22- 35 - مدرسة الحياة
[ 22 ] « المدرسة الحقيقة ... مدرسة الحياة
هناك فصول دراسية في مدرسة الحياة مر بها رفيقنا ، بعض هذه الدروس أو المواقف غالية التكاليف باهظة المصروفات عالية الثمن إذ أنها تستغرق كامل عُمر الإنسان ، بعض هذه الدروس لم يعشها بنفسه فــ لا يذڪرها ؛ فقط سمعها مِن الوالدة.. والسماع يحوله عنده لوجود حقيقي داخله فتحتفظ بهذه الدروس الذاڪرة ويتفاعل معها لحظة اجترارها باعتبارها معلومات أولية معتمدة من جهة موثوق بها ، وبعضها عايشها وعاش معها.. فرح بالقليل منها وتألم لكثيرها ، فهو التلميذ/الطالب الدارس الوحيد في فصل دروسه التعليمية الإلزامية طوال حياته..

[ 23 ] « آثر الدين في التربية » ولعل الدرس الأول منها هو : « „ تسميته ” »
اختارت جدته لأبيه اسماً قبل أن يولد ـ وڪان والده لا يرد لها مطلباً ولا يثني لها أمراً ولا يخالف لها رغبةً ـ ورغبت أمه بتسميته علىٰ اسم أخيها الذي يڪبرها وڪانت تحبه ڪثيراً ، ورضخت أمه لإقتراح جدته ، فهو : „ رفيقي ” أقرب إلىٰ أهل أبيه مِن أهل أمه ڪما صرحت بذلك مراراً ، وأراد مَنْ ڪَوَّنَهُ -سبحانه- في رحمها أن يولد بعد مولد نبي الإسلام : « محمد » ؛ بثلاثة أيام وفق التقويم الذي أقره فبدء به تحديد أعوام الدولة الإسلامية الخليفة الثاني الفاروق عُمر بن الخطاب العدوي.. وفي آخر لحظات مساء يوم المولد العجيب للــ : « سيد المسيح عيسى ابن مريم » ؛ -عليهما الصلاة السلام- ، وبداية يوم جديد وفق تقويم الكنيسة الغربية.. الروم الكاثوليك.. وهڪذا فبدلا مِن أن يسمىٰ بــ: « يوسف » ؛ كما رغبت أمه التي حملته تسعا { كُرْهًا } ..ثم..{ وَضَعَتْهُ كُرْهًا } سُمي بــ الـ : « مصطفىٰ » ؛ ڪما أرادت جدته ..
ويظهر أنه .. „ رفيقي ” تحسس أو شعر بخصوصية المسمىٰ : « المصطفىٰ » ؛.مِن باب الاصطفاء والاجتباء الارتضاء والاحتباء.. فڪان يشعر في ذات نفسه بخصوصية ما .. فقد أخبرني ذات مساء بعد العشاء ونحن نحتسي ڪوبا مِن الشاي في بدايات دراستنا في الغرب أنه ذهب يبحث عن مَن وُلد في هذا الشهر.. فــ أخبرني أن رجل العلم والسلام : „ محمد أنور السادات ” ثالث رئيس لجمهورية مِصر العربية وُلد في يوم مولده ؛ وهذا في بلاد العرب.. مِصر : أم الدنيا.. أما في بلاد الغرب فوُلد : „ بيل كيلنتون ” [(*)] الرئيس الأمريكي الثاني والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية
عاش „ رفيقي ” في مسقط رأسه.. بلده : « „ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةِ ” » ؛ حيث اختلط فيها الدين بالعرف والتقاليد وبالعادات ، والموروث الثقافي أحيانا يمتزج دون غربلته أو تحقيقه أو مراجعته بالوافد الجديد القادم مِن الغرب أو الشرق دون النظر لإختلاف البيئة وبلد المنشأ أو الوسط الذي تواجد فيه هذا القادم الجديد ونشأ فيه سواء عُرف ڪان أو تقليد أو عيد أو احتفال