الحرية
تحدثتُ عن الحاجات العضوية
عند الآدمي ؛ وتكلمتُ عن غرائز الإنسان ثم
فطرة الله في خَلقه وصبغته ؛ وأكمل في هذا
التمهيد لموضوع الزواج
.. النِكاح
مسألة الحرية المطلقة دون
قيد أو شرطوالتي تسبب شقاءَ الإنسان .
فمنذ لحظة الخلق الأولى :
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيم﴾ ؛ ﴿ وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ﴾ ثُمَّ ﴿ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾
منذ تلك اللحظة تم أمران :
[( 1 . ) الأول منهما:
عملية تعليم آدم الأسماء
كلها ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء
كُلَّهَا ﴾؛ كي يتحصل [( الإنسان الأول )]
على معلومات عن الأشياء لـ يتمكن من
التعامل معها ، و :
[ ( 2 . )] الأمر الثاني :
التكليف ؛ ويندرج تحت التكاليف: الطلب
والتنبيه والتعليم والتعليل والزجر فـ
ينقسم التكليف عموماً إلى :
[( أ . )] الأوامر بالقيام
بـ :
1. ) الفعل : مثل قوله
تعالى :
1 . 1. ) : { وَقُلْنَا
يَا آدَمُ ﴿ اسْكُنْ ﴾ أَنتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ}
1 . 2. ) :﴿ وَكُلاَ ﴾{
مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}
1 . 3. ) : { فَلَمَّا﴿
ذَاقَا ﴾ الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْءَاتُهُمَا }
أو :
2 . ) التصرف:
2 . 1. ) : { وَيَا آدَمُ
﴿اسْكُنْ ﴾أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾:
2 . 2 . ) : ﴿ فَكُلاَ ﴾ {
مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}.
2 . 3 . ) : ﴿ وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ
الْجَنَّةِ﴾
أو :
3 . ) القول : { قَالَ يَا
آدَمُ ﴿ أَنبِئْهُم ﴾ بِأَسْمَآئِهِمْ} .
والقسم الثاني من التكليف
:
[( ب . )] النواهي بترك
1. ) فعل ؛ أو 2 . ) قول ؛ أو 3 . ) تصرف:
﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾.
ومن التنبيه والتعليم
والتعليل والزجر قوله : 1 . ) { فَقُلْنَا
يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا : ﴿ عَدُوٌّ ﴾ {
لَّكَ وَلِزَوْجِكَ }
2 . ) ﴿ فَلاَ
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ ﴿
فَتَشْقَى﴾ }.
وجاورهما [( أي عملية
التعليم والتلقين ، والتكليف الأوامر
والنواهي : )] : الفتنة والاختبار
والامتحان والبلاء. مثل قوله :﴿ إِنَّ
الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ
مُّبِين﴾.
ثم وضع العلاج الناجع : ﴿
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيم ﴾
ومثل قوله : ﴿
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ
الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ
الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾..
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ
زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
ثم تلت عملية تعليم آدم ..
ما آكده الخالق المُبدع المُنشأ
على أمر التعليم في آخر رسالاته للبشر
أجمعين ، فـ انزل أول آية من الذكر الحكيم
على قلب آخر الأنبياء ومتمم المصطفين
المرسلين
مبعوث رب العالمين
للعالمين
وحياً بواسطة أمين السماء
جبرائيل بقوله سبحانه وتعالى شانه : ﴿
اقْرَأْ ﴾ أي قراءة الكتاب المسطور
والمحفوظ في الصدور ؛ هذا أولآً ، و
ثانياً : قراءة الكتاب
الذي في الكون منشور : مثل علم الإنسان كـ
الطب بفروعه ؛ وعلم الحيوان : البيطري ؛
وعلم النبات ؛ والزراعة ؛ والهندسة ؛
والفضاء ؛ فقال : ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَق ﴾ ؛ أي البحث في كل ما خلقه
الله تعالى ، فـ طلب العلم واجب سواء أكان
الشرعي وكل إنسان حسب حالته ؛ أو المدني
لكل إنسان حسب قدراته ؛ ثم أعاد الأمر
ليؤكده بقوله جلَّ وعلا : ﴿ اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الأَكْرَم ﴾ ؛ ثم جاء تبيان
واضح بكيفية حين قال تعالى ذكره : ﴿
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم ﴾ ﴿ عَلَّمَ
الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم ﴾ ؛ ثم يزيد
المؤكد بدعاءٍ ﴿ رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾
، فـ الإنسان محتاج إلى معلومات أولية عن
الشئ وكنهه ؛ كي يحسن التعامل معه ؛
وبالتجربة العملية والاستخدام تحصل عملية
خبرات تراكمية للمعلومات والتي هي جديدة
عن الأولية فينشأ علم جديد أو تصنع ألة
جديدة ، فبيَّن خالق الإنسان ومبدع
الأشياء ومنشأ الحياة ومسير الكون [(خلقهم
جميعاً على غير مثال سابق يحتذى به خلقها
جميعاً من عدم)] أهمية عملية التعليمفقال
تعالى : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء
كُلَّهَا ﴾ ولغياب تلك المعلومات الأولية
عند الملآئكة [(وهذه ملاحظة هامة)]
ووجودها فقط عند آدم : ﴿ قَالُواْ
سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيم ﴾ فجرى ما لم يكن في علم
الملائكة ؛ إذ نطق القرآن : ﴿ قَالَ يَا
آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ ﴿
فَــ .. أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ ..
