو يسعى دائما لإتمام الصورة التي يريد الحديث عنها.. أو إظهار المشهد الهام من وجهة نظره أمام نظر سامعه؛ وهو بذلك يريد أن يوثق ما اراد قوله..
فيحسن الإتمام ويجيد الإتقان..
و „ رفيقي ” يعلق بقوله:" في الحقيقة هذه جزئية هامة ينبغي أن نمارسها في الحديث.. والڪلام عن أي شئ.. ڪي نُقنع المتلقي بصحة ما نقول أو نبرهن على أذن السامع إثناء العرض على دقة وصواب الفڪرة.. ".
ولعل رجال الدين بالمفهوم الڪهنوتي أو التقليدي أو مرتزقة المنابر بكافة مناهجهم ومدارسهم ومشاربهم.. ويجاورهم الساسة بوشاح الراعي وإيهاب الغنم ولكن بقلب ذئب.. وكذا أهل الدجل والشعوذة والخزعبلات وبائعو الوهم ومروجو الأحلام وساسة الدرجة الثالثة يحسنون هذا الاسلوب.. بل يتقنونه.. اسلوب الخلط بين الحقيقة والتي يراد سماعها وبين الوهم الذي يعيش داخل الكثيرين.. فهم يملكون بضاعة مُزْجاةٍ رديئة فاسدة وبأثمان رخيصة ڪاسدة ولڪنهم يريدون ترويجها وبسرعة كي يتم حصد ما يرغبونه قبل انتباه الناس.. وإرتفاع درجة الوعي.. وغالبا يتقبل الدجل والخزعبلات والشعوذة والأوهام.. يتقبلها السذج من الناس.. والقلة من أهل العلم يتحملون ما يدعون إليه.. ويصبرون.. وإن دفعوا الثمن باهظا.. إما أرواحهم فداء الدعوة.. وإما سنين أعمارهم في غياهب السجون..
.. إحسان الإتمام وإيجادة الإتقان..
ولا أدري بالضبط أين تعلم „ رفيقي ” هذا الاسلوب في الحوار أو المناقشة..
إحسان العرض وإتقان التعبير.. ودقة الكلمات مع اختيار اللفظة المناسبة لما يريد أن يقوله..
ولعل هذا يحتاج إلى ثروة لُغوية عالية.. كما يحتاج لمعلومات أولية متوفرة وجاهزة تحيط بجوانب الموضوع الذي يريد التكلم عنه.. إثناء الحديث أو ما يسمى الإعداد.. قبل العرض.. ومعلومات خاصة موثقة مؤڪدة.. صحيحة..
..
فقد توقف „ رفيقي ” طويلاً عند أهمية العشق عند الإنسان -رجل أو امرأة-.. بجانب بقية نواح متطلبات الحياة وما يحتاجه المرء أو يرغبه أو يريده الإنسان..
ذهب بي بعيدا فتحدث بإيجاز عن الحب عند قدماء المِصريين وعند أهل اليونان.. وفي الحضارة الهندية القديمة ومعابدهم وحضارة فارس..
ثم خجل قليلا عن ما يراه اليوم ويسمع أو يقرأ في العديد من مناطق العالم..
فالانحطاط ليس في الأفكار المطروحة من الساسة ورجال الكهنوت.. بل في الأخلاق وغياب القيم وفساد المفاهيم وتبدل القناعات..
..
و „ رفيقي ” وڪأيّ عاشق مثله وإن لم يحسن كتابة الخط وتزويقه ويجيد تلوين الرسائل.. وإظهار مضامين محتواها.. إلا أنه يبدع ، يسعى أن يخترع نموذج في الرسائل لم تعهده بنات حواء..
.. اسألوها.. „ EllE ”.. إن لم تصدقوا ما اقوله (!) ..
ما يلونه في رسالته لها يريد أن يخبرها في جملة واحدة بقوله :" أنتِ شمس عمري ، أنتِ الشمس التي تضئ حياتي ، بل أنتِ كل الكون لي " ،
ثم يطرز المرسال من جميع أطرافة الأربعة ، بالوان زاهية فقبل أن يَكتب حرفاً يحدد إطار الورقة ، يريد أن تكون رسالته لها „ وثيقة ” مسجلة ، تُثبت لها بمجرد ان تقع ناظرها على رسالته؛ وتؤكد مشاعره نحوها.. أنها المرأة الوحيدة في حياته.. وإن كذب!..
غالباً حين يكون في سفره - وما أكثر ترحاله وتنقله وسفره بسبب عمله أو ارتباطاته الآخرى - يضع ختمه.. : „ دمعة ” شوق من مقلةٍ سهرت في بعادها على وثيقة عشقه ، وفي أعلى الورقة شمس فاقع لونها الأصفر بإطار أحمر وضع في منتصفها أول حروف اسمها وحولها بالأزرق الخفيف سحابة ترافقها سحابة.. تعلوها سحابة.. تجاورها سحابة.. وفي أسفل الصفحة يأتي بعشب أخضر جميل من أعلى هضبة في مدينته الإسڪندرية.. فقد أمطرت السماء منذ قليل فأنعش تربة الهضبة بعد أن بللها.. فينثره على ذيل الصفحة.. وتنبثق من عشبه الأخضر أزهار ملونه وورود متفتحة، وفي وسطها شجرة.. جذورها ثابتة.. ذات فروع خضراء تقترب من شمس الصفحة وسمائها.. ثم يبعثر بعض حبات التفاح بين أوراقها وعلى عشبها ، كأنه يقول لها : „ أريد أن ألون حياتي بجوارڪ ڪما ينبغي.. وڪما أريد! ” ..
ثم يوثق المرسال بتاريخ ويوم الڪتابة بل يزيد ويذڪر الساعة والدقيقة والثانية ، فالمرسال اقرب إلى وثيقة تحفظ في ذاڪرة الزمان.. وتحفر بين عينيها وترسم على شغاف قلبها وتنحت فوق روحها..
وهو يبدأ بوصفها في أول سطر أو سطرين، وبنعتها.. ثم يبين مَن.. وما هي بالنسبة إليه ويتخيّر ڪلماته.. بل يتخير ڪيفية رسم حروف المرسال.. وڪيف يبدء السطر وڪيف ينهي الجملة..
.. „ رفيقي ” ما استفاض معي في ڪلماته عنها ، أو ما ڪتب لها.. أو محتوى المرسال والخطاب أو كلمات الجواب وجمل وثيقة عشقه..
ڪان يقول لي :" رسائلها ڪتبتها مرة واحدة فقط لها ، وأنتَ لا يصح لڪَ أن تعرف ماذا ڪتبت ، بل عليڪَ أن تتخيل تعبيرات وڪلمات وجمل ورسومات وألوان عاشق مشرقي لامرأة من الغرب شقراء فاقع لونها تسرني أنا وحدي دون غيري.. "..
غير أنه.. وليس بوقت بعيد يبدأ في أعادة ترڪيبة الڪلمات التي سطرها ، وڪأنه أراد أن يلغي التحذير الأول بأنه ڪتب لها وحدها.. وليس لأحد آخر.. وأن ما ڪتبه ليس للنشر ،
بيد أن التاريخ -خاصة قصص العشق- يخبرنا أن العاشق يريد فضح أمره وإن ڪنّى بأسماء واستعار معان وأخفى ملامح الصورة ، وستر اسمها ، ويحمّل الريح وجدانه فباح باسمها للزهور واعترف بما جرى بينهما في لحظات الوصال لأمواج البحر الأحمر وفي باطنه الأعشاب المرجانية التي منها صنع لها عقد فريد ، لُف حول عنقها.. فبڪل نبضة قلبها ينقل العقد حكاية عشقه.. فحملت جزيئات الماء من الأحمر إلى المتوسط الأبيض.. حملت مشاعره.. فحفظت داخل أصداف البحر الأبيض لحين يضع حبة اللؤلؤ في أصبعها ڪخاتم عشق إلى محبوبته ، وقصيدته التي رددتها أسماڪ المحيطات وتغنى باسمها على مسامع طيور السماء فتغني باسمها فوق الأشجار فينفضح أمره في ڪل الغابات ، العاشق وإن لم يرد فضح أمره ، إلا أنه من العسير أن يڪتم صدره سره.. وحبه الڪبير يغلي بداخله فتسمع أَزِيزا كأَزِيزِ المِرْجَل أو تلاطم الحمم كما يثور البرڪان أو ينفجر البرق في السماء..
فقد اعترف عاشق بثينة باسمها ..
واعترف عاشق عزة باسمها ..
واعترف عاشق عبلة باسمها ..
واعترف عاشق ليلى باسمها..
هاتوا لي عاشقا لم يفضح امره ويڪشف سره!..
..
الإجابة : لن تجدوا واحداً!.. وهذا عند العرب في عصور الستر والمنعة!
و. „ رفيقي ”.. حين ينتهي من ڪتابه لها يقول لي :" ڪنت أشعر بأنني أمير البلاد وملڪ العباد في القارة الأوروبية برمتها بل ڪنت أشعر بأنني حاڪم الڪون ڪله ، وڪنت أريد أن أقبل يد أول امرأة تقابلني في الطريق.. قد تحمل بعض ملامحها وڪنت أريد أن أنحني أمام ڪل النساء.. وڪان البعض منهن يفهمنَّ إنني أريد مغازلتهن ، وهذا ليس بصحيح ، غير أن الغربيّات والشرقيّات على السواء - فهن نساء - لديهن فضول عجيب ، أُولَتهن تبدي تجاوباً فتسأل فيحدث حوار ، وثانيتهن تتحرج من السؤال فتنظر من تحت حجاب العين وليس من تحت حجاب الرأس وفضولها لم ينتهِ بعد ،
يڪمل فيقول لي :" حين أنتهي من مرسالي أبدأ افتش عن الثغرات بين السطور وبين الجمل.. وأزين وثيقتي ببعض الزهور أو رسم قلب هنا أو هناك على قدر المساحة المتبقية والمتاحة لي " ،
.. يتنهد طويلاً وينظر في سماء الغرفة.. فالمڪان يضيق به وإن اتسع لي..
ثم يردف :" ڪلماتي لها .. ڪنت أريد أن تُحفر في مخيلتها.. وفي ذهنها ، تحفر على قلبها.. ڪنت أجهد نفسي ڪثيراً.. فأنا لا أريد أن تقع عينها على الڪلمة المقرؤة ، بل أريد ان يقع التعبير الداخلي في ڪينونة روحي أولاً على قلبها "،
يتوقف عن الحديث لبرهة ثم يقول :" ويا لها من مهمة شاقة أن تعبر عن خيال المشرقي بــ... " ،
يتوقف مرة ثانية عن الحديث.. ويعبث بشئ ما تخيله أمامه ڪأنه يريد أن يمسڪه في فضاء ڪونِه الإفتراضي لا أراه بعيني..
ثم يڪمل بعد إخراج زفير طويل :" .. مهمة شاقة أن يعبر المشرقي بلغته الأم عن خياله العربي الأصيل بڪلمات لغة غربية ليڪشف عن حاله " ،
يسمر „ رفيقي ” عينه على صورة نسجها أمامه دون أن يطلعني عليها ثم يقول:" ... وغالباً ڪانت تأتي منها مداخلة قائلة :" لقد فهمت قصدڪ وإن ڪانت الڪلمات المستخدمة ليست مناسبة للمعنى بالضبط ، أنت تأتي بڪلمات لم يستخدمها أحد من قبل من أدبائنا ، ڪما وليس لها وجود في قاموس لغتي القديم منه والجديد ، فڪلمة „Honigkeit“ مثلاً ليس لها وجود في القاموس ولڪنني أفهم ما تريد قوله ، لأنڪ تشرح الڪلمة ، في السطور التالية .. أقصد أنك تشرح مشاعرڪ تجاهي بڪلمات آخرى فتڪشف مصطلحڪ الجديد .. وهذا ما يجعلني افهم ما تريد أن تقوله ، فأحيانا ڪثيرة تنحت ڪلمة جديدة من مخيلتڪ ، ڪلمة جديدة ليس لها أصول في لغتنا الألمانية ولم تستخدم من قبل ولڪنها وفق مقياس خاص بڪ.. وصغتها في قوالب صنعتها بيدڪ.. أقصد مشاعرڪ وأحاسيسڪ وعواطفڪ، أنتَ تڪتب بشكل جميل وافهم ڪل ما ترسله لي ، ڪم أنا سعيدة بمشاعرڪ وبتعبيراتڪ ، والغريب أنك تغوص في مسائل عدة ، واجلس وقتاً طويلا افڪر في تلك الآطر التي تضعني فيها رغما عني ، لأفڪر ڪيف تڪتب.. وڪيف تصفني.. وڪيف تعبر عن حبڪ لي ، بل ڪيف تفڪر .. ڪم أنا أحبڪ ... وڪم أنتَ .. حقاً .. مجنون! ، وڪم هو جميل أن تُجنَّ بسبب حبي لڪ.. ثم تقول يخجل أنثوى رفيع رقيق عال: وأخشى منڪ العدوى.. أيها المجنون !!" .
.. ابتسم لها ڪالنشوان ، ومد يده ليمسڪ معصمها ليحلق بها فوق سحاب ما يعلوه سحاب.. ومددتُ أنا يدي لمعصمه لأتمنى له الشفاء .
.. „ رفيقي.”.. لا يترڪها طويلا تفڪر في ڪلماته بل يلمس أطراف أصابعها فيقرب أطراف يدها من شفتيه ليضع قبلة الغرام مع انحناءة الأمير العاشق ، قائلا لها :" أنا أڪتب فقط لڪ ، فأنتِ أمام عيني دائماً وفي مخيلتي ، أينما ذهبت فأنتِ ترافقينني في حِلي وترحالي.. وفي سفرب ومقامي.. وفي خيمتي التي صنعتها لكِ وحدڪ ، وفي يقظتي ومنامي ، في مترو الأنفاق حين أتحرڪ داخل مدينتي وإثناء تواجدي في غرفة عملي ، وبين أوراق الملفات التي فوق مڪتبي ، أنتِ بجواري على دَرج بيتي أو في المصعد وحين أزور اصدقائي ، في جلستي مع أعضاء المؤسسة الخيرية التي أنشط فيها ، وإثناء عضويتي مع الجماعة الإسلامية التي انتمي إليها ، فأنتِ التي تقدمين لي منشفَ قطنٍ حين انتهي من وضوءي.. وتعدّلين حذائي في رفه حين أصلي الجمعة أو صلوات الأعياد في المرڪز الإسلامي أو المصلى المِصري ، وتسرعين الخطى حين أهم بالخروج وأريد أن أرتدي جاڪتتي فأنتِ معي في كل الأماڪن ، أنتِ زماني الذي أعيش معه.. والمڪان الذي أتواجد فيه "..
وبكلمة مختصرة قال :" يجب على العاشق أن يستحوذ على معشوقته.. فكرا وتفكيرا.. إحساسا وعواطف.. روحا ونفساً.. قبل بــ-التأكيد- الجسد والبدن "..
.. ثم فجَّر „ رفيقي.” قنبلة ڪاتمة للصوت .. ضحڪتُ أنا وهو إذ قال مفتخراً :" ليست فقط المرأة الشقراء البيضاء ذات العينين الزرقاء ڪتبتُ لها مثل هذه الرسائل بل .. ڪل الفتيات والنساء اللآئي عرفتهن منذ نهاية الصف الخامس الابتدائي.. ڪلهنَّ حظينَّ بمثل هذه المكاتبات والرسائل والمراسلات والجوابات بل والكراسات!.. ثم توقف عن الحديث وأردف.. وحتى هذه.. المرأة الغربية.. لعلها ليست الآخيرة "...
وضحڪ بشڪل هستيري عالياً...
ثم توقف عن الضحڪ وأردف قائلا :" لعل هذا يعود لــ أستاذ الرسم.. في مدرسة سيد درويش الإبتدائية.. الأستاذ.. „ موسىٰ.”.. إنه بحق استاذ فنان.. وقد تعلمت منه الڪثير.. خاصة مزج الألوان وتناسقها ولغتها "..
ثم اراد أن يشرح لي ما قصده بڪلمته:" ڪل الفتيات والنساء اللآئي عرفتهن منذ نهاية الصف الخامس الابتدائي وحتى الأن.. أتذكر جارتنا.. والتي أرسلت إليها أول مرسال في مشبك الغسيل.. البنت فــ.. !! "...
فأوقفته مزمجراً.. قائلا:" ڪفاية ڪده النهاردة.. يا ڪذاب .. أقصد يا فنان!.. ".
وضحڪنا.. ونظر ڪل منا إلى صاحبه وڪأن هناك لحظة عتاب!..
فأنا ڪاتم اسراره.. وهو يختلف تماماً عني!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[ ١ ] الجزء الأول
رواية «... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ... »
الْوَرَقَةُ الْسَابِعَةُ مَنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ٧ . ] „.إحسان .. إتقان.”..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏الخميس‏، 14‏ محرم‏، 1444هــ ~ 04 أغسطس 2022م ~ ‏11‏/08‏/2022‏ 09:33:24 م