أو ملبس أو طعام ، ومرفأ « „ الْإِسْڪَنْدَرِيَّةُ ” » ترسي عليه سفن ڪل شعوب الأرض ، والشعب المِصري يُشهد له بالتدين منذ قديم الأزل ، وامتزاج الشئ بنقيضه في مناخ واحد وبيئة واحدة بل في شارع واحد ڪخمارة لبيع الخمور المحرمة بالقرب من مسجد ڪمستودع ماسخ للخمور بالقرب من جامع القائد إبراهيم شڪَّل شخصيته ، فلعب الدين وما عليه اليوم أهله مِن موروثات دوراً جوهرياً وحيوياً في ترڪيبته النفسية والمزاجية ، وآثر في وجدانه وشڪّل مشاعره تجاه بعض القضايا دون بعضها ، بيّد أن الوافد القادم الجديد الثقافي منه والفكري أو الإجتماعي والسياسي وإطلاعته الڪثيرة والمتنوعة وطريقة معينة أخذها بالدرس في فهم الدين آثر ڪل هذا في بناء عقلية خاصة به ولأمثاله ، تُلحظ الفارق بين التربية التقليدية المتبعة وما ينتج عنها من نمطية تفڪير رجعية عند الغالبية يشوبها الخوف .. وبين التربية العقلية والإدراڪية الاستيعابية ويعلوها التقارب والمتمثلة بنمطية فهم عصري يقرب الموروث وما علق به من شوائب دون أن ينڪره أو يهمله أو يرفضه بل يغربله أو يصلحه أو كما قيل له :" وضع الخط المستقيم بجوار الخط المعوج " ، فيقترب مما عليه القوم بقدر ما يقترب مِن العلم بأدواته وأدلته القطعية في ذهن إنسان يحترم آدميته فيرتقي بإنسانيته ويقدر تعدد القوىٰ العاقلة بداخله أيما تقدير ، ويؤڪد وجود آدمية غيره وبشرية سواه ، بيد أن إختلاف طريقة التربيتين -التقليدية الموروثة دون غربلتها والحديثة العلمية مع مراعاة الموروث الديني والتاريخي والثقافي- يتأتىٰ عن اختلافهما أحياناً ڪثيرة مصادمات فڪرية وهذا أدنىٰ الصدام.. دون الصدام الدموي أو تصفية الآخر .. كما حدث عندما أرادوا تصفية د. طه حسين معنوياً أو تصفية نجيب محفوظ وجودياً بقتله.. دون فتح حوار للنقاش الهادئ لفهم ما ذهب إليه الطارح لفكرة غريبة في مجتمع محافظ رجعي .
 [ 24 ] « معلمته الأولىٰ درس العصر و سندرة النساء »
حتىٰ الرابعة الإبتدائي في مرحلة دراسته الأولىٰ ڪان تلميذاً.. فقط تلميذاً لا يدرك عن الحياة الڪثير بل قد لا يدري عن الحياة شيئاً إلا مِن خلال جدته لأبيه : « „ معلمته الأولىٰ ” » ؛ فــ دربته ڪيف يسلم علىٰ النساء وڪلهنَّ في عُمْرِ جدته وڪلهنَّ أرامل فقدنَّ الخل والخليل وفقدنَّ العاشق النبيل والمحب القريب، ورفيقي ڪان يحسن تحيتهنَّ والحديث معهنَّ فهو بحق الصغير المدلل .. ولهدوئه ولدماثة خلقه ڪان مقرباً من زميلات جدته في درس العصر بمسجد جامع : « سلطان » بالقرب مِن شارع الراوي ، شارع عائلة أمه وحارة بيت أبيه مِلك جدته وكانت دون اسم يذكر وأطلق عليها : « „ حارة حَلَابُو ” » ؛ - و لا يدرك أحد مَن هو المدعو حلابو- الواقعة بـــ باب عمر باشا ، والمسجد واقع في شارع : « „ عمر بن الخطاب ” » ؛ والدرس يلقيه الشيخ: « „ أحمد ” » ؛ و „ رفيقي ” لا يذكر عنه أي شئٍ ..
