السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 
النمسـا اليـوممفكـــــرةخدمات & طوارئ النمسـا الوطـنإخترنـا لكإعلانــــــاتحـوار صـريحمجتمــــــعهيئة التحـريرمواقع إلكترونيةتواصـــل
 
 

الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ
ج4

تقديم : د. محمد الرمادى
فيينا / 2024

67 بناء كيانإنسان

.. محاولةٌ بـ جدية تقابل الشباب في كل خطوة يخطوها في طريق بناء كيانه وإيجاد شخصية له وتحسين مستقبله لـ يعتمد على نفسه وليس على ثراء أبيه .. أوتقابله عدة محاولات متكررة .. شاقة .. مرهقة لـ بناء صرح مستقبل شاب في مقتبل حياته العملية .. وتكوين شخصيته المتميزة في مجتمعه أو بيئته المحيطة به أو الوسط الذي يعيش فيه أو المناخ العام الذي حوله .. سواءفي مسقط رأسه أو في بلاد الغربة -الإشكال-قد تبوء جميعها بالفشل الذريع .. فيعيد الكرة تلو الكرة والمرة تلو الآخرى .. أو قد يبوء أكثرها بالفشل حسب درجاته السوداء القاتمة أو يصيبها -جميعها- الإخفاق وفق الظروف المعيشية الصعبة .. ولن تتوقف الحياة أو تنتهي بل لابد من الوقوف على قدمين راسختين قويتين لتسير الحياة .. وما يراه الناس أو يسمعه من تجارب النجاح سواء ظهرت على الشاشة الفضية : إنتاج هوليوود الأمريكية أو مخرجات بوليوود الهندية-وإن كان رفيقي لم يعجبه سوى فيلم واحد حضره مع بنات عمه واسمه سنجام- .. أو وفق الرؤية المِصرية والحبكة الدرامية في افلام الأبيض او الأسود زمن بطولة يوسف بيك وهبي أو أنور وجدي .. ثم مِن بعد ذلك أيام الفيلم الملون أو مسلسلات تلفزيون ماسبيرو .. هذه التجارب الناجحة تأليف راوي قبع فـ مكث في صومعته كـ صاحب نوبل للأدب الذي حاول البعض الغدر به قتلاً لأنه لم يحسن قراءة روايته حين غاص في قاع المجتمع المِصري كـ الثلاثية أو زقاق المدق أو كاتب قصة وحوار وسيناريو يشوبها الخيال أو الوهم .. لكن -المفيد- بل -النافع- التجربة الحقيقية والممارسة الفعلية الناجحة سواء على ارض الوطن أو في بلاد الغربة .. هذه .. تمتاز بصدقها ومعاناتها اليومية واللحظية ويتذوق الشاب حلوها ويتجرع مرها وتستغرق سنوات حتى تبدء بداية الحصول على ثمرتها اليانعة وقطف حلو ما يثمر على شجرتها الوارفة ..
فقد يبدء آحدهم مِن أمام حوض غسيل الصحون المتسخة في آحدى المطاعم الأوروبية أو الأمريكية وبعد زمن قد يطول -كما يقولون بـ ضربة حظ- يملك هذا المطعم الشهير أو يملك الأوتيل الفخم والفندق العتيق .. بدءَهذا الإنسان مِن اسفل البدروم .. ثم تمقعد على كراسي المالك وجلس في غرفة المدير الفعليوتمدد على أريكة حجرة الإدارة ..
أما „ رفيقي “ فـ بدءَ سنوات دراسته الجامعية ووقت الراحة الصيفية للثلاث سنوات الأُول في غسيل صحون مطعم في باريس .. بالقرب من البرج المشهور وهذا في راحة الصيف الأولى حين الإنتقال من العام الجامعي الأول للثاني من دراسته في جامعة حلوان فرع „الْإِسْكَنْدَارِيَّة“ ثم جمع عناقيد العنب للعصر لإخراج أفضل أنواع النبيذ الفرنسي .. مع معلومات موثقة أن النبيذ الأحمر القرميدي الأفضل في العالم يأتي من مِصر „ مزارع جاناكليس“ بالقرب من الإسكندرية القديمة .. والكلمة مركبة من مقطعين „جانا“ وهي ابنه الخواجة الطلياني .. وأهل المنطقة في البحيرة وهي قرية تابعة لمركز أبي المطامير يطلقون عليه „كليس“ فلما رزق بإبنته نادى الأهالي بـ „جاناكليس“ طمعاً في هدايا أو ذبيحة عجل بمناسبة المولد توضع على مائدة طعامهم .. وهناك حي „جاناكليس“بـ رمل الإسكندرية.. ويعتبر أحد الأحياء الراقية ويرجع تاريخ التسمية إلى نيكولا بيراكوس الشهير بـ جاناكليس مالك مزارع العنب ومصانع التقطير الشهيرة لصنع النبيذ .. ومن مشاهير سكان الحي الملكة السابقة فريدة .. زوج الملك فاروق آخر ملوك مِصر .. وهناك دعاية غير موثقة بأن الأفضل يأتي من إيطاليا مزارع „ توسكانا : Toscana“..
ثم في راحة العام الدراسي الثاني مرة آخرى في باريس ؛ لكن الرياح لم تأتي كما تشتهي السفن فغادرها إلى اليونان بتذكرة العودة وعليه .. بل .. يجب أن يعمل ليتحصل على ثمن تذكرة الرجوع لمطار القاهرة .. وكان .. وهذا.. في الراحة الصيفية الثالثة فكان „ رفيقي “ يغسل صحون مطعم راقٍ في آحدى أحياء اثينا السياحية .. وكأنه نسى أو تناسى أنه مازال طالبا لم يتحصل درجته العلمية الجامعية بعد .. فمكث في بدروم غسل صحون سياح أثينا حتى بداية شهر أكتوبر فارسل إليه والده تلغراف كُتبت عليه كلمة واحدة بالفرنسية „ عُد سريعاً “ .. وقد أخذ يقلب التلغراف ظهراً لبطن ليقرأ شيئا يفهمه .. وبعد دقائق كالدهر مرت عليه قرأ كلمة „ la retourne vite“ .. فظن الظنون السوداءكـ : انتقال آحد الوالدين إلى الرفيق الأعلى .. فما كان مِن „ رفيقي “ إلا أنه حزم أمتعته واشترى تذكرة عودة ليجد كل شيئاً على ما يرام بعد رحلة قلق واضطراب نفسي من عاصمة اليونان أثينا إلى عاصمة القطر المِصري قاهرة المعز لدين الله الفاطمي ثم بالقطار السريع إلى محطة مَصر بـ „الْإِسْكَنْدَارِيَّة“ ..