6 أداة التعريف EllE

يصل الرجل إلىٰ ذروة جنونه حين يعشق امرأةً تستحق العشق ، امرأةٌ لا مثيل لها بين بنات حواء.. منذ أن خُلقت المرأة الأولىٰ لتسكن بجوار رجلها الأول والوحيد.. امرأةٌ انفردت بذاتها من نسل آدم.. منذ أن عَرف آدم معنىٰ الهدوء النفسي والسكينة الروحية والمودة المنبثقة من قلب محب والرحمة النابعة من علاقة خاصة جداً.. لا تقترب منها أي علاقة آخرىٰ بين بني البشر.. فلا تقترب من علاقة الأب بأبنته أو الأخ بأخته.. علاقة خاصة: رجل وبجواره امرأة يحبها ؛ وهذا هو الفارق بين علاقة رجل بــ امرأة يخالف تماماً علاقة ذكر بــ أنثىٰ..
فــ“ رفيقي„ لم يرَ مثلها.. ولم يصادف أحداً مِن جنسها قبلها تشبهها ؛ فلا مثيل لها.. ولا شبيه لها ، امرأة تستحق منه بجدارة العشق.. وتستحق الهيام بها.. فـ هي تسير بجواره أينما ذهب.. وتجلس بجواره أينما حلَّ.. وترقد بجواره أينما نعس أو تعب أو استغرق في نوم عميق.. وحينها يخلعُ عليها ألقاباً لم تطلق مِن قبل علىٰ امرأةٍ من قبلها.. فيُكَنِيها بــ أعطر زهور العالم ويسميها بــ أجمل ورود الدنيا.. ويردف اسمها بمشبهات خيالية ورموز إيحائية لا توجد إلا في أوهام“ رفيقي„..
ثم يرصع فستانها مِن ذيلِهِ حين يلامس كعب قدميها وهي تجره خلفها بــ تعالٍ وزهوٍ وخيلاء.. فهي الشريفة العالية الغالية الراقية العفيفة..
يرصعه مِن ذيل فستانها.. ومن كافة جوانبه إلىٰ حمالته فوق كتفيها بأوسمة ونياشين رُصعت بــ الأحجار الكريمة.. بــ أحجار نفيسة، بــ أحجار ثمينة، تلك الأحجار البترة.. والتي تكوّنت بقدرة الله جلّ وعلا في الطبيعة، ولا يتدخّل في تكوينها إنسان..
وهي- الأحجار النفيسة البترة- تماماً كـ تلك المرأة.. تشبهها من جانبها النفيس العزيز النادر.. وتختلف عنها من عدة جوانب..
المرأةُ التي عشقها “رفيقي„ تلك الأيقونة اليتيمة تشبه من جانب واحد تلك الأحجار الكريمة.. فهي نادرة الوجود.. جبلت في أغلب الأحيان مِن تلك المناطق البركانيّة وخاصةً في المناطق التي تجري فيها الأنهار البركانية؛ حيث إنّ بعض أنواع الأحجار الكريمة تتكوّن في باطن الأرض وتخرج إلىٰ سطحها عند حدوث البراكين والهزّات الأرضية مثل: الياقوت، والألماس، والزمرد. هذه الأحجار النفيسة تتواجد في الطبيعة لوحدها حرة، كما تتواجد الأحجار الكريمة في أعماق البحار والمحيطات مثل اللؤلؤ والمرجان، وبعضها يوجد فوق سطح الأرض نتيجة المملكة النباتيّة مثل الكهرمان الأصفر.. الأحجار الكريمة ذكرت في كلّ الديانات علىٰ الأرض مثل الديانة البوذية، والّتي تعتبر مِن أقدم المعتقدات والديانات على وجه الأرض حتى العهد الّذي أنعم الله سبحانه وتعالى على البشرية بالدّين الإسلامي، والّذي يعد آخر الديانات السماوية، كما تشترك جميع الديانات بذكر ووصف الأحجار الكريمة بدقة؛ حيث ذكرت الأحجار الكريمة في القرآن الكريم في سورة الرحمن لقوله تعالى: { يُخْرِجُ مِنها اللُّؤلؤَ والمرجان }، وقوله جلَّ وعلا في وصفه الحور العين في الجنة: { كَأَنَّهُن الياقوتُ والمُرجان }، وقوله تعالى:{ وحور عين، كَأمثال اللّؤلُؤ المكنون } صدق الله العظيم وسبحان رب العرش العظيم في خلقه وفي مخلوقاته..
تمتاز الأحجار الكريمة بأنّ تكوينها يكون بفعل الطبيعة، ولا دخل للإنسان فيها، وتكوينها يكون ضمن سلسلة من العمليّات البيولوجيّة، ويمكن للإنسان أن يقوم بتصنيع أحجار مشابهة للأحجار الكريمة تسمّى الأحجار المزيّفة؛ حيث يقوم الإنسان بتصنيع الأحجار المشابهة للأحجار الكريمة أو الأحجار الزائفة في المختبرات خلال سلسلة من العمليّات الكيميائيّة، لذا عرفت بالأحجار المقلّدة أو الزائفة، والاختلاف بين الأحجار الكريمة والأحجار المقلدّة أو الزائفة في طريقة التكوين والبناء المعدني أيضاً.. وتماما كــ بعضهن يتدخل مشرط جراح التجميل -مدفوع الأجر- في تعديل نتوءات بدنها أو وضعت مساحيق -مدفوعة الثمن- في تحسين أصل الخلقة..
“ رفيقي„ يرصع فستانها بالياقوت والزبرجد.. ويزينه بالماس.. ورشات حبات اللؤلؤ والألماظ ،
ثم..“ رفيقي„ يرفعها إلىٰ الثريا.. إذ لا يصح أن تسير علىٰ الثرىٰ.. فــ تغبر نعلها بتراب من سار فوقه غيرها..
.. يرفعها لــ يسكنها بين النجوم الزاهرات.. والكواكب اللامعات النيرات.. والمجرات السيَّارة..
.. ويصل بها لــ مقام الآلهة.. ويضع قدميها بين ملائكة السماوات والأرض.. ويناديها بأجمل النعوت ويصفها بأحلىٰ الأسماء ويعلق شِعرَه بمعلقات عنها في ذهنه.. كتبها بماء الذهب قبل أن يعلقها علىٰ جدران التاريخ ...
.. محاولات لتخليد الجميلة الحسناء التي عشقها لحين من الزمان ... أو أحبها عمره كله .
قلتُ : جُنَّ “ رفيقي„ بها لأنه لا يرىٰ لها شبيه ، وليس لها مثيل ، وتتسع الدنيا علىٰ قدر رضاها عنه ، وتضيق إذا أغضبته ، أو غضبت منه.. وقد يقوم بأعمال ، يوصفه الناظر أنه جنَّ ولكن المقصود ليس الجنون بل يخبرنا إنها المرأة الوحيدة في حياته ، والتي سلبته العقل ، فهي محبوبته التي ارتقت به إلىٰ درجة العشق ، ويالها من درجة يفتخر بها الرجل.. العاشق .. ولا عزاء لذكور تحركهم هرمونات!
“رفيقي„ .. وصفها بأنها التي عرّفته مغزىٰ الحياة فأذاقها طعم الحياة.. فأطلق عليه اسم “أداة التعريف„ " الـ.." ، „EL“ ، ولأنه يوجد الآن في الأسواق عطر „ELLE“ ، وكنا - أنا و “رفيقي„ - نحسن استخدام الرموز منذ شبابنا ، فضيفة صفحاتنا القادمات سنطلق عليها „ELLE“ ... عطر الحسناء المتميز لأجمل النساء ، وإن كانت تستخدم غيره واعتادت أنفه سواه .

* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ١ ] الجزء الأول
رواية «... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ... »
الْوَرَقَةُ السَادِسةُ مَنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ٦ ] أداة التعريف: „ELLE“
‏السبت‏، 02‏ محرم‏، 1444هــ ~ 29 يوليو 2022م ~ ‏30‏/07‏/2022‏ 01:35:47 ص