وغالباً ما ڪان يغفو „ رفيقي ” لصغر سنه فــ ينام .. فتأخذه القريبة إليه من زميلات جدته وتحمله بحنان لينام في حجرها وينعم بنعومة حرير : « „ الملاءة اللف الْإِسْڪَنْدَرانيَّةِ ” » ؛ ڪغطاء له في الشتاء .. أو « „ الطرحة ” » البيضاء .. غطاء الرأس في فصل الصيف ، وڪلاهما -الملاءة والطرحة- يحملا رائحة خاصة ما زال يذڪرها ليومه هذا ، رائحةٌ تشده شداً من زميلة جدته لآخرىٰ تشبه رائحة عطر جدته الحجازي ، عطر المسك الأصلي .. وهو الذي أعتاد علىٰ شم رائحة النساء الأرامل حين يجذبَنَّه جذباً بالتقبيل والأحضان ـ فهو الأبن الوحيد للعائلة ..
„ رفيقنا ” هو ابن الخال الحنون والذي ڪان -والده- يُڪرم بنات أخته الوحيدة غير الشقيقة ـ عمة رفيقي ـ وڪان يضيِّف أفراد العائلة وبالتالي ڪان يُڪرّم ابنه لڪرم أبيه ـ وإن ڪان أحيانا يلعب مع أبناء أخواله ولعلها مرة أو مرتين في الإسبوع لذلك فهو معتاد علىٰ رائحة فساتين النساء عن قرب ، خاصة أقمشة الحرائر الفاخرة .. وذلك الملمس الناعم الرقيق للـ : « „ ملاءة اللف الحريرية الْإِسْڪَنْدَرَانِيَّةِ ” » ؛ وڪنَّ مِن هوانم المجتمع -وقتذاك ـ فبعولتهن من ڪبار التجار ـ يلبسنَّ الحرير الفاخر ويتفحصهنَّ جودته ويعلمنَّ الردئ منه من الجيد .. ويتعطرنَّ بمخلوط مڪة المڪرمة والمدينة المنورة في أيام العطر الزيتي الأصلي ، وأما غالب هذه الأيام فيشم العطر الأفرنجي الممزوج بالكحول أو ما يسمىٰ بالڪولونيا من محلات : „ داود عدس ” ؛ اليهودي قبل التأميم في العهد الناصري أو معرض : „ بنزايون ” ؛ ، أو : „ عُمر أفندي ” ؛ وڪانت فسحته الوحيدة إلىٰ المسجد حتىٰ ذلك الحين ، وقد ڪانت تڪرمه جدته لأبيه لڪرم وبر والده لها وحفاوته بها وحبه الشديد الظاهر للعيان لها..
.. وهڪذا لعبت وحدانيته في عائلته الصغيرة دوراً بارزاً في نشأته بين نساء العائلة .. وكنَّ جميلات يحملنَّ بشرة ناصعة البياض وآحداهنَّ كانت من جميلات جبل لبنان .. أضف زميلات جدته في مسجد سلطان وكان دائماً على أنفه عطور النساء علىٰ أختلاف الأذواق والمارڪات وعلى ملمس خده أو بنان اصابعه الصغيرة أنواع الحرير الفاخر الهندي أو المصنع محلياً .
وهو الذي ڪان ممنوعاً من اللعب مع أترابه في الشارع الذي يسڪن فيه بأمر أمه وحجتها ڪانت : „ حتىٰ لا يوسخ ملابسه ولا أظفار أو أصابع يده ” .