وقد كان „ رفيقي “ يَرسِم على قصة حب ثم زواج مِن بنت صاحبة المطعم ثم يمتلك المطعم فتحطمت أحلام الفتى الطائش بكلمة تلغرافية „ عُد “ فـ عاد كي يكمل سنته الأخيرة في جامعته.
ولعل بناء كيان دراسي علمي تأهيلي في بلاد الغرب من خلال مراجع وكُتب وقراءة وتحضير وامتحانات شفوية أو تحريرة .. كل هذا قديختلف تماماً عن جمع حفنة من الدولارات أو الإسترليني أو الشلنات -العملة النمساوية قبل دخول النمسا الاتحاد الأوربي وتغير عملتها إلى اليورو „ € “ .. ثم بعد جمعها ولا تسال كيف تم الجمع وكيف كانت المعيشة يتم فتح سوبر ماركت في آحدى مدن مِصر أو النمسا أو مطعم صغير : بيتساريا أو فلافل أو محل بقال أو خضروات أو لبيع اللحوم أو محل لبيع الجرائد والسجائر .. وهذا .. يختلف تماماً -بالطبع- عن فتح عيادة طبيب أو صيدلية و مكتب محاماه أو هندسة .. أو التوظف في شركة أو مؤسسة مرموقة .. وقد يساعد عنصر نسائي / رجالي [(وهذا ليس بالضرورة)] المغترب العربي أو الأجنبيسواء تعارفا عن طريق حب حقيقي أو مارسا الرذيلة بلغة القرود أو فقط لتحقيق مصالحومنافع أو زواج شرعي أمام خطيب وإمام مصلى في الدور الأرضي أو للرونق العام في المصلى التابع لمنظمة سعودية أو رسمياً في مكتب الهيئة الإسلامية الرسمية القاطن بالحي السابع الفييناوي والمعترف بها من قِبل الدولة والحكومة.. أو في الكنيسة أو مكتب توثيق الزواج رسميا وفق القوانين المعمول بها بجمهورية النمسا الإتحادية..
وقد اعترف „ رفيقي “ مراراً أنه استعان بـ عنصر نسائي -فقط- مع وضع نصب عينيه ما ظنه حديثا نبوياً قالته له أمه العارفة بمداخل ومخارج نفسية وحيدها والدارسة بعمق شخصيته وميوله ورغباته حين قالت له قبل مغادرة مدينة الساحلية : „ مَن زنى في غربته إرجعه الله خائباً “ ..
استعان „ رفيقي “ بعنصر نسائي في تصحيح لغته الألمانية بما كتبه حين يقدم ورقة بحث للجامعة كي يكون ما كتبه وفق لُغة „ جوته : Johann Wolfgang von Goethe “ ؛الذي كان والده مستشاراً للقيصر .. فـ كان رجلاً متعلماً طموحاً وكثيرَ الأسفار .. وكان لأمه ومِن بعدها أخته أثر بالغ في تكوين شخصيته ومسار حياته .. إذ قال „ جوته “واصفاً أثر عائلته على كيانه: „لقد ورثت عن أبي النظرة العميقة الجادة للحياة .. وورثت عن أمي استمتاعها بالطبيعة النضرة والحياة “.. ولعل هناك تشابه بين „رفيقي“ و„جوته“.. إذ رحل الثاني إلى لايبزج لدراسة الحقوق ولم يكمل.. ثم تأثره في ستراسبورج بالشاعر هردر .. وعزم الأول على السفر إليها ولم يصل إلى مشارفها حتى كتابة هذه السطور .
وقد تميز „ رفيقي “ بحسن مخارج الحروف حين يتكلم لفة „جوته“وصحة النطق بكامل فمه أو ما يطلق عليه „: Art, wie etwas gesprochen wird : AUSSPRACHE “ .. وهذا ساعده كثيراً في دراسته مع هيئة الدكاترة الذين عمل معهم أو شاركهم بحوثه ومناقشاته أو السيد البروفيسور الكبير المشرف على دراسته ورسالته .. أو علاقته مع زملائه في الدراسة أو العمل .. وهذا .. حسن النطق جاء وفقاً لما نبه إليه استاذه في السنة التمهيدية لدراسة اللغة الألمانية ؛ ومِن الطريف أن هذا الأستاذ كان من بولندا.. لم يكن من النمسا أو ألمانيا واستفاد كثيراً من طريقة تعليمه وتدريسه ونطقه .. ولعل إجادة „ رفيقي “لقراءة كتاب الله الكريم وحسن نطقه في لغته الأم العربية ساعدته كثيراً في تعلم ونطق اللُغة الأجنبية الجديدة!
لذا .. أن يحفر „المرء“ .. „الشاب“بأطراف أظافر أصابعه على حجر صوان صَلُودٍ .. صُلْبٍ أَمْلَسِ.. على حائط الحياة .. التاريخ .. ليؤكد ذكراه .. يستغرق هذا الحفر منه عمره كله في رسم حرفٍ واحد ليخلد أنه مرَّمِن هذا المكان.. ولعل „ رفيقي “ مِن هؤلاء .. اراد أن يكون له وجود حقيقي وفاعل في بيئته أو وسطه .. خاصةً إذا نظر للخلف قليلاً وهو مازال في صالة انتظار ركوب الطائرة المقلعة في إتجاه اوروبا .. فـ يرى أهرامات الجيزة شامخة لعنان السماء .. لم يجرح أو يخدش حجر واحد منها على مر الدهور وكر الأزمان وتوالي العصور .. ويرى بـ أم عينيه أبو الهول قابعاً حارساً قطره المِصري ثم ينظر ليرى عظماء مِصر على طول التاريخ القديم والحديث وعرضه .. خاصة الشامح „ناصر “
قرر „رفيقي “السفر إلى أروربا ليكمل تعليمه العالي .. وتقابل ذات يوم قبيل السفر والتحضير له مع زميل دراسة فاقترح عليه أن تكون وجهته أولاً ايطاليا لسهولة الحصول على تأشيرة دخول لها .. وقال له : „ أن في نابولي معارف له سيسهلون له وجوده اياما و أسابيع في إيطاليا مع العمل في مطعم بيتسا ليجمع حفنة من الليرات ثم مغادرتها في أسرع وقت إلى النمسا .. فقد كانت رحلته في بداية صيف 1976 ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
« „رُوَايَّةُالْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ“ »
«مستقبل حياة».