الخمسون

رواية الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
الْوَرَقَةُ الْخَامِسُةُ مَنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخذ رفيقي ينظر إلىٰ تقاطيع وجهي بإمعان شديد.. وراح يتفحصه بشكل ملفت للنظر.. ومن عدة زوايا ومن مختلف الجوانب.. كأنه يراني لأول مرة في حياته فيتصفحه بدقة لأول مرة في رفقتنا الطويلة؛ والتي تُعد بالسنين.. ثم نظر إلىٰ أعلىٰ رأسي..
.. بدىٰ وكأنه يعد شيئا ما ظهر فجأة أمامه.. لم يراه من قبل أو لم يلتفت إليه منذ حين من الزمان..
.. ثم علت علىٰ وجهه ابتسامة باهتة.. وقال بصوت منخفض يملؤه الحزن ويعلوه الآسىٰ؛ وكأنه يتحسر علىٰ أمر ما.. قال : „ مر نصف قرن علىٰ وجودنا فوق هذا الكوكب!.. خمسون عاماً.. خمسون سنة.. عام يجري خلف آخر.. وسنة تتلوها سنة.. وقد نكون لم ننتبه.. أننا في عمر الخمسين.. ”
ثم شهق وأراد أن يملؤ رئتيه بهواء كثير وقال: „ ولعل هذه اللحظة مدعاة للتوقف قليلاً.. ليس للنظر إلىٰ الخلف فقد مضىٰ خمسون عاماً.. بل نظرة إلىٰ الأمام؛ إلىٰ مستقبل بناءً علىٰ معطيات الماضي؛ وما تحصلناه خلال السنين الماضية وما حصدناه من الأيام الفائتة.. وما نملكه في اليد اليوم.. ”
ثم اعتدل في جلسته وبدء يعد على اصابعه: „ من درجات علمية أو مركز مرموق ووظيفة جيدة ووضع إجتماعي وعلاقات جيدة مع الآخرين.. وأوسمة تقديرية من الوزارة أو المؤسسات الرسمية.. ”
وكأنه تذكر شيئاً ما فقال: „ وقد نُعيد بعض الحسابات مرة ثانية.. ونراجع بعض الملفات.. ونصحح بعض المسارات.. وقد نعتذر لبعض الناس.. ”
.. لم انتبه تماماً لمقصد „ رفيقي ”.. فهو غالباً يتحدث بشكل أقرب إلىٰ الرمز عن التصريح في الكلام.. وكأنه لم يتوقع أن تمر هذه السنين بهذه السرعة من عمره وعمري ونقطع تلك المسافات من أعوام حياتنا.
.. سألته مستفسراً ومندهشاً في نفس الحين: „ ماذا بكَ!؟.. ”..
ثم أسرعت في إكمال الجملة: „ .. حتىٰ تنتبه أن شعيرات قليلة دب فيها الوهن من طول الطريق؛ وضعفت مع مر الزمن فأبيضت من طول السفر وكثرة الترحال.. بمرور كل هذا الزمان عليها!؟.. خمسون عاماً كما تقول!؟ ”.
فأجاب؛ وكأنه تلقف السؤال ومنتظره؛ ويرغب في فتح موضوع للنقاش: „ ينبغي علينا أن نقسم أعمارنا إلىٰ فترات زمنية أو مراحل عمرية.. ويترتب علىٰ هذا التقسيم تصرفات معينة ومواقف بعينها وحسابات خاصة..” ..
ثم اردف بسرعة دون إلتقاط نفس عميق كي لا يعطيني فرصة الرد أو إجراء حوار -وهذا ديدنه- فحين يريد أن يتم حوار ما يترك فترة زمنية وجيزة للسامع.. إما للتفكير معه وينصت السامع ليكمل هو حديثه.. وإما لسماع سؤال أو استفسار من محدثه.. فــ اسرع قائلاً: „ جدي لأبي؛ رحمة الله عليه ووسع في قبره.. حضّر نفسه لرحلة الحج وآداء المناسك لما بلغ الأربعين من عمره علىٰ غير عادة رفاقه واقرانه زمن الملكية المِصرية والتي كانت تحكم مصر والسودان.. إذ وقتها كان المَحْمَل المِصري يحمل كسوة الكعبة الشريفة هدية من حكومة الملك وشعبه في عام والعام الذي يليه بقية دول العرب..
وكانت جدتي لأبي -أم أحمد- تقول له : « مبكر التحضير قوي.. لسه بدري »..
وتردف بقولها: « ربنا يطول في عمرك يا أبا محمد.. -فهو أي جدي لأبي زوجها الثاني بعد وفاة أبي أحمد- وتطلع لما تبلغ الستين! »..
فيرد عليها مازحاً: « الستون عاماً.. راح أكون كُهْنة.. لن اقدر علىٰ ركوب الجمل أو المشي إلىٰ الحجاز.. أو حتىٰ اركب بابور البحر من السويس.. ولا أنزل تحت.. في الصعيد لغاية عبّارة البحر لجِدة »..
ثم يضحك وتعلو فوق شفتيه مرارة غدر الزمان وتقلب الأحوال ”..
.. فقاطعته علىٰ الفور وقلت لـ„ رفيقي ” : „ لا أريد منك فلسفة في الإجابة؛ وسرد تاريخ؛ وحكايات زمان!.. كما لم أقصد تعميق أو تقعير السؤال! ”..
فابتسم وكأنه أوقعني فيما يريد.. أي: الاسترسال في الإجابة..
واراد إمساك خيط الحديث من بدايته فبادرني بالقول: „ جدي مات قبل أن يصل سن الخمسين؛ وجدتي بقيت بعده وحجت ثم بلغت سن السبعين.. والمسألة يجب حسبانها من البداية.. ”..
ثم سرح بفكره أو بنظره إلىٰ تلك الحقبة من الزمان.. لا أدري تماماً أي زمن سرح فيه ليعيده إلىٰ الحاضر المعاش اليوم.. ثم سريعاً أنتبه بأن جملته لم تنتهي بعد ولم يتم مقصوده في الحديث.. فقال: „ نمكث في ارحام أمهاتنا سبعة شهور أو تسعة شهور.. ومواليد ثمانية يموتون..”..
ثم قال: „ وفترة رضاعة.. قد تطول لعامين.. ثم زمن طفولة تزيد عن عشر سنوات!! ”
.. ثم أخذ رشفةً من فنجان قهوته الذي أمامه علىٰ طاولة في منتصف قاعة الضيوف.. عُبأت بكتب وكتيبات.. ووضع فوقها مجلات تخصصية ونشرات دورية مرتبطة بعمله.. وقصاصات جرائد..
ثم ابتسم ثانيةً وقال: „ لا تنسَ أننا جميعاً بقينا في اصلاب أباءنا سنوات طوال في حالة تأهب وليس موت.. ”
فقاطعته قائلاً: „.. وعليك أن لا تنسَ قوله تعالىٰ: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون } ”.. صدق الله العلي العظيم..
وأراد أن يبدءَ الحديث فأوقفته مردفاً: „ ألا تعلم ما قاله التابعي قتادة.. تلميذ عبدالله ابن العباس ”..
وكأنه لم يتوقع مني مقاطعته في الحديث!
ثم قلت له: قال قتادة، عن قوله تعالىٰ: { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا }.. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم
ثم أوضحت له.. وهذا اقرب إلىٰ مجال تخصصي: „ صُلْب : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلىٰ عجب الذنب ”؛ وأنت تقول : „ في حالة تأهب وليس موت ”..
ثم قلت له: „ عليكَ رفيقي!.. إلتزام الدقة العلمية في حديثكَ.. خاصةً وأنتَ تقول دائماً ينبغي أن نتحدث عن علم وليس مجرد كلمات أو أقوال عارية عن الدليل أو الحجة.. يعني كلام مرسل مالهوش رجلين! ”.
وكأنه انزعج من توقيفي له وحدة العبارات التي استخدمتها..
وهنا قال بصوت منخفض بالكاد اسمعه „ يا ليتني كنت مثل تشرشل!؟ ”..
فتضايقت مِن ملاحظته تلك.. إذ هي ليست في محلها من حيث النقاش.. نحن نتحدث عن الخلق والإيجاد من عدم وقرآن وسنة وهو يذهب إلىٰ عاصمة الإمبراطورية البريطانية زمن الحرب العالمية.. ويأتي بــ الخواجة الإنجليزي شاهداً علىٰ حديثنا..
فعلا صوتي بالقول: „ ونستون مين !؟ ”..
وأردت إحراجه فتابعت القول: „.. يا بتاع الأميرة صاحبة الواد الإسكندراني: „ مودي ”.. إللي كان قبلك في نفس المدرسة الثانوية: „ المرقسية ”.. وتفتخر دائماً بيه.. وإللي قُتل شهيدَ الحب العذري علىٰ الطريقة الإنجليزية.. والغرام العفيف علىٰ الطريقة البريطانية ” ..
ها ها ها.. ضحكة استهزائية مني فجرت الدم في عروق وجهه-
ثم أكملت: „ وأبوه -صاحب المليون- لم يقدر أن يفتح فمه.. وأُغلق المحضر علىٰ أنه: « حادث.. قضاء.. وقدر ».. وقُيد التحقيق ضد مجهول.. يا عم إنتَ لما بتتزنق في الحديث تنط بعيد !! أهو هو ده اسلوبك علىٰ طول!؟..”.
وظننتُ أنني أنهيت الحديث معه في هذ الجزئية!... وينبغي أن يتوقف النقاش!
فما كان منه إلا أنه ضحك بصورة هستيرية مقهقهاً..
ثم قال: „ إنتَ يا بني تربية الجماعة إياها.. تمسك في الفارغة.. وتتعلق في الهايفة.. سيبني أكمل كلامي! ”.
فقلت له: „ أسيبك آيه.. وهو إنت عندك لسه كلام تقوله.. إنت خلاص خبطت في الحيطة.. وحظك وحش دخلت كمان حارة سد.. يعني لا عندك علىطول ولا تعرف ترجع للورا! ”..
.. ثم قفشت معاه فقلت له: „ قولنا حنبني وأدي احنا بنينا السد العالي.. إخواني!.. يا استعمار بنيــــ ”.
فاسكتني „ رفيقي ” قائلاً : „ طيب.. طيب.. أسكت بقىٰ .. حارة آيه.. وسد آيه.. واستعمار مين!.. ما تفهم يا بني أصول الحوار الْأَول ”.
.. „ ..أنا.. ”.. يكمل „ رفيقي ” كلامه : „ أنا قصدت لما كان السير تشرشل!”.
قاطعته : „ راح يقول لي تاني شرشر.. وفلفل! .. ويجيب حكايات ميكي ماوس.. يا أبني إنتَ عيبك أنك لسه بتقرأ مجلة ميكي ماوس.. وسمير.. وتتفرج علىٰ الرسوم المتحركة لــ توم وجيري!”.
فقال غاضباً: „ يا ابني اسمع الْأَول.. الله يخرب بيت شيطانك ويلعنه ويحرقه بجاز وسخ.. ! ”.
ثم تلطف: „ يا أخي اسمع لما اقول لكَ ”
فقلت له: „ موش إنت إللي حضرتهم.. اصرفهم بقىٰ!”.
فقال بسذاجة أطفال الروضة أمام المربية: „ همَّ مين إللي راح نصرفهم!؟ ”..
فقلت „ موش إنت بتتكلم عن العفاريت والجن والشياطين! ”..
ثم قلت مستهزءاً: „ حوش يا حواش.. دَستور يا إخوانا دَستور.. الشر بره وبعيد.. بركاتك يا أبو العباس المرسي.. وربنا بتاع المسلمين.. راح أولع شمع ليلة الجمعة الجايه في مقام سيدنا.. ”.
.. فقاطعني بشدة: „ يا بني بلاش هبل إسكندراني.. اسمع أنا بقول آيه ! ”.
فقلت له : „ قوللي يا دكتور.. غَني لي شوية يا دكتور!”.
فقال: „ خليك جد شوية.. أحنا محناش في مدرسة المشاغبين ”.
فقلت: „ أحكي لي.. أنا كلي أذان صاغية.. ووعاء استماع!.. وحلة إنصات.. و.. ”.
فقال مبتسماً.. كأنه يريد أن يلطف الجو الساخن: „ الواد تشرشل بتاع بريطانيا اتلم علىٰ شوية عيال صيَّع.. علموه شُرب الدخان.. ”.
فقلت له: „ آيه ده! يا نهار مدُوحَس.. إنت بتنشر فضائح الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس.. وتأزأز لب تحت أضواء القمر الفضية.. دول يا بني يبعتولك عميلهم السري 008؛ لأن عميلهم السري 007 مات.. تعيش إنتَ.. فضائح الإمبراطورية بتكشف عنها كده دون أي أدلة.. و .. لا وثائق! ”.
فقال : „ يا أخي!.. أنا حبيت أفك الخط معاك ! ”.
فقلت: „ يا أخي ده إنت كده كهربت الخط ”..
فقال: „ .. وبعدين في يومك إللي موش راح يعدي بسلام النهارده”.
فقلت له : „ طيب ما تزعلش.. نفتعل الجدية.. ما له السير تشرشل!؟”.
فقال : „ عندما كان يسأل من قِبل الصحفيين كان يولع البايب بتاعه.. يريد أن يعطي لنفسه فسحة من الوقت للتفكير بهدوء قبل أن يجاوب !.. ”..
وكأنه استراح من عناء النقاش فقال منتصراً: „ فهمت بقىٰ كان قصدي آيه !.. ”.
فقلت له: „ يا قوة الله.. بقىٰ إنت تبْحِر المانش كله.. وتسافر لبلاد الإنجليز.. إللي احتلوا الشعب المِصري؛ وكانوا حبايب مع الخديوي.. علشان تجيب مثال من أيام الحرب العالمية.. ” ..
ثم سكتُ برهةً وقلت: „ علىٰ فكرة هي كانت الأولىٰ ولا الثانية -ها ها ها ها- ”.
.. فأوقفني مؤكداً علىٰ مقولته : „لا تنسَ أننا جميعاً بقينا في اصلاب أباءنا سنوات طوال في حالة تأهب وليس موت.. ”..
ثم اضاف بسرعة قبل أن ألتقط أنفاسي: „ تأويل الآية الكريمة اختلف فيه العلماء.. ومسألة التأويل والتفسير والتبيان لمراد الله في آيات القرآن بحر واسع لا يصح أن يحجر أحد علىٰ آخر بقول دون قول.. ولكي تتأكد اقرأ تفسير الشيخ أبي جعفر الطبري !؟”..
وبدىٰ عليه مظاهر العَالِم الجليل..
ثم ظهرت علىٰ اسارير وجهه علامات الظفر والنصر فقال : „ عليك أن تراجع الحديث إللي راح اقولك عليه فقهياً أولاً.. وعلمياً طبياً معملياً ثانيا؛ يعني وفق العلم الحديث وأدواته ومختبراته؛ وتاريخياً ثالثاً؛ يعني قبل النبوة وما قيل قبل ما يأتي لنا النص النبوي الشريف.. وعلىٰ فكرة ده موجود عند البخاري ومسلم؛ يعني متفق عليه وصحيح مية في المية ”..
وانتبهت.. من حديثه إنه يحسن ربط دماغ السامع باسلوبه في الحديث..
ثم اعتدل في مقعده واستوىٰ في جلسته وقال: روىٰ الشيخان؛ يعني: البخاري ومسلم.. وكمان غيرهما عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه وارضاه- قال: ده ابن مسعود: „ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ.. قَالَ: « „ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ” » ..
ثم سكتَ برهةً واردف: « „ أنتبه لهذا التوقيت النبوي في زمن جاهلية العرب.. ويرافقها خزعبلات بقية الأمم ” » ..
: « „.. ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ” » .. انتبه لــ مثل ذلك؛ يعني أربعين..
: « „ .. ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ” » .. وأدي كمان أربعين..
ثم .. ثم آيه ..
:« „ .. ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ.. وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ ” » ..
أبدء معاك تاريخياً..
فقاطعته: „ هيَّ يا أبني محاضرة في مدرجات الجامعة .. ولا درس خصوصي لطتلميذ ابتدائي.. دي.. الساعة بقت اتناشر نصف الليل؛ وأنا بكره عندي شغل بدري ”
فقال: „ لأ.. دي لسه الساعة حداشر وربع.. والوقت لسه بدري ” ..
فقلت له: „ .. بدري من عمرك .. لسه لما أنزل وأركب.. وحياة جوز خالتك خلي الدرس ده ليلة الجمعة أو السبت إلي جايين!! ”
فقال بطريقة فيها عدم رضا: „ إنتَ حر.. العلم في الرأس وموش في الكراس.. خلينا يوم الجمعة الجاية نكمل.. تصبح علىٰ خير ”..
فكان ردي: „ وإنت من أهل الخير ..”..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ١ ] الجزء الأول
رواية «... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ... »
الْوَرَقَةُ الْخَامِسُةُ مَنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ٥ . ] „الخمسون ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏الجمعة‏، 01‏ محرم‏، 1444هــ ~ ‏الجمعة‏، 29‏ تموز‏، 2022م ~ ‏29‏/07‏/2022‏ 01:05:43 ص