كَلامٌ مُقْتَضَبٌ .. وبهذه الصورة الموجزة عاش في مجتمع الحريم سواء الجدة لأبيه أو أمه في منزل أبيه ، أو العمة أو الخالة في البيت الڪبير بيت جدته لأمه بشارع الراوي والقريب مِن منزله ، وبالطبع يتعايش مع نساء اعمامه اللآتي يسڪنَّ في نفس منزله وخلاف ذلك فلا عالم آخر له .
وڪان يرغب في زيارة اقرباءه خاصة الأرامل منهنَّ ، ڪـ أرملة خاله : « يوسف » ؛ أو أرمله خاله : « إبراهيم » ؛ وڪان يتردد ڪثيراً علىٰ نساء أعمامه ، ويجلس منشرحاً بينهنَّ ، محسناً الحديث مطولاً في جلسته وڪان متأدباً يحسن الحديث معهنَّ ، وڪأنه يختار أوقات تڪون فيها أعمامه أو أبنائهم في العمل أو غير موجودين ، أو هڪذا كان يحدث .
 [ 25 ] « القميص الحرير »
جرت العادة عند المسلمين أن يُشترىٰ الجديد من الثياب في الأيام الأخيرة من شهر الصيام ويلبسها الڪبير قبل الصغير في وقفة العيد ويؤدي بها صلاته في الجامع الڪبير ، ثم يذهب الصغار بعد أداء الصلاة مع الأب والعم لزيارة الأموات في مقابر العائلة بمنطقة تسمى : « العَمود ” » ؛ لوجود مسلة فرعونية بالقرب من الباب العمومي لمقابر مدينة الْإِسْڪَنْدَريَّةِ القديمة.. لــ يعيِّد الأحياء علىٰ الميت خاصة ڪبار العائلة ڪـ الجد أو العم الڪبير أو الجدة أو مَن سڪن القبور مِن أهلهم المقربين ، ثم يذهب الڪل بعد ذلك ليبارڪوا بالعيد السعيد الأحياء ..
وفي آحدىٰ المرات أشترت الوالدة له قميصاً حريراً أو قماشاً غالياً وفصلته عند الحائك ولبسه ، وذهب لزيارة الخالة : « أم حسن » ، فڪانت الزيارة تبدأ ببيت عائلة الأم لقربه من بيته ، فسألته خالته :
„ أنتَ لابس القميص الحرير الجميل ده لمين !؟ ” ؛
وقد تعلم „ رفيقي ” من مدربه في الأڪاديمية في فيينا الدكتور „Bolz“ إنه لا يوجد اسئلة ساذجة بل توجد أجوبة ساذجة ، الإجابة علمها من حديث أمه معه ، فهو ـ ڪما أخبرني - لا يذڪر الواقعة ولا يذڪر بالتالي القميص الحرير الجديد الفاخر ، ولا لونه غير أن إجابته لخالته ڪانت :
„ ألبس القميص الحرير الجديد لأعجب الستات الحلويين ” ..
هذه رواية الوالدة ، ولا يدري أي : « „ ستات ” » !؟؛
و لا أي : « „ حلويين ” » !؟؛ قصدَ هو أو قصد من لقنه الإجابة ..
وهنا يأتي دور التلقين ؛ ومنذ حين من الزمان صار داخل البيوت والشقة المغلقة التليفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي وسائل تلقين للصغير بدلا من الأم و المعلم!
 [ 26 ] « من سنن الأنبياء .. الختان »
وهذه أيضا رواية الوالدة وإن ڪان يوجد دليل مادي ملموس علىٰ صحة روايتها ، وأحداثها تمت وهو تقريباً حين تجاوز سن الرابعة بقليل وڪأحد أبناء المسلمين يُختن الصبي قبل أن يبلغ أَشُده .. والختان من سنن الأنبياء ڪما عُلم لاحقاً ..
والرواية بڪاملها لا يتذڪر منها شيئا سوىٰ : « „ الدليل ” » المادي القطعي الثبوت علىٰ صحتها .. : « „ صورة العُرس ” » !.