«وَرَقَةٌ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ»كُتبتْ في« فيينا Vienneلحظة إطلالها علىٰالدانوب الأزرق»


66 الطريق إلى أوروبا

خاصةً الطريق إلى Leipzig(*).. ألمانيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنهى „ رفيقي “ تعليمه العالي في جامعة „الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ“ بدرجة „ جيد جداً “؛ وهذا كما رغب ابن خالته الأستاذ حسن ؛ بيد أن درجته لم تؤهله للحصول على مقعد في طاقم التدريس بكليته؛ وهذا يستلزم وقت انتظار لحين تعينه وفق ترتيب القوى العاملة والتقسيم حسب المحافظات ؛ وهذا قد يستغرق بعض الوقت، ولأنه الأبن الوحيد لأبيه الحي الذي لم يتجاوز سن الستين من عمره بعد ؛ فهو معفي من الخدمة العسكرية الإلزامية مؤقتاً ،فـ تجدد شهادة الإعفاء هذه كل سنة إلى حين ينجب والده ذكرا فيدخل تحت خدمة العلم المِصري أو يبلغ الستين فيعفى نهائياً.. والظاهر عندي أنه لم يلتحق بخدمة العلم المِصري .
تحدث„ رفيقي “ بعد أن تخرج من الجامعة مع والده، وهو يملك صداقات متعددة ومعارف كُثر ومجموعة من وجهاء القوم وعلى مستوى إجتماعي عالٍواصحاب مراكز مرموقة ؛ يعني عنده „ كوسه “معتبرة تصلح لحصول ولده على وظيفة لائقة. والظاهر أنها لم تنفعه ؛ والظاهر عندي أنه -„ رفيقي “ - بنى مستقبله بساعده دون تدخل قوى خارجية ؛ لكن يمكن القول أن الكثير وقفوا بجانبه نتيجة نشاطه الإيجابي وحُسن سيره سواء في زمن الدراسة أو إثناء عمله التدريبيأو الفعلي وظهور قدراته الذاتية ورغبته في تحسين مستقبله والارتقاء بتأهيله المهني بدراسات تكميلية ؛ وكما قيل له في البلد الذي تخرج منها علمياً -قصد- في دول الغرب تعتبر الشهادات والدرجة العلمية مقياس نجاح وتقدم وحصول على درجة وظيفية أعلى فقام بـ دراسات عليا تكميلية في مجال تخصصه وقد احسن „ رفيقي “ في هذا المجال فكان دائب التواجد في المؤتمرات العلمية بورقة عمل ومحصلاً على الدراسات التخصصية التكميلية .
أعود للبر المِصري فــ ذات صباح باكر بعد عدة اسابيع من تخرجه من كليته بمسقط رأسه تحدث والده معه قائلا له: „ الأستاذ حسن أبو هيف المحامي بالنقض حيدخل إنتخابات مجلس الشعب هذه الدورة ؛ وهو كان بيتمرن تحت يدي في المحاماه ، وليَّ فضل عليه ؛ واخوة عبداللطيف „ تمساح النيل “.. -هكذا كانت تُكتب عنه الصحف المحلية- .. سيقوم برعاية مصالح الناس تحت الدعاية الأنتخابية لأخيه لينجح في الإنتخابات ، أذهب إنتَبكرة لمكتبه في المنشية.. إنتَ عارفه.. وتستنى „ البطل “وهو راح يسهل لك الحصول على وظيفةبأسرع من البرق في المكان أو الوزارة إللي إنت عاوزها؛ دون انتظارالتعيين عن طريق القوى العاملة ؛ ودون مشاكلك مع أحد!“،
ثم ابتسم والده ابتسامة عريضة وأخبره صراحةً: „ قُل للبطل ؛ إنتَ ابن مين وهو راح يساعدك على طول.. أنا أتكلمت معاه ؛ فهمت كلامي كويس! “.
وقد شعَّ من عيون والد „ رفيقي “بريق دموع لم تنهال من حدقته، فقد علمه أن الرجل لا يبكي وإن تألم وحزن .. وظهر عليه حالة حزن عميق أنه أي „ ولده الوحيد “لم يدخل كلية الحقوق ويتخرج محام كما كان يرغب في طفولته ثم يتمكن بعد ذلك من تولي أمر مكتب محاماه والده.. ولكن „ رفيقي “ اختار القسم العلمي!
أخذ „ رفيقي “ يفكر في ما هي أنسب وزارة في جمهورية رجل العلم والإيمان يصلح أن يتعين فيها؛ وظيفة ذات مركز إجتماعي مرموق وبالطبع دخل مالي جيد ، وتكون مناسبة له خاصةً وهو اتفق على الزواج من فتاة من العائلة: جميلة .. بيضاء .. خفيفة الدم؛ مليحة وبالطبع برضا وموافقة والدته ؛ وقد تكونت علاقة الحب العذري العفيف-هذه- منذ وجوده في بداية الثانوية العامة ؛ اضف ما زاد عليها وإثنائها فقد كان يصادفه في طريق الدراسة الثانوية أو الجامعة من بنات جنس حواء ما يروق له ؛ وعند „ رفيقي “ ما اكثرهن عدداً .
جاء الموعد وكان من أوائل مَن تواجد في مكتب محاماه الأستاذ حسن ؛ وعرفه ساعي المكتب ابن عم „ عباس “؛ وعباس كان فراش المكتب فلما انتقل لرحمة الله تولى الفراشة ابنه ؛ وكانوا ينادونه أيضا بـ „عباس “كوالده.. سأله „ رفيقي “: " متى سيأتي البطل النهاردة!؟" ،
فرد عليه بلا مبالاه : " أي بطل!؟ "،
فحكى له ما قاله والده له؛ فرد :" لا اعرف؛ معرفش .. لا أدري! ، خُش استنى جوا ".
ثم قال له :" تحب تأكل حاجه ؛ يعني تفطر كبده!؟ ".
فلم يرد „ رفيقي “ بجواب نفي أو إيجاب . فذهب ابن عم „ عباس “لمكان ما ؛ وأحضر كوب شاي سادة .
ودقائق معدودة ؛ وجاء بعض الشباب وكانوا تقريباً في سنه ، وسألوا ابن عم „ عباس “نفس السؤال فكان الرد عدم معرفته عن أي شئ.
وقُدمت لنا جميعاً ساندويشات كبده.. لا يدري „ رفيقي “ أكانت فطور اليوم يعني : طازجة ؛ أم ما تبقى مِن عشاء أمس!
ثم تقريباً نصف ساعة انتظار وجاء „ البطل “؛ „ تمساح النيل “!
فسلم ؛ وسأل كل واحد أمام الآخرين : إنتَ.. إنتَ عاوز آيه بالضبط!؟
فرد كل شاب بما يريده أو يرغبه أو مشكلته!
فآحدهم قال :" مشكلتي في الجيش البحري ".
وآخر قال :" حكايتي في الشركة إللي بأشتغل فيها ". .. وهكذا ..
وتكلم „ رفيقي “ فرد „ البطل “ مسرعاً قبل أن يكمل طلبه أو يشرحه !
فـ قال لـ „ رفيقي “ : إنتَ ابن الأســـــتاذ.. " ، ولم يكمل ؛ وقال مسرعاً :" طيب يالا بينا!".