دار إسماعيل
[ 4 ] „ مستشفىٰ البلدية لرعاية الأمومة والطفولة . „

 رفيقي ” مغرمٌ بمِصرِهِ.. شعباً وأرضاً وهواءاً وبحراً ونهراً.. وتاريخاً وثقافةً.. مغرمٌ بمِصرِه غرام العاشق الولهان.. ثم هو متيمٌ بإسكندارِيَّتِه.. فهو يحبُ كل حبة رملٍ تستجم علىٰ شواطئها تحت أشعة ذهبية لشمس النهار وتغني عرائس البحر حين العزف علىٰ خيوط القمر الفضية وقت المساء..
.. وهو يحب كل قطرة ماءٍ عذب مِن ترعة المحمودية ترويه..
.. وكل قطرة ماء بحر لسقم جلده تشفيه..
.. وكل نسمة يستنشقها فجراً أو عصراً وعند لحظات السكينة حين يسدل الليل الستور وتغفو الطيور وتنعس الزهور..
.. وهو يعشق لهجتها ولكنتها..
.. وهو يدس أنفه في „ ملاية الإسكندرانيَّة الْلَف ”.. فجدته لأبيه؛ وعمته غير الشقيقة أحسنا كيفية لبسها؛ وهو مازال يذكر رائحة ملاية جدته.. إذ وضعتها في دولابها -صندوق ملابسها- وكانت تضع عطراً بين حوائجها أحضرته مِن الحجاز.. وآخر أهدته صديقتها وقريبتها الحاجة„ نبيه ” لها..
.. متيمٌ بالإسكندرية حتىٰ أنه كتب لها شعراً إثناء زيارة له لــ قرطاج.. تونس الخضراء واصفا إياها بأنثاه الوحيدة.. ويُشم من قوله أن هناك آخريات..
فــ حين يترك له المجال يتحدث عنها.. وبصوت خافت أخذ يردد مطلع قصيدته:
إسكندَرِيَّتي!
” ... فرمَالُكِ فراشي ...
و وشَاحُها.. كسماءكِ غطائي ...
ولستُ كآدمَ أمام حواء..„
إسكندرِيَّتي! ..
.. فلا تدري -وأنت تسمعه- أيتحدث عن مِصرِه أم يتحدث عن مسقط رأسه.. إسكندريته!..
.. ولعل ضريبة الغُربة له ولــ أمثاله تُدفع باهظة التكاليف لا ندفع نحن.. مِن ينصت إليه مصاريفها.. لكننا -نحن.. مَن نسمع صوت المغترب ولو مِن بعيد وندرك هزات رنات الأنين الصاعد مِن قلب العاشق الولهان المسكين- فــ نحن نُسعد بما يقول أو يكتب علىٰ قصاصات الورق في سفره أو ترحاله..
.. „ رفيقي ” في جلسةٍ هادئة بمفردنا علىٰ شاطئ الدانوب؛ والنهر يتدفق أمامنا بعد آداء صلاة العصر.. ننتظر رفع آذان المغرب لنعود لنصلي ثم نذهب للمرواح..
ونحن -هكذا- نجلس بدء يقول و:" بالقرب مِن المصلىٰ السعودي!.. "..
فــ قاطعته وصححت له مسماه فقلت له :" تقصد المركز الإسلامي!؟.."..
فــ ابتسمَ محلقاً في سماء مدينة „ ليالي الأنس ”.. كما غنت اسمهان لــ فيينا.. ومِن بعدها بسنوات طوال في آحدىٰ مدارس المدينة الرسمية غنت آحداهن.. وهي أبنة آحد مَن يتردد علىٰ مصلىٰ سلفي.. فغنت بلغة العرب في بلاد العم : „ جوته ”؛ ما رددته أسمهان والتي أتت مِن جبل لبنان.. وكأنه يريد أن يلمح بتضارب الأقوال بين المنع مِن سماع الموسيقىٰ وتحريم الغناء وبين إباحته للأطفال في سن ما قبل البلوغ وقبل مبلغ الأنثىٰ مبلغ النساء!.. وبين عورة صوتها وبين دخول الوجه والكفين فيها! ..
.. ثم اردف قائلا: « مِن العجب أن تجد في آحدىٰ شوارع فيينا العاصمة مقهىٰ لشد النرجيلة وسحب دخان الشيشية اسمه ليالي الأنس » ؛
ويكمل القول: « بل الأعجب أن بدروم في عمارة قديمة يسمي نفسه بالمركز الإسلامي التركي »..
ثم شهق شهقةً كأن روحه تريد أن تغادر المكان وليس الجسد.. وقال: « العبرة ليست بالمسمىٰ.. بل العبرة بواقع الحال وما يقدم للناس »..
ثم ابتسم وقال: « خلينا في إللي أحنا بتكلم فيه ! »..
.. أقول.. إن .„ رفيقي ” في ليلةٍ صفىٰ نسيمها؛ وتعطر هواؤها؛ وراقت سماؤها فلا تجد سحابة تحمل أو تكاد تحمل زخات مِن مطر السماء ترغب في إنزاله علىٰ غابات المدينة العتيقة أو أحراش ما حول المدينة.. أراد „ رفيقي ” أن يتحدث عن مِصرِه أو إسكندريته.. فقال بعد أن قذف حصاة في مجرىٰ الدانوب الأزرق كأنه يسعى لإعادة ذكريات أو كأنه يريد كتابة تاريخ بحبر جديد وقلم جديد عن بلد المنشأ.. فقال.. بصوت مبحوح يخرج من أعماق قلب مكلوم وصدر مألوم.. وكأني أرىٰ لمعان دمعة حزينة تلمع في عينيه ولم تسقط بعد ولكنه تمالك نفسه وبدء يتحدث: « انفتحت مِصرُ علىٰ جيرانها ومَن حولها منذ بدء التاريخ المعلوم »..
ثم أنتقل ببصره من نظرته إلىٰ الدانوب الساري إليَّ كي يطمئن أنني استمع إليه.. وكأنه أدرك أنني بالفعل أصغي إلىٰ كلامه.. فبعد برهة تكاد لا تحسب في الزمان أكمل.. فقال: « فــ فتحت -مِصرُ- أبوابها.. بل قل إن شئت ذراعيها.. بل الدقة في الحديث قلبها ».. كأنه يريد أن ينبهني لهذه الجزئية مِن كلامه ..
ثم قال: « فتحت.. صدرها بل قلبها.. فــ منذ كتابة التأريخ المسطور سواء أكان هذا الانفتاح تحت مسمىٰ هجرة الأنبياء إليها أو قدوم رسل السماء لأرضها الأمنة.. بدءً مِن أبي الأنبياء وجد المرسلين الخليل »..
.. ثم ذهب بصره مرة ثانية إلىٰ مجرىٰ الدانوب الأزرق.. كأنه يريد أن يعيد مجرىٰ التاريخ بتسلسل زمني في ذهنه أو سردي في كلامه.. ويشد علىٰ يدي جيداً..
ويقول: « أتذكر جيداً رحلة العائلة المقدسة.. هرباً مِن بطش الحاكم.. وخوفاً مِن قتل الوليد.. »؛ ثم كأنه يريد أن يعيد شريط الأحداث إلىٰ الأذهان..
فقال: « أم الوليد العذراء البتول لم تتجاوز الثالثة عشر ربيعاً من عمرها.. وعلينا أن نذاكر هذه التجربة الفريدة مِن نوعها علىٰ مر التاريخ وكر الأزمان.. فتاةٌ منذ قليل من عمرها عبرت سن الطفولة إلىٰ شط الصبايا.. فهي مازالت صبية كادت تصل إلىٰ مبلغ النساء منذ أيام معدودات أو شهور قمرية محسوبات.. فــ تصير حاملاً بجنين يتحرك في أحشائها الطاهرة.. وعند إكتمال عدتها تضعه بمفردها.. ثم يصدر قرار بشري بقتله.. فيأتي قرار آلهي بحفظه.. فيصبح مكان الحفظ والإيواء مِصر.. » ؛ ثم كأنه يريد أن يتذكر أو يذكرني بأمر هام
فيقول: « فلــ نترك جانباً الجدل الذي لن ينتهي.. أكان ابناً لــ آله بسبب الخطيئة الكبرىٰ الأبدية لأبي البشرية آدم.. أم اصطف بين الآله فصار مثلهم آلهاً.. أم أنه رسول رب العباد ونبي مالك الحياة.. » ؛
ويعلو صوته قليلا: « انظر إلىٰ هذه الحادثة.. فمكان الأمان لالهٍ أو لأبنه أو لرسوله.. مكان الحفظ والإيواء هو مِصر.. » ؛
.. توقف „ رفيقي ” عن الحديث.. وكأنه يريد أن يبكي.. لعل.. لتأثره بهذا الموقف..
ثم تدارك ما يريد أن يقوله: « قصة إبراهيم الخليل شكك في صحتها معالي الدكتور و.. » ؛
فــ أوفقته قبل أن يكمل..: « أي معالي دكتور شكك في صحتها يا دكتور المعالي!؟.. » ؛
فقال: « بلغني أن خريج السربون الدكتور طه.. الدكتور .„ طه حسين ” قال في كتاب له إنه لا توجد آثار تدل علىٰ وجود رجل في التاريخ اسمه إبراهيم »!..
فقلت مسرعاً: « ولكنه تراجع عن هذه المقولة سريعاً!!! » ؛
فرد حازماً: « تراجع فضيلة الدكتور عن مقولته في الطبعة الثانية بعد أن قُدم ضده بلاغاً للنائب العام » ؛
ثم قال مؤكداً: « ثوابت القرآن الكريم.. وما يثبت صحتها مِن آثار مادية أو اكتشافات علمية.. مسألة خطيرة جداً.. والخوض فيها لابد أن يكون من أهل التخصص » ؛..
ثم قال: « كيف نثبت قطعي الثبوت.. وهو كل القرآن.. بظني الثبوت.. وهو ما نتلقفه من علوم! » ؛..
فقلت له: « قاعات الدرس تصلح لخاصةِ أهل العلم.. وليس عرض مثل هذه المسائل علىٰ العامة! » ؛..
.. فسكت.. وكأنه يريد أن يقول شيئاً ما .. لكنه سكت!
ونظر إلىٰ مجرىٰ الدانوب الأزرق يريد أن يكمل ما بدأه.. فقال: « التأريخ المسطور يحدثنا عن هجرات القبائل مِن مناطقهم القاحلة الجافة إلىٰ بر الخير.. ومنبت الزهر وحصاد القمح.. وجني الخضروات والفواكه علىٰ مدار العام » ؛... « إنها مِصر » ؛
ثم التفت في شمخة العالم ببواطن الأمور.. وقال: « أو قدوم كبار الصحابة وصغارهم.. ومِن بعدهم التابعين.. لنشر الدعوة.. ومِن ثم البقاء بين ربوعها » ؛
ثم كأن في حلقه غُصة .. فقال: « أو الانفتاح القَصري تحت مسمىٰ بغيض „ استعمار خارجي ” أو „ غزو عسكري ”.. أو „ عملاء مِن الداخل ” لــ استنزاف خيراتها؛ وتعبيد مع إذلال شعبها الآبي.. أو „ لصوص ” يسرقون آثارها؛ أو إنفتاح مِن نوع آخر تحت مسمىٰ „ التجارة ” ومرور قوافلها المحملة بخيرات البلاد » ؛ ..
.. ثم كأنه تذكر: « أو قوافل الحجاج والمعتمرين مِن اقصىٰ الغرب؛ وذهاب المَحْمَل محملاً بكسوة الكعبة المشرفة عاماً علىٰ نفقة دولة مِصر وعاماً علىٰ نفقة الآخرين » ؛..
ثم قال: « لا تنس أن غالبية الحجيج في طريق العودة يفضلون البقاء في مِصر الخضراء علىٰ أن يكملوا الرحلة إلىٰ بلدانهم الأصلية! » ؛ .
ثم كأنه يستخلص زبد الكلام فيقول: « هي -مِصر- وبامتياز أرض معبر بين الغرب والشرق أو بين الجنوب والشمال أو عكسهما.. خاصةً.. وهي.. -مِصر- تطل برأسها تجاة القارة الأوربية وهي متربعة علىٰ قمة القارة الأفريقية الغنية بكل موارد الحياة الإنسانية.. وتمد قدميها إلىٰ عمق القارة التي هي جزء منها.. وقد صدر ما يشبه القرار السياسي دون القدرة علىٰ تنفيذه مِن قِبل الحكام أو الساسة بأن السودان بمفردها تعتبر سلة غذاء دول الجامعة العربية في ستينات القرن المنصرم.. » ؛
.. ثم بدء وكأنه يتغزل في امرأة يعرفها جيداً فــ
قال: « فــ مِصرُ تغسل شعرها في البحيرة المتوسطية عند بزوغ كل فجر جديد.. ولحظة شروق الشمس من مرقدها.. وعند سماع أول زقزقة العصافير.. وعند النعاس تزيل ما علق مِن أتربة الكد والكفاح مِن جسدها الطاهر.. تارة باغتسالها في البحر الأبيض المتوسط.. وتارة آخرىٰ بغرفات مِن الأحمر.. وتُسقي ضيوفها ومَن يمر علىٰ ترابها الطاهر بـ ماءٍ طهور مِن الرافد الفضي عذب الفرات يروي الظمأن.. نهر النيل؛ منبعه جنة الرضوان.. وقد قيل قديماً أن مصر „ هبة النيل ”.. فصحح المؤرخ العبقري هذه المقوله فكتب يقول أن مصر „ هبة المصريين ” وعلىٰ يمين الصاعد مِن القارة السمراء تجد بحر القلزم فتغسل قدميها صباح مساء.. فهذا ملح أجاج دواء.. وذلك عذب فرات غذاء.. فهي تملك مقومات الحياة ومستلزمات البقاء.. » ؛
وصدق مَن قال -ضاحكاً-: « أصله معداش علىٰ مصر » ؛ .. وأردف: « .. ولعل موقعها الجغرافي فتح شهية الآخرين.. ليس فقط للمرور.. بل.. وإما البقاء للعيش وللاستثمار أو الاستعمار ولنهب الخيرات والآثار.. إلىٰ حين..
.. „ رفيقي ” أحياناً كثيرة تشعر في حديثه عن بلده أنها صبية شابة فتية فــ مِصرُ عنده.. كما يقول: « بين حبات ترابها الصالح دوماً للزراعة ومنتجة لقوت البشر.. وفوق ذرات رمال شواطئها الشاسعة جذبت كل الناس إليها مِن كافة الأطياف فوجد كل فريق منهم رغيفَ عيشِ.. خبزةً مغموسةً بخضروات البلاد ومرقة لحوم الأضاحي فإن شبع حلىٰ فمه بفاكهة الشتاء أو الصيف.. » ؛
ثم أخذ يقهقه بصوت مرتفع إذ تذكر مقوله مفادها: « أن مِصر زمن الفساد الملكي.. كان البواب: سوداني.. والجرسون: إيطالي.. والمصوراتي: يوناني.. الحلاق: لبناني.. الحلواني: سوري.. والترزي: أرمني.. والجزار تركي » ؛ .
فقلت له: « لكن لمّا .. » ؛
فقال لي: « بس.. بس ما تكملش.. وحياة جوز خالتك! » ؛
فرديت عليه: « جوز خالتي.. تعيش إنتَ!.. » ؛ ..
فقال: « طيب وتربة جوز خالتك تسكت ! » ؛..
.. و.. كنا نمزح كثيراً..
.. „ رفيقي ” منذ طفولته وصباه عاصر وعايش حكم „ ناصر العروبة ” و „ جمال مِصر ”.. لم يعش العصر الملكي وإن ولد في لحظة نهاية النهاية.. وهو يذكرني -دائماً- ويلح في حديثه هذا بأن في زمن حكمِ صاحب الكريزما التي لا تقاوم والطاغية علىٰ جميع جوانبه.. سواء في طلته البهية أو حديثه العذب المتدفق أو كلامه بلهجته الإسكندرانية.. في زمنه تم تسجيل كامل „ القرآن الكريم ”[(*)] وهي لم تحدث مِن قبل.. وافتتاح إذاعة القرآن الكريم..
ولكنه أحياناً ما ينبه سامعه بأن في تعليمه درس مساوئ حكم أسرة „ محمد عَلِي ”.. ذٰلك العسكري الألباني..
.. ثم يكمل مباشرة فيقول: « وكنتُ أسمع مِن ابن خالتي „ المحامي ”؛ وكبير „ موظفي المستشفىٰ الأميري ” مساوئ حكم „ الامبراطورية العثمانية ”؛ أو ما كانت تسمىٰ بالــ „ خلافة العثمانية ”.. وأطلق عليها السلطنة العثمانية وحين شببتُ عن الطوق قمتُ بنفسي بدراسة لكل منهما.. كما أنني اهتممت بحال التُرك والعرب إذ أن أمير الشعراء „ أحمد شوقي ” في ابرز قصيدتين نظمهما في عام 1923م؛ وهو عام سقوط الخلافة العثمانية علىٰ يد الذئب الأغبر"أبي التُرك" أتاتُورك الذي خدع أمير الشعراء فتبرأ منه بعد أن أنقلب علىٰ الخلافة والإسلام والحجاب وترجم الأذان للغة التركية.. وقد فوجئت بأن أمير الشعراء أحمد شوقي رثىٰ سقوط الخلافة التركية بقصيدة مطلعها :
عادت أغاني العُرسِ رجعَ نواحِ * ونُعِيتِ بين معالمِ الأفراحِ
ثم يقول: « تخيل معي أعراب القرن الواحد والعشرين- الذين سخر منهم في فيلم ( لورانس العرب )- قال عنهم شوقي » :
نزعوا عن الأعناق خير قلادةٍ * ونضوا عن الأعطاف خير وشاحِ
هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم * موشيةَ بمواهب الفتاحِ
والقصيدة الثانية بعنوان :
الله أكبر كم في الفتحِ من عجبِ * يا خالد التُركِ جدد خالد العربِ
وينبهني بأنها القصيدة التي تبرأ منها شوقي بعد انقلاب أتاتورك علىٰ الخلافة والإسلام..
ثم ينهي الأولىٰ بقوله:
بكت الصلاةُ وتلك فتنةُ عابثٍ * بالشرعِ عربيدِ القضاء وقاحِ
أفتى خزعبلةً وقال ضلالةً * وأتى بكفرِ في البلادِ بواحِ
الحق أولٰى من وليكَ حرمةً * وأحقُ منكَ بنصرةِ وكفاحِ
ثم يختم شوقي رائعته الحزينة الغاضبة :
إن الذين جرىٰ عليهم فقههُ * خُلقوا لفقه كتيبةٍ وسلاحِ
إن حدثوا نطقوا بخُرسِ كتائبٍ * أو خوطبوا سُمعوا بصمِ رماحِ
أأقول من أحيا الجماعة ملحدٌ * وأقول من رد الحقوقَ إباحي؟
أستغفر الأخلاق لستُ بجاحدٍ * من كنتُ أدفعُ دونه وألاحي
***********
ثم ينظر رفيقي إلىٰ أفق بعيد لا أدركه.. وأظنه أيضاً لا يدركه.. فيقول متألماً: « ونتيجة رد فعل سقوطها نشأ تجمع إسلامي.. بل عدة تجمعات إسلامية نتيجة هذه الصدمة التي فاجأت الأمة الإسلامية وليس فقط الأمة المِصرية كبلاد الهند مثلاً.. لتعيد أمجاد الماضي » ؛
.. لاحظتُ ابداً أن .„ رفيقي ” في جملة واحدة يمكنه أن يخلط ورقة تسرد تاريخاً بورقة تبحث وتحلل سياسة ببيتِ شعرٍ وبقصيدةِ غزلٍ.. لم أتمكن كــ راوٍ عنه أن اتقن ما يريد قوله أو يبوح به! ..
.. وهو „ رفيقي ” يحسن يإجادة أن يُقدم لحديثه بمقدمة طويلة كي يقنع السامع بسطره الآخير في نهاية مقولته!
.. أعود لحال مِصر.. فــ في خضم هذه المتناقضات أو قُل وجهات النظر المتباينة بين رافض للنظام الجمهوري الوليد.. وبين مؤيد للملكية التي تربىٰ عليها وفيها.. كوالده -مثلا-.. وبين عضو في تنظيم سري أو جماعة.. وبين مَن يوالي الحاكم ويمسح جوخاً.. تربىٰ „ رفيقي ” وحيناً مِن الدهر لم يكن يهتم بالشأن العام أو يمارس دوراً إيجابياً في الحياة العامة؛ فقد عاش في طفولته وصباه ومقتبل شبابه كبقية أقرانه يتعلم كما يتعلمون وينتقل مِن مرحلة دراسية إلىٰ آخرىٰ كما ينتقلون.. ويسبح في البحيرة المتوسطية بلباس السباحة كما يسبحون. وقد تعجبه صبية أو فتاة مثل „ فاطمة ” القادمة مِن الأقاليم بــ المنديل : „ أبو أويه ” وعاش وفق ما هو متوفر في رغدٍ مِن العيش.. فطلباته مجابةوكان مرفه..
.. ولعل الطيف الصوفي كان مسيطراً بصورة ما علىٰ المناخ العام للحياة الإجتماعية في ذلك الحين.. ذٰلك لسهولته.. وإنعزاله عن الحياة.. وعدم اصطدامه برجال الحكم أو مخاصمة الوسط السياسي.. وهؤلاء الرجال الذين يرقصون حول الشموع المشتعلة.. كما وصفهم : „ رفيقي ” كثيراً .. فـ ينهد حيلهم بعد صلاة العشاء فلا يتبقىٰ لهم مِن قوة جسدية أو فكرية سوىٰ الخلود إلىٰ النوم كي يستعد ليوم عمل جديد..
-*/*-
.. وقد تربىٰ „ رفيقي ” علىٰ رفعة الرأس؛ وعلو الجبهة؛ وشموخ الأنف؛ إلا لبارئه وخالقه.. فبين جوانبه يحمل إنفةً دون كبرياء؛ وغنَى النفس دون التكبر علىٰ الآخرين؛ وثبوت القدم لما يقدم عليه؛ وشيم الأعزاء ونبل الكرماء.. ويغلب علىٰ ظني.. وأنا أروي عنه إنها تربية جدته لأبيه وأكملت التربية أمه.. اضف ما يردده كثيراً بأنه شبَّ في عهد: „ ناصر مِصر ”..
وكان يروي لي أن علىٰ ظهر كراسته المدرسية كتب:
„ أنت سيد في ظل الجمهورية ” ..
-*/*-
.. وبالتأكيد فقد لعبت أمه دوراً جوهرياً في بناء كيانه الفكري وإدراكه الذهني وبالقطع لعبت جدته لأبيه „ الحاجة السيدة ” دوراً مكملاً ولم يكن ثانوياً في تربيته..
في هذا المناخ العام..
.. „ أمه ” رفضت الأعراف المعمول بها في وسط عائلة مِن الطبقة المتوسطة.. محافظة متدينة.. فرفضت أن تأتيها الداية „ أم سماعين ” إلىٰ البيت لتساعدها في عملية التوليد.. بل صممت أن تلد في مستشفىٰ „ دار الخديو إسماعيل ”.. „ مستشفىٰ البلدية لرعاية الأمومة والطفولة ”.. „ مستشفىٰ.. المحافظة للولادة „ دار إسماعيل ” .. „ مستشفىٰ نساء وتوليد ”؛ وعنوانها: „ باب سدرة البراني؛ بحري.. قسم كرموز.. ” بدائرة مينا البصل غرب الاسكندرية
.. ولعل جرأتها في إتخاذ هذا القرار آثار حفيظة نساء العائلة جميعاً.. فهي الأولىٰ بينهن؛ والتي اصرت أن تلد علىٰ يد طبيب متخصص وليس الداية.. جهلت كمبتدئة أو صاحبة خبرة.. كــ : „ أم سماعين ” الداية.. بل وضد رضا رجال العائلة.. وقد فتحت الأبواب المغلقة عُرفاً وتقليداً أمام قريناتها مِن بنات العائلة أو نساء الجيران.. ولعل تحصيلها قدراً جيداً مِن التعليم ساعدها في اتخاذ هذا القرار..