[ 27 ] « ختان... فــ ليلة عُرس » تم الختان عند الطبيب الدكتور : « محمد عبدالوهاب » ؛ في الوَسَعَايَّة بـ: « باب عمر باشا » ؛ بجوار السينما المحروقة ،
فـ الوالدة ڪانت المرأة الأولىٰ في عائلة أبيه أو عائلة الأم والتي تضع جنينها بعد أن اكتمل برحمها طفلاً في مستشفىٰ متخصص لطلبها هذا ، وهي نقلة نوعية في طريقة التفڪير عند نساء مِصر في هذه الفترة الزمنية ـ أوائل الخمسينات مِن القرن الماضي ـ وسلوك المرأة ، ومستشفىٰ : « دار إسماعيل » ؛ بشارع الخديوي ڪانت تحت الرعاية الإنجليزية .
أما طاقم الدڪاترة فڪان مِصري والقابلة المولدة„Midwifery“ إنجليزية وهي مِن الراهبات وبجوارها تعمل مولدَّات مِصريات ، فالولادة تمت بمستشفىٰ تخصصي وليس ڪما تفعل نساء العائلة أمام الداية " القابلة " „Hebamme“، ويرىٰ الجنين نور الحياة علىٰ أيدي القابلات ، وأيضا تم الختان عند الطبيب ، وليس حلاق الحي أو تمرجي المستشفىٰ .. وبعد الختان وإلتئام الجرح تم حفل عُرس حقيقي في الصالة الڪبرىٰ بمسرح المواساة بمحطة الرمل المقابل لميناء الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الشرقي وبجوار تمثال الزعيم : « „ سعد زغلول ” » ، الذي أعطىٰ وجهه للبحر ميمناً جهة الشمال وإلىٰ القارة الأوربية تحديداً ، وحين سأل عمه „ سعدالدين » ؛ أصغر الأعمام سناً وأوسمهم:
„ ليه ياعمي ، سعد زغلول مدِي وشه للبحر؟ ” ،
فرد عليه قائلا :
„ سعد قال لمراته صفية : غطيني يا صفية ، ما فيش فايدة ، أنا عاوز أنام ” »(!!!) .
ومع أنه لم يفهم الإجابة .. لم يعد السؤال ، فلقد أقترب من باب المسرح وحضرت العروس بثوب الزفاف وطرحة العُرس علىٰ رأسها ، وهذه رواية زوجة عمه .
المناصفة في العروس
والطريف أن العروس ڪانت بــ : « المناصفة » ؛ وڪان له فيها : « شريكا » ؛ حقيقيا ، فهي جلست في الوسط وعلىٰ يمينها عريس وعلىٰ يسارها عريس آخر ، وهو „ رفيقي ” لا يتذڪر هذا العُرس ولا المعازيم ولا راقصة البطن المشهورة والتي جاءت لتحيي الحفلة وهو معتاد في الأفراح آنذاك والآن ،
أقصد تأدباً وتحضراً فنانة الرقص الشرقي ، حيث أن بعضهن اليوم مِن حاملات الشهادات الجامعية ، هذا قبل عصر الصحوة الإسلامية وعودة الإسلام المسيس ڪما يدعي البعض ، ولڪنه يذڪر جيداً شريڪه في عروسته فهو ابن عمه „ أحمد ” ؛ الذي يصغره بستة شهور ، والعروس يذڪرها جيداً وإن سعت أن تخفي شيئا ما حين يتقابلا وتطمس معالم العُرس من الذاڪرة في محاولة فاشلة منها وهو يذڪرها دوماً بقوله :
« „ أنتِ كنتِ عروستي! ” » ؛
فالعروس هي الأبنة الكبرىٰ لخالة ابن عمه : « „ نورا ” » ؛ وهي الفتاة الڪبيرة نسبياً ولڪنها المناسبة لهما ، وقد وقف ببدلة العُرس السمراء والقميص الأبيض الزاهي ورابطة العنق وهي بجواره تتأبط يده وعلىٰ رأسها تاج العروس وزهور الدانتيل الجميلة ، مناسبة أرادت أمه أن تخلدها في ذاڪرته من خلال روايتها له ، وتبحث معه عن الصورة بين ڪومة مِن الصور التذڪارية .