تحدث „ رفيقي “ معي قائلا: " ووضع يده -تحبباً- الثقيلة على كتفي عند نزولنا إلى اسفل ؛ فهو كان عملاق .. قوي البنية ! عريض الصدر ، وقال لـ „ رفيقي “: " إنت يا بطل خليك جنبي في العربية ؛ ده إنتَ ابن العزيز الغالي ، والتوصية جايه من فوق قوي .. ده حتى أخويا الأستاذ عبدالحي موصي عليك بالجامد.. ده إنــتَ بقى .. الظاهر .. إنك مهم قوي باين عليك كده!".
نزلنا جميعا.. وكنا خمسة شباب؛ فإذا عربية الأستاذ حسن „ شِيفُرليه “ الفاخرة في إنتظارنا.. وكان المقعد الأمامي كــكنبة تسع لثلاث أشخاص بالسائق كان „ رفيقي “ بجوار البطل مباشرة . والمقعد الخلفي للثلاثة الباقين من الشباب أصحاب المشاكل أو الطلبات أو الرغبات.
ركبنا جميعاً وحدد „ البطل “مسيرنا .. فذهبنافي بداية قضاء المصالح إلى وحدة عسكرية بحرية برأس التين؛ وكان الكاب العسكري البحري للـ „بطل “موضوع على تابلوه السيارة من الأمام يراه كل من يقترب منا ، ودخلنا جميعاً الوحدة العسكرية البحرية دون أدنى تفتيش..أو رؤية أوراق ثبوتية مع تعظيم سلام لكن بدون المارش العسكري ، وانتهت أول مصلحة كما أراد الشاب صاحبها ، ونزل وشكر „البطل “ شكراً جزيلاًوكثير مِن الدعوات كما قالت له أمه وأبوه ،
يكمل „رفيقي “:" ثم ذهبنا إلى شركة..!" ؛ لا يذكر „ رفيقي “ الأن اسمها ..
وهكذا كل مَن تنتهي مصلحته ينزل من العربية الشِيفُرليه مع جزيل الشكر وخالص الدعوات من أهل الشاب للـ „البطل “ .
لم يتبق سوى „ رفيقي “ في سيارة الأستاذ حسن الشِيفورليه ..
ثم سألني البطل„تمساح النيل “: " وإنت تحب تروح أي وزارة تشتغل فيها يا بطل ".
فقد تعرف على قصة حياة „ رفيقي “ من الإبتدائي حتى الجامعة وأنه يمارس الرياضة منذ نعومة أظفاره وهو الأن يحمل الحزام البني في الجودوو .
فـ بلغني „ رفيقي “ أنه قال له :" أريد وزارة الرياضة والشباب ومقرها أما سينما ريو".
قال „ رفيقي “ لي : " ذهبتُ مع „البطل “وكلي أمل أن أحصل وظيفة كما أتمنى في„الْإِسْكَنْدَرِيَّة“مسقط رأسي وليس في الأقاليم ؛ كي اتمكن من شبكة وخطوبة فتاة أحلامي "..
ثم يقول „ رفيقي “ :"ركبنا اسانسير العمارة الفاخرة وتقابلنا مع مدير الفرع.. الذي رحب بنا ترحيباً لائقاً واحضر عصير ليمون طازج ؛ وقال بملئ الفم : " اعتبر يا كابتن خلاص إن ابننا تم تعينه عندنا في الوزارة .. ده شرف كبير لينا! ".وأخذ مني جميع البيانات المطلوبة لخطاب التعيين .
يقول „ رفيقي “ :" وقد أخبرت مدير فرع „الْإِسْكَنْدَرِيَّة“أنني اجيد رياضة الجودو وحاصل على الحزام البني ما قبل الأسود ؛ كما ودرجة شهادتي العلمية „جيد جداً “ .
فقال :" مناسب جداً " ؛ ثم أدار وجهه إلى „البطل “ قائلاً له :" أحنا في الوزارة محتاجين أمثال هذا الشاب ؛ فهو ظاهر عليه أنه طموح وبتاع شُغل ؛ ويا كابتن يكفي أنه جاي من طرفكم !".
والطريف أنه وحتى كتابة هذه السطور كما أخبرني „رفيقي “لم يأت بعد خطاب التعيين؛ كما لا يدري إذا كان الاستاذ حسن أبو هيف نجح في هذه الدورة من إنتخابات مجلس الشعب أم لا!
وإشكال „رفيقي “ كان منصباً على المقابلة الأولى -ذات الانطباع السيئ- في فرع مؤسسته العلمية بدمنهور ومدير هذا الفرع يتعاطى شيشة الصباح الباكر ليمحي غشاوة ليل ويعدل مزاج نهار وهو يرتدي جلبابا رصاصيا ويعبث بأصابع يده اليمنى بين ثنايا اصابع قدمه الحافي .. هذه المقابلة جعلته بالفعل يقرر مغادرة البر المِصري ويترك القُطر المِصري ليكمل تعليمه ليس في فرنسا بل في المانيا.
وقلتُ في قرار نفسي وداخلها :" أن „رفيقي “قد يكون أحسن القرار أو أنه اساء اتخاذه ؛ المهم أنه بدء في اتخاذ اجراءات تحضير نفسه للسفر إلى أوروبا ؛ خاصة ألمانيا إلى مدينة بعينها ، ووفق المعلومات التي توفرت عنده كما أخبرني قرر الذهاب والسفر إلى„Leipzig “ .
لكن لماذا بالفعل قرر الرحلة إلى هذه المدينة بالذات!؟.
أخبرني „رفيقي “ أنه سمع من أحد اساتذته صغار السن وحديثي التخرج والعودة من بعثته أنه درس هناك وأنه استحسن الدراسة فيها .
وقال مدرسه الشاب له :" أن كلمة „Leipzig “تعني «المستعمرة التي توجد فيها أشجار الزيزفون». ؛ فهي كلمه مشتقة من ليبسك كلمة سلافية: „ Lipsk “ ؛ وهي لا تبعد كثيراً عن برلين إذ تقع على بُعد 150 كلم جنوبها " ؛ وهي :" لايبزيغ أو لَيْبِسِك.. لَيبتسِك، Leipzig بالألمانية هي ثاني أكبر مدن ولاية ساكسونيافي شرق ألمانيا" ؛ وهي تقع في ألمانيا الشرقية -آنذاك- بعد إنتهاء الحرب الكونية الثانية وتقسيم دولة ألمانيا المنهزمة لشرقية وغربية ؛ وبها :" أحد أقدم الجامعات الألمانية والعديد من الكليات والمعاهد العليا. "..ولعل تكاليف المعيشة بها أرخص من الغربية .
والطريف أن„ رفيقي “ لم يبحث كثيراً عنها ويحصل معلومات كافية وعن الجامعة بهاأو الكلية التي سوف يدرس فيها كما تمنى وكيفية الدراسة والقبول والإلتحاق في جامعاتها ؛ وكيف سيعادل درجته العلمية المِصرية بدرجة التعليم العالي في ألمانيا .. فهل هذه سذاجة مَن ليس له خبرة عملية في الحياة أم أنها بساطة طالب يريد فقط الخروج ومغادر القطر المِصري إذ لم يعجبه صورة وشكل مديره في مؤسسته العلمية „ أبو شيشة “؛ والظاهر أن خطاب التعيين في الوزارة التي يريدها لم ولن يأتي .
إذاً .. قرر „ رفيقي “ السفر إلى أوروبا ؛ المانيا ؛ لَيبتسِك !
ذهب في اليوم التالي إلى قنصلية دولة ألمانيا بـ„الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ“ وطلب أخذ تأشيرة دخول أراضيها .