.„ أُم رفيقي ” تروي له -في اقتضاب بالغ- بأن المولدة له كانت امرأة أنجِليزية.. وكان المشرف علىٰ عملية الولادة الطبيعية رجلاً.. لم تصفه ولم يدرِ أكان طبيبا مِصرياً أم أجنبياً.. وعلىٰ وصفها.. أنها كانت -المولدة- شابة في منتصف العقد الثالث مِن عمرها ووصفت جمالها كــ امرأة.. ورقتها في معاملتها كمتخصصة.. ولم تزد عن تلك الكلمات..
.. ولعل هذه الجرأة في اتخاذ هذا القرار مع عدم وجود معارض فعلي -أي والده- يمنع مثل تلك الولادة في مستشفىٰ عام وليس في المنزل يتناسب زمنياً مع الوضع الثقافي العام لزمن الملكية المِصرية.. وهي النظرة الجادة للعلم والأخذ بــ أدواته.. وإن كلَّف خزانة الملكية من الموال الكثير ومن الديون أكثر وأكثر.. .
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] " إذاعة القرآن الكريم مِن القاهرة ".. تأسست في الـ 25 مارس عام 1964م .. مع وضع آليات لتوثيق القرآن الكريم، مِن قِبل وزارة الأوقاف -آنذاك- وكانت البداية تسجيل المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم بصوت القارئ الشيخ / محمود خليل الحصرى -رحمه الله-، لتوزيعها علىٰ المسلمين فى أنحاء العالم الإسلامي، ويعد هذا أول جمع صوتي للقرآن الكريم بعد أول جمع كتابي له فى عهد خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق .. لإذاعة المصحف المرتل الذى تم تسجيله بواسطة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وبعد موافقة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
بدأ إرسال إذاعة القرآن الكريم بمدة إرسال قدرها 14 ساعة يومياً، مِن السادسة حتىٰ الحادية عشرة صباحًا، ومِن الثانية بعد الظهر حتىٰ الحادية عشرة مساءً علىٰ موجتين إحداهما قصيرة والأخرىٰ متوسطة، لتكون أول صوت يقدم القرآن كاملًا بتسلسل السور والآيات كما نزل علىٰ سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-..
والحكاية أصلها أن ثارت حالة مِن الاستياء والغضب في مِصر عام 1961م وعدد مِن الدول العربية والإسلامية، علىٰ خلفية تسرب أعداد كثيرة مِن طبعات للقرآن الكريم بها أخطاء إملائية، ما أدىٰ إلىٰ تدخل الرئيس جمال عبدالناصر بشكل مباشر في هذا الأمر..
فما هي قصة هذه الواقعة؟.
البداية كانت في عام 1961م، عندما اجتاحت مِصر في عصر الرئيس جمال عبدالناصر والعالم الإسلامي، مِن بعض دول الخليج، عدداً مِن الطبعات للقرآن الكريم فيها أخطاء إملائية وتشكيلية، وبالتوازي مع ذلك بدأت تتوافد أصوات مجهولة في الإذاعة العربية تقرأ القرآن الكريم بأخطاء في التلاوة، ما أدىٰ هذا الأمر إلىٰ غضبة كبيرة في مِصر.
قرار ناصر
وقتها، أصدر عبدالناصر قرارًا بإعدام أكثر مِن ألفِ نسخةٍ محرفة، ثم تم تكليف الإذاعة المِصرية بتشكيل لجنة بشأن هذا الأمر، فاقترحت اللجنة أن يتم تسجيل مصحف مرتل وطبع مصحف، فتم تكليف مطبعة "الشمرلي" التي تأسست سنة 1944م بطبعة نسخ جديدة من القرآن.
أما بخصوص التلاوة فاقترحت اللجنة وضع قيمة مالية كبيرة لأي قارئ يريد تسجيل المصحف، علىٰ أن يضع كل قارئ في ظرف مقفول قيمة المبلغ الذي يريده، وفتحت اللجنة كافة المظاريف.. والتفتت إلىٰ مظروف مكتوب فيه: „ لن أتقاضىٰ مليماً واحداً في حال عمل المصحف المرتل ”، وكان هذا القارئ هو: „ محمود خليل الحصري ” -رحمه الله- الذي سجل المصحف المرتل الأول في العالم الإسلامي سنة 1961م.
إذاعة القرآن الكريم
وبعد هذه الواقعة بثلاث سنوات تأسست إذاعة القرآن الكريم في مصر..
ومن أشهر برامج إذاعة القرآن الكريم منذ تأسيسها وحتىٰ يومنا هذا: "بريد الإسلام، ومضة تفسيرية، في ظلال الهدىٰ النبوي، خواطر الشيخ الشعراوي، طلائع الإيمان، دقيقة فقهية، منبر الفكر، مع الأحاديث القدسية، قطوف من حدائق الإيمان، موسوعة الفقه الإسلامى". .
[ (**) ] إعمار الإسكندرية: حدث عمران للإسكندرية في عهد محمد علي، وقد ازدادت عمراناً في عهد إبراهيم وعباس، ثم في عهد سعيد الذي كان يحب الإقامة فيها، ويؤثرها علىٰ عاصمة البلاد، وقد جدد بها مسجد البوصيرى بالميناء الشرقي، وبلغ عدد سكانها في عهده نحو مائه ألف مِن السكان. وازداد عمرانها في عهد إسماعيل.. فاختطَّ فيها شوارع جديده وأحياء جديدة، كــ شارع إبراهيم الممتد مِن مدرسة السبع بنات إلىٰ ترعة المحمودية، وشارع الجمرك، وشارع المحمودية، وفتح ستة شوارع أخرىٰ ممتدة بين سكة باب شرقي والطريق الحربي الذي كان يحيط بالمدينة.. وأنيرت أحياؤها بغاز الاستصباح بواسطة شركة أجنبية وأنشئت بلديتها للاعتناء بتنظيم شوارعها وللقيام بأعمال النظافة والصحة والصيانة فيها، وتم تبليط كثير مِن شوارع الإسكندرية، وعملت المجاري تحت الأرض لتصريف مياه الأمطار وغيرها، وعَهَدَ الخديوي إلىٰ إحدىٰ الشركات الأجنبية توصيل المياه العذبة مِن المحموديه إلىٰ المدينة وتوزيعها بواسطة وابور مياه الإسكندرية.
وعُمِرت جهة الرمل في عهدِه عمراناً كبيراً، واتصلت بالمدينة بخط سكة حديدي، وأنشأ بها الخديوي عدة قصور له ولذويه للإقامة بها في الصيف، واليه يرجع الفضل في جعلها مصيف القطر المِصري، وفتح شارعاً عظيماً يبتدئ من باب رشيد وينتهي إلىٰ حدود الملاحة بزمام (المندرة) ماراً بالسراي الخديوية بالرمل، طوله مِن باب شرقي إلىٰ السراي 400 متر في عرض 12 متراً ومِن السراي إلىٰ الملاحة 4000 متر عرض ثمانية أمتار، ومد طريقاً مِن الملاحة إلىٰ ترعة المحمودية. وأنشأ حديقة النُزْهة علىٰ ترعة المحمودية، وجعلها متنزهاً عاماً، وبنىٰ سراي الحقانية التي أنشئت بها المحكمة المختلطة -ولي حديث عنها في قابل الصفحات-، وأصلح ميناء الإسكندرية، وبلغ عدد سكان المدينة في عهده 212,000 نسمة. ..
.. „ ويُعد مستشفىٰ „ دار إسماعيل„ للولادة والأطفال بمنطقة كرموز؛ غرب الإسكندرية مِن أقدم المستشفيات المتخصصة في الولادة والذي يعود إنشاؤها إلىٰ ما قبل 117 عاماً؛ وذلك في عام 1905م.. وجرىٰ تشغيلها عام 1912م.. وتم بناءها علىٰ مساحة =4= آلاف متراً مربعاً وكان يطلق عليها قديماً اسم : „ مستشفىٰ المحافظة ” .
بيد أنه بتاريخ :" الإثنين: 16. أغسطس 2021م انتاب بعض الأهالي تخوفات مِن أن يكون مصير مستشفىٰ دار إسماعيل هو نفس ما آل إليه مستشفىٰ العجمى الذى تم إغلاقه منذ سبع سنوات ولم يجرِ افتتاحه حتىٰ الآن.".
[ ١ ] الجزء الأول
رواية «... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ... »
الْوَرَقَةُ الرَّابِعُة مَنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ٤ . ] „ مستشفىٰ البلدية لرعاية الأمومة والطفولة ”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏الخميس‏، 01‏ ذو الحجة‏، 1443هــ ~ ‏الخميس‏، 30‏ حزيران‏، 2022م ~ ‏30‏/06‏/2022‏ 03:12:29 م