 [ 28 ] « المدرسة الفرنساوي »
أراد أبوه أن يلحقه بروضة الأطفال ڪي يُعد بعد ذلك لدخول المدرسة الفرنساوي : « سانت يوسف » الإبتدائية خلف مدرسة : « الصوري » الإبتدائية الحڪومية ليتمڪن مِن الفرنسية ڪلُغة ثم يڪمل تعليمه بڪلية : « سانت مارك » بالرمل متجها بعد التخرج إلىٰ فرنسا ليدرس الحقوق ثم ينخرط في سلك المحاماة ، هذا ما أراده الوالد .
إدارة المدرسة الفرنساوية قبلت أوراقه قبل إتمامه سن الخامسة وصار طفلاً في روضة الأطفال ، وڪانت المدرسات راهبات فرنسيات ـ ڪما تروي أمه له ، وهو لا يذڪر هذه القصة بالمرة ـ
 [ 29 ] « المحمدي .. في مدرسة الراهبات الفرنسيات »
وفي صباح آحدىٰ العطلات -لا يذكر „ رفيقي ” أي مناسبة لهذه العطلة- وعلىٰ مائدة فطور العائلة وأمام جدته لأبيه قام بأداء صلاة قبل تناول الطعام ڪما تعلمها في الروضة الفرنساوية الملحقة بالمدرسة ، صلاة النصارىٰ ، صلاة الشكر ثم قدس نفسه بالتصليب على صدره، وأخذ يترنم بڪلمات فرنسية ، جُمل مما حفظها علىٰ مائدة الراهبات الفرنسيات ليقولها قبل تناول الطعام ولا تفهمها والدة أبيه .. فاشارات بيدها إليه وباصبع الإتهام ووجهت القول لأمه مزمجرة غاضبة قائلة :
„ شوفي .. يا عِيشَه ـ اسم أمه ـ الولد مش راح يعرف عربي ، حيتڪلم فرنساوي ذي ولاد الخواجات ، وبيصلي صلاة النصارىٰ وأحنا في بيت مسلم ، لازم يسيب المدرسة دي!؟ ، وشوفي ڪمان يا عائشة سحنة وشّه عامله ازاي ، ذي عُبَّاد الصليب !؟ ، وأل آيه اسمه الـ مصطفىٰ !! ” .
ودون نقاش يذڪر ـ ڪما أخبرته أمه ـ سمع الوالد ڪلام أمه - جدة الصغير- وترك الغلام الروضة الفرنسية ، وهو غصن أخضر وعود طري لا يفقه مما قالته جدته لأبيه حرفاً أو معنىٰ ، بيد أن أمه تذڪره دوماً بقولها له :
„ إنها غلطة ! ، أن تترك هذه المدرسة ، ربنا يسامح جدتك ، ڪان مستقبلك حيڪون حاجة تانية ” .
هذا القول قد يڪون الخلفية الذهنية في رغبته أن يتمم تعليمه العالي في بلاد الفرنجة ـ ڪرغبة الوالد ـ والتي منعته جدته في طفولته من الإقتراب من أهل الغرب أهل العلم علىٰ ڪامل التراب المِصري .

[ 30 ] « المعلم الأول
معلمه الأول بالمدرسة الإبتدائية الحڪومية يدعىٰ الأستاذ : « „ فؤاد ” » ، الأن لا يذڪر عنه سوىٰ اسمه ..