ثم جرى تكريم آدم لعلمه بقوله تعالى : ﴿
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ
اسْجُدُواْ لآدَمَفَسَجَدُواْ ﴾ سجود
تكريم وليس سجود عبادة ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ
أَبَىوَاسْتَكْبَرَوَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِين ﴾ .. ثم جاء بعد التعليم
والتكريم التكليف : أوامر ونواه : ﴿
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ ﴿ وَكُلاَ
مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ إشباع
الحاجة العضوية للإنسان ؛ ثم جاء النهي :
﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾
وبيَّن سبحانه جزاء القيام بالفعل ﴿
فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين ﴾ ..
هذا بالنسبة للإنسان الأول
؛ الذي جعله خالقه ومبدعه ومنشأه : خليفة
في الأرض ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِإِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ ﴾ ﴿ خَلِيفَةً ﴾ وصارت ذريته من
بعده خلفاء في الأرض ؛ فأتى بمثال فقال :
﴿ يَا دَاوُودُ ﴾ ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ﴾ ﴿ فَاحْكُم
بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ﴾ ﴿ وَلاَ
تَتَّبِعِ الْهَوَى ﴾ ﴿ فَيُضِلَّكَ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ .
أما الإنسان الحالي أو
بتعبير دقيق ذرية آدم فوضح القرآن المجيد
عملية التعليم ؛ فنطق القرآن ليؤكد على
حقيقة فيقول : ﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم
مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ وبعد الخلق من عدم
؛ والايجاد ﴿ مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ﴾ ﴿
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ
يُمْنَى ﴾ جاء الجَعل ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ ﴾
أدوات التعليم فذكر : ﴿ الْسَّمْعَ ﴾
بالإفراد ﴿ وَالأَبْصَارَ ﴾ بالجمع ﴿
وَالأَفْئِدَةَ ﴾ بالجمع .
.. وأم المسائل في بحثي هي
قضية الإيمان بآله واحد .. خالق .. آمر ..
ناه .. ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي
آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْوَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنفُسِهِمْأَلَسْتَ
بِرَبِّكُمْقَالُواْبَلَىشَهِدْنَاأَن
تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا
كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين ﴾ ﴿ أَوْ
تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا
مِن قَبْلُوَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن
بَعْدِهِمْ ﴾ ﴿ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ الْمُبْطِلُون ﴾ ..
وجعل الله الخالق للإنسان
مطلق حرية الاختيار : بين الإيمان به أو
بين الكفر والإشراك والإلحاد فبين سبحانه
وهو الرؤوف بعباده فقال : ﴿ إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ﴾ ﴿ إِمَّا
شَاكِرًا ﴾ ﴿ وَإِمَّا كَفُورًا ﴾
..
﴿ فَمَن شَاء اتَّخَذَ
إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾
.. ويزيد المسألة وضوحاً
﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن ﴾ ﴿ وَمَن شَاء
فَلْيَكْفُرْ ﴾ ..
ومن حيث التكاليف قال
تعالى : ﴿ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ
لَكُمْ ﴾ ﴿ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾.. ﴿ يُرِيدُ
اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ ﴿ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ .. ﴿ مَا
يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم
مِّنْ حَرَجٍ ﴾﴿ وَلَـكِن يُرِيدُ
لِيُطَهَّرَكُمْ ﴾﴿ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ .. ﴿وَمَا
اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَاد﴾ .