[ 3 ] الخطوبة

في مجتمعٍ يَسودُه العُرف الذي أخترعه الناس دون سندٍ يذكر؛ فتعارفوا حوله.. وتمسكوا به فتتسيد أعراف المجتمع علىٰ أفراده؛ وإن كانت بالية.. ويحكمه التقليد.. الذي نشأ في اذهان الجدود منذ عقود.. فيصبح قيداً ملزماً في الأعناق.. لا ينفك عنه أحد.. ومَن يرد تغييره يهاجم مِن الآخرين.. فتتحكم في جميع مفاصل هذا المجتمع التقاليد؛ وتعلوه العادة الموروثة مِن الأجداد فتتمسك بها الأحفاد عبر سنوات ويتناقلونها مِن خلال أعوام وكر أيام.. فتصبح العادات والتقاليد والاعراف محكمة في ظل العرش المَلكي المِصري.. الراغب في بقاء كل شئ علىٰ ما هو عليه.. وهذا ديدن كل فاسد ومتسلط وظالم.. دون أن يسأل أحد عن صواب العُرف أو حسن التقليد أو موافقة العادة لشعب عريق.. فيطلق عليه « سِلْوُ [(*)]» بلادنا.. إذ قد تراجعت المؤسستان الدينيَّتان -وإن تعانق الهلال مع الصليب؛ ولكن في وقت الأزمات-.. تراجعا عن دورهما في تحسين شأن البلاد وإصلاح العباد نتيجة حالة ضعف شديد أصابهما فانفصلت تعاليم الأديان عن الحياة المعاشة للــ إنسان.. فانعكس علىٰ الأتباع والمريدين فاصاب الأُولِيتان بحالةٍ مِن الجمود الفكري المقيت مع تمسك بقشور باهتة لـ دين.. وإنتكاسة في فهم صحيح الدين بشتىٰ الأمور.. فتقبل هذا الوضع المزري رجال دينيهما فأصاب الآخريان حالة من الكسل والتهاون في التطبيق.. فسار جُل الشعب خلفهما.. فقدم في خمارة والآخرىٰ بالقرب من بيت دعارة.. إلا قليلاً.. ثم وحدثت إفاقة(!) فنشأت حركات دينية لم يكتمل وعيها الديني أو نضجها السياسي.. كما وجرت مساجلات فكرية ومعارك كلامية في العديد مِن الساحات مِن افراد مِن الأتباع مِن مَن طل إطلالة علىٰ الغرب.. الذي فصل الدين عن الحياة؛ ففصل تعاليم الدين وإرشاداته عن الدولة والحكم والعرش.. خاصةً مَن طلَّ علىٰ فرنسا كــ السيدة „ نُور الهُدىٰ الشعراوي “ في مجال حقوق المرأة وإنسانيتها أو الدكتور „ طه حسين “ في مجال الفكر وتحرره والتعليم ومبادئه والثقافة واصولها.. وايضاً مِن مَن يشبههما في الفكر أو الرأي.. أو اقترب مِن مشربيهما وفكرهما..
.. وهما -الشعراوي وحسين سافرا ومكثا زمناً كافياً وتعلما اللغة الفرنسية وأتقاناها ؛ الأولىٰ في بيت أبيها الباشا „ محمد سطان “ الكائن في محافظة المنيا بــ „ صعيد “ مِصر لأسرة مِن الطبقة العليا.. والثاني المولود في قرية الكيلو قريبة مِن مغاغة إحدىٰ مدن محافظة المنيا في „ الصعيد الأوسط “ المِصري" - فحدث مِن خلال القراءة بالفرنسية والتحدث بها مع أهلها من ذوي الفكر المستنير التأثير الوجداني والشعوري؛ والتفاعل الفكري والثقافي بل وكيفية النظر إلىٰ الأمور كوجهة نظر في الحياة وكيفية معالجة القضايا وإيجاد حلول ناجعة للمسائل..
.. في تلك اللحظة مِن سرد „ رفيقي “ لأحداث ما قبل ميلاده.. لاحظتُ أنه رفع حاجبيه.. كأنه مستغرباً.. وحدق في السماء تكاد تكون لا سقف لها.. وضاقت عليه غرفة الجلوس بما كثر من افكار وشخوص.. وكأنه يتعارك مع أحداث زمان والتي لم يعشها ورجال ونساء لم يعرفهم إلا على صفحات الكتب أو قصاصات الجرائد.. أفكار يرغب في مراجعتها بدقة.. ثم يقول بصوت لم اسمعه جيداً كأنه يتسائل مع نفسه قبل محدثه : " مِن جنوب مِصر حدث تغيير جذري في المنطقة العربية وإن لم تكن الإسلامية بأكملها وما زال قائماً نتيجة أطروحات السيدة نور الهدىٰ وحضرة الدكتور!!؟.. بل حدث تصادم دموي بين دعاة المدنية الحديثة والدولة الوطنية/المدنية وفق وجهة نظر الغرب وبين دعاة السلفية التقليدية والطرق الصوفية والجماعات الرجعية والتي جميعها لم تصقل بصحيح الدين ومتين العلم ونحن نعيش بداية القرن العشرين.. إذ بقيَّ الدين أطروحة لم تنتهي بعد.. بين الفهم الصحيح ومحاولة تجديد الخطاب الديني ومقولات الإمام محمد عبده وتلاميذه.. وبين مَن يشد الجميع إلىٰ قوالب متحجرة صنعت في أزمان سالفة.. يراد صياغتها وفق عصر جديد حديث علمي!
.. في هذا المناخ العام.. ووفقاً للتقليد المتبع.. والعرف السائد والعادة المنتشرة بين العائلات.. ذهبتْ „ أمُ عبده “.. الست „ عديلة “ الأخت غير الشقيقة لأبي „ رفيقي “ ترافقها الحاجة „ السيدة “„ أم أحمد “ لخطبة عروس مِن عائلة سِي „ السيد “.. أصغر البنات وآخر العنقود.. والتي تمت لهما مِن بعيد بصلةِ قرابة.. لأبنها „ الوسطاني “.. ومعهما „ زيارة “.. أي هدية تناسب مقامهما ومقام مَن ذهبنا إليهم..
.. ولأن الست „ عديلة “ معروفة عند العائلة خاصةً وهي صديقة أخت العروس الكبرىٰ الست „ أم حسن “„ أمينة “ تمت الحفاوة بالوفد الزائر مع معرفة مسبقة بسبب الزيارة ودواعيها.. إذ أن عديلة وأمينة يتقاربا في السن وتجمعهما صداقة منذ الطفولة لقرب بيت الحاجة „ السيدة “„ أم أحمد“ أم العريس مِن بيت الحاجة „ السيدة“„ أم محمد “ أم العروسة فلا يفرق بين البيتين سوىٰ شارع راغب باشا.. ولعلهما تزوجا في نفس الوقت..
.. تم الترحيب بالضيفتين.. مع تقديم واجب الضيافة من أكواب الشاي وحلويات من صنع يد عروس المستقبل.. إذا تم توفيق رأسين في الحلال..
.. بيد أن الأخ الأصغر للعروس „ يُوسِف “ ابدىٰ عدم موافقته منذ البداية لمثل هذه الزيجة في الوقت الذي ما زالتا -الأخت والأم- تتحدثان عن مميزات أبنهما -العريس- ومحاسن زوج المستقبل.. وأنه راجل كسيب. ومعاه القرش.. وعلىٰ رأي المثل وكما يقولون „ الراجل ما يعيبهوش إلا جيبه “..وايضاً قامت „ أم حسن “ بتوضيح قدرات أختها العروس في الطبخ والغَرف والعَجْن والخَبْز.. وترتيب البيت وتنظيفه وأنها مدبرة مِن الدرجة الأولىٰ وشاطرة وشملولة ومطيعة.. ولا تقول تلث التلاته[(**)] كام!
.. وهي تلك المواصفات المرغوبة في العروس..
.. الظاهر أن الأخ الصغير لعائلة سي „ السيد “ كانت له كلمة مسموعة وسط إخوته الكبار.. فالأخ الكبير „ أبو إحسان “.. ومِن بعدها -إذ هي البكرية- أطلق عليه „ أبو السيد “ وهو الأسطىٰ „ محمد “.. وهو معلم كبير في ورشة لصناعة الأحذية لصاحبها الخواجه الطلياني.. لم يكن „ محمد “ يتمكن مِن مجاراة أخيه الصغير في الحديث أو المناقشة وكان الأخ الوسطاني „ إبراهيم “ „ أبو جابر “ لا يبدي رأياً ولا يعارض قولاً..
.. أبدىٰ „ يُوسِف “ أعتراضه لأسباب مقنعة عنده لم يُبدها.. ولم يقل أسبابه.. وكأنه اراد أن تقوم أخته الصغرىٰ بخدمة أمه المريضة.. وجرىٰ نقاش حاد بعد إنتهاء الزيارة بين أبناء العائلة -الرجالة-.. وبما أن الأب قد أنتقل إلىٰ جوار ربه.. فبدأت الأم في التنبيه بأن البنت كبرت.. واردفت أنه.. أي „ يُوسِف “ اعترض علىٰ الكثير مِن الخطاب وسوف يفوتها -أخته- قطار الزواج وتدخل في زمرة العوانس.. وأيدت قول الأم أخت العروس الست „ أمينة “.. فقبل أخوها علىٰ مضضٍ وانتهىٰ النقاش.. فقد كانت الأم „ السيدة “ „ أم محمد “ أصيبت بجلطة دماغية أفقدتها الحركة الطبيعية والحديث بكلمات مفهومة..
بعد عدة سنوات من مولد رفيقي وفي جلسة خاصة أخبرته أمه بهذه الحادثة!
.. يكمل „ رفيقي “ الحديث.. وهو يحاول استرجاع شريط أحداث مرت عليه أعوام ومضىٰ منذ أزمان.. فبعد برهة مِن الوقت.. قال لي:" وكان أبي يأتي مع أمه واخته لزيارة العروس فقط في المواسم.. كموسم رجب أو شعبان أو موسم العيد ".. ومِن المتعارف عليه أن زيارة المواسم للعروس أن يحضر لها الخاطب ما يصلح أن يكون مِن مستلزمات البيت.. مستقبلاً.. وكان في شارع راغب باشا محل للأطقم الصينية اسمه : „ أحمد براهيم[(**)] “ كأطقم القهوة والشاي وصحون الطعام بكافة أنواعها سواء أطباق لغَرف الشوربة أو الوجبة الأساسية من لحوم أو أسماك.. ثم أطباق صغيرة للحلويات وكذا أطقم السفرة مِن معالق وسكاكين وشوك.. وكل ما يحتاجه المطبخ وبقية الغُرف مِن نجف وما يشتريه الخاطب أو تجهزه العروس لبيت عُرْسِها..
.. تمت زيارات موسمية مع هدايا متعلقة بالشوار وتجهيزات بيت الزوجية..
ويغلب علىٰ ظن „ رفيقي “ أن فترة الخطوبة لم تتجاوز سنة!
.. وتمت الدخلة بسلام فقد تم حفل الزفاف للأخ الأكبر الشقيق „ محمد “ وأبي „ رفيقي “ وسكنا كل منهما في شقة واحدة لكل منهما غرفتان!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[ ١ ] الجزء الأول
رواية«... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ... »
الْوَرَقَةُ الْثَالِثَةُ مَنْ كُرَاسةِ إِسْكَنْدَرِيَّاتٍ
[ ١ . ٣ . ] الخطوبة وفق العرف والعادة والتقليد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏الإثنين‏، 14‏ ذو القعدة‏، 1443هــ ~ ‏الإثنين‏، 13‏ حزيران‏، 2022م ~ ‏13‏/06‏/2022‏ 05:16:39 م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(*)] أما عن “سلو” فى اللغة العربية: فـ سلو: المصدر سلا.. عن يَسلُو، اسْلُ، سَلْوًا وسُلُوًّا وسُلْوانًا، فهو سالٍ، والمفعول مَسْلُوّ.. فــ سلا سلوًا وسلوانًا: نسيَّه وطابت نفسه بعد فراقه [المعجم الوجيز].
السُلُوًّ : الهِجْرَانُ، النِسْيَانُ ، السُلْوَانُ [المعجم الرائد]
السُّلْوَانُ: ماءٌ كانوا يزعمون أَن العاشق إِذا شربه سَلا عن حبه؛ فــ
السُّلْوَانةُ: إذاً خَرزةٌ كانوا يزعمون أَنه إِذا صُبَّ عليها ماءُ المطر فشربه العاشقُ سَلا.
السُّلاَّءُ : شوكُ النخلة واحدتُهُ سُلاَّءةٌ؛ و
سَلْوى النَّحْلِ : العَسَلُ،
المَسْلاَةُ: ملهاةٌ، عملٌ مسرحيّ ترفيهيّ يتكوَّن من مشاهد تمثيليَّة وأغنيات ورقصات وغيرها.
سَقَيْتَنِي سُلْوانًا [سُلْوَةً:] طَيَّبْبتَ نفْسي.
سَلْوة من العيش: رغدٌ منه يُسلِّي عن الهمّ.
سَلاَهُ أَوْ عَنْهُ: طَابَتْ نَفْسُهُ بَعْدَ فِرَاقِهِ وَغَابَ عَنْهُ ذِكْرُهُ.
سَلاَّهُ عَنْ هُمُومِهِ: جَعَلَهُ يَنْسَاهَا.
وأكاد أميل أن اصل الكلمة عند الكثيرين ممن يستخدموها آتىٰ من تطيِّبب النفس وراحتها.. وهذا يعني أن المعنى المُدرج لدينا بأن السلو هو العُرف!..
لكن المؤلم.. ومازال يستخدمه البعض كلمة :" حق رقبتها ".. بدلا من استخدام عطية .. هدية للزوجة..
والقاعدة الأولى من سلو بلدنا هي أننا يجب أن نسير على سلو بلدنا ولا نخالفه. و«السلو» عمومًا مُجرد إرث سخيف ورثناه من أسلافنا وأجدادنا، وطبقناه بحذافيره، دون تفكير، مرددين جملة «هذا ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا».. فأنت تسمع حكايات مضحكة أحيانًا، ومحزنة أحيانا أخرىٰ، عن عُرف المدن والقرىٰ المختلفة عند الزواج، وعن دفاعهم المستميت عن عُرفهم هذا، رغم غياب منطقيته أو عقلانيته.. «هو دا سلو بلدهم».. ما أرجوه منكم جميعا، أن تُعمِلوا عقولكم في بعض المفاهيم المتعلقة بالعُرف.. والتقاليد والعادات.. .
[(**)] أحياناً يغلب علىٰ رفيقي لهجته التي تربىٰ عليها سنوات طوال مع اقرانه فتَخرج مِن بين شفتيه المسميات كما ينطقها أهل الإسكندرية .