فسأله الموظف المختص : " ولماذا تريد السفر إلى ألمانيا!؟ ".
فرد „ رفيقي “ : بإبتسامة عريضة ملؤها التفاؤل والأمل : " للدراسة .. لتحضير الدكتوراة !".
وظن „رفيقي “ أن المانيا شعبا وحكومة سترحب به وتفتح ذراعيها لقدومه !
فسألة الموظف : " هل تم قبولك في آحدى جامعات ألمانيا !؟ ".
فقال „رفيقي “ : لأ .. لسه .. أنا رايح أدرس هناك !".
فقال له بهدوء :" معك موافقة من آحدى الجامعات لتتمكن من الدراسة في كلية ما!؟.".
فقال„رفيقي “ : " لأ .. أنا لسه راح اروح!".
فرد الموظف بأدب جم وهدوء بالغ :" لن استطيع أعطاءك تأشيرة دخول الىألمانيا إلا إذ كان معك بالفعل موافقة ؛ يعني تسجيل من آحدى الكليات بالدراسة فيها !".
فرد „رفيقي “ : " معاييش .. لسه !"
فقال ببرود أعصاب :" إذا لا تأشيرة لكَ!".
فقال „رفيقي “ : " طيب .. والحل آيه دلوقت !؟".
فرد الموظف : " إما أن يكون معك تسجيل .. موافقة بالإلتحاق بآحدى الجامعات ؛ أو معك مكتوب ؛ يعني خطاب من شركة معتمدة في مِصر وترغب الشركة في استحضار معدات وآلات للمصنع أو الشركة من ألمانيا!".
فقال „رفيقي “ : " معاييش حاجة من دُول!".
فرد الموظف المختص : إذاً .. أنا متأسف ؛ ما فيش تأشيرة دخول !".
فقال„رفيقي “له : " أنا سافرت عدة مرات لفرنسا دون تعقيدات إدارية ".
فقال: " أحنا في ألمانيا ؛ ومحناش في فرنسا ، وبعد حادثة ميونخ واحتجاز أعضاء من تنظيم إرهابي فلسطيني يحمل السلاح لأعضاء فريق رياضي من دولة إسرائيل ؛ السلطات الألمانية تعطي تأشيرة دخول حسب ما أخبرتك به : إما طالب مسجل بآحدى الكليات بالفعل ؛ أو مندوب شركة أو مصنع معاك خطاب معتمد لأستحضار معدات أو آلات من ألمانيا .. غير كده ما فيش تأشيرة دخول ! .. مع السلامة وبالتوفيق !".
صُدم „رفيقي “ مما قاله موظف الاستقبال في القنصلية الألمانية بـ„الْإِسْكَنْدَرِيَّة“ ! .. خرج منها وهو يجر ساقيه جراً وتكاد لا تستطيع قدماه أن تحملاه ؛ وشعر بألم في جميع أجزاء جسده يعتصره !.. وضيق في التنفس وإنقباض في قلبه ؛وكأن أبواب السماوات السبع كلها أُغلقت في وجه الشاب الطموح ؛ وأطفأت الشمس أنوارها وسرحت أشاعتها خلف البحيرة المتوسطية وهو في وسط النهار كما ظن أن القمر هذه الليلة قرر أن يخبو ضوءه فلن يبزغ لا بدرا ولا هلالاً ؛ كما وأن نجوم السماء ستختفي ؛ وأغلقت منافذ الأرض ومخارجها فاطبقت الجبال على صدره وكتمت أنفاسه فقد تحطمت أحلامه الوردية بمستقبل زاهر باهر بحصوله على درجة الدكتوراه من الغرب .. ألمانيا.. تحطمت على صخرة الواقع المر الذي لا يستطيع أن يغيره ؛ فهو لا يستطيع أن يتعامل مع مديره „أبو شيشة “في دمنهور بهذا الوصف الذي قاله لي ، ومحاولة البطل „تمساح النيل “وتعينه في وزارة الشبابلم تأتي ثمارها بعد ؛ وكأن والده كان يعلم أنه لنيتحقق شئ من زيارته مع البطل لذلك الفرع من الوزارة ؛وأنها فقط مستلزمات الدعاية الإنتخابية ؛ والإشكال الأعظم كأن„رفيقي “ لا يطيق البقاء في البر المِصري.. فقد سيطرت على ذهنه تماما فكرة مغادرة البلاد ؛ وبالطبع لا يريد مغادرة القطر المِصري إلى فرنسا ليغسل صحون السكارى أو يشطف كؤوس النبيذ الأحمر أو يقشر شوال بطاطس ثم يقوم بتحضير وجبة جيدة من الكُسْكُوس المغربي في طشت غسيل بـ مطعم عربي .. جزائري ؛ وفرنسا لا تناسبه الأن أو اليونان ؛ فقد كانت فرنسا فترة قضاء عطلته الصيفية كابناء الأمراء ولكن على طريقة الشاب المِصري المتمرد على كل شئ فلا يريد أن يخدم في مطعم بعاصمة النور أو في مزارع جمع ثمار العنب سواء للعصر أو للأكل!في الجنوب الفرنسي وليس على الريفيرا ؛.
ذهب „رفيقي “ إلى والده وأخبره بالخبر المفجع !
فرد عليه :" انتظر قليلا .. خليني أشوف ممكن نعمل آيه في حكايتك دي!".
بعد يومين تقريبا جاء „رفيقي “ قائلا لوالده :" تعرف حد يعطيني خطاب رسمي من شركته لأستحضار آلات أو معدات لمصنعه !؟ ".
لم يرد والده !
وفي آحدى الأمسيات وهو جالساً مع رفاق والده في المكتب ؛ قال آحدهم لـ „رفيقي “:" إنت عاوز تسافر ألمانيا ؛ موش كده !؟".
فرد „رفيقي “ : " نعم .. آيوه .. طبعاً !".
فقال له : " أذهب إلى جارة لها قريبة منها .. سافر للنمسا -مثلاً-وهي عندها حدود مع المانيا ؛ ومنها تأخذ القطار .. نصف ساعة زمن وتدخل ألمانيا ، وتبقى خلاص يا سيدي إنتَ جوا .. في المانيا ؛ ولا تزعل نفسك ولا هم يحزنون!
وتوقف الجميع لحيظات عن الحديث بعد هذه العرض البسيط بل توقف الجميع عن التفكير وبحلق الكل في فراغ .. في هواء الصالة الكبرى في مكتب والده التي عباءها دخان سجائر ماركة عالمية : مارلبورو أو السيجار الفاخر الكوبي .. „ رفيقي “لا يتحمل رائحة الدخان ؛ خاصة وأنهم بدءوا يتحدثون عن أحوال الناس وأخبار البلد والحالة السياسية والإجتماعية وغلو الأسعار وتحليل لـ مقال محمد حسنين هيكل :بـ „صراحة “.!
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل رقم: [ 66 ].«الطريق إلى أوروبا»..
(*)Institut für Sportmedizin & Prävention : Studium an der Universität Leipzig
« وَرَقَةٌ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ»كُتبتْ في« فيينا Vienne لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق» .
الأربعاء : 27 ربيع الآخرة 1446 هـ ~ 30 أكتوبر 2024 م