وأمام هذه الإرادة
الآلهية توجد إرادة شيطانية فيقول القرآن
: ﴿ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن
يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ﴾ ﴿
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاء ﴾ ﴿ وَيَصُدَّكُمْ عَن
ذِكْرِ اللّهِ ﴾﴿ وَعَنِ الصَّلاَةِ ﴾ .
ومن حيث التكاليف والأوامر
والنواهي يضع القرآن قاعدة عريضة متينة
فيقول : ﴿ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ
عَنكُمْ ﴾ ﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا
﴾ .. ثم يبين : { إِنَّا عَرَضْنَا ﴿
الأَمَانَةَ ﴾ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ﴿ فَأَبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا ﴾ ﴿ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾
﴿ وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ ﴾ ﴿ إِنَّهُ
كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ﴾ .. وهذه اللفظة
القرآنية ﴿ الأَمَانَةَ ﴾تحتاج لبيان ؛
فجاء عند القرطبي : " وَالْأَمَانَةُ
تَعُمُّ جَمِيعَ وَظَائِفِ الدِّينِ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ
قَوْلُ الْجُمْهُورِ. ".
ومما يناسب هذا البحث ما
قَالَه أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: " مِنَ
الْأَمَانَةِ أَنِ ائْتُمِنَتِ
الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا ".
وعليه فــ
مسألة الحرية المطلقة دون
قيد أو شرط ودون وازع أخلاقي والتي ينادي
بها الغرب تُوقع الإنسان في شر أعماله
وفساد تصرفاته ؛ فـ الحرية الطلقة هي عمود
خيمة المجتمع الغربي الحديث ؛ وهي الركيزة
الأساسية في النظام الديموقراطي على
المنهج الغربي ؛ والتي تؤكد حرية الفرد
المطلقة في التعبير والرأي والاعتقاد
والاختيار والتملك ؛ وفارق بينها وبين أن
الحرية مكفولة في الاختيار في النظام
الإسلامي من حيث القيام بالفعل أو
الامتناع عنه وتركه ؛ فالمرء حر في أن
يؤمن بـ آله واحد كما أنه حر في أن يعبد
حجر أو صنم أو يقدس حيوان فـ حرية العقيدة
متروكة للإنسان وليس مجبراً عليها .. ثم
إذا أمن بهذا الآله فهو مختار بعد ذلك في
التقييد بأوامره للقيام بها والابتعاد عن
نواهيه ؛ فشارب النبيذ لم يجبره أحد على
شرابه كما أن متذوق عصير العنب لم يجبر
على تذوقه ..
ومن المغالطات المشهورة
حين :" يظن الكثيرون أن الغرب الأوروبي
يمثل مهد الحرية ومبدأ القيم الإنسانية
وأول مَن نادى بت حقوق الإنسان .. متناسين
أن الشرق كان فيه الوجود الإنساني بـ قيمه
الحضارية العلوية الراقية ومقاييسه
الإنسانية أسبق بكثير من وجود الغرب وقيمه
الحديثة ، التي تقوده اليوم إلى الإنحطاط
الأخلاقي والقيمي والسلوكي بسبب الشطط في
تطبيقات الحرية الفردية المطلقة التي يأخذ
بها دون أدنى ضوابط أخلاقية أو دينية
تراعي الحفاظ على الأسرة والمجتمع أو
الفرد ؛ وحتى على الفطرة السوية الطبيعية
التي فُطر عليها الخَلق ، ومنادة الغرب
بالإشباع الخاطئ ؛ بل والترويج للإشباع
الشاذ .. كما ولا يمكن لمفاهيم الحرية
المطلقة أن تكسر قوانين الطبيعة بين
المخلوقات والتي جُبلت عليها ورُكبت
بداخلها وقوانين الخالقفي خَلقه ..
إن التطور الحضاري لمجتمع
ما يرتبط ارتباطا وثيقا بالتطور العلمي
ورقيّه والنضج السياسي لرعاية شؤون الناس
والوعي الفکري المستنير على السواء ، وإن
قياس مستويات هذا التطور يکون بمدى
الإحساس بهامش الحرية في ممارسة الإبداع
والتعبير والبحث العلمي فتقلص هامش الحرية
يحول دون هذا التطور ويقف حجر عثرة أمام
النمو الفکري لأفراد المجتمع ويحارب الفکر
الحواري مع الآخر والمثمر في الحياة ،
وبالتالي الزيادة في معدل الأمية والتخلف
والعنف والجريمة والتقليل من شأن الآخرين
والجهل والصراع الطبقي والعرقي والديني
والقيمي والثقافي : كلها مؤشرات ودلالات
على غياب العلم النافع .