(٢ ) منشأُ إنسان

«... الرجلُ تزوج امرأةً فرنسية.. وعمّها قسيس أثّرَ فيه بعمق ... »
.. نظرية وضعها د. محمد عمارة -الكاتب الإسلامي المتزن- حين أراد تحليل شخصية عميد الأدب العربي؛ والتحدث عن تأثره بفكرة الشك في كتاباته؛ الرجل صاحب مقولة „ التعليم كالماء والهواء.. حق لكل مواطن ” .. الحديث عن الدكتور طه حُسين.. ولعل هناك تقارب ما بين شخصية العميد وجانب من شخصية „ رفيقي ”..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
„ قبيل ميلاد „ رفيقي ”!
.. منذُ اللحظة الأولىٰ في الحياةِ الزوجيّة لــ أمهِ.. حين أنتقلت إلىٰ بيت أبيه.. أرادت أن تتميز عن بقية اقرانها وتختلف عن عامة أترابها.. وهذا سوف يظهر في مسيرتها التربوية/التعليمية والتثقيفية وعملية بناء النفسية والعقلية وفي كيفية تنشأة مَن سيصبح أبنها الوحيد طوال حياتها.. إذ لم تنجب غيره..
وهي قد تحصلت تعليماً متوسطاً في مقتبل عمرها.. وإن تربت في بيئة محافظة تقليدية لا تخرج عن ما هو متعارف عليه عند الطبقة المتوسطة -وقتذاك- ومعمول به في الأوساط المِصرية -آنذاك- مِن أعْراف سائدة.. وتقاليد متجذرة.. وعادات متوارثة.. جميعها متحكمة في المظهر الخارجي لــ الأمة المِصرية.. والتي تتمسك بها في مجتمع برمته وجميع فئاته يرغب في التغيير ويسعىٰ إلىٰ التحسين.. مع مفارقة غريبة وحالة عجيبة إذ تلاحظ أن الناس خاصةً في العاصمة -القاهرة- والمدن الكبرىٰ -الإسكندرية مثالاً- تجدهم يقبلون الأمرَ ونقيضه؛ ويتفهمون الشئ وعكسه؛ ومع أنه مجتمع بجناحيه الإسلامي والمسيحي تعلوه قشرةَ تدين لامعه فتجدها حاضرة في مناسبة السنة الهجرية؛ واحتفالات السنة الميلادية؛ وعيدي الفطر -الصغير- و-الكبير- الأضحىٰ؛ وعيد الميلاد المجيد.. وعيد الفصح والزعف؛ وموسم الربيع: المولد النبوي؛ ومواسم شم النسيم ورجب وشعبان علىٰ مدار العام.. بيد أنك تجد بجوار المصلىٰ خمارة لخواجة يوناني؛ وترىٰ مقابل الكنيسة بار طَلياني؛ وتلمح خلف المعبد بيت دعارة.. والكازينوهات الليلية تأخذ تصريحا رسميا ببيع الخمور ومزاولة المهنة.. فتذهب بائعة الهوىٰ المِصرية أو الأجنبية -الساقطة مِن نظر الجميع في قاعه- للفحص بشكل دوري للطبيب للكشف عليها وإعطائها شهادة صلاحية مزاولة وأنها خالية مِن الأمراض المعدية؛ وكأن الجميع أتفق تضامناً بأن مَن يريد الذهاب إلىٰ معبده أو مسجده أو مصلاه فليذهب.. وأما الآخر فيذهب حيث شاء.. مع وجود طبقة عريضة مِن المنتفعين مِن هذا الفساد أو من ادعياء الإصلاح والصلاح.. وهم ليسوا مِن الساسة أو الطبقة الحاكمة أو القصر بل هم يسيرون مع الرائجة وتجدهم خلف الرابحة.. مع وجود بشكل طافح فساد يزكم الأنوف في الحكم وتشم رائحة كثرة نزوات لملك البلاد وحاكم العباد.. والفسادان -فساد المنتفع وفساد الحاكم- مختلفان.. مع تفشي الخزعبلات والترهات والتخريفات والبدع ورواج عند العامة للمجاذيب وطلب الدعاء منهم.. فتطفو علىٰ السطح نزعة صوفية.. إنعزالية.. إذ أنه إذا ظهر في أرض وعمَّ الفساد بين العباد فتنسحب مِن المشهد العام جماعةٌ مِن القوم يرغبون في السلامة فيهتمون بدواخل أمورهم وخاصية نفوسهم وتربية النشأ داخل البيت دون مرعاة تأثير عناصر المجتمع وتأثره علىٰ الكل الصالح قبل الطالح.. ولقد أبدع صاحب الثلاثية والحاصل علىٰ نوبل للأدب في تشريح أعماق المجتمع المِصري في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.. وكذلك غيره من الأدباء والكتاب والمفكرين الذين غاصوا في أعماق الحارة/الريف المِصري فخرجت لنا روايات تراها علىٰ الشاشة الفضية تفضح المستور وتكشف المحجوب!
.. أمُ „ رفيقي ” تحصلت قسطاً جيداً مِن التعليم.. فــ رغب ناظر مدرستها -سابقاً- أن يعينها عنده معلمة.. فاعترضت العائلة بحجةِ أنهم مِن أسرة ميسورة الحال وفي غنىٰ عن راتبها الشهري.. وسرعان ما سوف تتجوز وتذهب إلىٰ بيت اَلْعَدَل[(1)] ..
وكان يقول أخوها الكبير لمن يريد أن يسمع.. وكأن الكلام لكِ يا جارة : „ البنت -مِن دول- مصيرها تتجوز وتقعد في بيت رجلها.. وتخدمه هو وحماتها.. وبعدين يجي الحَبَل.. والولادة.. والرضاعة.. وتربية العيال.. ولما يكبروا تجوزهم.. وبعدين لما تفضىٰ تروح تعمل حجتها وتشفعها بعمرة مِن مسجد عِيشه.. مرات النبي.. وتزور قبر سيدنا النبي -عليه الصلاه- ” ..
.. وكان يتردد علىٰ مسامع „ رفيقي “ في صغره.. حين كان يرافق جدته لأبيه في درس ما بعد العصر.. فيسمع مِن الشيخ أحمد.. إمام وخطيب مسجد „ الراوي ” ؛ وايضاً في خطبة مسجلة لــ فارس المنابر: „ أن المرأةَ لها ثلاثة خروجات في حياتها الدنيا.. مخرجها مِن رحم أمها.. ساعة ولادتها.. وهذا الأول.. ومخرجها مِن بيت أبيها لبيت زوجها لمَا تتجوز.. وخروجها الأخير إلىٰ قبرها لتدفن فيه ”..
ثم يردف الأخ الكبير -ضاحكاً- سي محمد قوله هذا :" أو تفضل قاعدها في ارابيزنا وتصبح عانس.. ".
.. طفولة أُمِ „ رفيقي “ وسنوات صباها عايشت الساعات الأخيرة قبل القضاء علىٰ حكم المَلكية المِصرية.. فتصبح مِصر جمهورية.. ولم تحدثه البتة عن زمن الملكية والباشوية أو البَكاوات.. ولكنه يتذكر أنها أخبرته -ذات مرة- أن أحد أعمامها أصبح أو كاد يصبح من زمرة الباشوات!
.. كما واكبت -أمه- التغيرات الجذرية في البنية الإجتماعية لــ طبقات الشعب المِصري أولاً ثم تلتها بقية شعوب المنطقة العربية ومِن بعدهما شعوب إسلامية!
ولعل اسماء مثل: مرقص فهمي المحامي وكتابه:" المرأة في الشرق " وما كتبه قاسم أمين : "تحرير المرأة" و "المرأة الجديدة".. ودور السيدة هدىٰ شعراوي.. وصفية زغلول ونبوية موسىٰ.. والحركة النسوية في مهدها وقد قَدِمت إلى مِصر.. وقد قرأت شيئا ما عنهم.. أو تعرفت علىٰ افكارهم.. ولكن هذا لم يكن أبدا موضوعاً للمناقشة مع „ رفيقي ”.. ولعلها تابعت محاولات رفع شأن مِصر.. إذ يقول وزير المعارف -آنذاك- الدكتور طه حُسين: „ أننا قطعة مِن أورُبا ”!.. إذ أنه في كتابه: " مستقبل الثقافة في مِصر، يرسم خطة متكاملة للتعليم في مِصر [(2)] ".
..لعل هذا المناخ العام والخلفية الثقافية والبيئة الجديدة الحاضنة لأفكار جديدة غريبة مستوردة من خارج المنظومة الثقافية والفكرية لمجتمع محافظ تعلوه مسحة دينية اقرب ما تكون في ذلك الزمن إلىٰ الكهنوتية وتفشي الطابع الصوفي الدراويشي مع وجود حوارات ومعارضات من الكُتاب والمثقفين.. قد تكون آثرت في نفسية نساء الطبقة المِتوسطة وعُليّة القوم في باكر الحركة النسوية في مِصر؛ ثم سهل تنقلها إلىٰ بقية الأقطار..
.. وكما يروي لي „ رفيقي “.. سعتْ أمه أن تكون متميزة وليست فقط واحدة في صف الحريم.. وكأن لها نظرة مستقبلية تجمع بين عبق الشرق الأصيل بما يحمل من تراث غني بالمعارف وبين تقدم العلم في الغرب في كافة مجالاته!
.. لم يروِ لي كثيراً „ رفيقي “ عن أسرة أمه.. فقط كلمات قليلة عن خالته أمينة[(3)].. وزوج خاله إبراهيم.. ولعل قضية الميراث التي وصلت إلى أبواب المحاكم أوصدت الباب معهم.. إلا قليلاً.. وأما عائلة أبيه فكانت زوج عمه محمد هي المقربة لقلبه بابنائها وهو أكبرهم سناً.. ويكثر من زيارتها.. أما بقية زوجات الأعمام كان الأبناء كبار عن سنه فكانت تتم زيارات عائلية روتينية في المواسم والأعياد ومناسبات الزواج..
.. نشأ „ رفيقي “ في أسرة ميسورة الحال.. كانت جدته لأبيه تلاعبه وتكرمه وتعلمه.. وأبوه يصرف عليه ويحضر له ألعاباً.. وأمه تدلِلَه وتغذيه..
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ( 1 ) ] تمنيات تسمىٰ وفق التراث "شعبية" أطلقتها عواجيز القرن الماضي لمن تنتظر عريساً؛ ويغلب علىٰ ظني أنها لا تستخدم اليوم!.. وانقرضت من علىٰ ألسنة الكثير.
[ ( 2 ) ] „ مشروع طه حُسين الثقافي والتربوي ”.. أعده عشية توقيع اتفاقية الاستقلال سنة 1936م، وقد أثارت فصوله الأولىٰ لغطاً بدعوتها إلىٰ اتباع الغرب، فكراً وفعلاً، لأن مِصرَ -بحسب العميد- جزءٌ مِن أوروبا في الواقع. بيد أن :"التركيز -فقط- علىٰ دعوته لتغريب مِصر، وتجاهل كل ما قاله عن كونية القيم، ودفاعه عن استقلال مِصر، الفكري والعملي، عن الغرب". يفقد مصداقية القراءة أو النقد [راجع: عدي الزعبي: قاص وصحفي سوري، حاصل علىٰ دكتوراه في فلسفة اللغة من جامعة ويست أنجيليا في لندن. ]!
[ ( 3) ] يظهر بوضوح أن اسماء خالاته وأعمامه وأخواله وعمته مِن الاسماء الإسلامية التقليدية !
[ ١ ] الجزء الأول من رواية «...الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ... »
الورقة الثانية من كراسة إسكندريات
[1 . 2. ] منشأُ إنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏الإثنين‏، 07‏ ذو القعدة‏، 1443هــ ~ ‏الإثنين‏، 06‏ حزيران‏، 2022م ~ ‏06‏/06‏/2022‏ 09:33:41 ص

 

الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ

مدخل
" رُوَايَّةُ الْمَشْرَقِيُّ "
الجزء الأول من رواية : « „ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ ” ».
-*/-*/-
روايةُ المشرقي معالجةٌ أدبيةٌ لقصة حياة شاب سافر من الشرق ليدرس في الغرب.. امتزجَ في قصتِهِ العنصرُ الديني -حسب مكان النشأة- وفقَ فهم الإنسان المعاصر للتدين بعنصرِ العادات؛ واختلط عنصري التربية والتعليم بعنصر التقاليد.. والروايةُ تُظهر كيفية إشباع الإنسان لحاجاته العضوية وكيفية استعطاءه لمظهر مِن مظاهر غرائزه.. وإن أخفىٰ منهما -حاجاته وغرائزه- عن العين المشاهدة أموراً وتجاوز عن أشياءٍ..
وروايةُ هذه الرجل المشرقي حدثت بالفعل مع رفيقي؛ وتفاعلتُ معها أوقات إخبار صاحبها بأحداثها لي، فأخرجتها حسب قدرتي في الكتابة وأمكانياتي في التعبير.. ومؤهلاتي في الإنشاء.. وأردتُ مِن خلالها طرح عدة قضايا هامة تهم الإنسان الغربي والمشرقي -بالصورة النمطية لهما والتي رسخت في الأذهان- علىٰ السواء.. ولا ادعي أنني وفقت في معالجةِ تلك القضايا.. لكنني حاولت! .
**
تنبيه :
اسماء الشخصيات أو الأماكن والأحداث، نحتها خيال الكاتب.. وتطلبتها الحبكة القصصية واستلزمها السرد الدرامي، فإذا صادف واشترك إثنان في الوصف أو النعت والإسم والزمن فهذا مجرد تشابه ليس أكثر .

«... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ... »

[ ١. ] الجزء الأول

« ١ « ازعمُ أن «المشرقي« مروراً بشبه القارة الهندية.. وهي أول موطأ قدم لآدم، أول عاشق للمرأة الموحدة.. والوحيدة.. والتي خلقها بارئها خصيصاً له مِن نفسه.. إذ أنها جزء مِن كيانه وقطعة مِن ذاته ليصلح أن يسكن إليها ويطمئن بجوارها فتهدأ نفسه.. فهي خلقت مِن جنسه ومِن تركيبته الأصلية الآدمية وكينونته الأساسية البشرية وتتفق معه تماماً في الأصل الإنساني كي يَسهل أن يكون بينهما مودة ويصلح أن يتبادلا فيتعاملا معاً بالرحمة.. فيعيشا في حالة من الإنسجام النفسي والهدوء العاطفي والتناغم الوجداني والتقارب الفكري..
.. هذا الإنسان الأول الذي اختلس لها -المرأة الأولىٰ في حياته- بذورَ زهور ورياحين وورود الجِنَّان قبل أن يهبط لأرض العناء والبلاء والتعب والشقاء والاختبار..فغرسها في بستان حواء بحديقتها الأمامية.. لتطل عليها كل صباح فتتعطر بنسيم الرياحين وطيب عطر الورود..
.. تلك المرأة الوحيدة التي تملكت كل خصائص الأنثىٰ وامتلكتها فخبأتها بين رقائقها وثنتها بين حشايا جوانبها لبيحث في طيات معاطفها تلك الأنوثة المغروزة في ثنايها والمدفونة في جوانحها.. فــــ يفوح مِن مفرق شعرها شذا عطرها وتسحره بنظرة عينها الهلابة فتجذبه إلىٰ دفء قلبها وتقربه إلىٰ سمو روحها قبل أن يشعر بحرارة جسدها ودفء بدنها.. ثم فجرتها -أنوثتها- مِن قلب العاشق الكتوم عند كل لمسة منه وبعد كل نظرة شوق لها، وجددت شبابه.. فاسكنته الجنَّة مرتين، جنّة الرضوان وقت رضا الخالق عنهما، وجنّة حنانها وعطفها لحظة رضاها عنه..
.. هذا المشرقي نفسه الذي مر بأرض فارس التي تنازع أهلها في هوية آدم، ثم جزيرة العرب التي استقر بها عرشُ العشق ومُلْكه حين ازدلفت إليه حواء فتعارفا..
.. ازعمُ أن هذا المشرقي يعرف كيف يعشق، بل ازعمُ أنه يملك ابجديات العشق وحروفة وتراكيب جمله وأبيات شعره، ويعرف مراحلَه الخمسين وكيف يمر بها واحدة تلو الآخرىٰ وبيده مفاتيحه وأدواته، فهو.. إذاً.. القادر..
.. وازعمُ أن العربي هو أول مَن كتبَ المعلقات، فلم يجد أفضل من أَستار الكعبة موضعاً، فعلقها على كساءها.. والكعبةُ أول بيت للحب الآلهي، ليمزج حبَ الخالق بأرقىٰ معانيه مع عشق المخلوقة في أسمىٰ لحظات العفة والعفاف.. تلك المخلوقة التي كَمُلت بصنع واجدها بيده ووضع لمساتها الآخيرة علىٰ عيّنه وصارت أنثىٰ برعايته ووفق مشيئته..
.. هذا العربي الذي أبدع تلك المذهبات والتي نقشها بماء الذهب، وهيّ المجموعة الشعرية التي تلي المعلقات في الجودة، لتدلا - المعلقات والمذهبات - علىٰ مدىٰ قدرته الفائقة علىٰ التعبير ليظهر غرضه مِن الغزل والنسيب بشقَّيْه المكشوف والعفيف، ولغة العرب هي اللغة الوحيدة التي وضعت لدرجات الحب ما يربو علىٰ خمسين معناً ووصفا ودرجةً، فالعربي لحظة أن أوقد النار في الحطب لإعداد الطعام أو تحضير الشاي، أعدَّ قصائدَه بجوار أميرة شعره قرباً وطرباً.. أو علىٰ شرارة الحطب بعداً وهجراً، فتنقدح أبيات العشق مِن صميم فؤاده، وتملأ غرف قلبه فتنبعث من فمه وتخرج ممزوجة بعسل فمه.. فهو ملك الصحراء.. وراعي نجوم السماء.. الذي توّج في ليلة قمراء.. أميراً علىٰ عرش قلبها بيدها البيضاء.. ولحظة التتويج انسدلت علىٰ جبينه خصلة مِن جدائل فاتنته الحُمَيراء، فيصفها كما تُظهر الطبيعة مفراداتها كنحاتٍ يملك خيالاً خصبا وبيده أدوات التعبير يشكل وصف أنثاه بدقة متناهية علىٰ جدارية التاريخ.. فيشهد الجميع.. مَن حضر أو مَن غاب.. ومن تزامن معه السماع أو من سيأتي فتنقل له الرواية.. فلها المجد والثناء.. وله تاج الفخر والبهاء .
.. هذا العربي نشر معلقاته لكل مَن قصد البيت العتيق المعمور ليصف "أنثاه" بأرق التعابير وأجزلها؛ واسمى الألفاظ وأبدعها فعلق المذهبات.. ولم يجد أغلىٰ من الذهب مداداً لأحاسسه ووجدانه.. فأذابه بشجونه وصهره علىٰ نار شوقه وحنينه، وزين أستار الكعبة بمعلقات تبارىٰ بها مع فحول الشعر فكان له السؤدد، مستخدماً مادة الطبيعة بمكوناتها الوفيرة وجميع أطياف ألوانها، ليكسي رموز الكون بما يرىٰ لصياغتها كما يريد هو في كلمات ليقطر بالقرب مِن قِرطها المعلق علىٰ أذنها اليسرىٰ القريبة مِن قلبها.. يُقَطِر .. عصارةَ حبه وعشقه ومزيج دموعه وآهاته ونحيبه وشوقه ولوعته، فيلفها كلها في نسيج خياله فترتدي ثوباً قشيباً خيوطه ربطت بقلبه الولهان وجدلت بإحكام بلبه فوق غلالة العفاف، فهو مبدع هذه الصناعة بدون منازع، ومَن قلده مِن بعده أفلس، ومَن قال بعده ليصفها فهو أخرس، فمهنة العشق تحتاج لإتقان لا تقليد كما يردد من لا يفقه قول البغبغان، وسر الإبداع يعود لذلك المزج بين روحانية العاشق المشرقي برهافتها ورقتها وشفافيتها وعلوها وسموها ـ في بيئتها الأصلية ـ ثم تتساقط كسخات الندىٰ بعد طول ليل السهد حين تلامس جمرات الشوق، فلهيبه يُطيّر كلمات العشق التي خُلدت إلىٰ عنان السماء فترددها طيور الفضاء، السر يعود إلىٰ ذلك المزج الذي تم بين روحانية المشرقي الذي هبط من جنّة عدن وبين احتياجات الإنسان الراقية وغرائزه السامية وفق معايير ومقاييس وُضعت منذ آلاف السنين مِن عقلية رجل ذاق طعم الإنفراد فستوحش.. ثم ذاق طعم الأنس والقرب فاستأنس، فرسم في خياله لها صورةً، أبعادها بين الثرىٰ والثريا، وأطرافها بين الكواكب في السماء الصافية وبين المجرات علىٰ تباعدها واتساعها.. مربعاتها ما بين المشرق والمغرب، يضئ المكان وهيج حطب الشوق حين يحضّر في ذاكرته كلماته ليلقيها علىٰ قلبها قبل أذنها حين يقابلها أو حين يرسل رسولاً أميناً بمكتوب، أو يضئ .. قمرُ الليالي.. كراستَه التي امتلئت بمئات من صورها -وفق خياله الخصب- عندما يكتب لها.. ومداد قرطاسه يستمده مِن دموعه التي يخفيها بين حبات الندىٰ الساقطة فوق رمال الصحراء ... فهذا المشرقي .. هو القادر ..
.. اتقنَّ – العربي - العشقَ فلُقبَ بـ «المجنون» ، أبدع في صياغة وجدانه بكلمات تُقرأ فصارت بعد مئات السنين قرآنا يحفظ، يحتاج لمراجعة وشرح وتعليق، وخبرة عملية تراكمية للعاشق القادم.. صفىٰ المنبع فزدان المورد بفرسان الكلمة.. واتسع الحوض لمن لديه الموهبة والقدرة فسعدت نساء العرب والعجم جميعاً .
فيا سعادة المرأة التي خلدها العاشق فأتم ما قام به الخالق في السماء فوصفها لما هبطت علىٰ الأرض.. فبقوله يعيدها كما كانت إلىٰ السماء.. نقية.. بهية .. عفيفة.. صافية.. طاهرة.. شريفة .. راقية، ومَن لم يفهمه سماه المجنون، ومَن غار منه وحسده حبسها في بيت الحريم يُفرج عنها لحظة رغبته الوقتية ولحيظة استنزال شهوته الدنية وحين أصدر أوامر الإعتقال النفسي والإبعاد العقلي ذيّل الفرمان بالسماح لها فقط .. بالإنجاب، وحين يعود إلىٰ ذكوريته في غابته يلزمها إرتداء حزام العفة الذي صنعه الحداد .
.. ازعمُ أن هذا المشرقي يعرف كيف يعشق، بل ازعمُ أنه يملك أدواته، وخير دليل علىٰ صحة الإدعاء والزعم : الترجمات مِن النصوص الفارسية والعربية إلىٰ اللغات الغربية كــ الفرنسية والألمانية..
.. والجانب العملي في ممارسة الحب يُؤخذ في الغرب مِن المعابد الهِندية التي أفسدتها برودة الجندي البريطاني زمن الإحتلال ووقت اغتصاب خيرات الأرض ليرحلها إلىٰ الجزيرة النائية، فــ الهندي المشرقي عبَّر عن حبه لها بأن بنىٰ لها معبداً ليخلد صورتها؛ وجنود الإمبراطورية البريطانية لحالة الجمود العاطفي عندهم والتربية الكهنوتية الخاطئة حطم معبد مشرقي هندي دون أن يفهم مِن صاحبه القصد.. أو يستفسر مِن الباني عن مغزىٰ البناء..
.. ومجموعة الكتب التي صورت لحظة الوصال بعد الشوق وهي آتية أيضاً مِن التقليد الشرقي القديم الذي يعرف باسم " كاما شاسترا " „Kama Shastra“ ، والذي يعود إلىٰ أزمنة سحيقة والبعض يرجعها إلىٰ ما بين 200 و 300 بعد الميلاد العجيب، وأول ترجمة لهذا التقليد للإنجليزية كانت عام 1884م، أو تؤخذ من كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" „The Perfumed Garten“ والمترجم للفرنسية عام 1850م..
.. أذهب إلىٰ أمهات المكتبات وسترىٰ صدق ما زعمت ! .
-*/*-
.. رفيقي .. المشرقي ـ مالك هذه الرواية ـ اكتسب سابق كل الخبرات واستفاد مِن تلك التراكمات، فرسائِلُه إليها ـ السيدة الغربية التي حبها فعشقها ـ رسائله لها كانت دائماً ملونة، ولعل دفء جغرافيا مدينته الساحلية « الْإِسْكَنْدَرِيَّة » وشخصية مؤسسها " .. الأكبر " ومدرسة الإسكندرية الفلسفية ورجالها علىٰ مر العصور والحقب التاريخية التي مرت علىٰ مدينته.. هذا .. وهو الذي عاش بين أهلها الذين إذا غربوا سبحوا في بحيرتهم " البيضاء النقية المتوسطة " مع الحيتان، وحين يرفعوا رؤوسهم يتسلقوا إلىٰ السماء وفي أيديهم حبالهم التي نسجت من خيوط ذهبية جدلتها أشعة الشمس.. فإذا أغتسلت معهم في بحيرتهم وقت الغروب تمسكوا بالحبال الفضية التي هياءها القمر لحظة غياب شمس النهار، وإذا عطشوا يمموا الوجه المليح إلىٰ الجنوب فيأتهم الشاب الفضي -النيل- الأصيل بطميّه ورزقه .
.. جغرافيا مدينته ـ الْإِسْكَنْدَرِيَّة ـ جعلته يُحسن تلوين الشمس في الزاوية العليا مِن رسائلِه لها.. فيعطيها حقها مِن اللون الذهبي كشعرها المنسدل علىٰ ظهرٍ أخذ لونَه مِن المزج الدقيق بين نهار وضّاح وبين شَّفَق قبل الغروب، تلك هيّ المرأة الغربية التي تُوجت بتاجها الذهبي الفريد، ثم يكثر مِن زرقة السماء بدرجتيها الخفيفة والثقيلة، فهو دائماً.. أينما ذهب ينظر عيناها، إنه يلون السماء كأن صفحته لها شرفة.. منها يطل علىٰ سماء دنياه بعينيها، ثم يضع حرفاً أو أكثر من أوائل اسمها، مع أداة التعريف« الـ » في لغته مِن اليمين ولغتها من اليسار « ELLE » ، فيضع نصف „ELLE“ ، فيكتب „EL“ في وسط الشمس الذهبية بأشكال مختلفة .
**
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صفحةٌ مِن كراسة إسكندريات
« الرجل المشرقي »
[ 1. ] الجزء الأول
[ 1 . 1 . ] تمهيد.. مدخل للرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏الإثنين‏، 29‏ شوال‏، 1443هــ ~ ‏الإثنين‏، 30‏ أيار‏، 2022م ~ ‏30‏/05‏/2022‏ 10:08:39 م
-*-*
مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِن ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِــالدِّيَارِ المِصْرَية الْمَحْمِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى-

ج2 2023 >>

ج1 2022 >>

كتاب & مراسلون

أوسترو عرب نيوز

شروط نشر الأعمال الفنية و الأدبية (المؤلفة أو المنقولة) فى أوسترو عرب نيوز :

عدم التعرض إلى (الذات الإلهية) .. الأديان السماوية .. المذاهب الدينية .. القوميات .

عدم التعرض بالسب أو الانتقاص من شخصية خاصة أو اعتبارية  .. بشكل مباشر أو بالتورية حال النقد .

أن لا ينشر فى أي وسيلة إعلامية صادرة بالعربية من النمسا .. خلال فترة النشر بـ أوسترو عرب نيوز .

أن يضمن المؤلف أو المراسل نشره فى النمسا مذيلا بعبارة : منقول عن أوسترو عرب نيوز (كلمة شرف)

ما ينشر في أوسترو عرب نيوز .. يعبر عن رأي كاتبه أو ناقله أو راسله ..
أوسترو عرب نيوز .. لا تتحمل المسئولية الأدبية أو القانونية .

أوسترو عرب نيوز .. تهيب بحضراتكم الإبلاغ عن أي تجاوز .. لعمل الإجراء المناسب على الفور .. بالحذف مع الاعتذار .

أعلى الصفحة


الموقع غير مسئول عن تصحيح الأخطاء الإملائية و النحوية

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رئيس التحرير : أيمن وهدان




أخبار عرب النمسا