بلىٰ! ـ
يتذڪر „ رفيقي ” ويڪمل القول ـ بل أذڪرُ أيضا هيئته ، بدلته ، مشيته ، هدوئه ، أدبه الجم ، ثم يعلنها بوضوح تعلمتُ منه الڪثير ، تعلمتُ منه ڪيف أتحدثُ بهدوء ، وأنظرُ إلىٰ عينيّ محدثي ، والعرب تحسن الحديث بضوضاء فنحن نتحدث بصوت عال ڪخطباء الجمع و وعاظ المنابر وزعماء الساحات والميادين ، وجنرالات المقاهي ، وجمهور مباريات ڪرة قدم الدرجة الثالثة ، الأستاذ : « „ فؤاد ” » ڪان مسيحياً ، ولم نكن وقتها ـ عام 1957 تقريباً ـ نفرق بين مسلم ومسيحي في “Ägypt „ إلا إذا وجد الأفرنجي بيننا ، ولم نلحظ ونحن تلاميذ الإبتدائي أي تدخل أو توجيه منه ـ قصد رفيقي الأستاذ فؤاد ـ في طريقة إيماننا ، ولم يتحدث مطلقاً عن السيد المسيح غير أن ما في القلوب من إيمان وڪره وحب وعقيدة يظل في القلوب ، وهذا ما أظهرته الأيام الحوامل من مِصريي المهجر والمهاجر المسلم.
الأستاذ « „ فؤاد ” » ؛ عيَّن „ رفيقي ” أحد قضاة الصف الدراسي ، والدمرداش ـ والذي صار بعد ذلك طبيباً جاء لزيارتنا مرة وعمل بدون آجر في المستشفىٰ „AKH“ الفيّناوي ، والقاضي الثالث لا يذكر اسمه الأن ـ أصبح بعد ذلك ضابطاً في الشرطة ومن رجال الأمن ، وهو مسيحي ..
ثم يخبرني „ رفيقي ” بقوله : « „ ڪانت ثلاثتنا قضاة الصف ، فمن يخطأ من التلاميذ نصدر حڪماً عليه وڪنا نرتدي وشاحاً أخضراً نضعه على الكتف يربط أسفله في وسط مريلة المدرسة الابتدائي الموحدة علامة علىٰ أننا القضاة وڪنا بالطبع نفتخر بهذا ” »
 [ 31 ] « عيسىٰ »
أختار أصدقاء وزملاء والده له أسماً آخراً غير اسمه الحقيقي ، فڪانوا ينادونه في أروقة المحڪمة بـ: « „ عيسىٰ ” » إثناء وجوده معهم في العطلة الصيفية ، إذ تصادف مولده في نفس اليوم الذي يحتفل نصارىٰ الغرب بمولد: « „ السيد المسيح ” ».. ويظن „رفيق ” أن صاحب فڪرة تغيير الاسم من المصطفىٰ إلىٰ عيسىٰ هو الاستاذ : « „ أدولف فرج.. أمين مڪتبة المحڪمة الحقانية ” » ؛ وڪان عمله في العطلة الصيفية هذا عقاباً له ، لأنه لعب مع بنت جيران خالته « „ أم حسن ” » دور „ الطبيب ” ، وقفشهما عم الطفلة „ المريضة الحامل ” علىٰ سطح بيت عائلة أمه وهو يمارس " مهنته "، وحادثة « طبيب التوليد » هذه ڪانت في نهاية مرحلة الإبتدائي وفق نظام وزارة التربية والتعليم القديم .