فـ الحرية هي قضية الإنسان
منذ بدء وعيه ؛ وهي من طبيعته الآدمية
وصراعه في الحياة متحدياً ومناضلا في کل
المحاولات الفاعلة لمصيره سواء أكان
استعمار عسكري أو ثقافي فكري .. کذلك کان
التاريخ حافلا بالتناقض في هذا الصراع بين
الإنسان بفرديته وبين واقعه الاجتماعي
محاولا کشف الحقيقة بفهم الوجود بين
ذاتيته والمجتمع.
أولاً: الحرية المطلقة بين
السيكولوجيا و الفلسفة :
التحرر [(الحرية المطلقة)]
من كل الضوابط والقيم والمعايير المجتمعية
سواء العلوية أو الأ{ضية والانفلات من كل
المقاييس .. هذه اثارت نقاشات واسعة حول
تداعياتها النفسية والاجتماعية على سلوك
الفرد ؛ فمن ناحية عززت هذه الحرية
الابتكار والاستقلالية بيد أنها من ناحية
آخرى أدت إلى تحديات اجتماعية وسلوكية
أثرت سلباً على استقرار النظم الاجتماعية
وعلى الهوية الفردية .. فقد رأى الفيلسوف
الفرنسي جان بول سارتر حين ترتبط فكرة
الحرية المطلقة ارتباطاً وثيقاً بالفلسفات
الليبرالية والوجودية ، فيرى سارتر أن
الإنسان «محكوم بأن يكون حراً» ، أي أنه
مسؤول بشكل كامل عن أفعاله وقراراته ،
بينما دعا جون ستيوارت مِيل إلى حرية
الفرد ما دامت لا تسبب ضرراً للآخرين(!)..
لكن واقع المشكلة يكمن في أن تحديد مفهوم
«الضرر» يظل مسألة نسبية من فرد إلى آخر
ومن مجتمع لآخر ومن بيئة لآخرى ، ما يفتح
الباب أمام تفسيرات متباينة للحرية قد
تؤدي إلى فوضى اجتماعية..
فـ. الحرية المطلقة من منظور سيكولوجي ..
من الناحية النفسية تُشير حسب نظرية
«القلق الوجودي» لـ إيرفين يالوم إلى أن
الحرية المطلقة قد تؤدي إلى شعور عميق
بالقلق نتيجة غياب المعايير الخارجية
ومجموعة القيم وكتلة المقاييس التي توجه
السلوك الفردي أو الجماعي ؛ فحين يكون
الإنسان حراً بلا حدود ؛ يصبح مسؤولاً عن
صياغة قيمه الخاصة به ، مما قد يولد حالة
من التوتر والقلق مع الآخر وعدم اليقين مع
محيطه.. كذلك، يرى عالم النفس إريك فروم
في كتابه «الهروب من الحرية» أن الحرية
غير المنضبطة قد تدفع الأفراد إلى البحث
عن هويات بديلة ، أو إلى الانخراط في
أنماط سلوكية غير مستقرة ، بسبب عدم
قدرتهم على تحمل ثقل المسؤولية الفردية
المطلقة
.
ثانياً: تداعيات الحرية
المطلقة على السلوك الفردي
أدت الحرية المطلقة في بعض
المجتمعات الغربية إلى تراجع القيم
التقليدية الراسخة التي كانت توجه السلوك
الاجتماعي كضمانة حياتية : مثل الأسرة ،
والدين ، والالتزامات المجتمعية ، فقد
أصبحت مفاهيم مثل «النجاح الفردي ..
الشخصي» و«الإشباع الذاتي» أكثر أهمية من
المسؤوليات الاجتماعية . ووفقاً لدراسات
في علم النفس الاجتماعي ، فإن هذا التحول
أدى إلى زيادة النزعة النرجسية بين
الأفراد ، حيث باتت الأولوية لإشباع
الحاجات الشخصية الفردية على حساب القيم
الجماعية.
تشير دراسات علم النفس إلى
أن الحرية المطلقة قد تكون عاملاً مؤثراً
في تزايد معدلات القلق والاكتئاب ، وبخاصة
بين الشباب ، فبدلاً من أن تؤدي الحرية
إلى راحة نفسية ، فإنها قد تخلق ضغوطاً
نفسية متزايدة بسبب غياب المعايير المحددة
.. فعلى سبيل المثال ، وجدت دراسة نُشرت
في مجلة «علم النفس غير الطبيعي» أن
الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات ذات حرية
غير مقيدة يعانون من مستويات أعلى من
التوتر ، مقارنة بأقرانهم في المجتمعات
التي تضع حدوداً أخلاقية أو قانونية أكثر
وضوحاً.