65 مستقبل حياة
[(٤ )] اَلْـجُزْءُ الرَّابِعُ .. فصل رقم: [65 ]

منذ اللحظة الأولى في حياة „ رفيقي “ أرادت أمه أن تعتمد على الجانب العلمي في جميع شؤون حياتها.. وبالتالي في كافة شؤون أسرتها الصغيرة.. وعلى رأس هذه الأسرة : الوليد الجديد.. فـ حين استهل صارخاً معلناً وجوده.. فـ قد وضعته ولادةً في مستشفى دار إسماعيل.. نهاية زمن الملكية المِصرية.. رغم تعارض جميع عجائز سيدات العائلة.. بقولهن صراحة وعالياً في وجهها وأمام أختها الكبرى أمينة : „ يا عيب الشوم عليكِ “..يعني هذا التصرف "عيب ومرفوض".. ولم يحدث من قبل أن ولدت سيدة من عائلة الزوج -والد رفيقي- أو الزوجة -أم رفيقي- في مستشفى عام.. كما يقولون: الرايح والجاي يتفرج عليها.. وهذا في مفهوم عواجيز سيدات العائلتين..
والشوم لفظ شامي مستعار للدلالة على قبح الأفعال أو الأقوال.. وحكاية المَثل الشعبي السوري أو اللبناني الذي تطلقه الكثير من النساء يعود لرواية فحواها.. أن الشوم : نوع من انواع الورود ذات المنظر الجميل جداً.. بيد أنها تعيش في الصحراء..
فـ:" يحكى أن بدوية كانت تتمشى مع صديقاتها في الصحراء.. وما لبثت أن لفتت نظرها وردةً جميلة فأخذت تتأملها وتمسك بها.. وفي هذا الوقت تفاجأت أن ثوبها الأبيض تلطخ بالألوان.. دون أن تدري.. فـ حاولت الفتاة تنظيف ثوبها لكنها فشلت.. وقالت: "يا عيب الشوم".. لأن هذه الوردة التي يطلق العامّة عليها اسم "الشوم" كانت جميلة بالفعل ولكن عيبها انها تفرز مادةً ملونة.. وهذا معنى يا عيب الشوم. "..
غير أنه يوجد.. تفسير آخر لهذا المثل الشعبي: " يا عيب الشوم".. فقد ورد أن الشوم هو تخفيف لكلمة الشؤم.. وهو الشر وعكس الفأل وهو استنكار لشيء لا نحبّه..
كما أن البعض يرى أن الشوم هو نوع من الأزهار تفرز رائحة كريهة ومزعجة اذا قمنا بهزّه.. وهذا خلاف التفسير الأول..
فيما اعتبر البعض الآخر أن الشوم مستوحى من كلمة shame باللغة الإنجليزية مما يعني العار..
فيما ذهب بعض المتخصصين في لسانيات العرب إلى احتمال يقول فيه إن كلمة "شوم" هي تطويع لكلمة "شام" حسب اللهجات المحلية وبالتالي تصبح عبارة "يا عيب الشوم" تعني أن ما تم ارتكابه هو عار على كل بلاد الشام..وليس فقط البر المِصري..
وتكمل عجائز العائلة القول :" والداية أم حافظ آيه عيبها.. فهي إللي مولده كل شباب وبنات العائلة.. ومما زاد غيظهن أنها- أم رفيقي- أعترفت في آحدى الجلسات بأنها السيدة الحامل الأولى والوحيدة.. التي بدأت في زيارة طبيب الولادة بإنتظام منذ بداية الحمل.. في خطوة تعتبر متقدمة جداً في زمنها.. وهو ما اعتمده الطب الحديث في دوريات منتظمة لزيارة طبيب النساء لفحص أم المستقبل الحامل.. وأيضاً فحص الجنين.. وما هو معلوم لكثير منا اليوم..
واللافت للإنتباه أن „ رفيقي “ يكاد يفتخر بهذه النقلة النوعية النادرة في عائلة متدينة تقليدياً.. ومحافظة من الطبقة المتوسطة ذات التقاليد الموروثة والتي من الصعب الحديث عن تغيرها.. أو تغيرها بالفعل.. وخاصةً ونحن نتحدث عن بداية الخمسينات من القرن الماضي ومازال الحكم الملكي يسيطر -وإن كان بضعف شديد- على ممتلكات البلاد ومقدرات العباد.. وافتخار „ رفيقي “ يعود إلى أن مولدته كانت سيدة إنجليزية.. ومَن كانت ترعى أمه قُبيل الولادة وإثناها وفيما بعدها كانت راهبة فرنسية.. وكان الصليب الذي حمله ابن الآله ومن ثم علق عليه.. ومات.. تحمله على صدرها.. فوق قلبها..
ووالدة „ رفيقي “ تلقت قدراً متوسطاً من التعليم.. ولعلها كانت تحسن الحديث بالإنجليزية.. فقد كان لكتابات مرقص فهمي المحامي وقاسم أمين ومَن وقف بجوار الآخير كزعيم الأمة سعد باشا زغلول.. وبدعم من محمد عبده وأحمد لطفي السيد آثر بالغ في تشكيل عقلية وذهنية فتيات مِصر خاصةً.. بل ونساء الشرق عموماً.. وحركة تحرير المرأة مِن خلال نشاط هدى شعراوي وتأثرها بالحركة العلمانية وزيارتها لفرنسا -وقتذاك- وصفية زغلول..
والإشكالية لا تكمن في الاستفادة من التقدم العلمي والحصول على أحدث إختراعات التكنولوجيا في مجال الطب أو الصناعة.. بل الإشكالية تكمن فيما يطلق عليه الغزو الفكري بمفاهيم تخالف عقيدة وتعارض إيمان أهل الشرق وقبول النمط الحضاري وليس المدني في الحياة العامة والخاصة.. ولعل أم „ رفيقي “ انتبهت لهذا الفارق الكبير والشاسع بين مدنية علمية متقدمة وتكنولوجيا وبين مفاهيم حضارية وقيم مبدئية ومقاييس غربية مبنية على الحرية الشخصية المطلقة دون قيد أو وازع خُلقي..
ثم.. بدء تغذية الوليد بأفضل ما تنتجه الأرض الزراعية وتعلبه أفضل مصانع تغذية الأطفال بجوار الرضاعة الطبيعية..
ويروي لي „ رفيقي “- خجلا- أنه مكث يرضع من ثدي أمه حتى نبتت اسنانه الأمامية الرباعية.. وحين يشبع من الرضاعة ينظر إلى حاضنته ثم يقوم بـ عض مصدر رزقه الطبيعي .. وهي متألمة منه..
فقد كانت أمه تريد أن يتم الرضاع استنادا لقوله تعالى : ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾.. فما كان منها إلا أنها تمسك انفه كي لا يتمكن من التنفس فيفتح فاهه فتسحب مصدر رزقه الطبيعي من الرضاعة وهو يبكي.. وكانت تخبره أنه كان يفعل ذلك وكأنه يلعب.. ثم بدأت تضع حلبة مطحونة حول منبع رزقه من الرضاعة الطبيعية.. فلا يستسيغ طعم الحلبة ذات المرارة الخفيفة ولا تؤذيه..
ويخبرني „ رفيقي “ وهو صبي صغير أنه قد ذهبت به أمه إلى طبيب بالقرب من منزله وكان يسمى الدكتور يعقوب..
وتحكي له أمه أنه كان طبيبه الخاص عندما تصيبه نزلة برد أو إلتهاب اللوزتين أو إسهال وما شابه ذلك.. وكان بمجرد أن يراه يصبح سليما معافاً.. ثم عرف بعد ذلك أنه -أي الدكتور يعقوب- كانت عيادته في نفس منزل المحامي الأستاذ أدولف فرج.. أمين مكتبة الحقانية بالمنشية.. الطبيب في الدور الأول.. وأمين سر المكتبة في الدور الثاني.. ذهبت أمه إليه بالصبي كي يقوم بختانه وفق الشعائر الإسلامية..
والمبهج حقاً .. أنه بعد أن عافاه الله من قطع جلدة زائدة اقيم حفل عُرس بمسرح المواساة بمحطة الرمل.. وكان يتبع مصلحة الجمارك المِصرية بالإسكندرية بالقرب من تمثال زعيم الأمة سعد زغول..وكأنه عُرس زفاف.. وارتدى بدلة سوداء وبُحث له عن عروس قريبة من سنه فوجدت فتاة كان اسمها نورا.. تكبره بعدة أعوام.. وكانت تخجل منه حين يتقابلا صدفة .. إذ أنها كانت قريبة من بيت زوجه عمه..