[ 32 ]« رامون خوسيه » بين حقول جنوب فرنسا لڪروم العصر لصناعة النبيذ سماه العجوز الإسباني الذي ڪان يعمل معه أسما جديدا يناسب أسماء الأسبان ، حين سافر في العطلة الصيفية إلىٰ فرنسا إثناء الدراسة في جامعة حلوان فرع الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، إذ لم يجد فرصة عمل مناسبة له أو غير مناسبة في عاصمة النور : « باريس » ؛ فعلم أن موسم قطف العنب علىٰ وشك القدوم ، وليس أمامه مِن حل سوىٰ أن يقطف العنب في موسمه ليغطي مصاريف الرحلة حيث أن العطلة الصيفية أوشڪت علىٰ الإنتهاء وحتىٰ لا يعود فاشلاً غادر باريس في إتجاه الجنوب ليجمع بعض الفرنڪات ليثبت أمام الوالد الذي ڪان يرفض سفره ، أنه ... رجل ، و: « „ رامون خوسيه ” » ؛ هو الإسم الذي ڪان يستخدمه حين يتعرف علىٰ بنات الغرب وخاصة السيدة ضفيتنا .
 [ 33 ] « السينما »
لعبت الشاشة الفضية „ السينما ” دوراً غير مباشر في تڪوين شخصية „ رفيقي ” » بشڪل تلمسه إن اقتربت منه ، فهي - „ السينما ” رفعت نسبة الخيال والتصورات غير الواقعية في ذهنه وشڪلت بصورة أو آخرىٰ جزءً من شخصيته وفي نفس الوقت أقنعته بوجود حلول سحرية ومخارج من الورطات في ڪل لحظة ووقت ڪما يحدث في معظم الأفلام ، وهناك العديد من الروايات والقصص التي قدمتها الشاشة الفضية أثرت في شخصيته وتقمصها أحيانا ، ثم أوجد لنفسه شخصيته الحالية التي نعرفها ، الوالد اراد له بصورة غير مباشرة أن يعرف العالم الآخر من خلال أفلام هوليوود ، فإذا حصل علىٰ درجة جيدة في مواد الدراسة ڪُفِءَ بالذهاب إلىٰ السينما الحفلة الصباحية ، وحفلة الثالثة بعد الظهر ڪانت ترويحاً عن أمه فڪان يرافقها لترىٰ الفيلم العربي ، وإختلاف نمطية العيش والعرض وطريقة الحياة والحبڪة الدرامية والإخراج والتصوير والإمكانيات المتاحة وقدرات الأبطال في تشخيص أدوارهم بين فيلم الصباح : « „ الغربي ” » الهوليودي وفيلم الثالثة بعد الظهر : « „ العربي ” » والمصنع مِصرياً ، جعلت „ رفيقي ” يميل بالطبع للأفلام الغربية ويجد في نساء الغرب الشقراوات وهذا الدلال وأسلوب الغزل المدرسة العملية لرجل الغد .
 [ 34 ] «قصة عذاب وآلام السيد المسيح عليه السلام»
جرت العادة أن يحضر بمفرده ڪل عام في سينما : « „ فؤاد ” » بشارع الملك فؤاد الأول ، طريق قناة السويس لاحقا في احتفالات شم النسيم وعيد الفصح فيلم : « „ حياة وآلام السيد المسيح ” » برغبة من والده وقناعة منه ، ولعل أحداث الفيلم لعبت دوراً غير مباشر في شخصيته فيما بعد .
 [35 ] « غياب المعلمة الأولىٰ من حياته »
اصطدم بتغيّر أسلوب الحياة حين عاد مِن السينما عصراً في أول أيام عيد الأضحىٰ المبارك فوجد أمه بملابس السواد والحداد وتبڪي وقالت بدموع على خدها وبيدها منديل مبلل بتلك الدموع ..قالت له:
« „ ستك .. ماتت .. يا مصطفىٰ !! ” » ،
لم يدرك معنىٰ الڪلمة وإن سمعها مرات مِن قبل ، وتعطل دور هام ڪانت تقوم معه : « „ سته ” » ؛ وبدون أن يدري أنتقل إلىٰ دور جديد عند خالته : « „ أم حسن ” » ، فڪان يتردد ڪثيراً عليها .
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ) *
[(*)] 19 أغسطس 1946 العمر الأن 76 سنة؛ أركانساس، الولايات المتحدة
ــــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ ـــــ
رواية : «... الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ... »
30 يناير 2023
 |