من تداعيات الحرية المطلقة
أيضاً زيادة معدلات الإدمان على المخدرات
، والكحول ، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي
، حيث يبحث الأفراد عن أشكال من الهروب
النفسي في ظل غياب الضوابط الذاتية . فمع
انتشار فلسفة «افعل ما تريد .. كيفما
تريد»، أصبح الإشباع الفوري من السمات
الأساسية للسلوك الاستهلاكي في المجتمعات
الغربية ، مما أدى إلى أنماط حياة تفتقر
إلى الانضباط والسيطرة الذاتية...
ثالثاً: تأثير الحرية
المطلقة على النظم الاجتماعية
أدت الحرية المطلقة إلى
تفكك الأسرة وضعف علاقات افراد العائلة
وتراجع العلاقات الاجتماعية ؛ فالأسرة
كانت لقرون طويلة حجر الأساس في النظم
الاجتماعية ، لكن مع تزايد النزعة الفردية
في الغرب ، شهدت الأسرة تحولات جذرية ،
حيث ارتفعت معدلات الطلاق ، وتراجعت
معدلات الزواج ، وازدادت الأسر ذات العائل
الواحد وارتفعت نسبة الشواذ . ويُرجع
علماء الاجتماع هذا التفكك إلى غياب
القيود المجتمعية عن العلاقات الشخصية ،
حيث باتت القرارات تُتخذ بناءً على
الرغبات الفردية والميول الذاتية دون
اعتبار كافٍ للالتزامات العائلية.
ساهمت الحرية المطلقة
أيضاً في تقليل الشعور بالانتماء، حيث بات
الأفراد أقل ارتباطاً بجماعاتهم ، مثل
العائلة أو الحي أو حتى الدولة، ويرى عالم
الاجتماع روبرت بوتنام في كتابه «البولينغ
وحيداً» أن هذا التراجع في الروابط
الاجتماعية أدى إلى انخفاض رأس المال
الاجتماعي، مما يؤثر سلباً على التضامن
الاجتماعي، ويؤدي إلى زيادة العزلة.
تزايد النزعات الفردية على
حساب المصلحة العامة..
ففي ظل انتشار فلسفة
«الحرية المطلقة»، أصبح من الصعب تحقيق
توافق مجتمعي حول القضايا الكبرى مثل
البيئة، والعدالة الاجتماعية، أو توزيع
الثروة. ومع التركيز على الحقوق الفردية
من دون الالتزامات الاجتماعية، باتت
القرارات تُتخذ وفقاً للمصلحة الذاتية
الفردية لا للمصلحة العامة، مما أدى إلى
تفاقم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية.
وأخيراً : فـ ليس من حق
الغرب كله أن يفرض مجموعة قيمه وكتلة
قناعاته ومفاهيمه الدينية والأخلاقية أو
السياسية والاقتصادية والتجارية على غيره
من الامم والدول والشعوب التي لا ترى في
مثل تلك القيم إلا خروجاً أو شذوذاً
وسقوطاً قيمياً وأخلاقياً أو عُرفياً
لتعارضها مع ما تؤمن به هذه الأمم والشعوب
من أفكار وقيم ومبادئ ومقاييس وأخلاق..
وكاتب هذه السطور مع
الحرية التي تحفظ للإنسان كرامته الآدمية
وللمجتمع الإنساني وحدته وسمو تطوره وحُسن
مستقبله وتحافظ على فطرته السوية الطبيعية
وتركيبته البشرية ، ولستُ مع أي حرية
تتعارض مع الأفكار والقيم الإسلامية
والمقاييس والقناعات والمبادئ .. تلك التي
اقرتها شريعة السماء ومنهاج رسول السلام
محمد بن عبدالله والقيم الأخلاقية التي
تتسم بها مجتمعاتنا.
الرَّمَادِيُّ
حُرِّرَ في العام ١٤٤٦
الْهِجْرِيَّ : ٢٩ / شوال ~ 27 أبريل
2025م
الْمَجَالِسُ السَّنيَّةُ
الْنَّدِيَّة المتعلقة بـ (.أبواب كِتَابُ
النِّكَاحِ ...)
يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ
تَعَالَىٰ
|