حين اقترب من الثالثة ذهب به والده إلى روضة أطفال تسمى بـ اسم القديس يوسف.. وكانت راعيات الأطفال راهبات فرنسيات.. وكان قصد الوالد أن يتربى ولده في رياض أطفال فرنسية ليتقن لغة المحاماة.. الفرنسية.. ثم يذهب إلى مدارس وكلية سان مارك وبعد تخرجه يسافر إلى فرنسا.. ليحصل على دكتوراه في المحاماه كما فعل كبار الدولة المِصرية زمن الملكية.. ويتولى بعد ذلك مكتب والده..
فـ كما قيل لي أن في فرنسا أفضل جامعة للحقوق.. جامعة باريس بانثيون السوربون.. وفي بداية انتظامه في روضة أطفال القديس يوسف.. وكما يقولون لا تأتي الرياح كما تشتهي السفن.. ففي صباح يوم راحة وإثناء تناول الفطور بدء الطفل الصغير يجلس على مائدة الطعام كما يجلس في الروضة الفرنسية ويقوم بترانيم قبل تناول الطعام كما تعلم من مربيته الراهبة الفرنسية.. فغضبت غضباً شديدا جدته لأبيه والتي تسكن معهم ونهرته أن يصلي أو يقول بالفرنسية ما لا تفهمه قبل تناول الطعام.. ثم أخذ يقدس على نفسه.. وطلبت الجدة من الوالد .. والظاهر أنه كان يوم جمعة .. طلبت أن يخرج ابن الأسرة الوحيد من روضة الأطفال وإلحاقه بآخرى.. وكما أخبرني فقد نفذ الوالد طلب جدة الطفل.. وندمت أمه على تصرف الوالد إذ أن مستقبل حياة وليدها ووحيدها بدراسته في فرنسا.. في ذلك الوقت بالفعل سوف يكون مغايراً تماما عنه اليوم..
بدء التردد على مدرسة أو كُتاب حسين.. لتعلم مبادئ القراءة والحساب .. وحين بدء العام الأول الدراسي في الإبتدائية وفق النظام القديم .. كان مدرسه اسمه الأستاذ فؤاد.... و „ رفيقي “ يؤكد أنه لم يلاحظ أي تأثير من كل السابق ذكرهم لإدخاله في دين غير دينه أو إلزامه بطقوس بعينها ..
.. في الإبتدائية تميز „ رفيقي “ عن بقية اقرانه.. هو واثنان آخران.. فكان ثلاثتهم قُضاهيوقعون عقوبة لمن يقوم بفعل سئ في الفصل الدراسي.. آحدهما أخبرني أنه كان بالفعل مسيحي وصار ضابطاً في الشرطة والثاني مسلما وصار طبيباً..
„ رفيقي “ لا يتذكر الكثير عن أحداث مرحلة الإبتدائية.. سوى أنه كان في مدرسة حديثة بُنيت زمن ثورة الضباط الأحرار.. أطلق عليها مدرسة „ سيد درويش “ الإبتدائية.. كما تم تغير في نفس السنة مسرح „ محمد علي “ إلى مسرح يحمل اسم „ سيد درويش “ ايضا..
انتهى من التعليم الإلزامي الأول وفقاً لنظام التربية والتعليم المِصري ست سنوات .. ثم انتقل إلى مدرسة خاصة بالمصاريف وهي مدرسة „الأمريكان “ في العطارين.. يتذكر فقط الأستاذ „ أميل “ مدرس الحساب.. والأستاذ الشيخ „ إبراهيم “ مدرس اللغة العربية.. والأستاذ „ موسى “ مدرس الرسم.. والبقية لا يذكر عنهم شيئاً..
ثم تذكر أن مدير المدرسة الإعدادية كان بديناً ولا يتذكر اسمه..
ثم أنتقل إلى مدرسة النيل الثانوية.. وهي تقع بعد الكوبري نهاية شارع النيل.. في غيط العنب.. ثم أنتقل في الصف الثاني إلى مدرسة المرقسية بمحطة الرمل وتخرج منها..
يقف „ رفيقي “ قليلا عن الاسترسال في الحديث..
ثم يقول: غالب المدارس والمدرسين كانوا من ابناء الديانة المسيحية.. بيد أنه لم يلاحظ أي تأثير منهم.. سواء ديني أو فكري أو عقائدي.. أو شعائري..
هذا المناخ العام لآحدى أهم مدن القطر المِصري جرى في الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي زمن الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر.. وقبل الإنفتاح.. وتصدير العمالة المِصرية إلى دول الخليج خاصة الملكية السعودية.. وعودة الكثير من العمال والفلاحين محملين بـ البترودولار.. ومن ثم هجران المصانع من أيدي عاملة..وهجران الأرض الزراعية من فلاحيها.. واستقطاع الأرض الزراعية وبناء منازل عليها فـ تقلصت الأرض المزروعة.. رافق ذلك إِحياء مفهوم السلفية.. مع استيراد قيم بدوية ومقاييس خليجية.. إلى بلد الأزهر العريق الشريف.. أرض معانقة الهلال للصليب.. ووجود الكنيسة المرقسية الأم في الشرق..
فبدأت السلفية الدعوية -أولاً- والتذكير بالآخرة وعذاب جهنم ونعيم الجنة.. دون طرح حقيقي لحل مشاكل أمة وقضايا شعب.. فقد أنفصلت الدعوة عن الحياة اليومية لقطاع عريض من الناس.. واكتفي بالترهيب والترغيب دون وجود مشروع إسلامي متكامل على ارض الواقع.. لا يقدر من يدعيه على تحقيقه.. فوجدت شعارات جوفاء مثل „ الإسلام هو الحل “.. دون طرح كيفية الحل من الكتاب والسنة.. مصدرا التشريع..
ودويت في الفضاء العام خطب منبرية جوفاء كمسكنات أو لتفريغ طاقات الشباب.. أو تفعيل نظرية الفضفضة..
ولعل من المحاسن لتلك الحقبة وجود السلفية العلمية..
ومما كهرب المناخ العام الإقليمي ثم العالمي السلفية الجهادية دون ركيزة متينة يستند إليها.. فانفجر في المنطقة بركان الملالي وإيجاد دولة شيعية مذهبية قومية وفق ولاية الفقيه.. ثم َروج الغرب لفكرة الإسلام السياسي.. قاصداً في مقابله بوجود إسلامي ديني كهنوتي تعبدي.. فبلع البعض هذا الطعم الغربي.. وساعد الغرب أحزاب سياسية ذات مسوح ديني على التواجد في الشارع العام.. بيد أنها -الأحزاب- تحت مسمى إسلامي.. وكانت التجربة الفاشلة والمرة لعدم فهم صحيح لأحكام الإسلام وفق منظور يتناسب مع عصر جديد.. وغياب وعي سياسي عن الداخل المعاش.. والخارج المحيط بنا..
„ رفيقي “.. كما يبدو لي لم يشارك في هذا الزخم.. فقد كان مشغولاً بترتيب معيشته بعد تخرجه من الجامعة.. وبعد زمن لم يطول تحصَّل على وظيفة حكومية تتفق مع مؤهله العلمي.. بيد أن المصيبة الكبرى أن مديره في تلك المصلحة الحكومية حين ذهب لأول مرة لإستلام مهام وظيفته فقابل المدير في مدينة دمنهور في غرفة مكتبه وهو يرتدي جلبابًا رصاصياً ويتعاطى شيشة الصباح ليصلح مزاج النهار ويفك سحابة المساء.. وكانت هنا بداية الصدمة.. فـ „ رفيقي “ غادر مِصر سنوات الدراسة الجامعية إلى فرنسا واليونان.. وطموح الشاب تحطم في أول عتبة قابلته حين يستلم مهام وظيفته.. فقرر مغادرة البر المِصري والذهاب إلى ألمانيا لإكمال دراسته العليا..
ـــــــــــــــــــ
(يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)
« „رُوَايَّةُ الْرَجُلُ الْمَشْرَقِيُّ »“
« مستقبل حياة »..
[(٤ )] اَلْـجُزْءُ الرَّابِعُ .. فصل رقم: [65 ]
« وَرَقَةٌ مِنْ ڪُرَاسةِ إِسْڪَنْدَرِيَّاتٍ » كُتبتْ في« فيينا Vienna لحظة إطلالها علىٰ الدانوب الأزرق »
الخميس 02 ربيع الأول 1446 هــ~ 05 سبتمبر 2024 م


شروط نشر الأعمال الفنية و الأدبية (المؤلفة أو المنقولة) فى أوسترو عرب نيوز :

عدم التعرض إلى (الذات الإلهية) .. الأديان السماوية .. المذاهب الدينية .. القوميات .

عدم التعرض بالسب أو الانتقاص من شخصية خاصة أو اعتبارية  .. بشكل مباشر أو بالتورية حال النقد .

أن لا ينشر فى أي وسيلة إعلامية صادرة بالعربية من النمسا .. خلال فترة النشر بـ أوسترو عرب نيوز .

أن يضمن المؤلف أو المراسل نشره فى النمسا مذيلا بعبارة : منقول عن أوسترو عرب نيوز (كلمة شرف)

ما ينشر في أوسترو عرب نيوز .. يعبر عن رأي كاتبه أو ناقله أو راسله ..
أوسترو عرب نيوز .. لا تتحمل المسئولية الأدبية أو القانونية .

أوسترو عرب نيوز .. تهيب بحضراتكم الإبلاغ عن أي تجاوز .. لعمل الإجراء المناسب على الفور .. بالحذف مع الاعتذار .

أعلى الصفحة


الموقع غير مسئول عن تصحيح الأخطاء الإملائية و النحوية

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رئيس التحرير : أيمن وهدان




أخبار عرب النمسا